قضايا

أياد الزهيري: الإسلام ومجال اشتغالاته السياسية (1)

تعددت الآراء، وأحتدمت النقاشات حول موضوع البعد السياسي في الأسلام، ومجال أشتغاله في المجال السياسي، وهل يشكل البعد السياسي كباقي الأبعاد الأخرى الأخلاقية والعقدية والتشريعية، التي تشكل الهيكل الفكري للأسلام، وهل تمثل السياسة وحدة من وحدات بناءه الأيديولوجي، وهل هناك مداليل تؤكد أنتماء هذا البعد الى الأسلام، وهل هناك مبررات تجعله جزء لا يتجزء من الكل الأسلامي كدين متعدد الأبعاد، ويمثل نظرة كونية للوجود، وشاملة للحياة. من خلال التعرف على نطاق الأسلام في حياة الفرد والمجتمع والدولة تتضح لنا واقعية،أو عدم واقعية الأسئلة التي طرحناها أعلاه، ومن خلالها سوف نعرف بأن فلسفة السياسة في الأسلام جزء طاريء على الدين الأسلام، أم تشكل جزء عضوي منه، وهنا أود أن أُبين أهمية هذا البعد في حياة الفرد والدولة والمجتمع، وعلى أساس هذه الأهمية يصبح البعد السياسي أحد الأبعاد التي أكد عليها الأسلام بأعتباره المجال العملي لتطبيق العناصر الأخلاقية والقيمية والعقدية في عالم الممارسة والتطبيق بأعتباره ديناً جاء لبناء الحياة وتشيدها على تصورات ورؤى من صميم الأسلام بأعتباره ديناً شمولياً، بل ويمثل أتباعاً لأمر ألهي الى البشر لأعمار الأرض وأقامة العدل الألهي عليها (هو الذي أنشأكم من الأرض وأستعمركم فيها)(هود61). أعمار الأرض وأقامة بناء أنساني عليها يتطلب خريطة عمل، وأستقرار أجتماعي عماده العدل، وهذا لايمكن القيام به إلا بأقامة نظام سياسي ينظم العلاقة بين بني البشر، ويفرض النظام ويمنع الأختلاف والفوضى، لكي تتهيأ أرضية مستقرة وصلبة للبناء والتنمية.

قبل البدء بتقديم المدلولات على وجود البعد السياسي في الأسلام، نتطرق قبل ذلك الى أهمية حضور البعد الديني في تلبية حاجات الأنسان وتحقيق سعادته في الحياة، وأن العقل والتكنلوجيا أثبتت بأنها غير كافية، بل أثبتت قصورها بتلبية كل الحاجات النفسية والروحية، لأن هناك أبعاد في طبيعة الأنسان لم يدركها العقل والعلم الأنساني، وهنا نُشيرالى ما ذكره الطبيب والمفكر الفرنسي الكسيس كارل في كتابه الشهير (الأنسان ذلك المجهول) في صفحة 41 (ومن الواضح اننا نحن المراقبين، غير قادرين على تتبع الشخصية البشرية في كل منطقة تمتد أليها، لأن فنوننا لا تفهم الأشياء التي لا أبعاد لها ولا وزن)، ويُشير في صفحة 13 من كتابه (وواقع الأمر أن جهلنا مطبق. فمعظم الأسئلة التي يوجهها أولئك الذين يدرسون الجنس البشري الى أنفسهم تظل بلا جواب، لأن هناك مناطق غير محدودة في دنيانا الباطنية مازالت غير معروفة)، وينتهي الى القول بأن (معرفتنا بأنفسنا مازالت بدائية في الغالب)، ويقتبس عن مفكر أسمه (برجسون) يصف فيه عقل الأنسان بأنه يتصف بعجز طبيعي عن فهم الحياة)ص16، أضافة لما سبق أود أن أنقل لكم في هذا الصدد ما نقلته صحيفة الكومبس السويدية في مقال منشور فيها بتاريخ 27/ 3/2024 م مفاده (عن مكتبة في مدينة نورشوبنك في السويد، حيث يزور الكتاّب هذه المكتبة من كل أنحاء العالم المهتمين بالظواهر التي لا يجد العلماء لها تفسير، وبقيت غامضة لهذا اليوم)، فمادام العقل الأنساني عاجز عن الفهم الكلي لطبيعة الأنسان، تأتي هنا الحاجة الماسة الى الأستعانه بخالق الأنسان، نستلهم منه ما عجزنا من معرفته، وهذا ما يقتضي منا الأستعانة بالوحي كمصدر من مصادر المعرفة في فك أسرار كينونة الأنسان، لأن البشر أعترف بعجزه عن المعرفة التامة لحقيقة الإنسان وأبعاده الوجودية، وقد أشار الأمام علي (ع) الى عالم الأنسان المليء بالأسرار الشديدة التعقيد فيقول : وتحسب أنك جرم صغير   وفيك أنطوى العالم الأكبر.

