قضايا

عبد السلام فاروق: الثقافة والاقتصاد!

لا أحد يستطيع أن ينكر أن عصرنا هو عصر المعلومات. المعلومة العسكرية والاقتصادية والسياسية. وقد تؤدي معلومة واحدة لمكسب مهول أو خسارة فادحة، كما حدث أيام أزمة الاقتصاد العالمي في أواخر التسعينيات التي بدأت بانهيار العملة التايلاندية، ثم بسقوط البورصة في مختلف دول آسيا كأحجار الدومينو.

 في تلك الأزمة انهارت شركات، وخسر رجال أعمال ملايين من أموالهم، إلا أن هناك آخرون كانوا يتوقعون الأزمة واستطاعوا الانتفاع منها قبيل ساعات قليلة من حدوثها، إنها معلومة وحيدة خافضة رافعة، ملايين تذهب وملايين غيرها تأتي في غمضة عين، وهنا تصبح المعلومة الواحدة تساوي وزنها طناً من ذهب!

 المعلومة معناها الثقافة، أي أن تعرف أكثر وتبحث أعمق. فالثقافة كلمة واسعة تشمل كل نواحي الحياة اليومية، على المستوي الفردي والجماعي. والدول المتحضرة، أي المثقفة، هي دول غنية؛ لأنها تستطيع توظيف ثقافتها لخدمة اقتصادها، هكذا تأتي الثقافة أولاً. فقط عند الدول المتقدمة !

نظرية هوركهايمر

 تلك هي النظرية النقدية التي طرحها الألماني ماكس هوركهايمر(1895: 1973) في مواجهة النظرية التقليدية للرأسمالية، واتخذت اسم "مدرسة فرانكفورت". إن كتاب ماكس حول "النظرية النقدية والنظرية التقليدية" يقدم رؤية مختلفة عن منظري الليبرالية الجديدة الذين يرون أن تاريخ الاقتصاد يسير بطريقة عمودية فيتجه دوماً نحو التقدم، غير أن النظرية النقدية تري العكس: أن التاريخ إنما هو سلسلة من التناقضات الذاتية ويتحرك في طفرات. وأن الإنسان كلما أخضع الطبيعة لمشيئته، كلما زادت سيطرة الإنسان على الإنسان وقهره، أي يسود قانون القوة. وهنا يتحرك المجتمع ككل حركة عكسية، ظاهرها الترقي الاقتصادي، وجوهرها الانحدار الاجتماعي والأخلاقي.

 إن الرأسمالية اليوم في أزمة صنعتها بنفسها ولا تستطيع تجاوزها ولا التخلص منها، لأنها أزمة تراكمت على مدي عقود طويلة هي عمر الرأسمالية بمختلف مراحلها وتطوراتها. ولعل أشد ما يعيبها اتخاذ قانون القوة أساساً للإثراء، والقوة أي الحرب والعنف وكل أساليب الاستغلال وقهر الضعيف، سواء على المستوي الفردي أو حتى على مستوي الدول والمجتمعات.

 لقد ادعت الرأسمالية كنظام اقتصادي غربي أنها تضمن تحقيق الحرية والرفاهية، لكن لمن؟ فقط لأنصارها وأتباعها. أما البقية الباقية فهم المستهلكون. هكذا تصبح هناك فئة مستغِلة منتجة يتحرك مؤشر اقتصادها باستمرار لأعلي حد ممكن، وفئة عاملة مستهلِكة تبذل كل ما يستطاع فلا تنال إلا الفتات، ودورها يقتصر على شراء ما ينتجه أصحاب رؤوس الأموال. لا مكان هنا للرحمة أو التوزيع العادل للأنصبة. فإذا كانت الشيوعية أثبتت عدم جدواها كنظام اقتصادي، فإن الرأسمالية توحشت فصارت نقيضها الذي سوف يثبت فشله أقرب مما نتخيل !

كساد عالمي قادم

 كتب العالم الأمريكي (جيمس بتراس) دراسة مهمة حول ضرورة التخلص من أفكار الليبرالية الجديدة والتي تحولت في بعض أحوالها إلى كليشيهات بالية حمقاء، جعلت الاقتصاد الغربي يقوم على النهب والسرقة والاستغلال وغسيل الأموال، وتحول فيها كل ما هو تافه أو بذيء إلى شيء راقي مطلوب يباع بالملايين، فالدعارة المقنعة يسمونها موديلينج، والفورميولا تصبح رياضة الأثرياء!

يقول جيمس: لقد تحطمت كل أصنام الرأسمالية التي نُصبت طوال العقود الثلاثة الماضية وهوت بلا أسف عليها. هناك فرضيات ونماذج ومقولات تم اختبارها حول التقدم اللانهائي في ظل السوق الحر والرأسمالية الليبرالية، وثبت بلا جدال فشلها الذريع.

  نحن اليوم نعيش نهاية حقبة كاملة: حيث يشهد الخبراء في كل مكان على نهاية النظام المالي العالمي والأمريكي بسب غياب الإقراض من أجل الإتجار ونقص تمويل الاستثمارات. ويلوح جلياً في الأفق كساد عالمي ستفقد فيه ربع قوة العمل العالمية وظائفها.

