ترجمات أدبية

ترجمات أدبية

بقلم: يفغيني غريشكوفيتس

ترجمة: صالح الرزوق

***

كان ذلك يشبه الوقت الذي لا تكون متأكدا خلاله من أي شيء. فالصيف شارف على نهايته  ومع ذلك لم تصفر الأشجار فعلا، وكنست الرياح الأوراق الخضراء الميتة إلى الزوايا وتحت الأسوار. أما في خارج المدينة تطاول العشب وبدا ملوثا على نحو من الأنحاء. كان الصيف يختتم وجوده، أو الأدق، دلت كل العلامات على أنه انتهى حقا. بقي علينا تحمل عدة أيام قليلة من آب، و.. تقريبا عاد كل أصدقائه وأصحابه ورفاقه ومعارفه وزملائه من العطلة محمرين بالشمس، ومشتاقين للاجتماع مجددا، وتبادل القصص والحكايات. ما عدا ديما فقد أنفق الصيف صامدا في المدينة. طبعا لم يصمد طيلة فصل الصيف، ولكن خامره الشعور كأنه أنفق كل الصيف في المدينة، وحتى لو لم يكن محروما من بعض المتعة والفائدة، يمكن القول إنه " مر عليه صيفه وهو جامد". ولذلك قال ديما للجميع:" ماذا يعني كيف الحال؟ أنفقت كل الصيف وأنا في مكاني في المدينة". بعد ذلك تنهد، وصنع بيده تلويحة نافية وقصيرة، وغطى وجهه الحزن. صرف ديما عائلته منذ أوائل تموز. ابنه إلى مخيم دولي، ليتمكن الصبي من التمرن على الإنكليزية. وزوجته وابنته أولا إلى والدي زوجته في الشمال، ثم إلى الجنوب، نحو البحر، حيث أنفقا معا أوقاتا طيبة في عدة مناسبات. أما هو فقد مكث في المدينة.. ليتابع أعماله.

في الحقيقة كان لديه عمل لا بد من إنجازه، ودعاه سبب مهم وملح للمكوث في المدينة والانكفاء على العمل، مع أن المدينة في منتصف تموز تذوب تحت الحر، ولا تجد حينها أحدا يتخذ قراراته، أو يخطط ليعمل. فالمدينة لا تحرك ساكنا في الصيف. أولا، يخلي المدينة أصحاب القرار في مختلف المجالات، ومن يبقى منهم يكون مرهقا، أو على نحو من الأنحاء، بمزاج متوعك.. يضعف بصر العينين.. وتطن أصوات الصمت في الأذنين، أو تتراكم الكهرباء الساكنة داخله. وفي نهاية تموز، حلت على ديما حالة ركود. دخل بكسل غريب يسببه الصيف، حينما تزحف الأيام ببطء مقلق، ويطير الوقت بسرعة غير مفهومة. في البداية استلقى ديما عدة أيام على الكنبة، أمام التلفزيون. وتابع التقليب بين المحطات دون توقف، متمهلا هنا وهناك لدقائق... ثم تابع التقليب. وحينما تعثر بفيلم قديم، كان يعرفه منذ أيام صباه، صفق، وفرك يديه، ورتب مجلسه على الكنبة، وذهب مسرعا إلى المطبخ لتحضير الشاي وشطيرة غير صحية على الإطلاق - ولكنها لذيذة. كانت الأفلام القديمة، والشطائر السريعة، والشاي المحلى، تزيد من إحساسه العميق بالمتعة. ووجد في ذلك شيئا لم يشعر به منذ فترة طويلة: الاسترخاء المخدر. وفي ثالث يوم من هدوئه هذا، بدأ يفقد إحساسه بالوقت. كان ينام حتى وقت متأخر يمتد من الصباح لفترة ما بعد الظهيرة. وكان يستيقظ على أصوات الصيف المنبهة للحواس القادمة من الباحة. وحينما يجد الثلاجة فارغة، يعارك الجوع طيلة يومه تقريبا. وكان يبدو له من غير المناسب أن يغادر المبنى. أجل ديما رحيله لفترة طويلة. ومر عليه وقت محسوس لم يحلق فيه وجهه، ثم فجاة وجد البهجة العظيمة في الحلاقة. ثم أنفق وقتا طويلا بالغسيل، وارتداء الثياب، وفي النهاية ذهب إلى المتجر... برضا وانشراح. وانتقى كومة كبيرة من الأشياء.

عاد من المتجر، ولم يتسرع بتناول طعامه، ولا تناول شطائره مجددا بمزاج ممتعض، ولكن رتب الشقة برضا غير مفهوم، وغسل كل الأطباق، وأودع كل شيء في مكانه المناسب في الثلاجة. ثم بتمهل جهز غداءه وعشاءه دفعة واحدة (بمعنى أن ديما لم يتناول الغداء، وكان المساء قد خيم عليه). أعد الوجبة وهو يستمع لصوت الراديو المهدئ... وفتح زجاجة نبيذ، شعر بجو مسالم، وبدأت كلمات متفرقة تطير في أرجاء ذهنه مثل "ليس سيئا" أو "نعم هكذا"... أو "اللعنة"... وحينما كانت الوجبة تنضج في الفرن شرب كوبي نبيذ. وأصاب النبيذ الهدف على نحو ممتاز.. تناول ديما الهاتف. واتصل بالأبوين (أبويه)، ثم طلب مكالمة زوجته في الجنوب. قالت جينيا إن كل شيء على خير ما يرام، باستثناء الطقس، فهو غير جيدا.

ثم أخذت ابنته الهاتف، وأخبرته أنها بأحسن حال، والطعام جيد، وكل شيء ممتاز بشكل عام. وحينما سألها ديما إن كانت مشتاقة له، ردت بسرعة: "نعم".  بعد ذلك مباشرة اتصل بصديق قديم، ولكنه لم يجده، وهكذا أخلد في النهاية للاسترخاء. كانت أموره جيدة. وجيدة جدا. ولكن أحيانا تشتعل فكرة في رأسه:" أوي. هناك أمور يجب إنهاؤها. يجب أن...". ولكن لاحقا يقول لنفسه:" انتظر قليلا. تمهل فقط...". أو "لكنه فصل الصيف". الشيء الوحيد الذي أزعجه هو الحرارة. وليس لأن الجو حار - ولكن لأنه خامل، ويزيد من التعرق وما شابه ذلك. ما أزعجه أن الحرارة كانت تخيم على كل شيء... في العام الفائت، أنفق ديما الصيف مع عائلته على شاطئ البلطيق. وقال له رفاقه: "لماذا هناك؟ المطر لا ينقطع والبحر بارد.. هو مكان جميل لكنه بارد". مع ذلك حالفهم الحظ بالطقس. واستجموا بالشمس على الشاطئ أو بالجلوس تحت المظلات واحتساء البيرة في المقهى، ومشاهدة الأخبار مساء. وهكذا علموا أن المطر لم يتوقف في مدينتهم، وأن العواصف هبت على الجنوب، والبرد تساقط على اليونان. كم من الممتع أن يكون الصيف رماديا وغامضا. ثم لم يذكروا في التلفزيون درجة سخونة الماء في البحيرات التي تحرقها الشمس، بالمقارنة مع ماء البحر الأسود، ولذلك أنشأوا شواطئ شعبية عند أقرب بحيرة، وكانت جيدة مثل أي منتجع آخر.

وقد كانت تبلغه اقتراحات بين حين وآخر وتأتيه من وراء جدران بيته الأربعة... اقتراح زيارة شخص أو آخر في مخبئه، أو الذهاب لصيد السمك مع شخص غيره. وكان ديما يخترع الأعذار المختلفة ولم يذهب إلى أي مكان. وكانت حالة الاسترخاء التي خيمت عليه أعمق، وأثمن وأكثر أهمية من أي متعة صيفية. ثم جعلت الأمطار الباردة والرمادية الأوضاع أقرب للمصالحة والسلام. ومسالمة كالكريستال. كان الطقس مقلقا من قبل، وحسب ما يتذكر كانت علاقته مع الطقس مزعجة دائما. وحينما حانت أواخر أيار، وحينما أصبح من الصعب جدا أن تنتهي من دراستك وتخضع للامتحان، مال الطقس ليكون رائعا. كان دائما منعشا ودافئا، ولكن ليس حارا… شيئا تتمناه. ولكن حالما تبدأ العطلة - يحل المطر والريح والبرد. وحينما يصلون إلى البحر، تهب عاصفة منذرة بالخطر ويتبعها مطر ورياح. هكذا هو الحال دائما. ويتذكر كيف أنفق مرة نصف الصيف في قرية مع عمته ولم يخرجا ولو مرة واحدة لصيد السمك. ومع ذلك كان معه قصبة صيد ممتازة. وكانت هناك بحيرة، فقال له زوج عمته إنه لا يذهب للصيد إن هبت الرياح. ولو هناك ريح، لا معنى للصيد. وقال العم فوفا :"انظر، هل تشاهد تلك الشجرة هناك؟. لو أن الوقت في الصباح ولا تتمايل، هذا يعني أنه لا توجد رياح. حينها احمل قصبتك، وأيقظني، لأن التقاط الأسماك مضمون. ولكن إذا كانت ترتعش، لا تحمل نفسك عناء رؤيتي. أفضل أن أنام، وأن لا أغامر بالصيد".

واستمر ديما بمراقبة الشجرة نصف فصل الصيف.

كل يوم كان ديما يحمل قصبته لينظر إليها ثم يعيدها إلى السقيفة. وعمليا يحفر كل يوم للبحث عن ديدان وعيزه على الشجرة. وفي المساء تبدو له الشجرة تقريبا كأنها راكدة دوز حراك. ثم في منتصف الليل نهض ديما ليتبول، وخرج إلى الشرفة، فرأى، بضوء القمر، ذروة الشجرة الجامدة سوداء تحت نجوم الصيف. فخفق قلبه من السعادة، وعاد إلى سريره وسقط بالنوم. وتنفس بعمق ثم شخر بصوت مسموع.. وفي الصباح استيقظ قبل غيره وأسرع إلى الشرفة. وهناك كانت الشمس قد أشرقت وبدأت السماء تتلون بلون أحمر، والغيوم تتجمع، وقمة الشجرة تتمايل، وكل ورقة فيها ترتعش.

انتظر ديما لبعض الوقت، وهو يراقب الشجرة، ثم توقف قلبه عن الخفقان، وتجمد، كان المطر قد بدأ ينصب عليه. عاد ديما إلى سريره، وبكى بصمت. بعد ذلك كان يستيقظ متأخرا ليمرر نهاره الثقيل، وأحيانا يضجر، وأحيانا يلهو ليسلي نفسه. ولكن حتى هذا اليوم إذا ذهب ديما إلى مكان ما في وقت مبكر من الصباح، وكانت هناك أشجار، ينظر إلى أطولها كل الوقت، ويراقبها... ثم يعود بعد أن يراقبها بهذه البساطة. الحرارة - وهذا هو أوان ذروة الصيف - كانت كل ما يفسد ويعكر الاسترخاء الذي يغلف ديما.

في أول أيام آب، تغاضى قليلا ووافق في المساء أن يرافق امرأة يعرفها. تقابلا حوالي التاسعة. وكان هناك ركود مزعج تسبب لصديقته بالصداع، فذهبا إلى النافورة، ووجدا حولها حشدا كبيرا. كانت المدينة تستمتع بوقتها في الهواء الطلق، والجميع جن جنونه. وكل الضفاف والمقاهي المجاورة لها، وكل المساحة المحيطة بالنافورة - قد غرقت بالناس. وقرب النافورة، صادف ديما وصديقته صديقا لديما برفقة زوجته.

قدم ديما صديقته بصفة زميلة جاءت إلى البلدة بعمل. فاتسعت عيناها من الدهشة. شيء لا يصدق... ثم انهمر مطر غزير على المدينة، ورافقه البرق. وكان نوعا من الأمطار التي لا تعطيك نصف دقيقة لتتصرف. وغرق الجميع. وكانت العاصفة عاتية. نوع من العواصف النشيطة والنموذجية. باختصار اقتنع ديما أن حالة الاسترخاء لا يمكن فرضها، ولا تستطيع أن تخدعها. في اليوم التالي لم يغادر البيت، مع أن الطقس رائع طوال النهار.

