دراسات وبحوث

أكرم عثمان: عظمة القرآن بين آيات ثلاث

تتجلى آيات الله عز وجل في ثلاثة منها تحكم طبيعة السلوك بين البشر، حيث تتناول ثلاثة دوائر أكبرهما الحديث والقول الحسن للناس كافة بغض النظر عن دينهم وأعراقهم وأصنافهم وأشكالهم وأوضاعهم الاجتماعية، الاقتصادية، والعلمية ونحوها، فالرسالة واضحة وجلية في الإحسان في القول والفعل. " وقولوا للناس حسناً " [1]، وقوله عز وجل " وقولوا للناس حسنا)" أي: كلموهم طيباً، ولينوا لهم جانباً، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف، كما قال الحسن البصري في قوله: (وقولوا للناس حسناً) فالحسن من القول: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحلم، ويعفو، ويصفح، ويقول للناس حسناً كما قال الله، وهو كل خلق حسن رضيه الله .وقال الإمام أحمد: حدثنا روح، حدثنا أبو عامر الخزاز، عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تحقرن من المعروف شيئاً، وإن لم تجد فالق‏ أخاك بوجه منطلق " .[2] ودعا أن يأمرهم بأن يقولوا للناس حسناً، بعد ما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل، فجمع بين طرفي الإحسان الفعلي والقولي ومن النقول الغريبة هاهنا ما ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره:حدثنا أبي، حدثنا محمد بن خلف العسقلاني، حدثنا عبد الله بن يوسف يعني التنيسي حدثنا خالد بن صبيح، عن حميد بن عقبة، عن أسد بن وداعة: أنه كان يخرج من منزله فلا يلقى يهودياً ولا نصرانياً إلا سلم عليه، فقيل له: ما شأنك ؟ تسلم على اليهودي والنصراني. فقال: إن الله يقول: (وقولوا للناس حسناً) وهو: السلام . قال: وروي عن عطاء الخراساني ونحوه .[3]

وقالَ أبُو العالِيَةِ: مَعْناهُ قُولُوا لَهُمُ الطَيِّبَ مِنَ القَوْلِ، وحاوِرُوهم بِأحْسَنِ ما تُحِبُّونَ أنْ تُحاوِرُوا بِهِ، وهَذا حَضٌّ عَلى مَكارِمِ الأخْلاقِ.[4]، فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: "اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة" وقوله - صلى الله عليه وسلم - "[5]من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت"[6]، وقوله - صلى الله عليه وسلم - "والكلمة الطيبة صدقة"[7]

إن اللطافة واللين في التعامل مع الناس من شيم الكرام وأخلاقهم السمحاء ومعادن نفوسهم الطيبة للقول والتصرف والفعل الحسن، يقول ربنا عزوجل "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ"[8] .

تعتبر القدرة على فهم الناس وإقامة علاقات اجتماعية معهم والتعامل بشخصية لبقة ولطيفة ومتعاطفة من أساسيات الذكاء الاجتماعي التي يتصف بها المرء في فهمه ولباقة تصرفه مع من حوله. ويوضح الحسن البصري بعبارته الحكيمة: "اِصْحَب الناس بأي خلق شئت يصحبوك". فلا تُعاملهم كما يعاملوك به، أنت صاحب قيم وأخلاق سامية، فديدن القلوب الرحيمة والمبادىء السمحاء يصلحون ولا يفسدون، ولديهم القدرة على التحمل والصبر من إيذاء الآخرين . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "درجة الحِلم، والصبر على الأذى، والعفو عن الظلم؛ أفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة؛ يبلغ الرجل بها ما لا يبلُغه بالصيام والقيام"[9] قال تعالى: "وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"[10]

وبدأت الدائرة تضيق رويداً رويداً حتى أنها وصلت إلى تخصيص في طبيعة العلاقة ما بين المؤمين بعضهم ببعض في علاقة لا تقبل شكاً أو تطاولاً ولا استقواءً على أحد ولا تكبراً أو استغلالاً لهم، علاقة سامية صفتها التواضع ولين الجانب واللطف في التعامل، فلا ينبغي أن تترفع وتتكبر على أخيك المسلم "واخفض جانحك للمؤمين" [11]، اخفض لهما جناح الذل، بمعنى: اخفض لهما جناحك الذليل، وجناح الإنسان يقال ليده، فإن الإنسان إذا أراد أن يبطش رفع يده، ويقال ذلك بمعنى لين الجانب والتواضع. الطائر إذا أراد أن يضرب ضرب بجناحه، رفع جناحه وضرب به، وإذا جاء عند صغاره فإنه يخفض جناحه ويرفرف على هؤلاء الصغار، فخفض الجناح يعني التواضع واللين في التعامل والمخالطة والمعاشرة[12]. والتعبير عن اللين والمودة والعطف بخفض الجناح تعبير تصويري، يمثل لطف الرعاية وحسن المعاملة ورقة الجانب في صورة محسوسة على طريقة القرآن الفنية في التعبير.[13]

وقوله) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِين) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وألِن لمن آمن بك، واتبعك واتبع كلامك، وقرِّبهم منك، ولا تجف بهم، ولا تَغْلُظ عليهم، يأمره تعالى ذكره بالرفق بالمؤمنين.[14]، إن الإسلام يدعو إلى الكلمة الطيبة في القرآن الكريم الأمر بالقول المعروف، والقول السديد، والقول الميسور، والقول الحسن، والقول الكريم، والقول اللين.[15]

فالبيئة التي ينشأ فيها الطفل إذا كانت تُربي فيها على القِيّم الإيجابية، وتنشئته على تعلم الألفاظ الجميلة والكلمات الطيبة، فسيكون محبوباً في بيئته، وتجعل المحيطين به يتوددون إليه ويتقربون منه، ويتعاملون معه برقي واحترام، أما إذا كان ما تربى على محتوى سلبي، غير لائق، فإن الناس سوف ينفرون من حوله، وينبذونه، ويحذرون من مجالسته وصحبته والتقرب منه، ويصبح منبوذاً وغير مقبول اجتماعياً. ففي دراسة أعدتها الدكتورة إليزابيث سويني من جامعة سينسيناتي والمتخصصة في مجال الاجتماع خلُصت في نتائجها إلى "إن الأطفال الذين ينشؤون في كنف عائلة يتسلط فيها الأبوان يميلون إلى الاستئساد على الآخرين والهيمنة عليهم عبر شتى وسائل الضغط والترهيب".[16]، فاختيار أحسن الكلام من أعظم أخلاق الإسلام التي كثُر تأكيدها في كثير من الآيات والأحاديث، قال تعال: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾[17]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إِن مِنْ مُوجِبَاتِ الْمَغْفِرَةِ بَذْلُ السَّلامِ، وَحُسْنُ الْكَلامِ»؛[18] .

والهين اللين ينسحب رفقه على كل صور حياته، التي تقتضي السماحة واللين في التعامل مع المؤمنين، حتى يحظى بمحبة الله سبحانه وتعالى (إن الله تعالى يحب الرفق في الأمر كله)[19]، كما نحظى بعون الله عز وجل يقول رسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويرضاه، ويعين عليه ما لا يعين على العنف .[20]، ليس الرفق في الأمور الكبيرة أو ذات الشأن أو قضايا الحياة فقط، بل يتخطاها إلى ما يسمى صغائر الأمور: النظرة، المصافحة، طريقة الجلوس، الإقبال بالوجه. وكلها ذات آثار عظيمة في النفس، فهي تملك القلوب، وتنبّه العقول، خاصة أن محمدًا لم يفرق في ذلك بين فقير أو غني، ذو الشأن أو بسيط الشأن، الرجل والمرأة، الصغير والكبير. لذا، امتلك حب القلوب من حوله.[21]

