قضايا

كاظم لفتة جبر: العدوى الجمالية

يحدث أحياناً أن تسير في طريق لترى موقفاً مضحكاً فتبتسم دون ارادة من عندك على ذلك، فيحدث شعوراً بهيجاً في النفس، وذلك الشعور يجعلنه نشعر بالراحة والسرور والرضا، وهذه الصفات هي التي عرف به الجرجاني  الجمال والحسن . فهل هذا الشعور هو الجمال حقاً ؟

 أختلف معنى الجمال في الفكر الإنساني عبر العصور، فمنهم من وجد الجمال في الخير والنفع  كسقراط،وآخر في الشيء الكامل أو الكمال عند أفلاطون، أو في الانسجام عند ارسطو، أو في اللذة والمتعة وعدم الألم عند الابيقورية والرواقية، أو في الاتحاد مع الله عند فلاسفة العصور الوسطى، أو كسلاح للمجتمع مع ماركس، أو تطهير النفس من ادران انفعالاتها وكبتها مع فرويد، أو كشعور وانفعال ولغة بين الأنفس مع تولستوي.

كل ذلك يجعل الجمال مفهوم سائل يخضع لظروف الإنسان وتحدياته، فكل جيل أو عصر مفهوم جمالي يخضع المجتمع والأفراد له، والذي لا يستجيب لذلك المفهوم في عصره يعتبر خارج الزمن، فالجمال سلطة قبل أن يكون شعور،، كما أن هذا الشعور اتجاه الجمال  يخضع لذات الفرد، وليس للثقافة والمعرفة والبيئة، فبحسب تولستوي وكروتشة ليس بالضرورة أن يكون الجمال شيء مفرح، قد يكون شيئاً محزناً، وقد يكون ألماً بحسب  الروائي السريالي دي ساد، وهذا يعارض رؤية توما الأكويني الذي عرف الجمال: بأنه ذلك الذي لدى الرؤية يسر .

 أمّا مع الفيلسوف والروائي الروسي  تولستوي (١٨٢٨) صاحب رواية  الحرب والسلم،  الذي ارتأى أن يعيش حياته بالقرب من الفقراء على الرغم من أنَّ عائلته كانت من العائلات الملكية آنذاك، ويبدو ذلك قد انعكس على جميع فلسفته ومنها الجمالية والفنية .

فالجمال عندهُ شعور يحدث انفعالاً في النفس الإنسانية  وهذا الشعور خاضع لفهم الفرد ومزاجياته، فالجميل لا يكون جميلاً اذا اتفق عليه العقل والفهم بحسب كانت في ملكة الحكم الجمالي، بل يقول تولستوي  في كتابه (ما هو الفن ) أن الشيء يكون جميلاً إذا أحدث عدوى في نفس المتذوق، وهذه العدوى ليست بالضرورة إيجابية أو سلبية، بل أنَّ نجاح الفن والفنان بنقل الاحاسيس والمشاعر التي ترتابه إلى الآخرين عن طريق الفن يعد إبداعاً فنياً وجمالياً . " فإن الأحاسيس مهما تنوعت ... إذا انتقلت بالعدوى إلى القارئ أو المشاهد والمستمع فهي بذلك تصبح مادة للفن ...الفن هو نشاط إنساني يكمن في أن يقوم إنسان ما بوعي وبواسطة إشارات خارجية معروفة، بنقل الأحاسيس التي يعاني منها إلى الآخرين، والآخرون يعدوّن بهذه الأحاسيس ويعايشونها" .

فبحسب هذا القول يصبح الفن إذن ليس حكراً على المبدعين  والموهوبين فقط أو إلهياً كما عده أفلاطون قديما ً، بل إنّ أيَّ إنسان يمكن أن يصبح فناً إذا تمكن من نقل أحاسيسه إلى الآخرين بأي طريقة معروفة . وهذا الذي جعل نجاح العمل الفني ونوعيته تعود إلى الكم من المتذوقين وليس الكيف . فالفن عنده للفقراء وليس حكراً على الأثرياء كونه يعدونه شيئاً كمالياً، فنظرة تولستوي جيدة من جانب تخليص الفن من سطوة وبلاهة الأثرياء، اذ يعدوه احد ممتلكاتهم أو من أجل المتعة واللهو، أما الفن مع الفقراء فيكون إحساساً عن يعبر عن ذواتهم ومعاناتهم ، لذلك وصف تولستوي الفنان بانه يقوم بدور اجتماعي عندما ينقل أحاسيسه إلى الآخرين، كما عد الفن وسيلة اختلاط مهمة وضرورية بين الناس من أجل الحياة ولصالح تطور الإنسانية .

فنظرة تولستوي التي جعلت من الجمهور العام هو المعيار لحقيقة الفن والجمال أكدت  على الإنسانية، ونست أن الفن لا يرقى ولا يتطور إلا من خلال النخبة المثقفة من الأكاديميين أو الفنانين أو الفلاسفة والمفكرين . إلا أن نقد تولستوي للفن قد يكون نقداً لمفهوم الثقافة آنذاك، فالثقافة مفهوم سائل ومتغير من عصر إلى آخر ومن حضارة إلى اخرى، إذ كان يرتبط هذا المفهوم بالغنى والثراء والخروج من حدود المكان، وليس من حدود الاختصاص، وما زالت هذه النظرة سائدة عند الفقراء وعامة الناس إلى اليوم  . 

لكن العدوى التي عدها تولستوي فناً نجدها اليوم في الترندات على التواصل الاجتماعي  وهو يعد الموضوع أَو الحدث الذي يحضى بإهتمام الناس خلال فترة زمنية معينة . وهذا لا يتناسب مع السمات التي يجب أن يتصف بها الشيء الجميل الذي يكون روحياً وليس وقتياً كنوع من الحاجة، وهذا المفهوم الجمالي الذي طرحه تولستوي هو من أجل الفقراء لا من أجل الفن للفن ، فالفن لغة  رمزية تنقل من خلالها الانفعالات .

***

كاظم لفتة جبر

في المثقف اليوم