استرخاء. حتى أن ديما لم يخرقه ولو بشرب البيرة. لم يكن يشعر بالميل لها. كان في حالة صلح وسلام مع الذات. وطرقت رأسه أفكار مسلية وغريبة. كانت هذه الأفكار تحط على رأسه، وتتقلب فيه، ثم تتلاشى. بعد الهطول فكر ديما بحنان متمهل:" لو كنت متنبئا بالطقس، لأدليت بنشرات طقس متماثلة: أمطار متفرقة. وهذه هي الطريقة العامة والمناسبة للتعبير عن الموضوع إذا هاجمتك الأمطار والثلوج، أليس كذلك. هذا يعني أنك في المكان الصحيح. لا ثلج ولا مطر - المكان خاطئ. هذا كل شيء.  وهو أمر بسيط".

كان ابنه يكلمه بانتظام من المخيم، ومن الواضح أنه مرتاح. أما والدا ديما فلم يغادرا مأواهما أبدا. ولم يسمع ديما من ابنته وزوجته - كلما اتصل بهما - غير الكلمات المطمئنة. استرخاء. استقرت الأمطار لعدة أيام في بداية آب. فابتهج ديما وأنفق أيامه بأعظم قدر ممكن من الاسترخاء. كانت الأمطار غزيرة ودافئة...

ثم توقفت وخرج نبات الفطر. ولم يتمكن أبواه من الامتناع عن الحديث حول هذا الموضوع بالهاتف، وحتى محطة التلفزيون المحلية أذاعت عن محصول فطر غير مسبوق وأوصت المستمعين أن لا يقطفوا الفطر غير المعروف وأن لا يشتروا الفطر المجمد إن كان مصدره مجهولا.

لم يذهب ديما إلى الغابة منذ زمن طويل. كان يحب حصاد الفطر. ويحب النزهات في أرجاء الغابة، يتنقل بحذر، وفجأة، بين الأعشاب والأوراق والظلال المتداخلة، يجد نبات الفطر. قبل لحظة كان الفطر مختبئا بين بقية الأشياء التي تخشخش وتتكسر تحت الأقدام، ثم فجأة - هوب - ها هو نبات فطر. فيركع باسترخاء إلى جانبه، وينقب في جواره.. كم أحب ديما ذلك. ولكن الآن ربح الاسترخاء. وكانت أفكاره تسقط فوق رأسه كالتالي: "ماذا ستفعل بالفطر الذي تجده؟"، "آه، أنا أعرف كل شيء عن ذلك البحر العرمرم من الفطر"، "نعم، هناك في الغابة ناس بأعداد أكبر من السوق في يوم السوق المفتوح". ولبث ديما في البيت وقرأ روايتين بوليسيتين ورواية نسائية لا على التعيين وجدها على طاولة سرير زوجته. وعمليا شعر ديما أن وزنه زاد قليلا في هذه الفترة، ولكن ليس بقدر كبير. الزيادة كانت ملحوظة بصعوبة.

ثم أوشك البيع أن ينتهي فجأة، وقريبا تعود زوجته والأولاد. كان الطقس رائعا، كالسابق، ولكنك فعليا لا تستطيع أن تثق به. في أي لحظة يمكن للصيف أن يتداعى ويبدأ الخريف. وعليك أن تغتنم كل دقيقة من الطقس الجيد بينما الصيف يتراجع. ولكن ديما لم يغتنم شيئا. فقد كان يغط في حالة من الاسترخاء. لم يقص شعره طيلة الصيف. اتصلت غوشا بالضبط قبل يوم من عودة زوجة ديما وابنته من الجنوب. قالت غوشا بصوت غلبت عليه الدهشة قليلا حينما التقط ديما السماعة: "هيي، كيف الحال؟. هل عدت فعلا؟. أنا، إيه، اتصلت فقط للتأكد. وها أنت في البيت. هل حصلت على عطلة مريحة؟".