  إن ما يحدد معالم المستقبل القريب هو أكبر انخفاض في التجارة العالمية في التاريخ وبنسبة تجاوزت 40%من حجم التجارة السنوي، لهذا يقض مضاجع قادة العالم الغربي شبح الافلاس المرتقب لكبريات الشركات الصناعية في العالم.

  انتهى اليوم مفهوم السوق كضابط في ذاته لتوزيع الموارد، وانتهى معه الدور القيادي المزعوم للولايات المتحدة بوصفها قاطرة الاقتصاد العالمي! هذا الكلام تقوله "الفاينانشيال تايمز" هذه الأيام. لقد ثبت بوضوح أن كل فرضيات السوق التي تصحح أحوالها بنفسها ما هي إلا فرضيات زائفة بلا معنى.

   لقد انهارت كل نظريات رفض التدخل الحكومي في السوق حتى عند عتاة من كانوا يتبنونها ويبشرون بها. وحتى الدوائر الرسمية تعترف الآن بأن أهم أسباب بداية الأزمة والانهيار الاقتصادي هو عدم المساواة الفظيع في الدخول، وأن هذا الأمر يجب تصحيحه.

 الآن صار التخطيط والملكية العامة والتأميم من المفاهيم المطروحة بشدة على الأجندة الاقتصادية العالمية بل استعادت البدائل الاشتراكية احترامها لدى الكثير من الخبراء ومع بداية الكساد تهاوت كل آلهة أوليمب العقد الماضي فقد فشل الاقتصاد الموجه نحو التصدير فشلا ذريعا وعادت سياسات بدائل الاستيراد إلى الظهور بقوة.

البديل الثالث

 الغريب في الأمر أن الذين يرون أن الرأسمالية تنهار يفزعون دائماً إلى بديل أسوأ هو الاشتراكية، وكأنه لا حل ثالث! والصين الآن لا هي اشتراكية ولا رأسمالية وإنما وسط بينهما.

  معني هذا أن العالم اليوم يبحث عن هذا البديل لفلسفة اقتصادية جديدة تتحاشى الأخطاء.

 النظريات الجديدة التي تقوم الآن في محاولة لإيجاد حل وسط لا تصلح للتطبيق في أغلبها، لأن أكثرها يعتمد في الأساس على نقد النظريات القديمة، ثم إنشاء رؤي هي في الأصل أفكار قديمة بثوب جديد. أي أننا سنظل ندور في حلقة مفرغة، بدلاً من البناء على نماذج موجودة بالفعل.

 هناك قوي اقتصادية ناشئة، وتكتلات اقتصادية بات لها اليوم وجود حقيقي، ودول تسير في نموها الاقتصادي جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة الأمريكية، بل وتتجاوزها، وسرعان ما ستتمكن من التقدم على مؤشراتها، مع التراجع الذي يحدث باستمرار للاقتصاد الأمريكي والأوروبي بسبب الحروب أولاً، ثم بسبب سياساتها الخارجية الخاطئة.

 وإذا أردنا أن نبحث عن بديل ثالث فلا يوجد أمامنا إلا تجارب هذه الدول التي تنمو بأسرع من النمو الأمريكي في الاقتصاد. فلا وقت لتجربة نظريات على الورق قد يكذبها الواقع بعد سنوات.

النمو الثقافي

 وإذا عدنا من حيث بدأنا. ووضعنا يد الثقافة خلف عجلة الاقتصاد تدفعها للأمام. فإننا في حاجة إذن إلى تطوير أنفسنا معلوماتياً في كل مجالات المعرفة والثقافة والفكر والفلسفة.

 إن الرأسمالية والاشتراكية لم تنهضا إلا بفعل فلسفة اقتصادية. أي أن نشأتهما الأولي كانت بسبب الفكر والثقافة وأصحاب الرؤي النافذة المتجاوزة لحدود الزمان والمكان. أمثال هؤلاء تضج بهم مؤسسات صنع القرار والهيئات المسماة: "think tank" في الولايات المتحدة الأمريكية . وهذا ما يجعل مثل تلك المؤسسات تسبق الجميع بخطوة واحدة، هي خطوة المعلومة والفكرة العبقرية القائمة على دراسة ميدانية وتخيل مستقبلي للأحداث.

صحيح أن الفن والأدب والبحث العلمي ودراسة التاريخ جزء من الثقافة، إلا أن كل تلك الروافد إذا انفصلت عن واقعنا اليومي وتحولت إلى إغراق في الوهم والشعوذة والخيال، وابتعدت عن التنظير لحالة المجتمع وما يجب أن يكون عليه. وتوقفت عن التفكير في صناعة المستقبل على أساس متين قوامه فهم حركة الاقتصاد العالمي، وإدراك المتغيرات الحادثة في قوانين المال والتجارة العالمية وسلاسل الإمداد، ومعرفة ما يدور في كواليس الاقتصاد العالمي من اتفاقيات الغرف المغلقة، وتحالفات ما بعد انهيار الرأسمالية!

***

عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم