قراءات نقدية

لطيفة أثر: القيم في الشعر العربي.. لاميةُ العرب نموذجاً

منظومة القيم إلى أين؟

شهد عالمنا خلال نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحالي مجموعة من التغيرات التي قلبت موازين العالم ومعها الأنظمة الاجتماعية، من خلال الاكتساح المهول للتكنولوجيا الحديثة وما رافقها من تغييرات في النظم الاجتماعية، فنحن نعيش زمنَ جيمس ويب (JAMES WEBB)، وعصر الذكاء الاصطناعي_ و من مظاهره برنامج شات جي بي تي ((CHAT GPT [1])_ وأصبحنا بموقع السّائل الحائر حيال مواضيع المجتمع والتاريخ والإنسان، في عالم سريع التحوّل والارتقاء من صورة إلى أخرى؛ عالم لا يمكن كبح جماحه في سيرورة التغيير، خاصة في صورته المتشكّلة بالزحف التقنيّ والتكنولوجيّ، حتّى غدونا نتحدّث عن أطروحات "نهاية التاريخ (THE END OF HISTORY)" و "ما بعد الإنسانية (TRANSHUMANISM)" و" المجتمع الرقمي (DIGITAL COMMUNITY)"  [2] ؛ ولقد صدقت نبوءة ستيف كوتش (Steve cutts) [3]حول مستقبل العلاقات الاجتماعية تحت ظل التكنولوجيا ونظرته التشاؤمية التي اعتقد الكثير وقتها أنها مبالغ فيها وتنزع نحو الخيال، غير أننا اليوم نعيش على وقع تداعيات اجتماعية خطيرة كانت لعهد قريب مجرد خيال خطه مخيال كوتس في فيلمه الشهير MAN) [4]).

وانضافت إلى معضلة التكنولوجيا ما يعيشه العالم اليوم من صراعات وحروب ونزاعات في شتى بقاع العالم، وأصبح معها العالم يئن جراء ويلات هذه الحروب، التي حولت العالم أو تكاد إلى يباب، فكان لزاما أن تعيش الإنسانية اليوم، صراعا قيميا واضحا زكاه التسويق لما اصطلح عليه اليوم ب «القيم العالمية"، التي أصّلت لها ثلاث قوى متداخلة ومتشابكة تصب مصالحها في معين واحد؛

أولها: الدول الكبرى التي تمتلك في يدها حصة الأسد من القوة والسلطة، ساعية إلى بسط سيطرتها على العالم تحت مسمى القيم العالمية التي تروج لها، بل وتتخذها مطية مشروعة لمزيد من الهيمنة والامبريالية الناعمة.

ثانيها: الشركات الاقتصادية المتغولة التي حاولت تسليع البشرية والدفع بها إلى نوع من السلوكيات المتجهة دوما نحو الإنتاج والاستهلاك بناء على مواثيق العولمة وما تفرضه من جشع.

ثالثها: مؤسسات الأمم المتحدة التي أصبحت هي الأخرى تفرض على العالم منظومات قيمية تخدم مصالح القوى السابقة وتستظل بظلالها، فتحولت بذلك موازين القوى في العالم بفضل ما تحقق لهذه المؤسسات الثلاث من انتعاش غير مسبوق على جميع الأصعدة العسكرية والسياسية والاقتصادية.