رد ديما وهو يتنهد: "أية راحة. كنت في المدينة كل الصبف. وأنتظر الراحة في العطلة التالية. كيف حالك؟".

قالت غوشا بصوت غلبته الدهشة الحقيقية والواضحة:" ماذا تقول، كنت هنا؟. كنا متيقنين أنك سافرت. لم نجد لك أثرا في أي مخبأ. أما أنا فقد عدت منذ فترة".

"أين كنت؟"

"أين كنت، كنت أبحر وأشتمك كل أيام الصيف. ألم تطن أذناك؟. استمعنا لنصيحتك وسافرنا إلى البلطيق. وأغرقنا المطر حتى شحمات آذاننا. ولم يمر علينا يوم واحد طيب. لذلك هربنا. بينما أنت امتدحت المكان بكل ثقة في العام الماضي...".

"غوشا. اسمعيني يا غوشا. وهل هو خطأي لأنني أخبرتك بذلك؟. فقط أنت لم يحالفك الحظ".

قاطعته غوشا بقولها: "نعم. أنت دائما المحظوظ فينا. أخبرونا أن الطقس كان لديك ممتازا طيلة الصيف. ماذا فعلت خلاله اذا؟".

" نعمممم. أشياء كثيرة يمكن القيام بها. الهراء المعتاد. أرسلت العائلة إلى البحر. كان علي إنقاذ الأولاد من المدينة. وهل عدت منذ فترة طويلة؟".

"منذ عشر أيام. أصابني الضجر وتقريبا شعرت بالجنون. ولم يكن معي هناك أحد. غادر الجميع. من المؤسف أنني لم أعلم أنك كنت موجودا هنا. ومنذ أيام قليلة عاد الجميع دفعة واحدة، ولعبنا أمس كرة القدم. ولاحظت أنك لم تكن معنا. فاعتقدت أنك لم ترجع بعد".

"لعبتم البارحة؟. بدوني؟ لماذا لم يخابرني أحد؟".

"حسنا. لم يعلم أحد أنك هنا".

" تعلمون أو لا تعلمون. هل من الصعب جدا أن تخابروني؟. ولعبتم بدوني ولم تكلفوا أنفسكم عناء الاتصال؟. هل هذه هي الطريقة المناسبة لإنجاز الأمور؟".

قالت غوشا مصدومة: "توقعنا.. في الواقع، لم نتوقع".

قاطعها ديما قائلا:" لقد نسيتموني. اعترفي بذلك. هل يصعب على أحد أن يطلب رقمي؟".

غضب ديما وشعر بالاستفزاز. مباريات القدم هذه في إستاد المدرسة طقس مهم. والمشكلة أن ديما هو من أسس بالأصل الفريق، وأنفق وقتا طويلا لتعويد الجميع على إجراء المباريات الأسبوعية، وبعدها القيام برحلات إلى حمامات البخار، وما يتخللها من نقاشات حارة. ولم يكن هذا هو الأهم. كانت المشكلة أنهم لعبوا بدون حضوره، ولم يتصل به أحد. لا أحد. ولا أي شخص. المسألة أنهم كانوا جاهزين ليلعبوا بدونه دون أن يشعروا بالنقصان. واتصلت غوشا - بالصدفة - في اليوم التالي الذي أعقب المباراة. وبعد عدة ساعات من اتصال غوشا، اتصلت صديقة قديمة. كانت تريد أن تعرف إن كان ديما يريد أن يتكلم، بمعنى أنه حر وزوجته غير موجودة.

قال ديما:" بالتأكيد. تكلمي. تكلمي. كل شيء على ما يرام". روت له أنها قامت برحلة ممتعة جدا إلى إحدى الجزر، واستراحت هناك تماما، وأحضرت معها هدية له. قالت:" بالمناسبة يا ديموشكا، عليك أن ترى كيف لوحتني الشمس بلونها". توقع ديما أن صديقته مخمورة وتشعر بالسعادة الغامرة.

سألها:" ومن رافقك؟".