وأمست الدائرة تضيق أكثر وأكثر في العلاقة ما بين الآبناء والآباء، في احترام وتقدير وتوقير لفضل هؤلاء على أبنائهم وفلذة أكبادهم " ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما".[22]، وقضى أي أمر وألزم وأوجب . قال ابن عباس والحسن وقتادة: وليس هذا قضاء حكم بل هو قضاء أمر[23]، وقضى ربك وأمر أمراً مقطوعاً به . ألا تعبدوا بأن لا تعبدوا إلا إياه لأن غاية التعظيم لا تحق إلا لمن له غاية العظمة، وأحسنوا بالوالدين إحساناً لأنهما السبب الظاهر للوجود والتعيش . فلا تقل لهما أف فلا تتضجر مما يستقذر منهما وتستثقل من مؤنتهما، وهو صوت يدل على تضجر . وقيل هو اسم الفعل الذي هو أتضجر، وهو مبني على الكسر لالتقاء الساكنين وتنوينه في قراءة نافع وحفص للتنكير، ولذلك منع رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة من قتل أبيه وهو في صف المشركين، نهى عما يؤذيهما بعد الأمر بالإحسان بهما. ولا تنهرهما ولا تزجرهما عما لا يعجبك بإغلاظ .[24]

هناك آداب ينبغي لنا مراعاتها، ويجدر بنا سلوكها مع الوالدين، لعلنا نرد لهما بعض الدين، ونقوم ببعض ما أوجب الله علينا نحوهما، كي نرضي ربنا، وتنشرح صدورنا، وتطيب حياتنا، وتسير أمورنا، ويبارك الله في أعمالنا، وينسأ لنا في آثارنا وبالوالدين إحسانا). إن مخاطبتهما بلطف وأدب وعدم رفع الصوت عليهما أو الرد عليهما بغضب وعبوس وجه وعدم رضا. فطاعتهما في كل وقت وكل أمر من ليل أو نهار ولكن في غير معصية الله، «فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» .[25]، وتجنب مجادلتهما أو تخطئتهما أو إنكار شيء عليهما مباشرة ولكن يوضح لهما الصواب بلطف ولين وحسن أدب. والدخول عليهما بإذن ولاسيما وقت نومهما وراحتهما وكذلك عدم التصنت لحديثهما أو إفشاء سرهما.· تناول الطعام بعدهما أو الدخول إلى المنزل أو الجلوس قبلهما أو المشي أمامهما، أو النوم أو الاستلقاء أمامهما.· عدم تفضيل الزوجة والأبناء عليهما، عدم الإكثار والإلحاح عليهما بالطلبات التي ترهقهما إما مالية بالنسبة للأب أو أعمال منزلية بالنسبة للأم، عدم الكذب عليهما أو لومهما إذا عملاً لا يعجب الابن ·.[26]

***

د. أكرم عثمان

مستشار ومدرب دولي في التنمية البشرية

2024

.........................

[1] البقرة: 83

[2] أخرجه مسلم في صحيحه، والترمذي [ وصححه ] من حديث أبي عامر الخزاز، واسمه صالح بن رستم، به .

[3] https://quran.ksu.edu.sa/tafseer/katheer/sura2-aya83.html

[4] https://tafsir.app/ibn-atiyah/2/83

[5] رواه البخاري ومسلم

[6] رواه البخاري ومسلم

[7] متفق عليه

[8] سورة فصلت: 34

[9] https://www.aljazeera.net/blogs/2019/2/6

[10] سورة آل عمران: 133

[11] الحجر: 88

[12] https://khaledalsabt.com/interpretations/2740/3-

[13] https://quran-tafsir.net/qotb/sura15-aya88.html

[14] https://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura15-aya88.html

[15] http://saaid.org/Doat/mehran/109.htm

[16] https://nir-osra.org

[17] الأسراء: 53

[18] رواه الطبراني

[19] رواه البخاري

[20] https://www.islamweb.net/ar/article/10245

[21] https://www.alukah.net/sharia/0/116664

[22] سورة الأسراء: 23

[23] https://quran.ksu.edu.sa/tafseer/qortobi/sura17-aya23.html

[24] https://www.islamweb.net/ar/library/content/205/1437

[25] أخرجه البغوي

[26] https://kalemtayeb.com/safahat/item/42660

 

في المثقف اليوم