وقبل أن نتطرق الى المساحات التي يشتغل عليها الدين نذكر تعريف للدين على حد تعريف الشيخ محمد حسين الطباطبائي في كتابه الشيعة في الأسلام، فيقول (الدين هو منهج الحياة البشرية ومنحاها الذي صدر من الله عن طريق الأنبياء، ويشتمل على التعاليم النظرية والرؤية الكونية، ويتضمن القوانين والأحكام العملية المتلائمة مع تلك الرؤية الكونية والعقائد النظرية، لغرض هداية الإنسان وتحقيق سعادته الحقيقية في الدنيا والآخرة، وهذا الدين يتمثل بالأسلام الأصيل)، ويُشير الطباطبائي في تفسير الميزان الى حد الدين في مجال تدخله في حياة الأنسان، فيقول (حد الدين هو أنه نحو سلوك في الحياة الدنيا يتضمن صلاح الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي، والحياة الدائمة الحقيقية عند الله سبحانه، فلا بد في الشريعة من قوانين تتعرض لحال المعاش على قدر الأحتياج). بعد أن قدمنا تعريف للدين، والذي يتضح من خلاله بشكل مجمل الأبعاد والمجالات التي يشتغل عليها، وهي مجالات مكانية وزمانية وموضوعية، ولكن الذي يهمنا هنا هو المجال الموضوعي، وخاصة السياسي منه، بأعتباره أحد الموضوعات التي تدخل ضمن النطاق الذي يشتغل عليه الدين.

هناك مداليل كثيرة تدل دلالة واضحة على العلاقة الصميمية بين الدين والسياسة، بل تؤكد الصلة العضوية للوظيفة السياسية في الأسلام، وذلك بلحاظ قيام الدين بتنظيم علاقة الإنسان مع سائر الناس، ومع المجتمع الإنساني بشكل عام، كما إن الدين يمثل أطاراً للسياسة، فمثلاً أذا أراد المجتمع أن يرسم منهج سياسي، ويتطور في مساره السياسي في أدارة المجتمع، فالأسلام يترك للناس زمام الأمور، ويفوض لهم أمرهم السياسي، ولكن الإسلام يضع أطاراً لتصوراتهم وممارساتهم السياسية، بحيث لا يخرجوا من حدود الله في حرامه وحلاله، وأن يكون الجانب الأخلاقي له محوريته في العمل السياسي، وهذا ما يختلف فيه عن النظرية التي قدمها السياسي الأيطالي نيكولاي مكيافيلي في السياسة التي يبعد فيها مكيافيلي العامل الأخلاقي والتي يجعل من غياب الأخلاق في السياسة عامل مهم في تثبيت حكم الحاكم، وأدامة سلطانه.

من المهم الأشارة الى نقطة مهمة وهي إن الأسلام قدم فلسفة سياسية، لأن الفلسفة السياسية ترتكز على كليات، وهذا يعطي مرونة كبيرة للإنسان في العمل والأجتهاد السياسي، في مجابهة التغيرات، وتلبية الحاجات المتغيرة للإنسان، فالتشريع الأسلامي يشتمل على قواعد كلية، وأصول عامة تفي بأستنباط الكثير من الفروع التي يحتاجها المجتمع البشري على أمتداد الزمن، فالشارع المقدس لا ينظر الى خصوصية المصاديق، بل يركز على المغزى العام الذي يمكن أستخدامه عبر الزمن، والذي يستوعب المتغيرات، فمثلاً نأخذ قاعدة (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (الحج:78). هذه الآية تعطينا قاعدة كلية تحت عنوان (لاضرر ولا ضرار)، وهي تمثل عنوان ثانوي في الفقه العام، وفي الفقه السياسي بشكل خاص، حيث يعالج الكثير من المشاكل والمواقف السياسية التي تواجه السياسي في عمله الحزبي والحكومي، والأمر نفسه ينطبق على الآية الكريمة (وأعدوا لهم ما أستطعتم من قوة ومن رباط الخيل تُرهبون به عَدو الله وعدوكم)(الأنفال:60)، حيث تمنحنا هذه الآية قاعده كلية في واجب محاربة الأعداء، وضرورة أعداد القوة لهم، وهناك من النصوص المكملة في السنة النبوية التي تحدد الأصول والضوابط الأخلاقية والشرعية للحرب أذا وقعت مع العدو، (فالمنظومة التشريعية والقيمية التي يطرحها الأسلام لا يمكنها أن تستغني عن الأطار السياسي الذي يؤمن بها من أجل أن تجد طريقها الى التنفيذ)(العقل السياسي الأسلامي:ص13 قاسم شُعيب). يتبع

***

أياد الزهيري

في المثقف اليوم