نصوص أدبية

نصوص أدبية

وقصص أخرى قصيرة جدّا

المُعذّبون

أظلُّ أتأمّله بعين حاسدة وأقول:

"ليتني كنت كهذا الهرّ أتسلّق الجدار مثلما يفعل، وأصيب من الأنثى ما يصيب.. ليتني مثله أصطاد أيّ شيء ثمّ أنام قرير العين في أيّ مكان.."

تتعالى طرقات على الباب.. من المؤكّد أنّ أحد الجيران يأتيني بصدقة.. أهمّ بالنّهوض فأشعر كما لو أنّ جبلا يجثم فوقي.. نسيت أنّ ساقيّ ذهب بهما منشار الطّبيب..

**

الطّرف الآخر

"لستُ ذاهبةً إلى الجحيم ولكنّي خارجة منه"!

ما زلت أعي نفسي رغم إنّني قطّعتُ شراييني.. أنظر فأرى شلّالات من نور تتدفّق من لا مكان وأسمع أصواتا لا أدري من أين تأتيني:

"ها قد رُفع عنكِ الغطاء!"

وتدكّني الخيبة أكثر وألحان عجيبة تهزّني هزًّا وتسري في روحي كما يسري الماء في الغصن الرّطيب..

"إنّه التّسبيح..!"

**

ما لا يُنسى

في ذلك الصّباح البعيد استيقظت على زغاريد النّسوة ورائحة البخور والجير.. وأحسست بالجميع يشملونني بنظرة اهتمام مبالغٍ فيها..

ألبسوني جبّة جديدة وملؤوا حِجري بالحلوى والفُلوس. ومع ذلك توجّست شرّا لاسيما وقد حُمِلت على الأعناق حيث يجلس ذلك البدين الغريب.. وحتّى قبل أن يشدّوا وثاقي ويجلسوني قسرا على قصعة العود في صحن الغرفة المترب، كانت صرخاتي الملتاعة تخترق صوت الدّفّ والمزمار..

**

طواحين الهواء

امرأة ثقيلة الزّينة مكشوفة الحدائق والثّمار في يدها سوط، من حولها أصحاب الفخامة ذوي ربطات العنق والوجوه الطّافحة بالنّعمة يسبّحون بحمدها ويقدّسون.. أسفل منها رجل رثّ الهيئة، خانع في ركوع. تلهب ظهره جَلدا فيصرخ ملء الأرض والسّماء. لكنّ صراخه يذوب في عاصفة من الهتاف والتّصفيق:

"كلّنا عاهرات حتّى يسقط مجتمع الذّكورة !"

***

حسن سالمي

عندما أحدّقُ

في مدى آفاق عينك ..

أحلّقُ في فضاءاتٍ ..

من الياقوت..!

إلى حدود انكسار الأبعاد

يحملني لكواكب نائية

لا تدركها الشمس ..

وأرضع من أثداء الغيم

نبيذ العشق

المعتق بماء الهذيان .

فأغرق

في أعماق الضياع .

تترنح سفني

على أمواج الوله الهائج .

تتراقص هائمة

على أنغام النوارس المتعبة .

هاربة من ضجيج الليل

إلى عتمة السكون .

تتمزق أشرعتي

من خلجات القلق .

وأبحر عكس الريح

إلى مدن النسيان .

تلاحقني أشباح الماضي

بسيوف الغدر .

وشبق الانتقام .

فتحاصرني في تابوت مغلق .

ليس له مفتاح ..!

تتفجر أوردتي

بعبوات الخذلان .

تتطاير ..

شظايا الحنين

لتصيب خلايا الوجد

في أشلاء الروح

فتنزف ألما

لا ينضب

لا يتوقف

نجعٌ يتدفقُ مندفعاً كالإعصار

يمتطي جواداً . من قصب

يهفو للقاء عفوي .

خلف الشرفات الوردية

في مساءٍ مختلفٍ

لا تغرب عنه الشمس

ولا يعرفه

إلّا من مارس

طقوس الدهشة

في كهفٍ مهجور

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

للسنين أخاديدها في وجهي

وللخسارات احتمالاتها الأكيدة

ليس في يديَّ الكثير

محملٌ بعاطفتي

واستفاقة الزهور في أول الضوء..

أول المجيء

قلبي، أيها النذرُ المتاح

كل عثرة أعرفك أكثر

أيها الراكض كمهر سعيد

***

فارس مطر/ برلين

وصلتُ إلى تلك الشُّرفة الواسعة مع وصول خيوط الشمس الذهبية إليها. سطع النور بداخلها، وانعكس على قطعة أثاث موجودة مُشَكِّلًا قطعًا ذهبيَّةً باهرة الشكل واللون، تشبه ذلك الأثاث الذهبيِّ من عصر بابل والرّومان. كان صباحًا جميلًا يُغلّفه الهدوء، والمكان قديم كما المبنى التراثي المليء بالنقوش والزخارف، تستطيع أن تُقَلِّب نظرك بين نقوش بارزة وأخرى غائرة، تراقص خيوط الضوء متمايلةً في دلال فريد!

تفوح رائحة التراث من كلّ شيء في هذا المكان، الكراسي مصنوعة من سعف النخيل، والستائر حريريّة كلون السماء. يمكنك أن ترى الباحة الواسعة أسفل الشرفة، تزيِّنها النوافير الممتلئة في كلّ جانب، يرتفع منها الماء قليلًا بتدرّج، محدثًا صوت خرير يصل إلى مسمعك في الشُّرفة. تجذب أعينك تلك الشرفات البعيدة أمامك في الاتجاهات الأربعة، كأنّها أحواض زرع من كثرة ما تدلَّى منها من نباتات خضراء باهتة. شعرت أنني مدعوٌّ إلى هذا المكان، وأنني قدمت من مسافة بعيدة لهذا الغرض، ربما هي دعوة من فنان تراجيدي مشهور.

اعتقدت أنّ هناك خطأً ما؛ قبل الاستدارة إلى الداخل، بدأ الماء يرتفع تدريجياً من جميع النوافير في رقصة سريالية جميلة بألوان مختلفة، كأنّها تُرحِّب بشخص قادم. سمعت شخصًا ما يقول: إحم. إحم. استدرتُ، نظرتُ إليها في مفاجأة القدر!

كانت الابتسامة تشقُّ ثغرها الصغير الوردي اللون في رقة وعذوبة، الهدوء ما زال طاغيًا، عينها القرمزية الناعسة بدأت تأخذ ألوانًا مختلفة، تجعل الناظرَ يسترخي إليها في لحظة صفاء وجمال لا نهائي، أنف صغير بين وجنتَيْن بارزتَيْن، شعر حريري تسلَّل على كامل جسدها، ولون الحرير الملتصق الذي ترتديه، يشفُّ تفاصيل جسمها الفوَّاح برائحة العطر الورديِّ، الذي لا يتسلَّل إلى أنفي فقط، بل إلى إحساسي.

أهلًا بكَ.

شعرت لوهلةٍ أنني أعرفها منذ زمن طويل! ظلَّت محافظةً على تلك الابتسامة الساحرة، كانت واقفةً خلفي بين الجالسين، على حافة الشُّرفة يوجد رجلٌ آخر طغت عليه علامات الوسامة، وزيَّنت مُحيَّاه ابتسامة، ولكنّه ظلَّ ينظر إليَّ دون أن يحدِّثني، لاحظت وجود كاميرا بيديه حين بدأ يلتقط لي بعض الصور وهي تقف خلفي، ارتأت أن تحتويني بيديها من الخلف أثناء التصوير، وهي أكثر دفئًا وابتسامًا.

كلّ شيءٍ يحدث بسرعة، لا أعلم لماذا أنا هنا! لا أعلم لماذا احتضنتني أثناء التصوير! شعرت أنني في عالم غير عالمي الواقعيِّ، كلّ دقيقة كانت تسعدني أكثر مما قبلها، سمعتها أخيرًا تتحدّث مع ذلك الرضيع ذي الأشهر الأولى الذي وجدتُه فجأة بين يديها، تتحدث معه بكلمات حنونة تنظر إليَّ. انظر إليه، أليس جميلًا.

انتهى المشهد حين قالت للرجل الوسيم: لنبدأ الآن تصوير قصة الحب التي عشتها مؤخرًا.

لا أعلم كيف علمت بها، ولا أعلم من أنا، ولماذا أنا هنا؟ 

استيقظت من نومي، قلت: إنه حلمٌ. حاولتُ مرّة أخرى الاستغراق في الحلم، لكن المشهد بدا مختلفًا.

بدأ ذلك الرجل بتثبيت الكاميرا من زاوية الرؤية بالصوت والصورة، نظرت لي قبل البدء وهي تبتسم وتنظر لي بشغف العاشق الذي عاد إلى حضنها، قال لي: سوف نبدأ، بدأت تتحدث في سؤالها وأنا أرى الوميض الأحمر من تلك الكاميرا، اعتدلت الجلوس ونحن ننظر إلى بعضنا، بعد الترحيب وضيافة المكان، شعرت بأنّ هناك موسيقى خافتة تبثّ رحيقها من الغرفة المجاورة، كانت القوى التي أضافت تحت السماء تنسكب رحيقًا. 

- سيّدي، ما نظرتك للحياة؟

- تقصدين الآن أو قبل ثلاثين سنة؟ طبعًا الفكرة مختلفة، عندما يتقدّم الإنسان تزداد خبراته، يتفاعل مع الحياة بشكل مختلف.

- سيّدي، السؤال التالي يحتاج إلى أن تنظر إلى الكاميرا مباشرة، أريدك أن تصف الفرق بين الماضي والحاضر من خلال رحلة الحياة التي عشتها بصورة شاعرية.

نظرت إليها كشاعر، واستدرت إلى الكاميرا، تأثير الموسيقى كان حاضرًا. استحضرت ذلك الخيال، كنت على صخرة فوق التلال أرى البحر من مسافة، كان هناك فضاء فسيح العمق، كان خيالي متزامنًا مع فؤادي، أنظر إلى الأشياء كأنّها تحدث، جاء المنادي يقول: إنها تنتظرك، أين هي؟

أذهب إلى تلك الشجرة القريبة من البحر، تقدمت الخطا، لم يكن البحر هادئًا، أمواج تتلاطم ولكن الشجرة حافظت على الهدوء أمام الرياح، أخذت جانبًا من ظلال أنظر من جميع الأنحاء ربما تكون في انتظاري، جلست كالقرفصاء أنظر إليه بحنان الوادي الأخضر، أنظر إلى البحر بين ظلّ الشجرة الثابت، وضعت رأسي بين أرجلي المقرفصة، أتابع خيالي لبضع دقائق، ربما أجد الفقد الذي أنتظره، بصورة مفاجئة وقفت الرياح متزامنةً مع تلك الأمواج التي كانت طاغية قبل لحظات.

رفعت رأسي وعيناي ترقصان شاخصتين ترنوان إلى آفاق بعيدة، رأيت قارباً صغيراً لونه أبيض يتهادى على صفحة الماء، بدأ يقترب من السّاحل، له سارية صغيرة عليها علمٌ واحد لونه أبيض، يشعرك بالسلام. توقفت المجاديف، وقفت على رجلي تقدمت الخطا بكلّ هدوء، الأبيض كان ثوبها الطويل والهواء البارد أزاح جزءاً من حنين، أشرت إليها بأنني ضائع في التيه، تقدّمت أكثر مما توقعت، وقعت على صدري تشتكي الريح الذي أفاق روحها، قالت: أين الشُّرفة؟

أمسكت يدها حين وجدنا أنفسنا على الشُّرفة بثياب جديدة، نرقص بين السّحر والواقع، أضاءت الأنوار الموسيقية والنوافير السّحرية، قفزنا عاليًا بقدوم الوالي الجديد للقصر، بدأ حفل الرقص وانتصر الحب.

***

فؤاد الجشي

كانت لدي منضدة صغيرة تفسخت قوائمها وأردت إصلاحها، وذات يوم وأنا في طريقي إلى البيت شاهدت إعلانا بالبوية على حائط بيت: " أبو السيد. نجار. منزل رقم كذا.. تليفون رقم..". قلت لنفسي: "ممتاز". اتجهت مباشرة إلي العنوان المذكور، وهناك رأيت امرأتين ممتلئتين جالستين تحت شرفة الطابق الأول تثرثران. واحدة تبيع فطيرا مشلتت والثانية لا تبيع فطيرا، مكتفية بالجلوس ووضع يدها على خدها. سألت عن أبو السيد النجار، فردت البائعة: وحضرتك مش عاوز فطير؟. قلت: لاء. شكرا. فانصرفتا إلي الثرثرة. قلت: النجار موجود؟. قالت: لاء.. اتصل به. قلت: والتليفون عنده شغال ؟ قالت: التلفون ايوه.. النجار هو اللي مش شغال. بعيد عنك جاله تعب في الركبة. أضافت الأخرى: لكن محمود النجار موجود. استفسرت: طيب فين محمود؟. قالت: ح تلاقيه قاعد بيلعب طاولة مع صبحي الكهربائي في المحل آخر الشارع.

اتجهت لمحل صبحي الكهربائي. محمود عندك؟. قال: أي محمود؟ أصل لامؤاخذة عندنا ثلاثة محمود؟. قلت: النجار. صاح: آه.. فهمت! شوفه جنب محل الكفتة عند ربيع الحلاق، كان بيعمل له رف خشب. ذهبت لعم ربيع، وما إن نطقت باسم محمود حتى ضحك الحلاق العجوز بسرور كأنه تذكر شيئا مفرحا وسريا في الوقت نفسه، وقال ببهجة: محمود؟!! الله يخرب عقلك يا حودة.. واد مسخرة. شوفه على قهوة السكرية جنبنا. وقهقه يحدث نفسه وهو يتكتك بالمقص فوق رأس الزبون: يخرب عقلك يا حودة ! سألت الجرسون في المقهى: محمود النجار هنا؟. جاي حالا. تشرب إيه حضرتك؟. قهوة مضبوط. جلست. بعد نصف ساعة ظهر رجل من سني تقريبا يسأل عن النجار. قلت له: تفضل. اجلس، وأوضحت له أن أبو السيد لا يعمل حاليا لأنه جاله تعب في الركبة، لكن محمود شغال. سألني: ومحمود ألقاه فين؟. قلت له: أنا قاعد أنتظره. كلمة مني وكلمة منه سألني: وحضرتك أصلا من فين؟ قلت: من طنطا!. صاح: الله من فين في طنطا؟. من شارع كذا. معقول! طيب الاسم إيه بالكامل؟ عرفته بنفسي، فصاح: يا نهار أبيض؟! من بيت الحاج عبد الجواد؟! ونهض وأخذني بالأحضان قائلا: ألا تعرفني؟ أنا ابن بنت عمة ابوك الكبيرة.. نفيسه.. الله يرحمها! وأقسم الرجل بكل المقدسات أن يصحبني معه إلي طنطا لنتغدى عند أخته سهام وبذلك نصل ما انقطع من صلة الرحم. حاولت أن أرفض فعاتبني: إزاي؟ دي سهام تزعل قوي. ركبنا سيارة من رمسيس وبعد ساعتين كنا نأكل ملوخية وأرانب عند سهام وزوجها يحرك طاقيته فوق رأسه من وقت لآخر مغمغما " أهلا وسهلا". وبدأ الأقارب يتوافدون بعيالهم ونسوانهم، وكل واحد منهم يحتضني ويقبلني ويهز يدي بحرارة حتى انخلعت ذراعي وحل الغروب وبدأت أشعر بالإرهاق فنهضت محتضنا مودعا فردا فردا مترحما على الحاجة نفيسه.

في طريقي إلى البيت صادفت ورقة بإعلان على حائط " الأسطى حسنين النجار". لمحني صبي أتطلع إلي الرقم فوثب ناحيتي: عاوز الأسطى حسنين؟ قلت له بحزم: لاء شكرا، مش عاوز. وقلت لنفسي: " تفسخت قوائم المنضدة ، هذه حال الدنيا. جميعنا إلى زوال"، وأسرعت نحو بيتي، والصبي يجري خلفي هاتفا: " أنادي لك حسانيين.. حسسانييييين.. حسسا ".

***

قصة قصيرة

د. أحمد الخميسي - قاص وكاتب صحفي مصري

أ مِنْ وَجَعٍ إلى وَجَعٍ تَداهَتْ

وما هَجَعتْ ولا يَوْماً تَعافَتْ

*

كأنّ الأرضَ مِن وَقَدٍ تشظّتْ

ومِنْ غَضَبٍ على شعْبٍ أغارتْ

*

بليْلٍ جاءَ مَوْعوداً بشؤمٍ

وإمْعانٍ بعاديَةٍ تداعَتْ

*

نيامٌ دونَ إدراكٍ لمَوْتٍ

يُباغِتُهمْ كصاعِقةٍ أصابَتْ

*

أ يُعقلُ حادثٌ في جَوْفِ ليلٍ

يُحَطمُ أمّةً حَلمتْ فماتتْ

*

أديمُ الأرضِ يَمْضَغُنا كوحْشٍ

ويَسْحَقنا بأحْجارٍ تهاوَتْ

*

أ فينا مَوْطنُ الآهاتِ يُصلى

ونارُ وجودِنا لهباً تَعاطتْ

*

تُعلمُنا المَنايا بَعْضَ دَرْسٍ

ومِنْ غفلٍ نفوسٌ كمْ تَصابَتْ

*

هَجَعْنا أمْ ولجْنا دارَ بَيْنٍ

وما رَقدَتْ قلوبٌ واسْتراحَتْ

*

على أمَلٍ بهِ الإصْباحُ أدْرى

تَنامُ خلائقٌ شهَقتْ وغابَتْ

*

عَجائبُها أعانَتْ مُبْتلاها

ومِنْ عَجَبٍ على عَجَبٍ أناخَتْ

*

وفي لَحْظٍ مِنَ العُدوانِ ألقتْ

تَحامُلها على مِللٍ تَصادَتْ

*

أ ترْقبُنا الكواكبُ في عُلاها

وترْجُمنا كما رَغِبَتْ وشاءَتْ

*

عَليْنا مِنْ صَواعِقها هُجومٌ

يُزعْزعُ تربةً رَجَفتْ وكادَتْ

*

بَرايا ذاتُ أحْلامٍ بصُبْحٍ

تَردَّتْ في مَواضِعِها وخابَتْ

*

أسائلها وقلبي لا يَراها

أ هذا الكيدُ مِنْ نَفسٍ أساءَتْ

*

عَليمٌ فوقَ عَلاّمٍ كبيرٍ

أ يُعلمُنا بما جَلبَتْ وكادَتْ

*

أرانا نَحْوَ داهيةِ الخَطايا

تُسَيّرنا النوازعُ كيفَ رامَتْ

*

سَلوا بصَراً تَخطى قيدَ أدْري

وعانقَ عَرشَ أمٍّ إسْتدارَتْ

*

فهلْ بلغَ الخَليقُ تمامَ جَمْعٍ

وَهلْ جارَ الزمانُ فما اسْتفاقَتْ

*

تَدورُ بنا وما عَرَفتْ لماذا

وتَحْملنا مؤسّرَةً فجارَتْ

*

هيَ الأرْضُ التي منها أتَيْنا

تَخدّرُنا وتأكلنا فَدابَتْ

*

أ نعلمُ أمْ بنا غَفلٌ شديْدٌ

رغائبُنا تُعزّزهُ فكانَتْ

*

أ صارَ الليلُ عُدواناً عَليْنا

يُحَمّلنا عَقابيْلاً أبادَتْ

*

تُحاربُ خلقها أرْضٌ تردّتْ

بقاضيَةٍ بإرعابٍ فراعَتْ

*

كأمٍّ مِنْ كآبتِها تَشرَّتْ

تُقتل نَسْلها وبهمْ تَخابَتْ

*

ألا غَثيانُها أزْرى بحالٍ

فأطعَمَها بما حَمَلتْ وجادَتْ

*

سَمِعْتُ صُراخَها في بَحْرِ ليْلٍ

فأيْقظتِ الصخورَ وإسْتكانَتْ

*

لأحْياءٍ بلا نُذُرٍ أتتها

تُخمّدها بناياتٌ تَداعَتْ

*

وتَصْفعُها بهزّاتِ ارْتِدادٍ

وتَطْحَنُها إذا شنِئَتْ وغاضَتْ

*

سماءٌ دونها أرْضٌ حَميمٌ

بها نارٌ تؤجّجُها فهاجَتْ

*

كأنّ ربوعَها شُدّتْ بخَيْطٍ

تَواهى مِنْ عَواضِلها فغارَتْ

*

وإنّ الماءَ مِنْ نارٍ تأتّى

وإنّ لنارِها ماءٌ فراقَتْ

*

إذا المَوْتُ يَجْمَعُنا سنَحْيا

عَناصرَ رحْلةٍ فينا تفانَتْ

***

د. صادق السامرائي

18\2\2023

الى حدود اللحظة لا ادري اين وجدت سلمى بنتي ذات الشهر التاسع وهي تدب حبوا كالحلزون في البيت حبة لؤلؤ فبلعتها؛

عقدي الوحيد والذي جلبته أمي هدية لي من إحدى دول الخليج يستكين في حُقه المذهب سليما لم يفقد اية لؤلؤة من حباته، رغم عيون زوجي المصوبة نحوه، عنه يراودني بين وقت وآخر..