ردت: "حسسسننا. من المؤكد لم أكن وحدي". كانت صديقة من أيام غابرة، ولكن ليس من ناحية عمرها. فهو لم يقابلها منذ عهد طويل، وأدهشته مكالمتها غاية الدهشة. ولكن كلامها "من المؤكد لم أكن وحدي" أصاب ديما. لم تستفزه الكلمات وتلهب غيرته وحنقه، ولكن لم يسبق لديما أن زار تلك الجزيرة. كلا. وقرضت هذه الكلمات استرخاءه.

ثم في المساء وردت مكالمتان بشأن العمل. ليست مكالمتين سيئتين، ولا كانتا مهمتين، ولكن لم يجد ديما شيئا يشارك به. وطيلة يومه ذاك لم يشعل التلفزيون، وتذكره في وقت متأخر، في فترة أخبار المساء. لم تكن الأخبار سارة، ليس الأخبار الأجنبية، ولكن أخبارنا. وفي غضون خمس عشرة دقيقة من الإرسال راى ما يكفي في الوجوه المشدودة للبيروقراطيين والنواب ليعلم أنهم جميعا يكذبون حقا، وأنه لا يوجد أي شيء طيب. ولم يسمع شيئا مهما عن الرياضة، وفاتت ديما نشرة الأحوال الجوية، لأن زوجته اتصلت لتذكره برقم رحلتها الجوية وتوقيت وصولها. نام ديما نوما قلقا في الليلة السابقة لعودة زوجته. واحتاج لوقت طويل ليغرق بالنوم. وفي الصباح رتب الشقة تقريبا. نظف بالمكنسة وسط الحجرات والمطبخ. وحمل الثياب المبعثرة في الزوايا وهكذا، ثم غادر إلى المتجر وأحضر الطعام والشراب، ليكون لديه ما يطعمه لهم بعد انتهاء رحلتهم.

كل هذه الأمور كانت صعبة للغاية. ثم توجب عليه ان يجري مكالمات هاتفية عديدة. كان كل إنسان عائدا من مكان ما، ويريد أن ينضم للآخرين ويتبادل معهم الحكايات. وحينما قاد ديما السيارة إلى المطار، لم تتقدم السيارة بشكل جيد. فهو لم يجلس وراء المقود منذ عهد بعيد، وكانت السيارة مطمورة بالغبار، وحركتها ليست على ما يرام. أما الطقس فقد استمر رائعا. السماء الزرقاء والغيوم الصغيرة والمتباعدة، تصفي الروح... وبدت المدينة بنحو تام ذاهلة عن نفسها وصيفية. والنساء، كما هو حال تموز، ارتدين ثيابا قليلة. ولفتت عيني ديما صورة نسائية، ثم أخرى. وعلى مدخل المطار كانت تجري أعمال صيانة الطرقات. وانبعث منها صوت مدحلة بخارية وماكينة تعبيد طرقات. وكان حاملو المجارف يسترون أنفسهم بجاكيتات برتقالية دون ثياب تحتها. التمعت أجسادهم بالعرق، ومن النافذة المفتوحة هبت رائحة الحرارة الخانقة والإسفلت الملتهب. وكان يبدو لبعض الوقت كأن للصيف قد باشر توا. ورأى في المطار حشودا من الناس. معظمهم يتجه إلى بيته، وآخرون يراقبون رحيلهم. وكان العديد يأتون، عائدين من مكان ما ومسرعين ليضعوا أولادهم في البيت قبل بداية المدارس. وكثيرون بانتظارهم. في صدر الصالة، كانت الأبواب الزجاجية تفتح للمسافرين المشاركين برحلة إثر رحلة. وكان العائدون مصبوغين بالشمس، ويبتسمون بسعادة. وسرعان ما يحتضنهم من وقف بانتظارهم، ثم يلتفتون إلى الأولاد... رأى ديما صديقا يعانق آخر. وكان ديما يعرفه منذ أزمنة بعيدة. في الماضي البعيد. ولم يتذكر اسمه.

سأله الصديق:"من تنتظر هنا؟".

"أسرتي ستعود من البحر".

"وأين كنت أنت؟".

لوح ديما بيده تلويحة نافية وقال: "آههه. أمضيت كل الصيف في المدينة. وأنت، من أين لك هذه السمرة؟".

