قضايا

مجدي إبراهيم: الإمام والتّصوُّف (6)

لم يكن من المبالغة فى شيء تأكيد القول إنّ الإمام عليّ رضوان الله عليه كان يمثل فضائل الإسلام مجتمعة هو الوعاء الذى أنقدح فيه العلم الإسلامي. وقد سبقت الإشارة فيما تقدّم إلى أن أسس العلوم الإسلامية برمتها ترتد إليه سواء كانت علوماً مستيقنة من طريق الذوق أو كانت علوماً مستنبطة عن طريق العقل؛ فهو من بين الصحابة جميعاً فارس الطريقين، وقد شهدوا له فقال عمر كان عليُّ أقضانا. وعن هذين الطريقين تفرّعت العلوم الإسلامية الأصيلة، ومصدرها وجذرها الإمام عليّ، ومصدره هو رسول الله ثم معايشة القرآن معايشة حقيقية مع النبيّ أثناء حياته وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى.

وقد عاش رضوان الله عليه فى خلافة الشيخين حياة الفقيه العابد المتبتِّل، وكان يجمع القرآن؛ عهداً قطعه على نفسه حين قبض الرسول، ثم تمضى الليالى الطوال وهو يتعبّد ويتهجّد ويُمعن فى تأمل القرآن، والشيخان يلجأن إليه فى الفتاوى العويصة التى كانت تلم بالمسلمين فى هذا العهد المتطور، وسبقت له فى المشورة سوابق مأثورات، وعرف عنه من سرائر العلم ودقائق الفهم ما عز على غيره؛ الأمر الذى دعى الشيعة من بعدُ ينسبون إليه (العلم السّري)، وأن هذا العلم أورثه إيِّاه النبيَّ، ودعى الصوفية أيضاً ينسبون إليه (العلم اللدنّي)، مع فارق شديد بين التصوف والتشيع، وفارق شديد أيضاً بين محبّة الإمام عليّ وآل البيت لدى أئمة الصوفية، وهم من أهل السنة، وبين نظام التعبد الشيعي.

هذا الفارق نفسه هو الذى يحدّد الفرق بين العلم السّرى والعلم اللدني، بين المحبة والموالاة، وهما وصية رسول الله صلوات الله عليه، وبين أخذ العلم السرى من طريق الإمام المعصوم كما هو الحال فى التشيع. ولسنا بحاجة إلى تأكيد هذه المحبة مع الموالاة لدى أئمة التصوف استناداً إلى أحاديث النبيّ فى مناقب عليّ : مَنْ كنتُ مولاه، فعليٌّ مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه)، (أنت منى بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبيّ بعدي).

وحديث الخيمة الذى رواه الصديق، رضوان الله عليه، حيث قال :

(رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم خيّمَ خيمة، وهو متكئ على قوس عربية، وفى الخيمة عليَّ وفاطمة والحسن والحسين، فقال معشر المسلمين: أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة، حرب لمن حاربهم، وليٌّ لمن والاهم، لا يحبّهم إلا سعيد الجد طيب المولد، ولا يبغضهم إلا شقى الجد ردئ الولادة).

وكثير غيرها أحاديث صحيحة من وجوه كثيرة تواترت عن أمير المؤمنين عليّ وهو يتواتر أيضاً عن النبى عليه السلام رواها الجم الغفير عن الجم الغفير ولا عبرة بمن حاول تضعيفها، وقد ورد الأول مرفوعاً عن أبى بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبى وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، والعباس بن عبد المطلب، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وبريدة بن الحصيب، وأبى هريرة، وأبى سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عباس، وحبشى بن جنادة، وعبد الله بن مسعود، وعمران بن حصين، وعبد الله بن عمر، وعمار بن ياسر، وأبى ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وأسعد بن زرارة، وخزيمة بن ثابت، وأبى أيوب الأنصاري، وسهل بن حنيف، وحذيفة بن اليمان، وسمرة بن جندب، وزيد بن ثابت، وأنس بن مالك، وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم، وصحّ عن جماعة منهم من يحصل القطع بخبرهم، وثبت أيضاً أن هذا القول كان منه صلى الله عليه وسلم يوم غدير خمّ، وذلك فى خطبة خطبها النبى عليه السلام فى حقه ذلك اليوم، وهو الثانى عشر من ذى الحجة سنة إحدى عشر لمّا رجع النبيّ من حجة الوداع.

ولا يُخفى محبّة النبى لعليّ، لكنها المحبّة التى تعلو على نظرة العصبية والقرابة وتتجرّد عن نوازع الإثرة لأنه يحبه ويحبِّب الصحابة فيه، ويريد أن يختاروه من بعده عن قناعة ورضى وحبور، لعلمه وفضله وسبقه إلى الإسلام.

وللإمام أبى الخير شمس الدين محمد بن محمد بن محمد الجزْريّ الشافعى (ت 833 هـ) كتاب : أسنى المطالب فى مناقب سيدنا على بن أبى طالب، يقول فى نهاية الكتاب (ص 121): (انتهت إلى الإمام عليَّ رضوان الله عليه، جميع الفضائل من أنواع العلوم، وجميع المحاسن وكرم الشمائل من القرآن والحديث والفقه والقضاء والتصوف والشجاعة والولاية والكرم والزهد والورع وحُسن الخلق والعقل والتقوى وإصابة الرأي. فلذلك؛ أجمعت القلوب السليمة على محبته، والفِطَر المستقيمة على سلوك طريقته، فكان حبُّه علامة السعادة، وبغضه محض الشقاء والنفاق والخذلان).

عِلمُ الإمام طاقة نورانيّة من علم رسول الله ولا شك؛ لكن أعجب العجب أن نجد فينا من يعرف هذا الفضل الجامع الكبير ولا يذكر للإمام فضله خشية أن يصاب بالتشيع وكأن الشيعة من عالم آخر محجوب عن الإسلام، ولو سقط النزاع لتوحدت الغاية على القصد وحلّ الوفاق.

(وللحديث بقية)

***

د. مجدي إبراهيم

في المثقف اليوم