"عقدك كنز مدفون وترويج قيمته ثروة حياة"

زوجي الذي حوَّل ما حدث لفلذة كبده الى سخرية مني: "انفرطت الحبة من عقد عشيقة أتت معي الى البيت وبدل أن نقضي الوقت بين القبل والضم قتلنا لحظات الوصال في لملمة حبات عقدها"؛

وإمعانا في السخرية مني أضاف:

ـ" صغيرتنا مبروكة، ألم تسمعي بالدجاجة التي تلد ذهبا؟ تلك هي بنتنا وعليك ان تقلبي برازها يوميا "..

أدرت وجهي عنه وانا حانقة اردد:

ـ مهمة تنازلت لك عنها..

كلمات زوجي أكذب لو قلت أني لم اضعها في بؤرة أنتباهي واهتمامي، فأنا أدرك مرضه بوعي، كل أنثى تحرك عيون زوجي بالتفات،لها يمضغ عشقا، وخاتمي في أصبعه لا يضايقه بحرج ولعنة، بل لا يعده جناية مع امرأة غير زوجته، لكن أن يجرؤ ويسمح لأنثى غيري بدخول بيتي في غيابي فهذا ما قد استبعده بعد زلة سابقة لازال أثر أسوارها يمتد بيننا، لم أغفرها له الا بعد أن بكى وتوسل واقسم أنها غلطة ولن تتكرر، وبعد إلحاح من أبي الذي كان على سرير الموت..

لما حملت صغيرتي الى صديقنا الطبيب للمرة الثانية بعد مغص في بطنها لم يكن الطبيب أقل مني استغرابا حين استفسرني و بإلحاح هل وجدت العقد الذي بلعت منه سلمى حبة اللؤلؤ؟.. فأكدت له أني لا أملك غير عقد لؤلؤي واحد وهو سليم معافي لم ينفرط أو تتبدد منه أية لؤلؤة، أثارتني ضحكته فكانه يعلم شيئا عني يخفيه..

أمي تصر أن أنسى وكما تقول:

ـ الحمد لله أن الصغيرة لم تخنقها الحبة فتفقد روحها.. ـ

بدأت الأيام تطوي الحدث بنسيان وصغيرتي تنمو وتقف دون مساعدتي الى أن خطت أولى خطواتها..

كان لا يحلو لها غير غرفة نومي تظل تبكي الى ان افتح لها الباب فتدخلها، تصعد سرير نومي وتتمدد مكان ابيها أو تحمل معها إحدى لعبها فتتعمد تفكيكها فوق السرير..

خرجت ذات مساء مبكرة من عملي حتى أعد عشاء لضيوفي والذين لم يكونوا غير خالتي التي أتت من دار الغربة ومعها امي وخالي..سألت الخادمة عن سلمى فأومأت لي برأسها الى غرفة نومي.. بادرت اليها لأجد ما لم يخطر لي على بال..

استطاعت بنتي أن تسل خيطا من مضربة النوم فينفتق مقطع من راس المضربة لكن المفاجأة أن الفتق كان يطل منه عقد لؤلؤ، وسلمى تحاول جره اليها بإبهامها..

بكت سلمى حين أخرجت العقد واحتفظت به بعيدا عنها، خبطت السرير بقدميها وكأني قد حرمتها ما يستحوذ على عقلها ونفسها، عوضتها بأكثر من لعبة وحلوى ورغم ذلك ظلت غصاتها حارقة حتى بعد نومها..

التزمت الصمت في حضور ضيوفي فليس من طبعي أن أتسرع في أمر أو أتخذ قرارا في لحظة غضب،كما أني تحرجت من كلمات السخرية التي قد تتساقط من اللسان الطويل لزوجي يفتئت بها أمام ضيوفي، بل تعمدت أن أتناسى الأمر ولمدة أيام..

تخطت سلمى حالة تعلقها بغرفة نومي بعد أن أخفيت العقد بعيدا عنها، بل صار زوجي هو من يعوض بنته التي عزفت عن غرفة النوم مدعيا أنه يهيء لصفقة عمره ويحتاج لهدوء تام،وقد حاولت الدخول عليه مرة فوجدت الباب موصدا من الداخل، تراجعت ولم أعلق، فربما مشغول في حديث هاتفي مع أحد عملائه.. لكن لفت انتباهي أنه لم يعد هادئ الطبع كما ألفته،بل ارتفعت نسبة القلق لديه ولسانه صار يضرب بطوب وحجر بدل الذبح بسخرية متى وجد فرصة لقذفي بعيوب لا يولدها غيرعقله، ولاتراها غير عينيه..

ذات زوال كان زوجي مسافرا وكنت في غرفة نومي والعقد اللؤلؤي في يدي أعيد ترتيب فرضيات وجوده بين تلافيف مضربة نومي والتي لم يبترد لها أوار.. كيف اهتدت بنتي للعقد، ولماذا صار لايحلو لها تفكيك لعبتها وتعريتها الا فوق سرير نومي؟.. اقبلت علي الخادمة تخبرني ان سلمى قد تقيأت بعد الاكل، هاتفت الطبيب فطمأنني وقال:

"أمر لأراها بعد نصف ساعة وانا في طريق عودتي الى البيت "

في دردشة مع خادمتي أبلغتني أنه مذ تحرش بها زوجي وشكته الي وهو لا يكلمها بل كثيرا مايعاملها بنوع من الكراهية التي تتحملها لانها مثل أختي وأمي من ربتها مذ كان عمرها عشر سنوات، كما ذكرتني أن اليوم الذي بلعت فيه سلمى اللؤلؤة هو اليوم الذي أرسلتها لمساعدة أمي في بعض اشغال البيت وقد أدعى زوجي حينذاك ارهاقا وتعبا،فلزم البيت وخرجت أنا لعملي تاركة سلمى معه..

لا أدري كيف وضعت العقد في عنقي وانشغلت مع سلمى الى أن اقبل الطبيب الذي ما أن رآني حتى ظهرت عليه علامة استغراب رفع لها حاجبيه، بعد أن كشف عن سلمى طمأنني فحالها لا يدعو الى القلق.. قبل أنصرافه سألني عن زوجي فأخبرته أنه مسافر، لم يسألني أين؟ لكنه قال وبسمة استخفاء لم تغب عن وجهه:

هل تعلمين أن العقد الذي في عنقك لمها زوجتي؟

استغربت وأبهتتني المفاجأة وقبل أن أعلق على قوله قال:

ـ وهل تعلمين أننا افترقنا بطلاق من شهرين؟

كنت أعلم أنهما تزوجا عن حب ولحد الآن لم يحتفلا بعيد زواجهما الثاني..وأن عائشة زوجة الطبيب قد كلمتني من يومين وتدعوني لزيارتها في أقرب فرصة سانحة..

تذكرت انها قبل أن تعشق الطبيب كانت مرتبطة بعلاقة مع غيره.. فهل هرقت كرامتها بخيانة؟..فشخصية كالطبيب، شهرة،غنى، لطف،لايمكن لأنثى أن تتنازل عنه.!!..

وهو على باب البيت نظر الي مليا وقال:

ـ وأنت هل ستقبلين بضرة أم ستطلبين الطلاق؟

اهتز صدري وأدركت أن زوجي كان نارا تحت الرماد، فهل كنت واهمة حين ادعيت معرفته؟.. وحتى لو عرفته فهل كنت أستطيع أن أكون هو أفهمه كما يدبر مؤامراته؟

صفقته كما حاكها قد انكشفت أمامي، وسبب الصراع أني وعيت،أردت أن أشاركه الوجود ويريد أن يستمر في إلغاء وجودي،جعلت منه قوة تستهويني برفقة،ويأبى الا أن يبقيني مصباحا في قبضته تنتهي صلاحيتي بانتهاء بطارية خنوعي..

***

محمد الدرقاوي

 

قصص من ثلاث  كلمات

مركبة أو متوازية

***

ثلاثية مركبة:

1

خشي اللص النهار

والنهار يخشى العميان

2

الأشجار تتعرى للنهر

النهر يجري لايلتفت

3

معلم الدين عاقبني

ومعلم الحساب كافأني

4

تمّت السرقة ليلا

الليل لزم الصمت

5

الغجر صمتوا فجرا

الفجر تراقص وحده

6

داهم النورس الماء

الماء خان السمكة

7

نبحت الكلاب القمر

القمر احتمى بالغمام

8

اللبوة تخون الأسد

الأسد منهمك في الصيد

9

لبست قناع  ظبي

شكّت الضباء بي

وطاردتني كلاب

***

قصي الشيخ عسكر

...................

إشارة

أسلوب جديد في قصة اللمحة  أن تكون اللمحة الأولى  من ثلاث كلمات  واللمحة الثانية تبدأ من نهاية الأولى لكنها تكون مستقلة ويمكن قراءة الإثنتين بصفتهما مركبتين:

داهم النور الماء

الماء...

أو أن  لا تبدأ بكلمة تأتي في نهاية اللمحة الأولى مثل:

معلم الدين عاقبني

ومعلم الحساب كافأني

يمكن أن نفهمهما منفردتين أو مركبتين .

كذلك هناك ثلاث قصص لمحة كل سطر يفهم منفردا بصفته قصة لمحة أو مركبا مثل التجربة 9

عندي من الحزن ما يكفي لأجعله

بحراً من الدمع لم يغرق به قلمي

*

لأنَّ ماضيه أمواجٌ مؤجّلةٌ

وفي السواحلِ جفنٌ ذارفُ الألمِ

*

وبي من الدمع ما يكفي ألملمهُ

غيماً على الأفق مدرارا.. ولم أَغِمِ

*

أبكي أنا فيه.. لم أفتأ إذا فتئتْ

كل العيون.. وقد كلّتْ من السّأمِ

*

وكان عندي من الأحزان ؛ لو جُمِعَتْ

جمعَ الحصاة.. تفي طوداً من الورمِ

*

فأستشيط كما الزلزال في وجعي

ويستثار بيَ البركان بالحممِ

*

وأستهيج كما الطُّوفان.. لا سفنٌ

تقلُّ من شاء أن ينجو من العَرِمِ

*

وفيَّ ما كان في (أيوبَ) أجمعهُ

لم يبرأ السُّقْمُ.. منضافاً على سَقَمِ

*

وفيَّ أشياءُ لم تخطر على خَلَدٍ

و لن تجيء على بالٍ.. مُذِ القِدَمِ

*

وعندي آهاتُ (سيزيفٍ) تبارحني

عند الهجوع.. فلن أغفو ولم أنمِ

*

وعندي ما عند أمواتٍ بمقبرةٍ

ماتوا من الضَّيم.. ما ماتوا من الهَرَمِ

*

وعند أهلي كما عندي.. سوى وَلَدٍ

طافٍ على الجرف لم يسبح ولم يعُمِ

*

قد أغرقتهُ وشاياتٌ مقنّعةٌ

خلفَ الخماراتِ.. لم تظهر لمحتكمِ

*

وتحت ما كان؛ كحل الحق تطحنهُ

مطارقُ الظُّلم.. تودي الناس للعدمِ

*

وبين هذا وذاك الأمس حوقلةٌ

وبسملاتٌ وآياتٌ بلا حِكَمِ

*

إذ لا عقولَ تعي ما كان من حَدَثٍ

قد جلجلَ الكون ، لكن مرَّ في صممِ

*

أردى على الأرض تيجاناً وجعجعةً

من السلاطين في سِفْرٍ من الوَهَمِ

*

تدور في الأرض.. جاء القيظ ثانيةً

و عاد ما كان من حَرٍّ على سَأَمِ

*

ودارت الأرض.. جاء القرُّ ثانيةً

وعاد ما كان من بردٍ ومن شَبَمِ

*

ونحن عدنا.. كما كنا بعالمنا

ما بدّلَ ﷲ ما فينا من الألمِ !!

***

رعد الدخيلي

بِنُورِكَ يَا رَبِّ أَمْشِي بِدَرْبِي

شُجَاعًا جَرِيئًا عَلَى كُلِّ صَعْبِ

*

بِحُبِّكَ تَنْأَى جُيُوشُ الْهُمُومِ

تَقُولُ: انْتَصَرْتَ بِأَعْظَمِ حُبِّ

*

بِحُبِّكَ أُرْزَقُ في كُلِّ وَقْتٍ

تُبَارِكُ رِزْقِي بِنُورِ الْمُحِبِّ

*

بِحُبِّكَ تُنْتَزَعُ الصَّالِحَاتُ

وَتَجْلُو النَّوَائِبُ مِنْ فَضْلِ رَبِّي

*

بِحُبِّكَ فَتَّحَ وَرْدِي وَفُلِّي

يَطُولُ شَذَاهُ مَدَائِنَ خِصْبِ

*

بِعَوْنِكَ أَمْضِي لِحَقْلِي وَأَرْضِي

ويَضْحَكُ وَرْدِي أَمَامَ الْمَصَبِّ

*

بِفَضْلِكَ يَسْرِي الضِّيَاءُ لِقَلْبِي

وَيَمْضِي سَرِيعاً لِيَحْضُنَ عَتْبِي

***

شعر: د. محسن عبد المعطي

شاعر وروائي مصري

تمضي بنا الأيامُ عجّلى

أعمارُنا غصنٌ تدلّى

*

نحصي السنينَ على السنينِ

وما تعدّتْ  دون نخْطَى

*

نشكو الزمانَ وأهلَهُ

يا ليت من نشكوه يُجْلَى

*

عمرٌ تقضّى بالرواحِ

وبالمجيءِ وبعدُ يتْلَى

*

فدعي  الهواجسَ جانبًا

لنطيرَ من ضفةٍ لأخرى

*

يا نفسُ صبرًا  لم تعدْ

تجديكِ بعد الحتمِ شكوى

*

تهوى إذا حضرَ الهوى

وتكفُّ إن شاءت وتنأى

*

لا تصمتي .. فترنّمي

لنجوزَ فاجعةً وبلوى

*

يا عاشقَ الدنيا التفتْ

ما كان حولَكَ دونَ جدْوَى

*

وجدي السنينُ وما انطوتْ

متعزّيا بالصبر سلوى

*

صبٌّ تجاوزتَ الصِّبا

غامرتْ حتّى كدتُ أشْقَى

*

وقرعتُ بابَك ذاهلًا

ظمأً إلى واديك أسعى

*

قلبي تشظّى في الهوى

منْ ذا (يلملمُ)  ما تشظّى

*

خسمونٌ مرتْ وانطوتْ

وأنا على أعقابِ أخرى

*

احببتُ من قبلُ   النسا

لكن حبك كان اسمى

*

ذهبت (ثناءُ) مع الصِّبا

وغدت مع الأيامِ ذكرى

*

و(سعادُ) ما برحتْ تُرا

فقني هوىً للقلبِ أغوى

*

أمَّا (نوالُ) فليتَها

عادتْ على أعقابِ نجوى

*

مرَّ الزمانُ مرورَ غيـ

مٍ عابرٍ ما بلَّ مُغمى

*

وغدوتُ وحدي هازجًا:

صارتْ حياتي دونَ مغْزَى

***

د. جاسم الخالدي

أَدخلُ من شُرْفة الكلمات

إلى إبرةٍ في أصابِع أُمِّي

تَخِيطُ الوطنَ المُجَعَّدَ

في ثوبها المنزليّ..

الوطنُ الذي يتفتَّحُ حَبَقَاً

كلَّما فتحتْ يديها على نافذة

على طَرَف الكُمِّ فوضى،

مِئْذَنةٌ تتوَضَّأُ بالرِّيح..

نِداءُ المُؤذِّن نسوةٌ

يَفْلِتْنَ من أدْغال صِبَاه

أساورُهنَّ.. في يدِ الضَّوء الأخير.

حطَّتْ العتمةُ، حطَّ الحمام

في مَنَاقيره رَنينُ الحِلِيّ.

المدينة فَكَّتْ أزْرارَها،

رَمَتْ شوارعَها في المتاهةِ

لا أحدَ سيمُرُّ،

لا أحدَ من ثُقوب النُّعاس سيفْلتُ،

إلاّ صبيّاً يفتِّشُ عن أمِّهِ في صَرير الباب

ونافورةً

تبحثُ عن مُطْلق

في فضاء الغياب.

***

شعر وليد الزوكاني

2023

الفصل (9) من رواية غابات الإسمنت

بانضمام نجاح إلينا أصبحنا نحن الأربعة قدوة السجن، ولكي تغطّي ابتسام حبيبتي على استدعائي كلما جاءت ليلة خفارتها، وهي الأعلى رتبة والآمرة الناهية، فقد أقرّت أن تأتي مع الفرّاشة إلى غرفة المفوضة الخفير أو الضابطة الخفير، إحدى السجينات تساعدها في عمل الشاي ومشاهدة التلفاز، وكانت السجينات جميعهن مسرورات، لأن أي واحدة منهن تشعر بنسمة من الحرية، وإن كانت لا تبعد خطوات عن الزنزانة، حتى أصبحت كلّ واحدة من رفيقاتي تتلهّف إلى ليلة خفارتها، وكأنها خارجة إلى الفضاء الواسع، أو ذاهبة إلى عرض مسرحي.

كانت غرفة المطبخ والممر وقضاء الليل مع الحارسة، نزهة في حديقة، وربما ظهر لهن أن بعض السجن أجمل من أجزائه الأخرى... بخاصة الزنزانة، وكانت ليلة غيابي أو مديحة تُفَسَّرُ من السجينات ضمن ما يشملهن من اقتراحات، وكن يحترمننا ولم تكن بيننا أية مشاكل، وفي الليلة التي سبقت ذهاب كريمة إلى المحكمة لمعرفة نتيجة الاستئناف، راحت السجينات يغنين ويرقصن فَرحًا، وغنت أم جبار وهي امرأة في الأربعين من عمرها ضبطت في قضية تهريب، أغنية لعّابة الصبر:

صبري صبر أيوب

حزني حزن يعقوب

الحقني يا محبوب

زادت أنا جروحي

وذابت بالهوى روحي

فتّ الصخر نوحي

الحقني يا محبوب

تطوعت سجينتان بالرقص، بدأت أم نظيم وهي أمرأة جاوزت الخمسين، ضُبطت في قضية دعارة، تصفق بيديها تصفيقًا أشبه بدقات طبل، كنا نروم أن نرفع من معنويات كريمة، فغدًا تذهب إلى المحكمة لتسمع صوت الاستئناف، غناء ورقص وأداء، بدت السجينات كلّهن في وئام، وأظن أن معاملة حبيبتي مسؤولة السجن للجميع جعلنا أكثر ودًا، وخففت المشاكل بيننا.

وقلبت صورة النفور إلى مودة وحب، ولم يكن هناك شيء نفعله لصديقتنا سوى الدعاء، وكنا على ثقة من أن الاستئناف سيكون لصالحها.

وربما كنتُ الأكثر تفاؤلًا من غيري، لأنني أعرف أن النقيب ابتسام لن تتركها.

وذهبتْ كريمة ... وليتها لم تذهب ..

رجعتْ صامتة، والصمت هو الجواب اليقين.

وكان الخبر صدمة لنا، الاستئناف رُفض، فازددتُ حنقا وحزنا، أما كريمة فبدت متماسكة كأنها أنفت أن تكون هدفا للشفقة والرثاء، شموخ وكبرياء لا تقهره إرادة الموت ... لا ترغب أن يرثيها أحد.

يوم صدر الحكم أغميَ عليها حالما دخلت السجن، وعاشت شكّا وأملًا، وحين تيقنتْ من موتها تماسكت، تجللت بهالة من الرزانة والوقار، فلبست طرحة بيضاء، وانكبّت على القرآن تقرأ ولا تكلّم أحدًا، صامتة عن الكلام كما يصوم القديسون، كما صام النبي زكريا ليحلّق في أجواء السماء، رجوناها أن تنطق فكانت تشير إلينا بيدها وهزات رأسها، وفي خلسة من الجميع كتبت على جُذاذة ورق:

ولداي عدنان وكامل عنوانهما مع أبيهما أدوّنه، أرجو حين تخرج أي واحدة منكنّ، أن تسأل عنهما وتقبّلهما لي.

لم تقل أكثر من ذلك.

كانت أكبر من أي كلام وأشجع من أن تبكي.

الشجاعة ليست سيفا ومسدسا، بل هي ضمير حيّ يرفض الاستبداد بكل أنواعه، كريمة بِصمتِها هذا رفضت الحكم الصادر بحقها وحسبته نوعا من أنواع الاستبداد القاهر.