ضحك زميله وقال: "أنا؟. كنت على السطح. أمضيت الصيف وأنا أعتني بالبيت مع ابني. ولكن أرسلت الزوجة بعيدا. وها أنا هنا لملاقاتها. وأنت كيف أحوالك؟".

"اي أحوال؟. الصيف بلغ نهاياته وأنا أتسكع في أرجاء المدينة. ولم أكسب أية فرصة للاسترخاء. حسنا. نلتقي فيما بعد". وتبادلا المصافحة. بعد خمس دقائق شاهد ديما صديقه يحمل حقيبتين ضخمتين، وخلفه تسير امرأة ضخمة بثوب خفيف. وكان يبتسم لنفسه وهو يمشي. وفجأة شعر ديما بالسخط من الكذبة التي ألقاها على مسامع صديقه المنسي. لماذا قال له إنه أمضى صيفه وهو بحالة سيئة؟. ولماذا قلل من أهمية رخاء الصيف الذي مر عليه؟. قد لا يمر عليه صيف رائع مثله. تأخرت عدة رحلات لأسباب مختلفة. والرحلة التي كان ديما بانتظارها ستتأخر ساعتين. ولم يجد حكمة في العودة إلى المدينة، ثم القدوم مجددا إلى هنا. ولذلك تسكع، وتجول قليلا، ثم نام في السيارة... لاحقا أعلن مكبر الصوت أن الرحلة ستتأخر ساعة إضافية. وتورمت مشاعر ديما. وجاء في ذهنه:" هذا آخر يوم في الصيف، وأنا أقتله هكذا". اشترى صحيفة، ولم يتمكن من قراءتها. لم يتحرك شيء في داخله. والاسترخاء لم يشفع له. وها هو يشتاق فعلا لزوجته وابنته. واشتاق لابنه. ولكنه سيعود بعد يومين. لقد اشتاق لهم جميعا.  وحين كان يفكر بهم، ارتاح وجهه، ومال رأسه قليلا إلى اليسار. وتراجعت أصوات المطار. أخيرا قابل عائلته. حضن ابنته ورفعها عاليا بين ذراعيه الممدودين، ثم قبل زوجته. وانتظروا حقائبهم. وكانت ابنته تثرثر دون توقف، وتعرض عليه هذا الشيء وذاك، وترقص له. وأخبرته زوجته عن معاناتهما الفظيعة بسبب التأخير المزعج. وحاول ديما أن يصغي بانتباه.. ولكن في الواقع كان يصغي للاسترخاء الذي احتله من الداخل..

هل هذا الاسترخاء موجود؟ هل هو مستمر معه؟ كان الليل يخيم وهم يعودون بالسيارة إلى البلدة. نامت ابنته في المقعد الخلفي - بوضعية لا تتوقعها من بالغة. وبدأت جينيا بترتيب قائمة الأمور التي يجب القيام بها في الغد. وأوضحت أنه عليه أن يخرج صباحا ويشتري لابنته حذاء ولوازم أخرى كثيرة للمدرسة. وافق ديما وابتسم وهو يفكر... كلا، لم يفكر، فقط نظر إلى عينيه المسترخيتين، حتى لا ينسى شكلهما. نظر لبعض الوقت إلى العالم بهاتين العينين - وانتابه الرضا. وأراد أن يتذكر تلك العينين بعد أن يودع هذه الحالة. وحينما وصلوا إلى المبنى كان الوقت مظلما تقريبا. قالت زوجته: "آه، يا لهذه المقاعد الجميلة التي أضافوها. هذا ما نحتاج له، شيء جميل".