فتسللت يدها فطاولت الجانب الفكري والثقافي وكذا السلوك الاجتماعي القيمي، إذ لا يمكن فصل الجانب الاجتماعي عن المجالات الأخرى التي غزتها التكنولوجيا كالصناعة والتجارة والسياسة وكذا منظومة التعليم والقيم، فقد امتزجت هذه الأخيرة مع مختلف التغيرات لتنذر بوضع كارثي لا يمكن تصوره، فتعرضت القيم الإنسانية إلى الكثير من الإقصاء والتهميش والنبذ، فلم تعد الدول تتمتع بذاك القدر الضروري من الخصوصية الفكرية والدينية والحضارية، ففتحت الباب على مصراعيه أمام اكتساح القيم العالمية أو ما اصطلح عليه ب"الشرعية الدولية" التي طالت فيما سبق الجانبين السياسي والعسكري، لتتخذ الحرب هذه المرة بعدا فكريا لتتسلل هيمنتها إلى ما يتعلق بالحقوق والحريات بما فيها حقوق الإنسان والمرأة والطفل ومفهوم الأسرة ومنظومة التعليم،  وباتت تبرز على السطح الفوضى الأخلاقية المستفحلة خاصة في وقتنا الحالي الذي عرف هزة اجتماعية أخلاقية تهدد منظومة القيم، ليستفحل الأمر أكثر فأكثر أمام فشل اجتماعي لمؤسسات التنشئة الاجتماعية خاصة مؤسستا الأسرة والتعليم وسط شلل تام لباقي المؤسسات، فبتنا ننتظر مستقبلا مجهولا وضبابيا  يزداد الأمر معه سوءًا، إذ نسجل غيابا تاما للوعي بخطورة هذه المستجدات ،وكذا غياب الوعي بالقيم الملائمة لخصوصياتنا الحضارية،  لذا فنحن نقول مع المفكر المغربي  المهدي المنجرة:  "أن يكون الانسان واعيا بقيمة القيم فتلك قيمة في حد ذاتها "[5] لذلك فلا عجب إن أصبح موضوع القيم من المواضيع التي استأثرت باهتمام الباحثين على تعدد مذاهبهم ومشاربهم الثقافية والأيديولوجية والفكرية ،خاصة وأنه موضوع يرتبط أساسا بفطرة الإنسان في تعدّده النفسي و الاجتماعي والثقافي، ولعلنا نركز بشيء من التفصيل في مقالتنا هاته على البعد الثقافي ، بالذات ما يرتبط بالشعر القيمي في  لامية العرب .

يتبع...

***

لطيفة أثر رحمة الله

......................

[1]  نقصد مقراب جيمس ويب الفضائي، الذي أطلق في 25 ديسمبر 2021، وهو مرصد فضائي طُوِّر بشكل مباشر من قِبل ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية الكندية سيمكن مجموعة واسعة من التحقيقات في مجاليّ علم الفلك وعلم الكون، بما في ذلك رصد بعض الأحداث والأجرام الفلكية الأكثر بُعدًا في الكون .

شات جي بي تي في أبسط تعاريفه نظام روبوتي اصطناعي للمحادثة يحاكي الذكاء البشري أُصدر لعامة الناس سنة 2022

[2] تمثل هذه الأطروحات الفكرية تتويجا لمرحلة إنسانية جديدة تغوّلت فيه التقنية مقتحمة هدوء البشرية، فارضةً نمط حياة جديد، خالقة ما يسمى بالإنسان "المعزَّز تقنيا" إزاء اقتراب نهاية الكائن البشري الكلاسيكي. ولعلّ الإنسانية، بهذا المعنى، انتقلت من السعي إلى الخلود في الأساطير الجلجامشية والثقافة الفرعونية، إلى البحث عن السوبرمان (الإنسان الخارق) في الفلسفة النتشوية، بالغةً شوط التماهي مع التقنية، أو ما عبّر عنه راي كير زويل (Ray Kurzweil) بالآلات الروحيّة في كتابه " عصر الآلات الروحية " (THE AGE OF SPIRITUAL MACHINES)، أو أر إيه بوكانان في كتابه " الآلة قوة وسلطة ".

[3] ستيف كوتس sterve cutts رسام بريطاني متخصص في الكاريكاتور والرسوم المتحركة وهو من أكثر رسامي الكاريكاتور وأفلام الصور المتحركة شهرة وأكثرهم شهرة في نقد الرأسمالية الجشعة، عمل عدة سنوات رساما في وكالة لندن للإبداع ضمن المشاريع الرقمية (ديجيتال) لمجموعة واسعة من العملاء بمن فيهم شركة غوغل وريبوك ونوكيا وسوني وتويوتا .

[4] يرصد فيلم MAN خلال ثلاث دقائق فقط وصفا مؤثرا عن تغير العالم في كرتنا الأرضية منذ وجد الإنسان عليها وكيف عاث فيها خرابا إلى اليوم الذي يحل عليها غرباء من الفضاء الخارجي فلا يجدون في الأرض سوى الخراب والدمارـ

[5] المهدي المنجرة: قيمة القيم، المركز الثقافي العربي الطبعة 2 مارس 2007 ص 14.

 

في المثقف اليوم