تَأملتها طويلًا ... تأملتُ هذا السكون الذي يغشاها، تُرى ما سرّ هذه القوّة وهي مُقبلة على الموت؟

ثم أيقنت أن إيماننا بقضية ما يمدّنا بقوّة داخلية، قوّة تجعلنا ننحتُ في الصخر ثقوبا لنرى من خلالها نور حريتنا وسعادتنا، حتى إن كانت تلك الثقوب تطلّ على حبل مشنقة أو زناد مسدّس، ولا سيما إن كانت القضية تمسّ الكرامة!

وتساءلت مع نفسي: كيف بذلت كريمة قُصارى جهدها لتأدية هذا الفعل الشاق؟

كيف استطاعت أن تفرّغ طاقتها، وسَعت في تحقيق هذا الكمّ من الهدوء والسكينة؟

تذكّرت عبارة كانت ترددها أمي دائمًا: "لكل مجتهد نصيب".

نعم... لبعض المجتهدين في العمل الشريف والدراسة واسترداد الحقوق والحياة بشكل عام نصيب... وأيضًا الأبطال الوطنيون الحقيقيون، كان نصيبهم الموت الرخيص!

النساء العفيفات... نصيبهن الجوع والحاجة والفقر.

العشّاق المخلصون... نصيبهم الخديعة.

العاشقات الوفيات... نصيبهن الهجر والخيبة.

المرأة التي تتحمل مسؤلية بيت وأولاد... نصيبها الخذلان من مجتمع جاهل وذكور بائسين.

الرجل الطيب الحكيم الكريم... نصيبه رصاصة أو تسع رصاصات تُسكت نبض قلبه وصوته.

الزوجة الأولى... التي كافحت من أجل أن يقف زوجها على قدميه، نصيبها الخيانة.

الزوجة الثانية... التي قبلت أن تكون بالظل، فقط لتعيش، نصيبها فُتات الحياة الكريمة.

الزوج الكادح المتعب... الذي يعمل من دون كلل أو ملل لتوفير ما تشتهيه زوجته، نصيبه امرأة لعوب تتركه في نهاية المطاف.

والقائمة تطول... ليس عبثًا أقول هذا، بل حقيقة رأيتها بعيني.

لماذا إذن عليّ أن أؤمن بمقولة: لكل مجتهد نصيب؟

أعتقد أن المقصود بها الذين يجتهدون في السرقة والنهب والنصب واللعب والاحتيال وووو.

فهؤلاء نصيبهم في الحياة كما لاحظت كبير، وكبير جدًا، بدءًا من الوظائف والمناصب والبيوت وجوازات مزدوجة وصفقات ضخمة وحياة هانئة وسيارات فارهة، والأدهى كلمة مسموعة ووجاهة عالية!! أيّ زمن أغبر هذا؟

آآه يا كريمة... للأسف، اجتهدنا في تربية أنفسنا لزمن لا يلتفت كثيرا للتربية الصحيحة والأخلاق والمبادئ، فكان نصيبنا الوجع الدائم، كنت أغتنم أيّ فرصة تبعدني عن عينيكِ فأتحسس رقبتي.

أشعر أن الحبل يلتف حول عنقي وأخشى أن تكوني قد لمحتني أطوّق رقبتي بأناملي.

بعد ثلاثة أيام قبل الفجر سمعنا صليل الباب ونُودي عليها، عانقناها جميعنا، علا صراخنا وضجيجنا.

سلّمناها للشرطي الغليظ، رجل جاء ليصحبها.

من يسير بها إلى الموت رجل ذو ملامح غليظة، ولست أدري لم يكون الرجال الذين يقودون إلى الموت ويتعاملون مع المشانق بوجوه وعيون تثير الرعب؛ جامدة بقسوة لا حياة فيها ...

وتلاشت رفيقتنا الرقيقة في لحظات، لنستقبل صباح يوم الإعدام بصمت وذهول.

***

ذكرى لعيبي – قاصة وشاعرة

انتهت بها الغربة بعد عناء طويل، خادمة في منزل، اعتادت على مفاجآته وغرابة أحداثه. كان نومها متقطعا يوميا فهي تنهض بين الحين والاخر، تتفقد زوجته المشلولة وتقلبها كطفل صغير،لا أحد في المنزل سواهما هي والزوج الذي يرعاها .

بشرتها السمراء اللامعة وشعرها المجعد القصير، وخصرها النحيل، يوحي بجمال افريقي مميز لم يألفه من قبل. غير حياته و حرك حواسه من غفوتها التي اتجهت نحو جسدها، الذي ظن انه يملكه ويملك روحها ايضا، مقابل الأجر الذي تتقاضاه منه. كانت لديه رغبة جامحة بالتحرر من أغلال زوجته، التي باتت تشبه شجرة عجوز تحط عليها الذكريات، وأصبح يضيق ذرعا بها، لذا قرر ان لا يفوت هذه الفرصة، التي أصبحت في متناول يديه، محاولا التقرب منها بكل الطرق، ومنها المداعبات التي كانت تمهد لما يبيت له !؟

لم يكن الامر صعبا عليه ولا عليها ايضا، خصوصا انها شعرت بنظرات الاعجاب لديه، وراحت تبادله الاعجاب هي ايضا بنظرات غريبة وغير محتشمة، أصبحت ترتدي له ثياب مغرية و بصدر مفتوح، بينما كانت تسير امامه بطريقة استعراضية، تظهر فيها مفاتن جسدها . بدأت الفكرة تكبر في راسه وتسيطر عليه، وفكر أن يقدم لها اول عربونا، فكان خاتما ثمينا وزيادة في اجرها الشهري، تقبلت الامر بسهولة وسعادة كبيرة، فليست هناك عوائق تقف امامها، فقد اعتادت ان تصادف في مثل تلك الحالات كثيرا في حياتها ومن خلال عملها، والتي كانت تسمح بها عادات بلدها .

اطلق لرغبته العنان ليمارس حريته بالعبث فوق جغرافية جسدها، دون النظر الى مطبات الطريق، الذي مشى فيه او حساب اي شئ اخر ... اصبحت ايامه دافئة بصحبه تلك السمراء، وطعم شفاهها العذب، الذي كان سعيدا به وكأنه في حلم لا يود ان يصحو منه .تسارعت الايام، التي ضمت بين طياتها ليال حمراء، سرت سخونتها في جسده وعقله . واعادت له فحوله قد نساها، او ظن انه قد فقدها، لكنها لم تدم طويلا وانتهت كحلم جميل، سرعان ما أفاق منه حين طلبت منه بلغتها الركيكة، مبلغا كبيرا من المال كانت بحاجة اليه، واجازة كي تسافر لرؤية اهلها واجراء عملية لوالدها المريض . والعودة اليه بعد اسبوع، تقبل الامر على مضض واعطاها المبلغ الذي طلبته وكذلك الاجازة، وآثر الانتظار والصبر وعدم الاستسلام والرجوع لحياته السابقة لحين عودتها . مضت الايام وتساقطت اوراقها يوم بعد يوم، دون اي اتصال منها، او رسالة يستعلم فيها عنها وعن وقت عودتها؟ طال غيابها وفقد الامل برجوعها لا امل يلوح له سوى نظرات زوجته، وهي تدور في كرسيها المتحرك بدوائر فارغة، رسمت تساؤلات عديدة لم تجد لها اي اجابة . ازداد الحزن لديه وسبب له صداع شديد وارتفاع في درجة حرارة طال أمدها، والتهابات في باطن الفم، جعلته يشعر بصعوبة في تناول الطعام، أجبرته على الذهاب الى الطبيب و بعد معاينته أخبره : انت مصاب بتعب وارهاق بسيط من اثر الحمى سيزول بعد اخذ الدواء والانتظار، تحسن قليلا بفضل العلاج، لكنه سرعان ما بدا أكثر ضعفا بعد ان ظهرت عليه، أعراض جديدة اخرى فقد اصبح يعاني حرقة وصعوبة في التبول، عاد لطبيبة ثانية وحدثه مستغربا عن تلك الأعراض التي تحصل له لأول مرة.

أثارت حفيظته هذه الاعراض الجديدة، وطلب منه اجراء فحوصات شاملة . كان الوقت يمر ببطئ مصحوبا بقلق شديد بانتظار نتيجة التحاليل وبعد ان استلمها الطبيب، الذي قطب حاجبيه وسالة حدثني: عن حياتك في السفر.. أين تسافر عادةً؟ صمت ونظر في عينيه طويلاً فأجابه لم اسافر .. زوجتي مقعدة.. السفر يصعب علي كثيراً في هذه الحالة. سأله الطبيب مرة ثانية هل انت متزوج بأخرى؟ ولكنه نفى ذلك ايضا، انتابت الطبيب الحيرة ونهض من خلف مكتبه وكأنما يسره بشيء ما قائلا له: الالتهابات قد نالت من جزئك السفلي كثيرا .. لعلك تشم رائحة غير طبيعية؟

***

نضال البدري / العراق

 رقائق غريرة في مقة شتاء، في تساكن مع

"رسالة عاطفية من فتاة غريرة"

للروائي القاص الدكتور علي القاسمي*

***

ما شاء

يخدِش السّردَ

حتى همس المطرْ

على رفْرَفِ

غربياتٍ شواردَ

غمائمُ أدجتْ

لديها خفت البرقُ يمرُقُ

من تلافيفَ دوَتْ

في حنايا السماءْ

عثر النثرُ في صيّبٍ

آن ينهلّ على ثغور

وأخاديدَ

وحوافِ سقفٍ يرعشُ

بموسيقا الحياةْ

إليهِ بَهث المدرّج

حشدُ ممرّاتٍ

وقاعاتٍ حائدَه

2

هيفاءُ   في تراخ ٍ

بِدلف فاختةٍ

كدأبها مراتٍ

وقد قطّب السّارد في حِيرةٍ

حييّاً جبينهْ

بطاولتي الورقاءِ

دسّت لي

بِخفوٍكتابَهْ

لعلّه المطر خِلتُ

بِمِرْودٍ يُروّق الحلمَ بعد شرودْ

أم صبا أهباءً

ستشتته حدّ وَهاءٍ

على أشَناتِ جذوعٍ

عشبِ أخشاشٍ

سفوحٍ وواحاتْ

3

في باحة بحذو مَقصِف

حبيباتُ دبال شذَت

برشفات ندىً رخيّةٍ

إثرَ ما نوارسُ

غرُبت عن مغانٍ

ربتْ يبَساً

وأعشاشٍ كثّ فيها رمادْ

لمْحاتٍ رقائقَ أتمثل

في غربتي

بين دفّتي كتابْ

أمداً تنِدّ عني العبارة

غَرثى نافرةً

ثم تلوح

تشِفّ في خفْت بياضْ

4

أخفَّ من رُفَة

أهوّمُ فوقُ

أثمَلُ إلى تخوم أنأى

حيث ثمَلٌ أشهى

ينحني شجو مدائنَ

تنهلّ غوانٍ

في رداء يخضورٍ وَطيفْ

فذرني شذا حلمٍ

به يخبو

وصَبٌ صبيبْ

فما خلف دَيجور مُوَلٍّ

بياضٌ

سيقلنا في قاربٍ

ينقل أنداءً

نسغك

كنسغي

لأنفاس جريدْ

ويهطل الطّل آبٍ

مفوَّفاً

بموسيقا الحياةْ

5

حسراتٍ كسوتُ ذبولي

يتأسّى رَقوداً بأبجدية صمتٍ

كأني فِينوس في حِداد تمّوزْ

مشرع لريح أبَيتٌ أنا

به شعلة في فتور

أم قلعة لسفحِ شدائدَ أفداد

أم فرشة

تجرع قشّة تُربها في عبثْ

أهيم

ينحسرُ الخِصبُ

يرتاع راع

إلهُ شمس لم يسعفهُ

أن فاءَ آذارُ نِدّاً لمناحة الصيفْ

أم أنيّ غمام نائح

في مأتم سفينة نجاةْ

لم ترس

على أي شطءٍ بعد تِيهْ

أنهار آنها وَهاءً

كملح  مبخّراتٍ منبوذ

أسفل سهلٍ

غفواً من موجٍ غردٍ ماردْ

6

في عَبْرِ حروف

عشا الخِباء

شامسةً هففتُ

كريح إمّا لامستْها جرائدْ

أو كوكبٍ ذري

أو درويش متقدٍ يدورُ

يستجدي من باب بيته

معشوقهُ

بدبك كثيف جاذبْ

كفوفاً شَفافُ ثوبي

يلهبُ

مشدوهةً إلى سواقٍ

وكثبان نديّة

في صبْوِ يدي

هملت حروف هشةً تسدى

أماهها القطرُ ولم يمح

عتهاً غفا لوثة

في مضاءِ غِرّةٍ هوجاءْ

***

شعر: محمد السرغيني

....................

* علي القاسمي، رسالة عاطفية من فتاة غريرة، صحيفة المثقف بتاريخ 15 شباط / فبراير 2022

 

تَـعَـالـيْ وَاهْـطُـلِـي مَـطَـراً وَطَــلّا

فَــإِنَّ الْـمَـحْلَ فِــي الْأَرجــاءِ حَـلّا

*

وَإِنَّ الــــــرُّوحَ أَتْــلَـفَـهَـا جَـــفَــافٌ

وَلَـــمْ أَعْـــرِفْ لِــهَـذَا الـلُّـغْزُ حَــلّا

*

فـطيفك فـي الـمنامِ أتـى بقربي

فـصـاحَ الـقـلبُ هَــلَّا جـئـتِ هَـلّا

*

تَـعَـالِـيْ غَـيْـمَـةً بـيـضـاءَ حُـبْـلَـى

وَأَلْـقِـي فِـي هَـجِيرِ الـصَّيف ظِـلّا

*

تَـعَـالـي وَازْرَعِــي طَـلْـحَاً وقَـمْـحًا

بِـــصَـــدْرِي أو ريــاحــيـنـاً وَفُـــــلّا

*

تـعالي واملئي عَطْشى الخوابي

بــمـاءٍ مـــن رُضَـابك قــد تَـحـلّى

*

فـتُـسْكِرني الـشِّـفاهُ بـغـيرِ خَـمْرٍ

وقـــدْ نَـضَـجَـتْ كـعُـنْـقُودٍ تــدَلّـى

*

تَـعَـاليْ وَاسْـكُـنِي أَعْـمَـاقَ قَـلْبٍ

مِــنْ الْـهِـجْرَانِ عَـانَـى فَـاضْـمَحَلّا

*

فَـفِـي سُـكْـنَاكِ يَـزْهُو مِـنْ جَـدِيدٍ

يَـعُـودُ الَــى الْـحَيَاةِ عَـسَى وَعَـلَّا

*

نَــهَـارِي فِــي غِـيَـابِكِ بَــاتَ لَـيْـلًا

وَعَيْشي في الورى أمسى مُمِلّا

*

أَقُـــولُ لِـخَـافِـقِي يَـكْـفِـيكَ تَـيـهًـا

فَـلَنْ تَـحْظَى بِـمَنْ قَـدْ كَـانَ وَلّـى

*

فــدعْ عـنكَ الـهوى قـدْ صـارَ عـبئًا

وأخـشـى فــي الـغرامِ بـأنْ تُـذَلَّا

*

وعِـــشْ حُـــرّاً طـلـيـقاً دون قــيـدٍ

فـــكــانَ الـــــرّدُّ بـالـتـأكـيدِ كَــــلّا

*

أنــــا جُــــزْءٌ لإنــسـانٍ تَـشَـظّـى

عـسـى بـالحبِّ يـغدو الـجُزْءُ كُـلّا

*

لَـقَـدْ حَـاوَلْـتُ لَـكِـنْ دُونَ جَــدْوَى

مَــعَ الْإِصْــرَارِ حَـتَّـى الـصَّـبْرُ كَـلَّا

*

سَـقَانِي الـدَّهْرُ مِنْ أَوشَالِ كَأْسٍ

فَــــــلَا أَرْوَى وَ لَا لِــلــرّيــقِ بَـــــلَّا

*

لَــقَـدْ صُـمْـنَـا طَــوِيـلًا دُونَ فِــطْـرٍ

هِــــلَالُ الْـعِـيـدِ إِنْ تَـأْتِـيـنَ هَـــلَّا

*

وَكُـــــلُّ فُـصُـولِـنَـا تَــغْــدُو رَبِــيـعًـا

إذا مـــا نــورُ وجـهـك قــد تَـجـلّى

*

ســأشْـعـرُ حـيـنـهـا إنّـــي أمــيـرٌ

سـعـيـداً حـيـن لاقـى(سَـنْدريلا)

***

عبدالناصر عليوي العبيدي

جَاءَنِي حِمَاريَ بَيّْنَ المَغْرِبِ والعِشَاءْ.

مُطَأْطِئَ الرأْسِ؛ وكَأَنَهُ يَحّْمِلُ هَمّْاً بالخَفَاءْ.

أَثَارَ مَنْظَرُهُ في نَفْسِي مَشَاعِرَ الحُزّْنِ والبُكاءْ.

قُلْتُ:

يَا (أَبَا الحَيْرانِ)؛ لَمّْ أَرَكَ مُنْذُ يَوْمَيْنِ؛ لِمَ ذَا الجَفَاءْ؟.

أَ تَدّْرِي إِذا لَمّْ أَلقَكَ؛ في كُلِّ صَبَاحٍ ومَسَاءْ.

يَنْتَابُني اكتِئابٌ؛ ويَنْقِطعُ عِنْدي الرَّجَاءْ؟.

فَأَنْتَ سَلْوَتِي ومُنْيَتِي؛ وَهَبَتّْكَ لِي إِرَادَةُ السَّمَاءْ.

قَالَ لِي حِمَاري (أَبُو الحَيْرَانِ):

لَقَدّْ سَئِمّْتُ عَيْشِي؛ مِنْ قِلَّةِ الأَعْلافِ والأَعْشَابِ وشِّحَةِ المَاءْ.

فَقَدّْ جَفَّ الزَرْعُ؛ وصَارَتْ أَرْضُ الرَافِدَيْنِ جَرّْداءْ.

لَقَدّْ مَسَّنَا الضُرُّ وانْقَطَعَ فِيْنَا الرَّجَاءْ.

أَيْنَ المَفَرُّ يَا (ابْنَ سُنْبَه) وأَعْلافُنَا فِي شُحٍّ وغَلاءْ.

وَلا الأَرضُ مُمّْرِعَةٌ بِالعُشّْبِ؛ فَتَجُوْدُ عَلَيّْنَا بالرِزّْقِ بِلا عَنَاءْ.

نُمْسِي نَطْوِيْ الَّليَالِي؛ وبُطُونُنَا خَوامِصُ جَوْفَاءْ.

فَنَحْنُ الحَمِيْرُ، أَيَامُنَا صَارَتّْ عَنَاءٌ وفَنَاءْ.

بَعّْدَمَا كُنّْا فِي العِرَاقِ مُتْرَفِيْنَ سُعَدَاءْ.

نَرْفُلُ بِالخَيّْرِ وعَيّْشُنَا عَيْشُ الأُمَراءْ.

عِنْدَمَا كانَتْ أَرضُ الرافِدَيّْنِ؛ جَنَّةً مُوْرِقَةً زَهْرَاءْ.

قُلْتُ:

لا تَثريْبَ عَليّْكَ يَا (أَبا الحَيّْرانِ)؛ فَأَيْنَ يَكّْمُنُ البَلاءْ؟.

فَالأَزَمَاتُ فَوّْقَ رؤوسِنَا تَدُوْرُ دَوّْرَ الوَّبَاءْ.

فَنَحنُ البَشَرُ؛ لا زِلنَا في فَلَكِ أَزّْمَةِ الغَلاءْ !.

وَالآنْ صَارَتْ أَزمَتينِ؛ أَزمَةَ الحَميّْرِ وأَزمَةَ أَبْنَاءِ حَوّاءْ!.

وَ لا نَدّْري أَيْنَ سَيَنْتَهي الحَالُ؛ فَكُلُّ الأُمُورِ صَلّْعَاءْ. (صلعاء: داهية ، مصيبة)

قَالَ أَبُو (الحَيّْرانِ):

المُشّْكِلَةُ تَكمُنُ في أَعْضَاءِ مَجّْلِسِ النُّوَابِ الأَجِلّْاءْ.

فَهُمّْ لا يَقُرُّوْنَ المُوازَنَةَ، فَتَتَوَفَّرُ لَنا الأَعّْلافُ والغِذَاءْ.

وتَنْكَشِفُ عَنّْا هَذِهِ الغُمَّةُ الغَمَّاءْ.

وَ تَزُوْلُ عَنّْكُمّْ أَزْمَةُ التَّعْيينِ وأَزمَاتُ الشَّقَاءْ !.

قُلّْتُ:

إِذَنْ سِرُّ المَشَاكِلِ مَمّْسوكٌ بِأَيْدِيْ النُّوَابِ الأَجِلّْاءْ ؟.

قَالَ حِمَارِي (أَبُو الحَيّْرانِ):

إِيّْ واللهِ يَا (ابنَ سُنْبَه)،

كُلُّ الأَزَمَاتِ زِمَامُها بأَيّْدِ أُولئِكَ الوجَهَاءْ.

قُلْتُ يَا (أَبَا الحَيّْرانِ):

أَشدِدّْ حَيَازيْمَكَ ضُحىً قَبّْلَ الغَدَاءْ.

سَنَمّْضِي مَعاً إِلى مَجّْلِسِ النُوَّابِ؛ رَغّْمَ جُوْعِكَ والعَنَاءْ.

سَنَدّْخُلُ أَسّْوارَ المنّْطِقَةِ الخَضّْراءْ.

وَسَنَلّْتَقِي بِحَضَرَاتِ النُوّْابِ الكُرَمَاءْ.

وَسَنَشّْرَحُ لَهُمّْ مُعَانَاةَ الحَميّْرِ؛ فَهُمّْ أُنَاسٌ فُضَلّْاءْ.

يُقَدِّرونَ العَزيزَ إِذَا ذَلَّ؛ ويَرفَعُوْنَ شَأْنَ الأَعِزّْاءْ.

فَمَصّْلَحَةُ العِبَادِ عِنْدَهُمْ؛ كالصَّلاةِ والصَوّْمِ والزَّكاءْ.

قَالَ (أَبو الحَيّْرانِ)، بصَوّْتٍ فِيهِ نَبرَةَ اسْتِهْزَاءْ !!.

إِذَنّْ سَيُفرجُ الهمُّ عنَّا ؛ باذّْنِ اللهِ بمُسَاعَدَةِ الشُرَفَاءْ.

قُلّْتُ:

نَعَمّْ... فَهُمّْ أَهْلُ الجُوْدِ والخَيّْرِ والعَطَاءْ.

قَالَ لِيْ (أَبُو الحَيْرانِ):

يَا ابْنَ (سُنْبَه)؛ لَوْ رَفَسّْتُكَ رَفْسَةً صَمّْاءْ.

فَهَلّْ يَعّْتِبُ النَّاسُ عَلَيَّ ويَتّْهِمُوْنَني بِالغَبَاءْ؟.

قُلّْتُ (مُتَعَجِباً مُسْتَغّْرِباً مِنْ إِجَابَتِهِ الشَنّْعَاءْ):

لِمَ يَا أَبَا (الحَيّْرانِ) مِنْكَ هَذا الجَّفَاءْ ؟.

قَالَ (أَبو الحَيّْرانِ):

لَوْ قُلّْتَ مَقَالَتَكَ ذِيْ؛ في مَجّْلِسِ الحَميّْرِ الأَخِلّْاءْ؟.

لَنَهَروْكَ نَهّْرَ ذَلِيّْلٍ قَدّْ أَسَاءْ!.

قُلّْتُ:

هَوّْنْ عَليّْكَ يا (أَبا الحَيّْرانِ)،

وَ هَدِّئْ مِنْ رَوّْعِكَ... فتِلكَ غَضّْبَةٌ مِنّْكَ حَمّْقَاءْ !.

قَالَ (أَبو الحَيّْرانِ):

لَوْ أَنَّ مَجْلِسَ النُّوابِ؛ يَحِلُّ مَشَاكِلَ العِبَادِ بسَبيّْلٍ سَوَاءْ.

لأَقرّْوا المُوازَنَةَ؛ وصَارَ النَّاسُ بِلا هَمٍّ وَلا لأْوَاءْ. (لأواء: ضيقُ المعيشة)

وَلمَا صَارَ حَالُكُمْ كَحَالِنَا.... سَواءً بسَواءْ.

ولمَا صَارَ حَالُكُمْ كَحَالِنَا.... سَواءً بسَواءْ.

***

مُحَمَّدْ جَوَادْ سُنْبَه

هبت من نومها على طرقات صباحية تقرع باب البيت، تمطت ثم فركت عينيها ظانة أن أحد الأقارب قد اقبل لزيارتها، رمت ساعة هاتفها بنظرة؛ العاشرة والنصف صباحا؛ كيف سرقها النوم الى ساعة متأخرة من صباحها؟ ..الطرقات تتوالى على الباب لكن بدرجة أخف من الأول.. تثاءبت قبل أن تفتح الباب لتجد أمامها رجلا مربوعا، أشعث الشعر، كث اللحية، شاحب الوجه، بادرها وقد أوشكت ضجرة أن تسد الباب في وجهه مرددة: "الله يسـهـل"..

ـ أتوسلك سيدتي قطعة سكر، "كرموسة " أو ثمرة، أي شيء حلو فاني أنهار ..

تريثت وصوت الرجل يأتيها متقطعا كأنه يخرج من بئرعميقة، تمعنت في وجهه، شحوبه وصوته يوحيان أنه على وشك أن يفقد وعيه ..

" ربماهبوط السكر في دمه ".. تركت الباب نصف مفتوح وهرولت الى الداخل لتعود بصحن من فواكه؛ شدت الرجل من يده ودعته الى داخل البيت؛ بلهفة تسلم الصحن منها، تربع البلاط، وصار يزدرد مما فيه. كانت تنظراليه بعيون تحجرت الدموع في مآقيها.. لم تنبعث في مخيلتها غير صور والدها تترى أمام عيونها يوم فقد وعيه ذات مساء وقد هبطت نسبة السكر في دمه، انشغلت عنه زوجته بزينتها في غرفة نومها فلم يجد من يقدم له أي شيء ينقد به حياته، فصعدت الروح الى بارئها ..

إلتهم الرجل موزة وحبة ثمر، واتكأ على جدار خلفه واضعا رأسه بين يديه، كأنه يستعيد أنفاسا منه قد ضاعت. عرق يتصبب من وجهه وذراعيه رغم برودة النهاركأنه ينزف سيلا، بادرته بكاس ماء فصبه دفعة واحدة في جوفه ..

استعادت عيونه بعض لمعانها، وشرع يتأملها ولسانه يلهج بدعاء؛ حاول القيام فمسكت بيده، وبدل أن يستدير الى الباب ألحت عليه في الولوج الى صالون قريب فامتنع، مشيرا الى ثيابه وقدميه الحافيتين الوسختين؛ شدت يده وأصرت على دخوله الصالون، تركته يستريح على فراش وثير وخرجت لتعود بألبسة وشبشب وفوطة بيضاء كبيرة ثم وجهته لدخول الحمام، لم يمانع، وقبل أن تقفل الباب خلفه قدمت له موسى للحلاقة وقالت: "لا تستعجل الخروج، خذ كامل نظافتك واطرق الباب متى انهيت حتى أفتح لك "

أسرعت الى المطبخ وشرعت تعد فطورا لها ولضيفها الزائر ..

لم يكن الرجل يشغلها بتفكيرعمن يكون، أو يثير فيها أثرا من خوف فتقدر حجم الخطر الذي قد يداهمها من ثقتها به، والسماح له بدخول البيت وحمام البيت، وليس في البيت غيرها، ما كان يشغلها هو خوفها من أن ينهار أمامها ويموت .. فصورة ابيها وذكراه الأليمة هي ما يملا كل جزيئة من تفكيرها يوم دخلت من عملها ووجدته يتوسد الجدار، فمه مفتوح كأنه قد نادى ولم يلب أحد له نداءا، وقد عقد يمناه بالشهادة؛ ما ضر زوجته لو أخرت زينتها قليلا تتريث عودتها بدل أن تتركه وحيدا وهي تعرف ان زوجها قد نخره السكري ومعرض لغيبوبة كثيرا ما كانت تفاجئه بلا إشعار؟؟..

جفلت كسحابة أريق ماؤها وهي تفتح للزائر باب الحمام وقد وقف أمامها متورد الوجه، رغم الضنى المطل من عينيه، حليق اللحية، حييا وقد استرسل شعر رأسه لامعا ممشوطا الى الخلف يكاد يغطي أذنيه.. أثارها طول الرجل عما رأته وهي تستقبله بالباب وكأن حرارة الحمام قد مددت من قامته، ساءلت نفسها:

"هل حقا هو نفس الرجل من دخل بيتها ثم حمامها؟ ..!!

هوى على يديها بقلب وجل يشكرلها صنيعها وهي تدعوه لمائدة الفطور؛استقام وهو يقول:

ـ ماذا بقي من خير ياسيدتي لم تقدميه الي؟ سأظل لك مدينا بهذا الفضل ما بقيت الروح تصاعد في جسدي ..

تبسمت من بين دموعها وعليه ردت:

ـ لم افعل الا ما أمرني به ربي و الواجب الإنساني، هيا لتتناول فطورك أولا !!..

كانت تتابعه بنفس مطمئنة وهو يرفع اللقيمات الى فمه بتأن وسكينة نفس، يمضغها بمهل مستلذا بطعمها، ولا يرد عن سؤال منها الا اذا وضع يده على فمه تأدبا، لم يداخلها خوف من وجوده، فالرجل لم يرفع بصره ليدقق فيما حوله، ولا زاغت له عين يتملاها وهي شابة جميلة على عتبة الأربعين، تلفت بنظر وتثير بقد وأنوثة طاغية .. كانت حركاته تدل على أصل وانتماء خليق، وحدها تقلبات الزمن ربما هي من حولته الى اشبه بمتشرد يستعطي البيوت.. كانت تتلهف لتسمع قصة حياة تكشف وبالتفصيل عمن يكون وما ظروفه؟

لم ينتظر أن تسأله فقد قرأ على وجهها لهفة السؤال الذي احتارت كيف تسوقه ..

"أنا ابن عائلة كبيرة ياسيدتي كنت واسطة عقد إخوتي الأربعة، لم أكن لهم شقيقا، فأمي من جبال الشمال في حين أن أمهم من شرقها ، نلت حظا من علم، لكن شغفي بالتجارة قد جعلني أدخل في مشاريع تجارية من صغري وأحقق فيها نجاحات أبهرت إخوتي الذين رفضوا الاستمرارفي الدراسة بقدر ما جرت علي حقدهم وحسدهم، كان أبي يؤثرني عليهم جميعا، فأوكل الي الكثير من أعماله التجارية التي فاقمت من غيرة إخوتي وحقدهم على أمي التي استطاعت أن تزرع في نفسي حب التجارة الذي يتميزبه أخوالي، نصبوا لها فخا واتهموها بإخفاء حشيش جلبه أخ لها من بلاد كتامة وهو لم يطأها أبدا، أحد إخوتي من دسه في غرفة نومها، ثم استطاعوا الوصول لها وهي في السجن عن طريق احدى الحارسات وتم قتل أمي والإعلان عن انتحارها خوفا من أن تفضحهم بعد خروجها من السجن؛ بعد موت والدنا استطاعوا تزوير وثيقة كتبها لهم أحد السياسيين كان ينافس أبي في الانتخابات كشهادة أني لست أخاهم وأن أمي كانت عاقرا بشهادة ادعوا أن أبي هو من تركها، وثقوها باثني عشرة شاهدا من شهود الزور فحرموني من حقي في الإرث ثم سجلوا ضدي دعوى تزوير، واستطاع محامي من حزب السياسي كاتب الرسالة، شاركهم المؤامرة أن يزجني ظلما وزورا في السجن ..

نلت من الظلم والقهر والبطش ما يشيب له الولدان ـ ياسيدتي ـ، وكان القصد تصفيتي لولا ألطاف الله الذي يمهل ولا يهمل فقد تراجع بعض شهود الزور عن أقوالهم بعد ان انتبه أحد القضاة أن أحد الشهود متعود على بيع شهادته لكل من يدفع بعد تكرار حضوره في أكثر من شهادة أمام القاضي، واعترف المحامي وكان يحتضر بعد حادثة سير مميتة إثر فتح تحقيق دقيق بأمر من الوكيل العام ان شهادة والدي بعقم أمي كانت كاذبة كما اقر بكل صغيرة وكبيرة حول ما وقع حتى يتم ابعادي عن كل ما خلفه ابي والطعن في ماضيه السياسي ..

استغربت المرأة لما كان يخترق أسماعها، كيف يتحول الاخوة من سند للزمان الى أعداء يكيد بعضهم لبعض؟ رمت بدموعها سواقي وهي ترى رجلا بكل هذا القد يكاد ينهار بين لحظة وأخرى وهو يحكي ظلم إخوته، كل غصة تتصاعد منه هي حريقة تأكل صدره ودموع تدمي أجفان عيونه..

إخوته نهبوه، حقدوا على أمه التي أعلنت تميزها بقدرات نفثتها في أبنها فلم يكفهم سجنها بزور وخديعة بل سلطوا عليها من قتلها خوفا مما قد يأتيهم منها .. لم يكن دافعهم من كل ذلك غير السطو على ثروة الأب بغير وجه حق ..

ماذا أصاب الناس؟ لا يد عادت تصافح يدا ولا قلب يقبل قلبا !!.. كل إنسان صارلبني الانسان حفار أخاديد، تعسفا وظلما ونهبا بلا رحمة، أنانية فاقت الصور والأوصاف، لفت الناس بلعنة أبدية ..حتى السياسيون المؤتمنون على مصالح من انتخبوهم تحولوا الى لصوص صارت لهم لازمتهم:" النجاة مضمونة فأيكم كان أوفرحظا؟اطحن ولا تخش معارضة فالكل سواء"

تنفست بعمق، وعلى خيالها قد تداعى زوجان، أتاها الأول عاشقا متيما ومن سنته الأولى تحول من سقسقة ماء وخرير نهر الى طوفان يريد أن يجرف وبالقوة ما ورثته عن أبيها، بعد استيلائه كل شهر على راتبها حتى صيرها تستعطيه ماتسد به أغراضها، وحين قالت: "توقف !! . إني حرة في مالي، ولي حاجاتي ورغباتي" ثار وعصف كريح عاتية وقال لها:"ما أريد أو الطلاق" وكأن الله قد أنطق الحق حلا على لسانه اذ هي كلمة الصدق التي قالها منذ ارتباطهما فلم تتردد أو تطلب حتى حقا من حقوقها بعد الطلاق .. بعد سنة بادرها الثاني بخطبة تقليدية عن طريق خالتها التي صورت لها الرجل لفة قطن قادر أن يولد مسارات الحب الذي ضاع من الزوج الأول ثقة وحنانا، ولئن كان اصغر منها بسنتين فهو كالحمل الوديع ويده ذهب كحرفي يكسب رزقه بجهده وعرق جبينه؛ فهي مطلقة وكل مطلقة وصمة فساد وقناصة رجال، لهذا وافقت وإن كان الفارق في التكوين والنشأة كبيرا ..

سنتان من زواج فجر بعدهما رغبته الأكيدة في ذرية تملا حياته، وبعد زيارات متعدد لأطباء اتفقوا ان الرجل عقيم وليس أمامها غير الحقن، فشرع يفاوضها من خلال مقايضة دنيئة، الحقن أو الطلاق، وحين امتنعت أن يدخل رحمها ماء أجنبي قدم طلبا للطلاق فناله..

تنهدت غصة حارقة و سألت زائرها:

ـ أين تعيش الآن وكيف؟

ـ خرجت من السجن فاقد كل أمل وقد تضاعف يأسي حين علمت أن إخوتي قد باعوا كل ما نهبوه بالتزوير والدس، وكل واحد منهم قد رحل الى دولة اجنبية كإرهابي او قاطع طريق ومرتزق خوفا من المتابعات..

صمت قيلا ثم تابع بعد غصة حزن كاوية:

ـ حالتي التي كنت عليها قبل أن يكرمني بيتك تعرفك بمأواي ومقامي وأنا بذلك سعيد فثقتي في ربي بلاحد ..

كانت تقرأ من رده مصالحة بين حياته وموته، فهو قنوع بما يعيشه بعد معاناة ظلم إخوته ومطمئن لما قد يأتيه ويحياه، وعي بالحياة وبالموت، ذلك مبلغ تفكيره الى أن يعود الى ترابه، تفكير لا يعني الخمود والجمود وانما يعني اليأس من الانسان كشريك حياة بلا قيمة يرعاها أو ربما هو عمق ما وقر في دواخله بعد سلسلة من الضربات صورت له الحياة بلاجدوى مادام الظلم هو قانونها الأسمى، ورغم هذا فثقته بخالقه لم تتزحزح..

اتكأ على يديه وهم بالوقوف وكأنه ينهي رحلة قصيرة من عمره، وقد أعادته عبر لحظاته مع من أكرمته أن في الحياة طيبة قد أسكنها الله في بعض خلقه تصدر عن بعض بني الانسان لتخفيف فظاعات بعضهم..

وضعت يدها على كتفه وقالت:

ـ تمهل، الى أين؟ هل شبعت منا أم عليك قد اثقلت بسؤال؟

ارتمى على يديها يريد أن يقبلهما، وقد خنقته غصة تفجرت لها دموعه:

أشبع منك !! .. لست ناكر جميل ولن أكون، وخيرك هو ما أعاد الي الثقة في بعض بني الانسان، ويشهد الله أني خجلت أن أطلب منك مساعدتي على عمل يقيني مذلة التسول ووسخ البدن، سأكون قانعا بأي مبلغ اسد به الرمق وأعيش منه بكرامة نفس وبأمان من الظلم بدل حياة الشوارع ومذلة اليد السفلى ..

عانقته بحرارة وقالت: ابق، أنت اليوم ضيف وغدا يفعل الله مايريد..

***

محمد الدرقاوي  ـ المغرب

كَمَا تَهْوَيْنَ يَا لَيْلَى

سَأَبْقَى حَافِظاً وُدَّكْ

*

وَأَرْعَى عَهْدَنَا الْبَاقِي

وَأَخْتِمُ بِالْهَنَا سَعْدَكْ

*

وَأَنْسِجُ ثَوْبَ أَفْرَاحٍ

يُزَيِّنُ بِالصَّفَا قَدَّكْ

*

وَأَرْوِي أَرْضَ آمَالٍ

تُخَضِّرُ بِالْوَفَا عَهْدَكْ

**

أَيَا دُنْيَايَ يَا لَيْلَى

عَشِقْتُ بِفِطْنَتِي خَدَّكْ

*

ظَلَلْتُ أُقَبِّلُ الْأَزْهَا

رَ أَحْصُدُ نَاعِماً وَرْدَكْ

*

وَقَدْ عَانَقْتُ أَفْرَاحِي

أُحَيِّي فِي الْهَوَى بَنْدَكْ

***

شعر: أ. د. محسن عبد المعطي

شاعر وروائي مصري

حُبُّكِ

جَيَّشَ فِيَّ ملائِكَ وادٍ مَسكون بالعِطْرِ

مَبْهورٍ بِأَعْطافِ الحَرْفِ الوَضّاءْ

وادٍ ذي شَلالاتٍ من دِفْقٍ أزَلِيٍّ

مظفورٍ بِقصائدَ يَسكُنها شَذى الوَردِ

عُمْري ذاك عَشقتُهُ

مِن عِشقي لكِ الأبديّ

حُبُّكِ

هيَّجَ فيَّ نُزوعَ الغَوصِ عَميقًا في النور الوهاجِ

في عَتْماتي

ها كاتارْسيسُ عِشقكِ يَغْمُرُني في الأَمداءْ

يَغْسِل قلبي بِشُواظِ الأنواءْ

أَتَعَلّمُ كَيفَ أَكونُ رَهيفاً أُسْلِمُ روحي لِهَسيسِ الحُبّ المَبْهورِ بِنَجْواكِ

لأُطَهّرَ قلبي مِن هَمجيّة شِرياني

مِن وحشٍ يَسْكُنُني

يَتَمَلّكُني في العِلم وفي الوهمِ

وَحْشٌ يَفْتَرِسُ الحُبَّ

يَنهَشُ حَبْلَ عِشقي السُّرّيِّ

يَقْتُلُنا في ذِروَة الرقصاتْ

في صَخبِ الوَردِ الباسمِ للأوقاتْ

كَيفَ صِرتُ أنا عبدَ أناي الوَلهانْ؟

كَمُحالٍ يَسْلُبُ مِنكِ بريقَ العَينَينِ ويَأخُذُ وَهَجَ الزّهْرِ الفَوّاحِ ليَأسَرَ روحَكِ في الأَحزانْ

عِشْقُكِ

يَغْسِلُ صَدْري

يَفتَحُني بِالمِشْرَطِ

يَسْتأصِلُ لَوْثةَ عُدْوانكَمْ عَذّبَني

آذَيْتُكِ في الحُبِّ عَميقا

وَصَبَرتِ على خَبلي يا قِدّيسَةَ عِشْقي

ها كاتارسيسُ الحُب يُنقِذُني

مِن هَمجيةِ وَلَهي العاصِفِ

مِثلَ عَجاجَةِ عُنْفٍ

تَقْتَلِعُ الوَرْدَ مِنَ الأوْصالْ

وَلَهي

سَكَنتْهُ رياحُ الأرواحِ المَجنونَهْ

مارِدُ نارٍ يُحْرِقُ جَناتِ العِشق

في رمادِ الغَرامِ

لا تُزهرُ لي زغاريدُ العَنقاءْ

صَخْرُ الحُبّ لا يُحْييهِ نَحيبُ الخَنْساءْ

الحُبُّ عَذابٌ مادام حَريقاً لا يُزْهِرُ وَرداً في الظّلماءْ

الحُبُّ هُلامٌ ما دام هَجيراً لا تَخْضَرُّ  بِقُبْلَتِهِ البَيداءْ

الحبُ سرابٌ ما لمْ يُسْعِدْ نَبضَ الروحِ بِسيمْفونِيّةِ العِشقِ المُتعالي عَنْ وَجَعِ الأشْجانْ

الحُبُّ وُجودٌ أبْهى مِنْ مَلَكوتِ الأَكْوانْ

كُلُّ الصَّلواتِ

بَينَ يَديكِ بَلسمُ روحي

العشقُ يُطَهرُني

في أسْلاكِ الشوكِ سَينشُرني!

كيْ أبرأَ مِنْ ظَمإ الحَجّاجْ

عِشقُكِ

يَأسَرُني في حُضْنِكِ

مِثلَ طِفلٍ يَثورُ ببابِ المَلكوتِ

ثُمَّ يبكي في غَمْرَةِ الزّلْزالْ

حُبُّكِ

أزْهَرَ لي في الأكوانِ صُنوفاً مِنْ وَرْدٍ يَسْحَرُني

وفَرشتِ بَساطَ الدّفءِ لي

في الذُّرى طِرتِ بعيداً بي

لكنّي صِرتُ زوابِعَ مِنْ رَمْلِ ذُكورَتِنا العَمْياءْ

ها كاتارسيسُ عِشقك يَغسِلُ قلبي

كيْ أولَدَ غُرّا كَبياضِ الوَردِ النّابِت بَين يدَيْكِ

حُبكِ

سَيّجني بأكاليلِ العِطرِ

طوَّقني بأريج الثّغرِ

عِشقُكِ بَحرُ هُدوئي وَجُنوني

يا قِبْلةَ أشواقي وحَنينَ المَوالْ!

***

شعر: عبد القهار الحَجّاري

لا أريد هاتفا.. لا انترنيت.. ينقل أخبار الحروب

يوزع صور القتلى على العقول المصابة بالعقم

والوعي القاصر الـ يمتشق ولادة قصته الأولى

منتشيا - بلايكات - تصنع فخاخا

لأقدام الموتى ودموع الأمهات

*

لا أريد تلفازا يفتح خزائن الموتى

بينها فواصل تلميع البشرة.. تقوية الشٌعر.. والشهوة

والجلود ما عادت تزمجر في وجه الحرائق

الغضب معبأ في علب سوداء

الاصوات دخلت غمد الصمت

والخوف لا يمنح اكثر من فرار

على بلل المحو.. وصهد النسيان

*

الملاحم انتهت.. والأقلام الملونة قدمت اعتذارها للأطفال

انصرفت مدركة أن موتهم سيكون عرسا سماويا

وحيا لقصائد احتفال بمطر سخي

هد البيوت.. والجسور

لعله يكون آخر المطاف وآخر الأعوام في زمن الهباب

هي عدالة الانزواء تحصي القروح.. وتعد التوابيت

*

خذوا قصصي الخيالية.. قصائدي الحزينة

كنت كاذبة وأنا أختمها بومضة أمل مطلة على غابة سرو

وساحة وعي خاوية إلا من أعجاز حلم

كنت كاذبة جدا وأنا أؤكد أن ثمة سرا بين الأرض

وأحضان السماء.. وأن الفصل الأخير من الخيانة

كان نهاية الحرائق.وبداية الأزمنة المستحمة بالضياء

*

من يدل هذا الانهيار على غرفة مناسبة

لرثاء أحلام اغتيلت في قفص الصدر لحظة الولادة

وأخرى تعفنت في جوف الكلمات

حين انتعش التمرد في بوصلة الرأس

وقال الحرف= قد أعود من رحلات الشعر

بابتسامات تنير درب الغد

لتمر الأحلام دون وصاية أو وساطة

كما صدى المايات في الهواء الطلق

لكن اللعنات غابات كثيفة

ابتلعت النيازك والأسماء والحب

وتركتني هذيانا يتصبب عرقا في شق جدار

*

خذوا كل شيء.. انفتاحكم.. وثقافتكم

لا أريد أكاذيبكم المحبوكة.. حكاياتكم المنسوجة

لا أكلاتكم الجاهزة

خذوا رفاهيتكم واتركوني وحدي في المسافات الخجلى

بعدما أتحتم للموت حرية التنزه

على أنقاض الحلم ورفات الأماني

أريدني إنسانا بدائيا يعتاش على الثمار البرية

يصطاد الأسماك بالعظام الحادة

ويجلس على صخرة صماء.. يشويها

بعيدا عن الأقمار الاصطناعية وعيون مخبرين

تثقب الجدران.. تفتك بالمقاهي

وتبعثر الأسرة عند منتصف الليل

***

مالكة حبرشيد

نارٌ أنا،

ازدهرْتُ في دمك ...

وصورتُك،

توهّجت سلّةً من الأرجوان

في شرايين لَهَبي ! ..

**

موتُكَ فيَّ بعض التوحُّدِ

وبعضُ التغرُّبِ فيك ...

موتيَ فيكَ،

بعضُ التبعثُر

في ياسمين فردوسك الشاهِق  !!

**

ألِفي وبائي وهمزتي

بشائرٌ مُقاتلةٌ

منك وفيكَ

فيّ ومنّي

ومن توأم غربتنا،

نَزَفتْ حروبها !!!

**

قامَتُكَ القُزحيّة،

نشَرْتُها في رذاذ يديّ

بَخّرْتُ بريقَها

وجُنِنْتُ في متعةِ الماءِ

والضوءِ

واللّوْنِ !!

وَما رحَلْتَ شعاعاً،

بعيداً عن مُنايَ

أو مَدايَ

خصوبَةً أليفًةً

جمَحْتَ

رغم التواري،

في ترابِ الغربةِ

ومازالت تخصِبُ .....

سأشدُّكَ عمراً

إلى مُدُن أحلامي

كي تنام فيَّ

وأنامَ فيكَ

إيقاعَينِ نبقى

رغم احتراقنا

كي نتساوى في الظلِّ !!!!

سأشدُّكَ إلى طرقات غربتي

كي تمضي في أرضي تاريخاً

وزوبعةً من الحبِّ

صداها ،

وردتي ونارُك،

لغتي وصمتُكَ

**

ألِفي وبائي وهمزتي

بشائرٌ مُقاتلةٌ

فيكَ ومعكَ

إلى نبْضةِ التوحُّدِ في غربتَينا

إلى قمّة اللغة المقاتلة في

إسمَينا

وإلى أن تموتَ الحروب جميعها

وتضيء الطفولة فينا

بروح السلامْ !!!

***

شِعر: إباء اسماعيل

تقاسم الشعراء الأطلال

*

بالقفل انحشر النور

*

طارت حمامات السلام

*

هرب الصمت بالعيد

*

أصبح المغنّي مخبرا

*

أكل الثور ذيله

*

ابتلعت الرمال الزوارق

*

تصاحب العار والجبن

*

مات السلطان والشعراء

*

تماوت باب الدار

*

الليل  ضيّع قلادته

*

انتحر حارس المدينة

*

مات ساعي البريد

*

غيرت الشواهد قورها

*

النهر يسقط بكأسي

*

السراب قضى نحبه

*

سئم الدرب العزلة

*

طيرا ظن نفسه المقص

*

صدئت قدور البيت

***

قصي الشيخ عسكر

 رسالة ماجستير جديدة في تركيا عن: (تجليات الأنا والآخر في شعر يحيى السماوي)

جرت يوم الأربعاء الموافق 3/5/2023 في قاعة كلية العلوم الإنسانية ـ قسم اللغة العربية ـ جامعة جانكري كاراتكين التركية مناقشة رسالة الماجستير للباحثة السيدة سيناء مسافر متعب والموسومة بـ (تجلّيات الأنا والآخر في شعر يحيى السماوي). 3152 رسالة ماجستير

تألفت لجنة المناقشة من:

1 - د . هدايت زرتوك مشرفا.

2- د . قتيبة فرحات مناقشا داخليا.

3- د . إبراهيم أوغلو مناقشا خارجيا.

وقد أشادت اللجنة بالجهود البحثية للباحثة وتمكّنها في تشخيص وتحليل تجلّيات الأنا والآخر في المنجز الشعري للشاعر العراقي يحيى السماوي .

***

 

الفصل الثامن من رواية: غابات الإسمنت

توطدت العلاقة داخل السجن بيننا نحن الثلاثة؛ مديحة، وكريمة المحكومة بالإعدام، وانضمت إلينا نجاح ذات الوجه الطولي والشعر الأشقر، كنت أظن أنها تصبغه، ثم عرفت أن شعرها ذو شقرة برّاقة، كانت إحدى المتدربتين معي في ورشة الحلاقة، ولم أرتح لها حين فاجأتني بالسؤال عن جريمتي وبمرور الوقت أنستُ لها، عرفت أنها طيبة القلب لا ترتاب بأحد، ولا تسأل عن خبث، كانت ضحية لؤم زوج احترف الكذب والنفاق.

طلّقها وتركها مدّة فتزوجت بعد سنة من الطلاق.

لكن زوجها أرجعها قبل انتهاء مدّة العدّة من دون أن تدري، ودون أن يخبرها أنه أعادها! فأقام عليها دعوى فحوكمت بقضية الزواج من اثنين بوقت واحد.

عندما سمعتُ قصة نجاح انتابني شعور غريب، حنق لم أعتده، أيّ دين هذا يسمح للرجل أن يطلّق زوجته ثم يعيدها لعصمته دون سؤالها؟ دون علمها! دون رضاها ربما!

هل نحن نعيش بمعزل عن العالم أم نسكن كوكبا آخر؟

رغم قناعتي أن الدين والحب ثنائية لا مجال للمجاملة فيها، أو تجاوز قدسيتها، لأننا بذلك سنهدم عقيدة الاستمرار بإنسانيتنا.

لكن هنا.. أمام هذا الموقف، ومواقف أخرى.. تخلخلت عقيدتي وقناعتي بأمور كثيرة.

لا أظن أن إدارة السجن تفعل معها مثلي، أو مثل ما فعلوا مع مديحة، فتكلّفها بمهمة ما ذات يوم، لبراءتها المفرطة، وصدقها وطيبتها التي تصل إلى حد السذاجة؛ لكنني لقربي من السيدة النقيب سألتها عنها، فأكدت لي أنها ليست أهلا للثقة، ولولا العلاقة الخاصة بيننا لما تجرأت على السؤال ثم تركت الأمر للأيام.

كنّـا نجتمع نواسي كريمة، وكلنا أمل وتفاؤل في أن القضاء سوف يعطف عليها ويخفف الحكم إلى المؤبّد، كريمة نفسها كانت متفائلة كثيرًا، كانت نجاح تأخذ رأس كريمة في حضنها، وتقصّ عليها حكايات لطيفة ذات نهايات سعيدة، ذات مرة حكت عن أميرة اختطفها نسر فقطع حبيبها الأمير الصحراء لينقذها، كان يتخفى بأشكال مختلفة كلما رأى خطرًا ما، حتى وصل إلى القصر المسحور، وقتل النسر ثم انطلق على فرسه وخلفه الأميرة؛ وعلى الرغم من أن النهاية كانت سعيدة إلا أن نجاح كانت تبكي، وعندما سألتها مديحة قالت: إنها دموع الحنين للطفولة، وستبكي فرحًا مثل هذا البكاء يوم نجاة كريمة، فارتفعت الأكف بالدعاء.

غير أني مع ذلك كنت قلقة، ساورتني وساوس، ليس بشأن كريمة بل بدأت أفكر بالسيدة النقيب، مرّ أكثر من أسبوع ولم تطلبني، هل استغنت عني؟

هل عدّتْ سؤالي جرأة تجاوزت الحدود، مع أنها رفعت الكلفة بيننا، ولم تعد علاقتي بها علاقة سجينة بمسؤولة كبيرة عن السجن.

أم تراها نزوة عابرة ستجد مثلها مع سجينة أخرى؟

بدأت أشعر معها بالأمان، ولا أقرف مما أفعله، أشعر أني ندّ لها، قد تكون غيرة مني أن أفكر بخيانتها لي، فهي التي مسحت مشهد الدم من عيني، وجعلتني أعيش عالما آخر يبدو لي أنه أكثر راحة من العالم الذي عشته.

المهم، بعيدًا عن عالم الذكور، نافذة أمل جديدة، حتى إن كان أملًا معتمًا، والنافذة صغيرة.

بـدأت أقلق.

لا أريد لعالم الغد الذي يفوح منه الأمل أن يفلت من يدي.

أصبحتُ عصبية، لا أركّز، انتبهت نجاح لحالي هذا.. حاولتُ أن أختلق الأعذار لكي لا يظهر شيء.

تُرى لو جَعلنا الله نختار أقدارنا، هل سيهدأ العالم؟

- هل تدرين يا إنعام كم كنتُ أحبّ زوجي الثاني؟

انتشلتني نجاح من تشتت تفكيري في هذه اللحظات بمبادرتها بالحديث عن نفسها، التفتُ إليها:

- وهو؟

- أيضًا كان يبادلني ذات المشاعر، وربما أكثر؛ لكنه القدر قد ترّبص بنا، وأحيانًا القانون يكون فعلًا فوق كل شيء.

- القانون! ولماذا لم يُسنّ قانون مماثل يوقف نذالة الرجال وسعارهم؟

- حين تم استدعائي بالمحكمة بتهمة الجمع بين زوجين، قبل أن أخرج من البيت، هممتُ بعتابه لأنه لم يحمني، نظرتُ للمروحة المعلقة بسقف الغرفة، للنافذة المفتوحة على حديقة الدار، للأرضية الباردة كجماد مشاعره تلك اللحظة، للباب الموصد كأحلام المسجونين، نظرتُ لكل الجهات ماعدا وجهه!

- تبًا ما أتعسنا... هناك فرق كبير بين رجل حقيقي، وشبه رجل، ونحن وقعنا في وكر أشباه الرجال.

- أحيانًا حين يبلغ اليأس بنا مداه نقول: الرجال كلهم أشباه رجال.

سادت دقيقة صمت، حتى استدعتني الحارسة الجديدة تلك الليلة... حسبتُ في البدء أن السجّانة أمّ خالد في إجازة، فلم ألتفت للأمر، وقد رأيت السيدة النقيب التي أخبرت السجانة الجديدة أنها ستأخذني لأخدمها في البيت، وستعود بي فجر الغد، مثلي مثل الأخريات.. خفق قلبي وتهلّلت أساريري، أحسست بنافذة الأمل تطل عليّ من جديد، هل حقّا كانت مع أحد غيري؟ لا يهمني أن تكون مع رجل، فهذه امرأة جعلتني أحبّ السجن، جَعلته جنّة بنظري ولو حكم عليّ بالمؤبد لما باليت، أو راودتني أفكار متوحشة ما دامت معي، ثمّ وضعت القيد في يديّ.

كنت أشعر بنعومته!

كأنه لا شيء، أو من حرير ما دامت يداها أقفلته على يديّ.

في الطريق ران عليها السكون، ولم تنبس بكلمة، لم أصبر فتساءلت:

ـ ظننتكِ شبعت مني فوجدتِ ضالة أخرى!

ـ كنت في الجحيم، اسكتي... كلماتك تقتلني حين تشكـّين.. تقتلينني، نحن لسنا كالرجال نتمرغ بالخيانة.. هل فكرتِ أن تخوني زوجك حتى وإن خانك؟ فكيف نخون إن أحبّت إحدانا الأخرى؟ والتفتت إليّ وافتعلت ابتسامة كأنّها ندمت على انفعالها، كأنها تصورته توبيخا:

هل تغارين؟ لا تزعلي.

وفي البيت ران علينا السكون حتى اندفعتُ بعصبيّة:

لمَ إذن جلبتني إلى هنا؟

غابت والقت إليّ ببجامة جديدة، وغيرّت ملابسها الرسمية:

ـ سأحضرُ لك العشاء اشتريته جاهزا.. كباب، فقط سأسخّنه.

ـ لن آكل حتى تقولي لي أين كنت.

انفجرت بالدموع بعد لحظات صمت، ارتمت على الأريكة ومسكت صدرها وراحت تنشج إلى درجة خلتُ عندها أن نبضها سوف يتوقف، بدت أنفاسها تتهدّج، فرفعتها إلى صدري، كانت تلقي رأسها على كتفي وتواصل النشيج.

ـ أرجوكِ ما بكِ؟

رفعتْ رأسها عن كتفي، وتطلّعت إليّ بعينيها المغرورقتين بالدموع:

ـ كنت في عزاء أمي!

ـ معقول؟  حبيبتي البقاء في حياتك!

واصلت النشيج، فمرغّت خديّ بخديها المبللين وهمستُ:

ـ لا تهتمي أنا عندك.. هذه حال الدنيا.

فحدّقت بعيني وقالت برجاء:

ـ أرجوك، أنت لي كل شيء لا تتركيني.

ـ سامحيني على سوء الظن.

استلقيت على السرير ووضعت رأسها على ذراعي وأنا أتساءل:

ـ حدثيني عنك وعن المرحومة، نحن الآن لبعضنا، لا أحد لك غيري وليس لي أحد سواك، أنت تعرفين عني كل شيء من خلال ملفي!

ـ ألستِ جائعة؟

ـ لا نفس لي للطعام، تعرفين أنني تناولت طعامي في السجن!

ـ كأس شاي؟

ـ لا... قد لا أنام معه!

ـ حسنا إذا رغبت بأي شيء فالبيت بيتك ولا تترددي.

ـ حدثيني... ارتاحي... فضفضي.

ـ (يا ستي) أنا والدي رجل أعمال كبير، أصبح وكيل وزارة، وتوقف عن العمل السياسي؛ لكنه بقي يمارس نفوذه في الحكومة من خلال أتباعه، تزوج من أمي.

ـ هل هي قريبته؟

ـ كلا.. بعد ولادتي أصيبت أمي بسرطان الرحم، فتزوج والدي وأصبح لي أخوة نصف أشقاء.. أربعة!

ـ أخوات؟

ـ لا، ليست هذه المشكلة؛ لكن والدي جعلنا نعيش في شقة أنا وأمي، وسكن هو وزوجته في فيلا واسعة مزودة بكامرات مراقبة وحدائق واسعة.. جنّة.

ـ شقتكما متواضعة؟

ـ جيدة، وقد كتبها باسم أمي وقد ورثتها عنها الآن؛ لكن تخيلي... شركات أبي ذات أسهم بمائة مليون دولار كلها ذهبت لإخوتي، وأصابني منها مليونا دولار فقط حسب وصيته، ومائة ألف لأمّي!

فازددت فضولا:

ـ هل كان يزوركما؟

ـ أبدًا.. ليس لديه الوقت الكافي ليلتقي إخواني الذين يسكنون معه في البيت نفسه، فكيف يزورنا نحن؟ كان يبعث أحد سائقيه أو خدمه يسألنا عما نحتاج، وحسنته الوحيدة أني عندما دخلت كلية الشرطة قبلوني لأنني ابنته، ولعلهم سألوه فلم يمانع.

ترددتُ ثم تجرأت:

ـ هل أزعجكِ بسؤال؟

ـ ألا يؤلمكِ زندك من ثقل رأسي؟

فالتفّت يدي اليسرى تشبك يدها اليمنى:

ـ أبدًا أنا في غاية الراحة.

ـ أعرف ما تفكرين به ولن يزعجني ذلك، تودين أن تقولي هل ميولي ردة فعل؟

ـ سامحيني!

ـ أبدًا؛ لكني أقول إنها طبيعية وليست بسبب سلوك أبي، منذ الصغر أحسست بميول لجارتنا التي كانت رفيقتي، كنت أشتهي أن أقبلها، وفي يوم اكتشفت أنها............  ارتاحت للأمر.

ـ أظن أنك بقيتِ طويلا معها؟

ـ فترة، ثم مارست سنة مع صديقتي في الثانوية التي انتقل أهلها إلى مقاطة أخرى، ثم مع طالبة أخرى استمرت علاقتنا ثلاث سنوات وانتهت بزواجها.

تجرأتُ وسألتها فيما لو تعلّقتْ برجلٍ ما، أو ارتبطت بعلاقة حُب مع أي رجل..

التفتتْ إلى الناحية الأخرى، ثم وضعت يدها على صدرها:

- نعم.. كان كريمًا جدًا معي في اللقاء الأخير، لقد أسرف في ضحكته عندما طلبت منه الارتباط بشكل رسمي، حتى خجلت من طلبي، بل خجلت من نفسي وقلبي، من حبي وإخلاصي له لسنوات طوال، من ظنّي بأنه كان يحبنّي.

صوت قهقهته كانت كافية لتجعلني أعيش بعاهة مستديمة من الألم!

- لكنكِ قويّة، وتكمن قوتكِ في قدرتكِ على تقبّل تخلّيه عنكِ، وها أنتِ تجاوزتِ الخيبة وخرجتِ للعالم إنسانة أخرى ذات شأن وأهميّة.

- إنسانة مشوهّة من الداخل!

الشيء المهم بحياتي أني التقيتكِ، ها... هل تكتفين بهذا الاعتراف؟

ـ يعني أنني آخر حب؟

ـ بل أنت الأول والأخير.

ـ لكن أنا بعكسكِ، لم يكن هذا الأمر في بالي حتى جئتِ أنت.

ـ هل أنت نادمة؟

ـ بل في غاية السعادة، لأنك خلصتني من وهم وخيانة، وشيء يدعى الرجل!

ـ كثيرًا ماتصبح العادة طبيعة ثانية، مثل التدخين.

ـ أنا الآن في غاية السعادة، لأني أشعر أنك انتشلتني من بحر الدم!

ـ شيء واحد أرجوك، قد تفكرين بالزواج والأمومة، أنا لا أغار من رجل يشاركني فيك، إذا تم الأمر فلنبق كما نحن الآن، وسأفكر كيف يمكن أن نحقق رغبة الزواج والأمومة من دون أن نفترق.

ـ آمل ألا يحدث ذلك، وقد أفكر بالزواج والأمومة؛ لكن بطريقة أخرى لا تجعلنا نفترق، لقد تغيرتُ تماما، أنتِ عندي كل شيء... سيدتي هنا وفي السجن.

ـ وأنتِ سيدتي في كل مكان.

ونهضتْ وهي في غاية الغبطة والانشراح وطلبت بإشارة من إصبعها أن أنهض فغادرت الفراش، وقالت لي:

لكي تصدقي أنك سيدتي أقول لك ارتدي ملابسي العسكرية، ارتديها ولا تتردي، فتجردتُ من البيجامة والتقطتُ البدلة العسكرية، وبدأت أرتدي السروال والقميص، كانت أكبر مني فأطلقتُ ضحكة وقلت:

- نعم هل أعجبتك؟

- رائعة أنت يا سيادة النقيب، أمّا في المرّة القادمة، فيجب عليك أن تطلبي من الخياط أن يضبط المقاييس أو تذهبي إلى خياط آخرّ.

فتقدمتُ نحوها قائلة:

ـ مهما يكن فلن أرقى لدرجتك ولو كنا مراهقتين لجرحنا أيدينا وجعلنا دماءنا تمتزج.

ابتسمت وطبعت على خدي قبلة:

ـ لقد جعلتني أنسى الحزن حقا.

مع ذلك لم أنس رفيقتي، فكرت أن سيدتي النقيب في غاية الشفافية بسبب حادث الوفاة فقلت وأنا أخلع البدلة:

ـ لي طلب صغير يخص السجن؟

ـ قولي أعدكِ سأعمل جهدي؟

ـ هل تقدرين أن تتوسطي عند مسؤول ما ليتم تخفيف الحكم عن كريمة؟

ـ هذا أمر يخص القضاء... مع ذلك هناك أمل، إنها جميلة، سأرسلها ليلة أو ليلتين لمسؤول قانوني، تعرفين بعض هؤلاء... المرأة نقطة ضعفهم، قد تكون هناك بارقة أمل.

ـ آمل ذلك.

ـ اعلمي أنني معكن... تصوري الحارسة (أم خالد) نقلتها إلى سجن آخر مدة ثلاثة أشهر، لأنها هرّبت مخدرات إلى السجينات، والمدمنة نائلة التي فقدت الوعي، هي الآن في مستشفى تعالج من الإدمان، أنا أريد لهن الخير، ويحزنني جدًا أن أرى سجينة تُعدَم، حتى الساذجات اللائي لا يصلحن أن يكنّ لسذاجتهن المفرطة أو أمّيتهنّ مخبرات، سأجد لمن لا معيل لهن بعد خروجهن من السجن عملا يناسبهن.

كانت تتحدث بهمس، وقد شعرت باسترخاء تام لحديثها وطمأنينة لا حدود لها، ولم أشعر بنفسي قد غفوت... نمت نوما عميقا حتى استفقت على صوت المنبه!

***

ذكرى لعيبي

GO HOME

ايها المهاجر المنبوذ

كل العالم غاضب عليك

GO HOME

ايها الغريب

لقد فقدت هويتك

ولا وطن لك

فأنت غير مرغوب فيك

GO HOME

ايها المهاجر

من اين أتيت

والى أية سلالة تنتمي

أغجري أنت

أم سليل العفاريت؟

GO HOME

هكذا يرددها العنصريون

والشرر يتطاير من عيونهم

لقد ضجروا من  رؤيتك

هندامك ارهابي الصفات

وملامحك تهددهم  ليل نهار

GO HOME

ارجع، ارحل ،اذهب ، توارى

ألا ترى معي

لقد حان وقت حزم الحقائب

الم تسمع ما يقولون

لا نستطيع تحمل المزيد

كفانا وجودك العليل

كفانا ظلك الثقيل

ارحل عنا بعيدا بعيدا

GO HOME

أيها النازح

عد الى خيمتك

وغنمك

وجدولك

GO HOME

ارحل بارادتك

الى الضفة الاخرى

قوارب الموت في انتظارك

GO HOME

ارحل قبل ان تنهشك كلابهم

فكلابهم لا تكف عن العواء

وانيابهم  التمساحية مكشرة

GO HOME

ارحل مع الرياح

واركب العواصف

وترجل  الخطى الى  حلبة الصراع

وبردائك الاحمر

تحالف مع ثيرانهم الهائجة

GO HOME

لا الدواعش يرحبون بك

ولا ولاة امرك  يحمونك

في قصورهم الفارهة

GOME HOME

الاندماج والتأقلم الغربي

ليس من شيمك

شرفك أفضل من ديموقراطيتهم المزيفة

ارفع رأسك عاليا

فانت مهاجر فوق المستوى

***

بن يونس ماجن

الجزء الرابع من: مناوشات عاطفية

أخذتني صديقتي للتعرف على أعضاء الشلّة الإثني عشر كخطوة أولى في مرحلة التحوّل والتي صارت توّحش فيما بعد كانت تترأس زعامتهن حينئذٍ جميعهنّ يكبرنني بسنوات فقد كنت في سنتي التحضرية وهن في سنوات الإختصاص والكثيرات منهن رسبن في عدة مواد في ترم التخرج وإضطررن لإعادات لانهائية لتلك المواد، صعدنا إلى الطابق الثاني وقدّمتني لمجموعة من البنات يجلسن على سجادة "فرشة" على الأرض ما أن رأيتهن حتى شعرت بإنقباض غريب في قلبي وتوجست شرّاً محتملاً شعرت بالألم لأني إعتدت خلال مسيرتي التعليمية أن الزعامة لي ولم أكن في يوم من الأيام تابعة لكنّ فكرة أن يكون لدي شلّة ومكان أخيراً ألجأ إليه دفعتني لتجرّع السم وإبتلاع العلقم، كان كرهاً متبادلاً لم يرحبن بي ولا بإنضمامي إليهن ولم تعيرني أياً منهن إنتباه سوى إثنتين فقط إحداهن ملتزمة "مطوّعة" تمسك مسبحة ١٠٠ حبة بيدها تشارك بعبارة أو أكثر بين كل تمتمة وتسبيح والأخرى إستقبلتني بحفاوة وأقبلت تمسك شعري وتعصر ذراعي بقوة ثم تبين لاحقاً أن لا إهتمام لديها بالجنس الخشن أما البقية لم يتكلفن عناء النظر إلي كانت إحداهن تأكل وإثنتين يذاكرن مادة وأربع متزوجات يتحدثن بمواضيع غريبة ومن تدير الحوار على مايبدو تزوجت حديثاً من شاب كانت تعرفه بعد علاقة حب طويلة متفاخرة بالإيقاع به وحثه على الزواج حيث أن تصرّف كهذا يعد صفة متنحية في الجينات المندرجة تحت مجموعة "ما أتزوج بنت تعرفت عليها " كانت تتكلم بتفاصيل شديدة الدقة عن زوجها وحفل زفافها وفستانها تصف التاج المرصع بالألماس المشابهه لتاج الأميرة ديانا وتعدهن بإثبات ذلك بالصور فور إنتهاء تحميضها من عند المصورة النصابة والتي على مايبدو أنها إحترقت ولم تستلمها حتى تخرجنا جميعاً الغريب أن لا أحد يصدقها ولا أحد يوقفها كذلك خاصة وأن مظهرها لم يكن يوحي بأي بروتوكولات ملكيّة لإقامة حفل زفاف أسطوري ينافس زفاف الأميرة ديانا ،و تلك التي كانت تتقمص شخصية "سعاد حسني" تتجوّل بشكل دائري تتحدث بالجوّال مع عموري "النحنوح الصغير ذو الستة عشر ربيعاً" هرّب جواله للمدرسة ليكلمها فترة الفسحة تخطط معه لهدم مستقبله

في الركن بجانب النافذة فتاة سمراء البشرة ضخمة الجثة تربط شعرها برباط مطّاطي دون أن تكلف على نفسها تمشيط مقدمته كانت تجلس متربعة منحنية الظهر تذاكر من كتاب على الأرض نظرت إلي من فوق النظارات الطبية نظرة حادّة مريبة ثمّ نطقت وليتها لم تنطق قالت موجهه الكلام لصديقتي: "البنت بريئة وغشيمة وتعرفي إننا لا نرّحب بهذا النوع"! ثمّ وجهّت نظرها إلي وقالت :" لكنك حلوة..ويجي منك" وانكفت من جديد بقراءة الكتاب لم أفهم مرادها ولا ماذا قصدت بكلامها أو بالأحرى أني فهمت لكن وددت أن أكون مخطئة، على كل حال تلك الإنسانة لم تكن بحاجة لنسبة ذكاء عاليه ولا لمهارات تحليلية فذّة لمعرفة وظيفتها وهدفها بالحياة..

في إحدى الأيام قابلتني بصدفة مفتعلة سألتني عن وجهتي أخبرتها أن محاضرة كيمياء ١٠١ على وشك البدء قالت: "أنا جايه معاك المحاضرة عندي موضوع ضروري أكلمك فيه بعد إنتهاءها" إستغربت! ما هو الموضوع الضروري الذي من الممكن أن يجمعنا ! فأنا بالكاد قابلتها مرة واحدة ودعوت مراراً أن لا أراها مرة أخرى..لم أركز في المحاضرة جيداً من التفكير شعرت بتوتر فظيع أينما أشحت بنظري أرى عجاجاً إن نظرت أمامي رأيت أستاذة متجهمة لاتعرف الإبتسامة لوجهها طريق تحدّق بي وإن إلتفت على يميني أراها تلوك علكة متظاهرة بالتركيز تشير لي بإصبعها أن أنتبه للشرح..

إنتهت المحاضرة أخيراً وخرجنا من القاعة سحبتني من يدي على الكافتيريا سألتني: تحبي أشتري لك فطور؟ قلت: لا شكراً قالت: "إذا آيسكريم من باسكن روبنز ..

وقبل أن أجيب بنعم أو لا قالت: "بلاش منه خلّي جسمك حلو التخن غير مطلوب"..

أخذت لي كوب نسكافيه دون حتى أن تسألني إن كنت أرغب بشربه أو لا عموماً كانت فتاة مريبة ولسبب غامض لم أكن أريد أن أتجادل معها او حتى أغضبها ..أن أتجنب شرّها وكفى..

سألتها ماهو الموضوع الضروري ؟ قالت اصبري نجلس بمكان هاديء، جلسنا بركن قريب من مدخل الكلية ثم بدأت تتكلم

قالت: "إسمعي..فيه دكتور فيزياء في قسم الشباب هو بروفيسور عجوز صحيح لكنه "يكح"فلوس "يط**" فلوس غني جداً طلب مني أشوف له بنت بمواصفاتك ..لاتخافي غير مطلوب منك الكثير هو صحيح بروفيسور لكن واضح إنه غشيم ويغرق بسرعه هي خرجتين وقضي الباقي تلفون ناخذ منه اللي نبغاه وبعدين غيري رقمك، أنا عندي شريحة وجوال إضافيين أهديك إياهم وخليهم في اللوكر "locker” تبعك كلميه بين المحاضرات..

كلامها كان عبارة عن طلاسم ، كنت ممسكة بكوب النسكافيه الساخن حتى أحرق يدي من الصدمة والذهول تسارعت نبضات قلبي وجفت شفتي ، قلت لها :" مافهمت..هذا البروفيسور إيش يريد مني؟ يعني كيف خرجتين وتلفون!! قصدك أخرج معاه؟! مصيبة!! مستحيل ! نهضتمسرعة كم صعقت بسلك كهربائي مكشوف

رفعت عينيها ونظرت للسقف ثم تنهدت وهي تمتم مع نفسها :" آه اففف هبله ..هبله غبية كنت متوقعه هذا"

نظرت لي بحدّة قالت "بنت..لاترفضي بغباء!! فكّري ورديلي معاك أسبوع"

يتبع

***

لمى ابو النجا

حين ينفرد خيال الشاعر

محلِّقا

في رحابك أيتها الفكرة

يسطع

بريقها

عبارات عصية على التأويل

**

آثرته صياما

مذ إخفاقات منيت بها

وأنا

للتوِّ أتهجّى

حروفا لمدى أخرق

استحال

بلحظة غبائه المدقع

بؤرة

لالتهام نفايات زمن سحيق

**

سأجعل

منها

شهادة

لزمن يعشق التزوير

أنفاسي

المنعتقة للتوّ

من أزيز المقصلة

***

ابتسام الحاج زكي

عيناكِ تغمر خافقي أشواقا

يا من هواها أشعلَ الإشراقا

*

في الضلع منّي طيرُ حبّ نائمٌ

لمّا بدت عينُ الجمال أفاقا

*

قد كنت أرفض أن أبوح بسرّنا

لكنّهُ قد جاوز الآفاقا

*

صَمَت اللسانُ عن الحديث تحرّزاً

ووجدت عينِيَ تفضحُ الأعماقا

*

والسرَّ قد يخفي اللسانُ أمانةً

ما لمْ تحرّقْ نارُهُ الأحداقا

*

كيف السبيل إلى وصالك؟ ما الّذي

منع القلوب تقرّباً ووفاقا؟!

*

أرسلتُ نبضِيَ نحوها متودّدا

فلعلّني أغدو به سبّاقا

*

وهجرت من أجل اللقاء أقاربا

ونسيت أحلام الهنا ورفاقا

*

لأحوز منها كلّ حبٍّ ممكنٍ

وأنال منها مشتهىً وعناقا

*

لكنّها جرحت بضلعِيَ طيرهُ

حتى بكى بمشاعرٍ فأراقا

*

دمعي جرى؛ تحكي القصيدة شجوهُ

والبيت يحضن صنوَهُ إشفاقا

وقرأت في عينيك متن رواية

الحزن فيها حرّق الأوراقا

*

وسمعت في بوح القصيدة حزنها

بالله ما قلب الحبيبة لاقى؟!

*

يا ليتني كنت النسيم معطراً

حول الحبيبة أمنحُ الترياقا

***

صلاح بن راشد الغريبي

من ـ باب البحر ـ نحو ـ جامع الزّيتونة

أسواقٌ تَفتح على أسواقْ

مفاتيحُ تَلِجُ وتدُور في أبواب

باتتْ طول اللّيل ساهرةً

على اللّه الأرزاقْ

زُقاقٌ في زُقاقْ

وزقزقةٌ صباحيّة

عُصفورُ القفص

القفصُ مُعلّق في دكّان

دكّانٌ بابُه أخضرُ

خضراءُ أوراقُ الدّالية

تتدلّى على جانبيهِ

سماءٌ خضراء

إلا من أشعّة الشّمس

في الدكّان إيقاعُ مِنسَج عتيق

يُراوح خُيوط ـ سَفْسَاري ـ حرير

قَبل أن أصل

يَقصِدُني النّادلُ مُسرعًا

بكأس الشّاي والنّعناع

أرُدُّ بصباح الخير

على صباحاتِ الخير

أجلسُ

لأنسُجَ أنا أيضا

سَوادًا على البياض

***

سُوف عبيد ـ تونس

السماء كثيفة السحب مع زخات من المطر المتقطع. الهدوء المطلق يخيم على المستشفى الذي يبدو كما لو أنه  مقبرة مهجورة. عدد من طيور الكراكي تعبر السماء  بشكل هندسي محكم.

تطرق الباب الكبير إمرأة مسنة مشيرة إلى الحارس بأصابعها المتجمدة التي تبدو مثل أصابع هيكل عظمي .

تعقد صفقة سرية مع الحارس بأن يحملها إلى المشرحة مزودة بكيس من الدقيق قصد تحريكه بأصابع أحد المتوفين الجدد.

-  قالت العجوز: هذا لا يستدعي الكثير من الوقت.

مقابل نصيب من المال لا يستهان به.

قال الحارس مضطربا: المهم أن نتفق على المبلغ.

قالت: بالتأكيد.

قال الحارس: إنتظري قليلا ريثما أجلب مفتاح المشرحة.

وعلى بعد أمتار قليلة يقف صديقه الحارس الضارب في الطول مثل صنوبرة في حديقة عمومية.

أحاطه بكل التفاصيل.

غير أن صديقه أعلمه بأن المشرحة اليوم خالية من الأموات.

قال الحارس الذي خفق قلبه بمجرد سماعه لإبرام الصفقة المالية.

- عندي خطة يعجز عن نسج خيوطها الملعونة كبير الشياطين.

قال صاحبه بتوتر شديد: وما هي؟

- إذهب إلى المشرحة حالا وتمدد

كما لو أنك فارقت الحياة منذ قليل.

- تأمر صديقي الداهية.

تسلل مثل البرق إلى المشرحة .

فتح أحد الصناديق الفارغة وارتمى داخله كما لو أنه جثة هامدة وظل الصندوق مفتوح الغطاء بينما يعج المكان بروائح الجثث المتعطنة.

المشرحة تتوسط ربوة مسيجة بأشجار كثيفة حيث الظلمة لا تفارق المكان المسكون بالأشباح .

إصطحب الحارس تلك العجوز الشريرة بعد تمام الصفقة وحصوله على الكنز.

فتح باب المشرحة. دخلت العجوز حاملة كيسا ممتلئا بالدقيق.

ظل ينتظرها أمام الباب.

نظرت العجوز يمنة ويسرة مستعينة بعكاز المخيلة على إنجاز المهمة الصعبة.

الحارس ممدد عيناه مرشوقتان إلى الأعلى أصفر الوجه لا حراك به

كأنه ميت يسبح في  عالم الماورائيات.

وعلى غرة أخرجت العجوز  كيس الدقيق لتحريكه بواسطة أصابع الميت حسب معتقدها الأسطوري يكتسب الدقيق قوة خارقة لتدجين   الأزواج ذكورا وإناثا وامتثالهم المطلق لكل الإملاءات الزوجية وعدم الإعتراض على أي شيء.

ما إن أمسكت العجوز أصابع الحارس المتقمص دور الجثة وفركته بقوة حتى أطلق صرخة مدوية تكاد تشق فضاء المشرحة.

فجأة تهالكت العجوز على وجهها مفارقة الحياة. حينئذ قفز الحارس من صندوق الأموات مثل أرنب بري مناديا زميله الرابض أمام الباب محيطا إياه بموت العجوز الفجئي.

***

فتحي مهذب

قَدْ عَرفْتُكُمُ واحِداً واحِداً

فَأميطوا اللِّثامَ

رَواحِلكُمْ بَعْدَ لَيْلِ الْمَعارِكِ دَلَّتْ عَلَيْكُمْ...

أَميطوا اللِّثامَ

وَتوبوا إِذا شِئْتُمُ أَوْ توَلّوا

فَلَيْسَ لَكُمْ مِن رَبيعِي وَلِيٌّ

وَلَيْسَ لَكُمْ مِنْ يَقيني نَصيرٌ

وَلَيْسَ عَلى ذِمَّتي باطِلٌ كَالَّذي فـي الْحَنادِس دَبَّرْتُموهُ.

أَنا صاحِبُ السِّرِّ

أَعْرِفُكُمْ واحِداً واحِداً،

وَأَنا في الصَّحيفَةِ دَبَّجْتُ أَسْماءَكُمْ.

غامِضونَ

وَلَكِنَّكُمْ في يَقينِيَ مُشْتَبِهونَ

فَلا الْجِنُّ قاتِلَةٌ قَدْ كَذَبْتُمْ

وَلا عَقْل طَيْرٍ يُصَدِّقُ ما قَدْ زَعَمْتُمْ

لِذا لَيْسَ يُرْعِبُني في الْحَقيقَةِ

كُلُّ الّذي بِسيوفِ الضَّلالَةِ شِدْتُمْ.

هَمَمْتُمْ بِما لَمْ تَنالوا

وَلَكِنَّني قَدْ عَرَفْتُ رَواحِلَكُـمْ

وَعَدَدْتُكُمُ واحِداً واحِداً أيُّهـا الرَّهْطُ،

لا لَـنْ تَمُرّوا،

هُنا جَسَدي صَخْرَةٌ وَفِداءٌ

هُنا في الْمَضيقِ ضَرَبْتُ وَجوهَ رَواحِلِكِمْ

وَهُنا في الْمَضيقِ يُماطُ اللِّثامُ

هُنا في الصَّحيفَةِ دَبَّجْتُ أَسْماءَكُمْ مارِدًا مارِدًا

وَبَلَغْتُ مِنَ الْعَدِّ إِثْنَيْ عَشَرْ

عَنْ سَواءِ السَّبيلِ صَدَدْتُمْ

فَساءَت خُطاكُمْ

وَسـاءَ الَّذي كُنْتُـمُ فــي لَيالـي الْخَديعَةِ أَبْرَمْتُموهُ.

ذَرونيَ لَسْتُ سَعيداً بِهذا الْجِوارِ

لَكُمْ في الْجَزيرَةِ مُتَّسَعٌ لِلرَّحيل فَسيحوا،

ذَروني وَخِلِّيَ قَدْ حَبِطْتْ كُـلُّ أعْمالِكُـمْ،

مالَكُمْ كُلَّما في النَّفيرِ دُعيتمْ تَخَلَّفْتُمُ،

وفَرِحْتُمْ بِمَقْعَدِكُمْ

أمْ حَسِبْتُمُ أن تُتْرَكــوا حيـنَ شَــقَّ امْتِشاقُ الحُسـامِ عَلَيْكُـمْ.

قَسيمُ الضّلالةِ والْحَقِّ هَـذا اللِّقاءُ

وإنِّي أَطَعْتُ خَليليَ ألّا أُصَلِّي عَلى أَحَدٍ منكمُ،

خَصَّني بِسَرائِــرِ مَـنْ نًكَثـوا

وَهَدانِيَ عِلْمَ الْيَقينِ

فَلا تَسْألونِيَ إنْ كانَ أعْيانُكم فـي الصَّحِيفَــةِ،

قَدْ يَمْرُقُ السَّهْـمُ نَحْوِيَ قَبْل ارْتِوائي بِشَرْبِةِ ماءٍ

لَوَ اَنِّيَ صارَحْتُكُمْ

وَأَزَحْتُ عَنِ الرَّهْـطِ أَقْنِعَةً

أصْبحَتْ سَرْمَدا لِضلالٍ تَجَذَّرَ عَبْرَ الْحِقَبْ.

قَدْ تَضيقُ بِيَ الْأرْضُ دَهْـرا...

يَجيءُ لِيَ السَّهْمُ "مِنْ أَلْفِ خَلْفٍ"

تُشَوَّهُ لي سيرَةٌ في الْكُتُبْ .

إِنَّني في الزّمانِ الزَّكِـيُّ أتاني خَليلِيَ عِلْمَ الْيَقينِ....

حَفِظْتُ الَّذي قَدْ وَجَبْ.

***

شعر: ميلود لقــــاح 

يعانقني الحرف والذكريات

فيشتاق قلبي لطفل ودفتر

**

وقصة حبّ رسمت رؤاها

بناصية العمر لن تتكرر

**

فكانت لنبض الفؤاد حياة

بروض الطفولة تنمو وتزهر

**

فحبّ الطفولة شيء جميل

وصفو من الحبّ لا يتعكّر

**

قضيت زماني أعانق حرفا

وثرت على الجهل كي نتحرّر

**

زرعت من العلم كلّ شتيل

ليصبح لون الطفولة أخضر

**

ومن سطوة الجهل حررت جيلا

فهبّ إلى المجد دون تأخر

**

وسرت على نهج من سبقونا

ومن أدرك المجد لن يتعثر

**

فإن غبت يانشء تبقى حروفي

نخيلا يجود بما هو مثمر

***

شعر: تواتيت نصرالدين

..................

قيلت هذه القصيدة بمناسبة تكريمي من طرف الفريق التربوي لمدرسة المجاهد. هلتالي علي بمدينة المسيلة تكريما لجهودنا بعد احالتنا على التقاعد وقد صادف هذا التكريم ذكرى 16أفريل يوم العلم2017

ها أنذا عدت ثانية بصحبة دموعي لأقف أمام صورتك المشرقة. أتأملك بعد سنوات من ظروف قاسية أبعدتني عنك مرغمة، ها أنذا أسيرة حبك الذي حفظته كأسمى ومقدساتي، ها أنذا أسيرة شذى عبـيرك فهو كنسيم الرابية في فجر الربيع، كنت أشعرك في أحلامي ويقظتي، لم أنس أبدا" ذاك المساء الساحر الذي ضمنا سوية " خلف الأشجار نغازل القمر، رائعا" كنت.. مازالت حرارة يديك تغزو مشاعري ، لمسات يدك الجريئة كانت تشدني إليك وأنا أرتجف، أحاول أن ألتصق بك أكثر، ألتحم مع جسدك الأشقر في لحظات جنون تنقلني معك الى عالم اللاوعي.. عالم لم تطأه قدما أنسان من قبل.. نتسلق قمـة.. نطفو فوق نسمة.. نختلي في زورق نجوب به آماد البحر وندع الأمواج تقذفـه حيثما تشاء.. نغور في أعماق صدفة مهجورة نمتلك فيها بعضنا ونجعلها مملكتنا الأبدية، يا لجنوني العذب، يا لروعة انطلاقي وشرودي..

عدت ثانية أنهض كل صباح مبكرا"، أقبّل أزهار حديقتي التي قدستها من أجلك، أنظر هناك.. تلك الفراشات عادت تحلّق متموجة ببهجة وسرور، تتغازل فيما بينها تقف كل واحدة منهن أمام الأخرى فخورة، متكبرة، تغيض صاحبتها بجمالها.. ما أروع ألوانها.. ما أروع الحب..

ومضيت أتأملك....

أتأمل ليلتنا الساحرة خلف الأشجار وأتذكر وقاحة أناملك الدافئة، أشعر أنك بجانبي الآن.. كأن دفء كفيك يرفعني نحو سماء من سراب.. نطوف الاثنان معا" على بحار لاشواطىء لها.. نسابق الطيور المهاجرة ونخترق أروقـة السحاب.. نحلّق عاليا" فوق سماء الشرق كطيرين عاشقين يهجران الدنيا.. لا نلتفت وراءنا.. نبحث عن بلاج جزيرة مهجورة نستلقي فوق الرمال ونستسلم للشمس.. للمشاعر.. للرغبات..

أصحيح يا حازم أحببت غيري؟ لا أصدق، لو كان ذلك حقا" فأنك تحطمني وتقذف بي صوب الفناء، لم أقترف ذنبا" أستحق به لوعتي هذه سوى أني أحببتك مخـلصة وما زلت، حازم تكلم، أتوسل إليك.. كانت نظراتك صادقة يوم التقينا، أحسست أن نبرات صوتك المرتجفة وقتها لا تكذب، أنك تحبني أليس كذلك؟ أخذت لمسات يديك الساحرتين خلف سور المنـزل في تلك الليلة المقمرة تفجر في جسدي بركان من الرغبة، لم أشعر بعدها ما حصل لمشاعري. مازالت مغمى عليها ، أحسست لحظتها أنك تسرق سنين عمري في جنون ارتشافك المتوحش لهما، كنت وكأنك تشحن برضابي بطاريتك الروحية، وعندما تغلغلت يدك متسللة إلي شعري، أغمي على روحي.. جسدي هو الآخر سقط صريع لمساتك الساحرة.. أذكر وقتها أنك تضمني بعنف، تريد أن !!.. أنك مجنون.. مجنون..

حازم، لماذا لانرحل عن المدينة إلى ما وراء الطبيعة والشمس، وراء الصوت والصدى، لاندري إلى أين ولا نريد أن ندري، ندعو موجة صماّء تحملنا بعيدا" حيث الشهب الهاربة والنجوم المتألقة، نتحول إلى نيزكين، إلى ذئبين، إلى عصفورين، نصنع حضارة بأيدينا، حضارة عذراء لاتلوثها ثرثرة منافق أو غدر حاقد، حازم أنتظر، أتوسل إليك، أسمعني قبل أن ترحل، لن أدع تلك المرأة التي أسمها أنوار أن تخطفك مني، أليس يا حازم أسم عذراء أجمل من أنوار؟ سأقتلها، سأقتلك معها ! أنتما أعدائي ! سأقتل العشاق جميعا"، سأقتل الفراشات الكاذبة، سأمزق الزهور المزيفة..

حازم أرجوك.. انتظر لاترحل..أنتظر.. أني متعبة.. أني...  

*** 

ماهر نصرت

كان عليها تقبّل الواقع الذي فرضته الحياة عليها، والموت الذي قهرها واخذ منها زوجها ورفيق عمرها، تاركا اياها  في ضياع وسط صعوبات لم تكن تعيها  أو تشعر بها، وخصوصا وانه لم يترك لها سقفا تحتمي فيه بعد رحيلة .

بساطته في فهم الحياة جعلته يعيش وفق اخلاقيات زمنه، الذي اصبح قديما بنظر الناس، خصوصا بعد أن خذله ابناؤه ونقضوا كل عهد معه، وجعلوا زوجته وحبيبته تكابد الذل والهوان من بعده. خطأ دفعت ضريبته بسبب حبه لها واسرافه في هدر المال من أجلها .

تجوالها بين اولادها، اجهدها كثيرا  خصوصا بعد أن تمكن  المرض منها وتقدم العمر بها سريعا، أصبحت كعمله نقدية فقدت قيمتها وانتفت الحاجة اليها، فيما أصبحت تعد أيام رحيلها التي تثاقلت، وتعثرت بعد أن فتكت الامراض المزمنة بها، وضعف جسدها الذي أتلفته الادوية والعقاقير، وأبر الانسولين التي اخترقت جلدها الرقيق، بقسوة وافقدته طراوته وكل ملامح الحياة فيه . 

  خاب رجاؤها وهي تستجدي اهتمامهم، وتتوسلهم  للحصول على ثمن الدواء ومكان  تقيم فيه، ولو غرفة صغيرة فوق أسطح أحد منازلهم، لتنزوي بعيدا، لا يشعر بوجوها أحد، وتكف عن التنقل الذي اتعبها وأنهكها بصحبه حقيبتها والتي كانت رفيقها الوحيد في تنقلاتها، وعباءتها السوداء، التي مازالت تضعها فوق راسها متمسكة بزيها البغدادي الجميل .

حقيبتها كانت تعني لها الكثير، فهي عالمها الخاص وصندوق اسرارها، الذي يحوي مقتنياتها، فقد كانت  تحفظ داخلها عطرها الخاص، الذي حرصت أن لا تغيره، لأنه يشعرها بالراحة ويثير فيها عبق ذكريات جميلة، انسابت من بين يديها سريعا، وعلبة سجائرها التي كان لها دور كبير في تلف ما تبقى من رئتيها، لكنها رغم ذلك لم تتوقف عن التدخين الذي  كان متنفسها الوحيد، وفيها ايضا محفظة صغيرة تخبئ بها بعض الاوراق المالية الورقية من الفئة القليلة طويت أكثر من طية، فهي الوحيدة التي تشعرها بالأمان، ووصفات من الدواء اهترئ وتمزق البعض منها دون ان تصرف، وفرشاة اسنان، تنظف بها ثلاث او اربع اسنان، هو اخر ما تبقى في فمها . 

لا صدى يسمع لصوتها، الجميع يتقاذفها من منزل الى منزل ومن مكان الى مكان، وسلوكهم الذي أصبح واضحا بل متبجحا  دون ع خجل منها  او حساب لمكانتها كأم . اصبحت تطيل الجلوس، امام باب الذكريات التي كانت عزائها الوحيد، الذي يخفف عنها وينسيها جحودهم لها ... رغم  ذلك كانت متمسكة  بالحياة قدر الإمكان، وأوهمت نفسها بالقناعة والثقة بالنفس  متسلحة بالصبر، عكس الواقع الذي كانت تتهاوى فيه الى اخر درجات الضعف.

سبع سنوات مرت على رحيل الأب ولم يتغير شيء، كان ابناؤها يشتد عودهم، و يضعف عودها  ويتأكل، أصبحت حياتها مريرة لا تطاق وهي صامته (الصمت يؤلم). اصبحت تجف من الوحدة المرئية والغير مسموعة، بدأت ترفع يدها الى السماء كل يوم وهي تطلب من الله بان يلحقها بزوجها وان يضمها قبر بين القبور الى جانبه، بعد ان كانت متمسكة بالحياة، هذا ما كانت تردده كل يوم، مع السؤال المهم الذي كان يصدح  داخلها كل يوم، أين سأبيت غدا ومن منهم سيستقبلني؟ صارت حين تستفيق صباحا تود ان تعاود غلق اجفانها وتستغرق في النوم تلافيا لمواجه دنياها .

كان الوضع  صعبا والحيرة تلفها من كل مكان. وهي تتصل بهم تباعا قلبها متشوق لهم كأم متأملة أن يرد أحدهم على اتصالها، كان الجميع يتهرب ويتجاهل اتصالاتها، وفي عصر يوم مختلف عن باقي الايام، سكن الضجيج داخلها، وتوقفت عن الكلام، والشكوى وكأنها تنتظر شيئا هي نفسها لا تعرفه. انقطعت شهيتها عن الطعام، اكتفت برشفة ماء  ثم جالت  بنظرها في المكان الذي كانت مستلقية فيه وهوعبارة عن غرفة صغيرة في منزل اصغر أبنائها سنا، والذي كان اقربهم الى قلبها، كان النهار فيه طويلا وعقارب الساعة تسير ببطء والكل منشغل في حياته. لم تكن تعلم بانه كان يوم رحيلها وان مكانها تجهزه الملائكة، وان اكفانها قد نسجت وأن  الله قد نظر اليها ولن يتخلى عنها.

باغتتها رجفة قوية، قلبت سكونها وسرت في جسدها، انتهت بشخوص عينيها نحو افق غيبي مجهول هي فقط من كانت تبصره، واصابع  يدها التي وثبت  فوق مخمل شرشف سريرها الابيض، بقوة  وكأن الروح تأبى أن تفارق الجسد، انتزعت روحها وسكن راسها دون حراك على وسادتها، التي كانت شاهدا على ما عانت من طعنات المرض وجحود اولادها، وبشاعة الحياة التي عاشتها، رحلت مصطحبة معها  كفنها، وما تبقى لها من كرامتها.

صدموا جميعهم خبر رحيلها الغير متوقع، تعالت أصوات بكائهم ونحبهم، وتمنوا او تعود لها الحياة. بعد ان  تراشق الاتهامات بالتقصير وسارعوا الى حمل نعشها، بتشييع مهيب فرض نفسه ورفع من شأنها، وقلل من شانهم وهم يرتدون ثوب الجحود والتقصير، حيث لا نداء سوف يسمع لهم بعد الآن، ولأدعوه ترفع او ترد لهم، لأن  السماء قد اوصدت أبوابها وارتد صدى صوتهم إليهم بلا  مجيب .

***

نضال البدري

في ليلةٍ ليلاءَ

وفي أعماقِ النومِ أحلم:

في ضواحي المدينةِ أسير.

ها أنا ذا اتأملُ البدايات

في وحدتي الموحشة.

كنتُ أسْرَحُ بِأفْكَارِي بَعِيداً

فجأةً داهمَني لَهيبُ الذكريات

أيقظَ أجراسي الراقدةَ خيالاً

اقتحمَني محمولاً على أمَوْاج الريح.

منْ بعيد،

صوتٌ ساحرٌ يتناهى الى سمعي،

أسمعُ صدى خريرِ الماء

آخذاً بيدي نحوَ نهرِ الوند

على حافةِ النهرِ الحزينِ أترجّلُ،

أتطلعُ الى مجرى النهر،

والصمتُ مخيِّمٌ على الوند،

على إيقاع شجى الأوجاع

أرى الوندَ العظيمَ مقطوعَ النَّفَس

حزيناً كالوداعِ، وجانباه قاحلانِ،

صوتُ النهرِ الحزين تفجَّر،

فهل منْ مُجيب؟

**

يا نهرَ الوندِ لا تشكُ،

ما جدوى شكواك المتنهِّدِ مِنْ ماردٍ.

لسْتَ الوحيدَ،

في وطني يلفُّ الحزنُ أنهارَنا

وسواقينا وسهولَنا وجبالَنا.

يا نهري، يا طاويَ أحزانِ شبابي،

ليتَ قلبكَ الهابطَ يُدركُ ما يَحُوكُ لك

الأشرارُ، والشرقُ!

أجمعَ الجيرانُ على أنْ يخنقونا.

كم مِنْ مرةٍ وضعوا السيفَ على رقابنا،

حاولوا قطعَ أعناقنا.

يا نهرَ الوند،

اليومَ عادوا، وأحيوا مآسينا.

أيُّها النهرُ،

هيهاتَ، هيهاتَ أن يُعودَ ماؤك،

نَبْعُك النَاضِبُ أقفلوا عليهِ الأبواب،

غَيَّروا اتِّجَاهَهُ الى روابٍ وسدود،

ليجفّفوا الزرعَ والضرعَ،

وتموتَ الأزهارُ على ضفتيك،

وعلى جانبيك بقايا عظامِ الأسماك.

**

لمَنْ تغنّي الطيورُ المرفرفةُ؟

الأعشابُ جفّتْ وفقدت رونقَها،

بالأمس كانتْ رياضاً ترفلُ بالخُضرةِ والأزهار.

أين رائحتُك العطرةُ، وريحُكَ الطَّيِّبةُ!

اليومَ

حتى الحَجَرُ لمْ يسلمْ من الخراب،

نهبَ اللصوصُ قيثارتَك الجميلةَ،

كانتِ الطيورُ على أنغامها ترقصُ،

تملأُ الأفقَ ترانيمَ منْ دَفقاتِ الشُّعور.

في الماضي القريب

كانَ في نهري العذبِ صدىً يأسرُ القلوب.

لم يعدْ أحبابُكَ يسمعون هديرَكَ المدوِّي

منْ بعيد.

**

على شاطئ النهرِ الحزينِ أسيرُ

صعوداً وهبوطاَ

وفي عَيْنيَّ أسىً عميق.

كانَ الحجرُ يبكي معي،

دموعُنا انهمرتْ في النهر

ظنَّها مطراً يهطلُ من السماء.

طوالَ الشتاءِ

لم تتوقفْ عن المَدِّ.

ها هو الوندُ ينحسرُ

وانفاسُه تلهثُ!!

**

بالأمسِ كنتَ تجري متحدّياً العوائق

وموجاتُك تتلاطمُ مع الصخور.

وفي الصيف تزهو كالربيع.

تتدفَّق نميراً صافياً،

كنتَ سرَّ مدينتنا

كنتَ الكوثرَ على الأرض

أسقيتنا وأسقيتَ مزارعنا،

في لهبِ الصيفِ كنتَ مأوانا.

بالأمس كنتَ تناجي شوقَنا

باسطًا لنا ذراعَيك،

تأخذُنا في أحضانك،

نجلسُ، نتجادلُ، نتسامرُ.

كنتَ لنا منهلَ الأفكار.

**

أيُّها النهرُ،

في صبايَ كنتُ أعشقُ خريرَكَ،

وأنينَ موجاتك.

وإنْ ارتحلْنا بعيداً

فإِنَّ حنينَنا وشوقَنا يشدُّنا إِلَيك

مُقيماً في قلوبنا حتى مماتنا،

نسمعُ في يقظتِنا وفي منامِنا

لحنَك الجميل،

تحتَ ظِلِّك الوارفِ التقينا.

كنتَ لنا النورَ الذي يضيئنا

في ليالينا،

أنا ورفاقي ولفيفاً من الشباب

على ضفافِك نسرحُ ونمرحُ.

مللْنا أيُّها النهرُ الحبيب،

كيف لنا أنْ نرويَ ظمأنا

في هَجِير النَّهَار.

أيُّها النهرُ، لا تيَأْسْ،

إنَّ اليأسَ يخنقُنا.

دعْني أجوبُ بينَ فلواتك.

سيبقى جسرُك صامداً رغمَ الجفاف.

سيحكي قصصَ آماسي الربيعِ للأجيال،

وعن قمرِ الصيف مضيئاً وجهَكَ.

وفيضانُ الشتاء ينسابُ في أزقةِ المدينة.

كم مرة حلمْتُ بكَ شوقاً ملتهباً.

مهما استبدَّ بنا الألمُ،

واشتدّتْ جراحُنا،

يا نهري العذب،

يبقى صَـداكَ يرنُّ في أُذني.

أجوبُ بينَ شاطئيك الحزينين،

أجمعُ بقايا صوتِكَ في الصخور،

سيظلُّ صوتُكَ يرافقُني

في كلِّ صباحٍ ومساء.

***

سهيل الزهاوي

ما كل شيء ٍيَسْتَوي بالقوةْ

أو كل شيء ٍفيهِ وَحْي نُبُوَّة

*

إنَّ (الوصايةَ) شَرْعُ أفَّاك ٍبَغَى

مُتَزَلِّف ٍ مُتَسَتِّر ٍ بِأُخُوَّةْ

*

يُبْدي لنا وَجْهاً بِعِفَّة ِ لِحْيَة ٍ

وعِمَامَة ٍ بالهـَـــــالة ِالمَرْجُوَّةْ

*

وهــو الذي للهِ يَذْبحُنا بِهِ

ماانْفَكَّ يشفي غَليْلهُ.. وغُلُوَّهْ!

*

فَهُمُ الظَّلَالُ وظِلّهَ ُوظَليلهُ

مهما أتوا بشرائع ٍ مَتْلُوَّةْ

قَرَأَوا بِــ(مَقْلُوب ِ) الكِتَابِ...وآمنوا

أنَّ (العصا) دِينٌ... ونَهْجُ (فتُوَّةْ)!

*

وثَوَابهُمْ لِمَن اسْتَخَفُّوا بوَعْيهِمْ

جناتُ (أحْزِمَة ِ) الرِّضى و(عُبُوَّةْ)!

*

إسلامنا – لاغير - أصدق في الورى

دِيناً... وهُمْ (لادِينَ) إلا(الهُوَّةْ)!

***

محمد ثابت السُميعي - اليمن

/4/2023م

في عَصّْرِ يَوْمٍ بَهيْجِ اللحَظَاتْ.

شَاهَدْتُ حِمَارِي (أَبا الحَيْرانِ) كَثيرَ الابتِسَامَاتْ.

دَنَوّْتُ مِنْهُ وقُلْتُ:

حُيْيتَ (أَبَا الحَيْرانِ) وسُعِدْتَ في جَميْعِ الأَوْقَاتْ.

قَالَ (أَبو الحَيْرانِ):

وَ حَيَّاكَ يَا (ابنَ سُنْبَه)، يَا صَديْقِي في الحَيَاةِ والمَمَاتْ.

قُلْتُ:

مَا الّذِي أَفْرَحَكَ يَا (أَبَا الحَيْرانِ) ونَحْنُ في شَدِيْدِ الأَزَمَاتْ.

قَالَ حِمَارِي (أَبو الحَيْرانِ):

يَا (ابنَ سُنْبَه) لا تَثْرِيْبَ عَليْكَ... فَإِنَّ السَّعّْدَ آتٍ... آتْ.

قُلْتُ:

بَشَّرَكَ اللهُ تَعالَى بالخَيّْرِ والبَرَكاتْ.

أَلا تُخْبِرُني بِسِرِّ انْشِراحِكَ بهذِهِ السَاعَاتْ؟.

قَالَ لي حِمَارِي (أَبو الحَيْرانِ):

إِنّي أُخَطِطُ لِخَوّْضِ الانْتِخَابَاتِ في قَابِلِ السَّنَواتْ.

قُلْتُ: مَّهٍ.... يَا (أَبَا الحَيْرانِ)... مَا هَذِهِ السَّخَافَاتْ؟.

لَقَدّْ عَرِفْتُكَ كَيّْسَ الطَّبْعِ بَعيْداً عَنِ التَرُهَاتْ.

قَالَ لي حِمَاريَ الحَبيْبُ:

لا تَثّْريْبَ عَليّْكَ يَا (ابنَ سُنْبَه)؛ اصّْبِرْ فَلِكُلِ وَقْتٍ صَلَواتْ.

وَ استَمِعْ لِسَدِيْدِ القَوّْلِ بإِنصَاتْ.

قُلْتُ يَا حَبيبي يَا (أَبَا الحَيْرانِ)؛ إِنّي مُستَمِعٌ إِليّْكَ وَمَا عِنّْدَكَ فَهَاتْ.

قَالَ حِمَاري (أَبو الحَيْرانِ):

لَقَدّْ مَرَّ العراقُ بسِنيْنٍ مِنَ الأَزَمَاتْ.

عَانَى الشَّعبُ فِيها عَصِيْبَ النَّكَبَاتْ.

وَ قَرَّرتُ أَنْ أُسْهِمَ لأَرفَعَ عَنْهُ بَعْضَ العَقَبَاتْ.

قُلتُ يَا حَبيبي يَا (أَبَا الحَيْرانِ):

أَبْقَاكَ اللهُ تَعالى ذُخْراً لِكُلِّ العِراقِيّْينَ والعِراقِيَّاتْ.

لِتَكوْنَ لَنَا عَوّْناً لِحَلِّ المُعْضِلاتْ.

الآنَ... يَا (أَبَا الحَيْرانِ) أَخْبِرني بتَفّْصِيلِ الخَطَواتْ.

قَالَ لي حِمَاريَ النَّبيْهُ (أَبو الحَيْرانِ):

يَا ابنَ (سُنْبَه) إِصّْغِ إِليّ إِصّْغَاءَ الخَلِيْلاتْ.

فَالحَدِيثُ ذُو شَأْنٍ خَطيْرٍ كَثيرِ العَقَبَاتْ!.

قُلْتُ:

هَاتِ مَا عِندَكَ.... فَأَنَا سَميّْعٌ لَكَ وسَأُعْطيْكَ المُلاحَظَاتْ.

قَالَ حِمَارِي (أَبو الحَيْرَانِ):

يَا سَيّدَنَا يَا (ابْنَ سُنْبَه)؛

قَرَّرتُ أَنْ أُأَسِسَ حِزّْباً عَليْماً بالسِّيَاسَاتْ!!.

وَ إِنَّهُ حَتّْماً حَتّْماً؛ سَيَفُوزُ بالانْتِخَابَاتْ.

قُلْتُ حُييْتَ يَا (أَبَا الحَيْرَانْ):

بارَكَ اللهُ بِكَ عَلى هَذهِ الخُطُوَاتْ.

وَ مَاذا بَعّْدُ يَا (أَبَا الحَيْرَانْ)؟؟.

قَالَ حِمَاري العَزيْزِ:

سَيَكُوْنُ لِيَ العَديْدُ مِنَ النُوَّابِ والنَائِبَاتْ.

وَ سَيَكُوْنُ بِمَعِيَّتي العَديْدُ مِنَ العَسّْكَرِ والقِيَادَاتْ.

قُلْتُ يَا حَبيبي يَا (أَبَا الحَيْرَانْ):

هَلّْ أَجازَتّْكَ سَفيرَةُ اتِّحَادِ الولايَاتْ؟.

هَلّْ أَخَذّْتَ مُوَافَقَةَ السَيّدَةِ بلاسْخَارتْ؟.

قالَ لي (أَبو الحَيْرَانِ)؛ بَعدَما شَزَرَني بعَيّْنٍ شَديْدَةِ النَّظَرَاتْ:

وَمَا شَأْنِي بتِلْكَ الإِجَازاتِ والمُوافَقَاتْ؟.

فَأَنَا حُرٌّ في بلادِي؛ بِلادُ الخَيّْراتِ والحَضَاراتْ!.

أَنا ابْنُ مَنْ عَلَّمَ الخَلْقَ؛ كتَابَةَ الحُروْفِ والكَلِمَاتْ!.

أَنا ابْنُ دِجْلَةَ والفُراتْ؛ أَنا ابْنُ أَرضَ المُقَدَّسَاتْ!.

أَنا ابْنُ الثَّوْراتِ والانْتِفَاضَاتِ والانّْتِصَاراتْ!.

فَمَنْ ذَا الّْذِي يَمْنَعُني؛ إِذّْ أَقّْدَمّْتُ عَلى تِلْكَ الخَطَواتْ؟.

مَتى يَا (ابْنَ سُنْبَه)؛كُنّْا عَبيْداً لِلأَجَانِبِ والأَجْنَبيّْاتْ؟!.

قٌلْتُ:

يَا حَبيْبي يَا (أَبَا الحَيْرَانْ):

لا تَثْريْبَ عَلَيْكَ؛ فَأَنَا كَمَا تَعّْلَمُ سَليْمَ النِّيَاتْ.

وَ أَخَافُ عَلَيْكَ مِنْ شَرِّ البَليَّاتْ؛ وتَعَسُّفِ الحَاقِديْنَ والحَاقِدَاتْ.

أَكْمِلّْ حَديْثَكَ... أَجَارَكَ اللهُ مِنْ شَرِّ الحَاسِديْنَ والحَاسِدَاتْ!!.

وَ مَاذَا تَفّْعَلُ بَعّْدَ تِلْكَ الخَطَوَاتْ؟.

قَالَ لِيْ (أَبُو الحَيّْرانِ):

سَأَقُوْمُ بِمَا عَجِزَتْ عَنْ فِعّْلِهِ كُلِّ القِيَادَاتْ!.

وَسَأَقُوْمُ بِمَا لَمّْ يَقُمّْ بهِ كُلُّ الضُّبَاطِ والجَنِرَالاتْ!.

قُلْتُ:

أَكّْمِلّْ يَا (أَبَا الحَيْرَانْ)، فَتِلْكَ مُغَامَرَةٌ مِنَ المُغَامَرَاتْ.

قَالَ لِيْ (أَبُو الحَيّْرانِ):

سَأَقُوْمُ بانْقِلابٍ عَسْكَرِيٍّ مُتَعَدِدِ الصَّفَحَاتْ!.

مِثّْلُ انْقِلابِ (الزَّعيْمِ)؛ عَلى حُكّْمِ المُلُوكِ والبَاشَوَاتْ!.

فَأَنْتَقِمُ بالعَدّْلِ والإِنْصَافِ، مِنْ كُلِّ الفَاسِديْنَ والفَاسِدَاتْ!.

وَ أَنّْقُذُ شَعّْبَ العِراقِ مِنْ شَرِّ كُلِّ العِصَابَاتْ.

وَأُعِيْدُ للعِراقِ وشَعّْبِهِ أَيَّامَهُمّ المُزْهِرَاتْ.

فَبِصَرَامَةِ القَانُونِ، والحُكّْمِ بالانْصَافِ، سَتَسْتَقِيْمُ الحَيَاة.

وَسأَأْمُرُ الأَمريْكانَ بتَركِ العِراقِ مِنْ كُلِّ الجِهَاتْ.

قُلْتُ:

يَا نُورَ عَيْني يَا (أَبَا الحَيرانْ):

دَعْني أَحْثُو التُرابَ عَلى رَأْسي وأَلطِمُ الوَجَنَاتْ!.

فَسَأَفْقِدُكَ بلا رَيّبٍ ولا شَكٍ... فالشَّرُ آتٍ آتْ!.

فإِنْ انْتَصَرْتَ على الفَاسِدِيْنَ والفَاسِدَاتْ.

سَيَقّْصُفُكَ الأَمريكانُ بالطَّائِراتِ المُسَيَّراتْ!.

فَلِلأَمْريكانِ قَواعِدُ في العَديْدِ مِنْ المُحَافَظَاتْ.

فَهُمّْ الّذيْنَ خَطَّطْوا لنِظَامِ المُحاصَصَاتْ.

وَ بَقَاءُ النِّظامِ عَلى ذَا الحَالِ؛ جُزءٌ مِنَ الاتّْفَاقَاتْ.

الَّتي أَبْرَمَها الأَمريْكانَ مَعَ بَعّْضِ الزَّعَامَاتِ والقِيَادَاتْ.

سَيَجّْعَلُكَ المُحْتَلُّوْنَ مَثَلاً لأَفْضَعِ المُثِلاتْ.

وَيّْليْ سَأَفْقِدُ عَزيْزي، وقُرَّةَ عَيّْني في الحَيَاةِ قَبّْلَ المَمَاتْ.

وَيّْليْ سَأَفْقِدُ عَزيْزي، وقُرَّةَ عَيّْني في الحَيَاةِ قَبّْلَ المَمَاتْ.

***

محمد جواد سنبه

* بيئة القصة: مهجرون

* زمن القصة: بعد التهجير بسنوات.

* الشخصيات: طفل في الخامسة. أمه في الخامسة والثلاثين. رجل في حوالي الاربعين تربطه آصرة نسب بالعائلة.

يدخل الطفل البراكية القديمة، يرى أمه وقريبًا له يجلسان يتبادلان الكلمات والابتسامات. إنه يحب هذا الرجل، ويستلطفه، فهو متحدّث لبق وقد تعلّم منه الكثير. كلماته موزونة ونبراته موقّعة. يستغل الطفل الفرصة يقول:

- قرّب العيد.

ترسل الام نظرة ذات معنى إلى ضيفها:

-  يا الله شو بحب هذا الولد الفرح.. صار له أيام وهو يقول قرّب العيد.

- بعرف. يقول الرجل. ويرسل نظرة غامضة نحو المرأة. يستغل الطفل الموقف:

- هاي السنة عيديتي رايحة تكون كبيرة.. الله ما أحلى العيد. مصاري.. قروش وليرات.. ملبّس ولحم..

بعد سكتة قصيرة يتابع:

- من أمي نص ليرة. من أبوي ليرة. من أخوي الكبير خمسة وعشرين قرش ومن أختى خمسة وعشرين قرش.. هيك بصير معي ليرتين.. بتنتلي جيبتي بالمصاري.

يتحرّك الرجل في مقعده الخشبي الواطي:

- شو بدك تعمل بهاي المصاري؟

يردّ عليه الطفل بدون تردد:

- بدي أشتري إشي كثير غالي.

يسأله الرجل:

- قلي.. إيش هو؟

يغمض الطفل عينيه، ويغوص في بحر من الصمت. يبتسم الرجل:

- بعرف انك ولد شاطر.. أنا متأكّد من انك بتفكر باشي كبير ومهم. يرسل الطفل إلى الرجل نظرة شكر وامتنان، يتفاعل معها الرجل مرسلًا نظرة نحو أم الطفل:

- عيديتك هاي السنة رايحة تزيد نص ليرة..

يتهلّل وجه الطفل. إنه يفهم كل ما يقال. الرجل قرّر أن يعايده بنصف ليرة. الله ما أحسن هالعيد، ليرتين ونص بصير معي، بشتري لأمي منديل بليرتين وبنيّظ (بدلل) روحي بنص ليرة.. يتغضن وجه الطفل..  وإذا ما اعطاني نصف ليرة؟ بتخرَب كلّ حساباتي... يتوجّه إلى الرجل:

- كيف يعني بدها تزيد عيديتي نص ليرة؟

يُرسل الرجل نظرة باسمة إلى أم الطفل، ويتوجّه إليه:

- أنا بأكدلك إنها رايحة العيدية تزيد نص ليرة.

يتصدّى له الطفل:

- كيف يعني.. قُلّي..

يرمق الرجل الأم بنظرة ساخنة من طرف عينه:

- عيّن خير.. أنا ضمرت على إشي اذا ضبط.. رايح اعايدك بليرة.. مش نص ليرة. روح العب برة إسه.

يخرج الطفل من البراكية، تاركًا أمه وذلك الرجل وحدهما.. هناك.. شيء ما يشدّه إلى الداخل، قلبه يدق بسرعة. ما قاله ذلك الرجل أغرقه في حالة من القلق.. فما هو الذي ضمره؟ ولماذا هو رمق أمه بأكثر من نظرة ساخنة؟.. هكذا وجد نفسه بدون وعي منه يبحث عن ثقب في البراكية حيث تجلس أمه وذلك الرجل.. وبيد كلّ منهما فنجان قهوة. ويتلصّص إلى الداخل. قلبه يدق.. يدق يدق.. بسرعة يدق.. إنه يرى الرجل يمدّ يده إلى صدر أمه.. إنه يضرع إلى الله طالبًا منه أن يلهمها القوة فتبعد اليد الممدودة إلى صدرها عنه. يا رب تبعد يده عن صدرها.. لا تدعيه ينال مأربه منك.. يُغمض الطفل عينيه.. يفتحهما.. في متاهة من الحيرة.. إنه يقف الآن بين.. بين.. فإذا ما استسلمت أمه لليدّ الممدودة إلى صدرها.. حصل على العيدية العتيدة، وإذا رفضت فإنه لن يحصل عليها.. أغمض الطفل عينيه وفتحهما ليرى أمه تردّ اليد الممدودة إلى صدرها.. يخرج الطفل عن سيطرته على نفسه.. يصفّق لأمه.. برافو أمي.. هيك بدي اياك جدعة ومخلصة.. كرامتك هي أحلى عيدية. يبدو أن صوت الطفل يصل إلى داخل البراكية. يسحب الرجل يده رادًا اياها إلى الخلف. ويندفع خارجًا من البرّاكية.. مبتعدًا عنها.. يغيب في أجمة الاشجار الواطية.. و.. تختفي آثاره.. نهائيا.

***

قصة: ناجي ظاهر

بها كونٌ يُداعِبُني بهَمْسِ

وأحْلامٌ مؤجَّجةٌ بنَفسي

*

إذا نَظرتْ أباحَتْ عَن مُناها

وأدْمَتْ تائقا يُرْدى بلمْسِ

*

تَسامَتْ فوقَ عَلياءِ انْتِهاءٍ

بروْنَقِها أبانَتْ أو بمَيْسِ

*

شَمائِلُها مِنَ الأعْماقِ نالتْ

وكمْ سَكبَتْ مَفاتنَها بأنْسِ

*

أحاورُها بروحي أو بفكْري

وتَحْرقني إذا اقتربَتْ كشَمسِ

*

تُعلّمُني جَميلاً مِنْ ودادٍ

وتُهديْني وَميْضاً زادَ أُسّي

*

مُشعْشِعةً بأضْواءِ ابْتهالٍ

مُنغّمَةٍ بألحانٍ وحِسِّ

*

تَطوفُ بنا على أفُقٍ مُنيرٍ

وتُسْقينا مَباهِجَها بكأسِ

*

حَلمْتُ بها تُعانقني بليلٍ

وتَشفيني مِنَ الحُمّى بجَسِّ

*

كأنّ وجودَها برهانُ ذِكرى

تَهادَتْ في مَرابعِنا بخِلسِ

*

أطاردُها وقلبي مُسْتَهامٌ

وعَيْنُ الروحِ في وَجَلٍ ويَأسِ

*

أجوبُ مُروجَ حُبٍّ في خَيالٍ

وأمْشي دونَ إحْساسٍ برَأسي

*

لأنّ القلبَ مَنهوكٌ بنَبْضٍ

يُردّدُ إسْمَها مِنْ فجْرِ أمْسِ

*

لنا الأيّامُ أرْديَةُ ابْتهاجٍ

تُنادينا فنَنْسِجُها لعُرْسِ

*

وكمْ دارتْ وما خارتْ قِواها

فهلْ جَلبَتْ لنا طعْماً بدَرْسِ؟

*

مُعللتي بأحْلامٍ توارَتْ

تَمادى العُمْرُ في بُعْدٍ وتَعسِ

*

فلا بَقيَتْ بها صورٌ لِكانَتْ

وقد طمَرَتْ مَحاسِنَنا بتُرسِ

*

عَجائِبُ رحلةٍ في تيْهِ عُمْرٍ

أصيْبتْ مِنْ تلوّعِها بيُبْسِ

*

فإنْ حانَ اللقاءُ على ضِفافٍ

فهلْ نَجري إلى بَعْضٍ كخُرْسِ؟

*

أنامِلها تُخاطبُني برَمْزٍ

فأسْمَعُها وأبْصِرُها بحَدْسي

*

فيا ليتَ الذي خلقَ البَرايا

يُزيّنها بأطيابٍ ووِرْسِ

*

هيَ الروحُ التي ورَدَتْ كيانا

تُسَخّرهُ لإقدامٍ وبَأسِ

*

فما تَعِبَتْ من الإصْرارِ يوماً

ولا ظهَرتْ مُدثرةً بنُعْسِ

*

تُغادرُنا إذا انْطفأتْ قِواها

وترْنو نَحْوَ علياءٍ بخُنسِ

*

لها الأبْدانُ أوْعيةُ احْتِرابٍ

إذا اهْترأتْ تُخاصِمُها بدَعْسِ

*

ترابُ الأرْضِ يَأكُلها وتَحيا

بعيداً عن مَواطنها بعُنْسِ

*

مُطهَرةٌ يُنزهها مَعينٌ

ويُنْجيها ويَرْفِدُها بحُرْسِ

*

عَشِقتُ ضِياءَها والعمرُ وَمْضٌ

يُذكّرني بأيّامي وغَرْسي

*

أناديها وقلبي دونَ نَبْضٍ

أ بَعْدَ المَوتِ ما حَفِلتْ برجْسِ؟

*

سماواتٌ بها العُشاقُ تاهوا

وعرشُ الروحِ مَخبوءٌ بكُنسِ

***

د. صادق السامرائي

10\7\2022

في نصوص اليوم