نظر ديما، بالتأكيد، شاهد أنهم أقاموا بعض المقاعد الجديدة قرب المدخل. تساءل: متى أضافوها؟. فهو لم يلاحظ ذلك. رد ديما فورا:" نعم، نحن لا نهدر أوقاتنا هنا بلا طائل". قبل زوجته، ثم باسترخاء وحرص جر ابنته من السيارة، بينما تكفلت زوجته بحمل الحقائب الكبيرة وحقيبة اليد من صندوق السيارة. وتابعوا إلى المدخل. كانت ابنته تتعرق بنومها. حضنها ديما بقوة. كانت مائلة للأسفل وشعر بثقلها وحجمها. وكان لشعرها رائحة الشمس والريح والبحر. قال ديما لنفسه:" أنت دافئة... يا جميلتي". تكلم بصمت تقريبا. وحينما فتحت زوجته باب المبنى، نظر إلى الخلف بسرعة نحو الباحة. وتعلق بصره بأعلى شجرة قيقب كانت تتتسامى فوق البتولا وشجر المران. كانت القيقب طويلة، طويلة جدا. وقبالة الظلام الدامس الذي أغلق السماء أمكنه أن يلاحظ أن القيقب كتلة خامدة، لا ترتعش على الإطلاق. طرف ديما بعينيه، وانصرف عنها، وحين دخل المبنى ابتسم وقال مرغما: وداعا...

***

15 أيلول 2004

....................

* الترجمة من الروسية بول ي. ريشاردسون    Paul E. Richardson ناشر مجلة "الحياة الروسية" و"شتينيا: قراءات من روسيا" وهي فصلية أدبية. يحمل إجازة الماجستير في العلوم السياسية.

يفغيني غريشكوفيتس Yevgeny Grishkovets ولد في كيموروفو عام 1967. درس فيها فقه اللغة. له مسرحيات وألبومات موسيقية. من أهم مؤلفاته المطبوعة: المدينة 2001، كيف أكلت كلبا ومسرحيات أخرى 2003 (مسرحيات)، القميص 2004 (رواية)،  الأنهار 2005 (مذكرات).

أليس كاري ( 1820/ 1871)

ترجمة: آسيا رحاحليه

***

يقولون إنّنا تزوجنا وتعتقدُ أنك فزتَ بي

حسنًا، خذ من على رأسي هذا الوشاح الأبيض

وانظر إليّ..

هنا أمر سيغيظك..و أمر سيحزنك

هنا شكٌ لأرتابَ بك.. وإيمانٌ لأصدقُك

أنا كلُّ ما ترى..

تربةٌ شائعة، ندًى مشاع..

كن حذرا، وشكّلني على الورود لا على  السّذاب..

*

آه..تخلّص من هذا الشيء الشفّاف، طيّة بعد طية

و انظر إذا ما كنت تملكني لكي تحتفظ بي وتظلّ معي

انظر إلى قلبي عن قرب- واعرف أسوأ ما في خطيئته-

إنه ليس لك اليوم بالنسبة لفوز الأمس

الماضي ليس لي..

أنا مفرطة في الكبرياء لكي أقترض..

يجب أن ترتفعَ إلى قمّمٍ جديدة إذا أحببتك غدا.

*

لدي أجنحة منبسطة  ومخبّاة تحت وشاحي

إنها خفيّة مثل الضوء لا يمكنك إتلافها  أبدًا

و سريعة في طيرانها ..لا يمكنك اللحاقَ بها أبدا

و رغم جميع الشباك وكلّ القيود

يمكنني الانزلاق من بين يديك، مثل ظلٍّ، أو حلم..

*

كلاّ..لا تسمّني قاسية، ولا تخشى أن تأخذني

أنا لك مدى حياتي.. لأكون ما سوف  تصنع منّي

لأرتدي وشاحي الأبيض كرمزٍ  أو كغطاء

حيث سوف تثبتُ أنك سيدي.. أو حبيبي.

غطاء للسّلام الذي مات..

أو عربونَ نعيم لا يمكن أبدا أن يُكتب أو أن يُقال.

***

قصة: (أولاد العنزة)

للكاتب وليد معماري

نقلها الى الروسية إسماعيل مكارم  

***     

Валид Миамари «Дети козы»

Перевод с арабского языка

И. Ф. Макарем

I

Мы обычно звали ее тётушкой.  Конечно,  в глубине души я осознавал, что  это на самом деле никакая не наша тётка и не потому, что она во многом отличалась от членов нашей семьи, а потому, что я точно знал, что у моего деда не было дочерей, а были одни мальчики, которые, повзрослев, все эмигрировали в Чили, за исключением  моего отца.

Мой отец считал, что эмигрировать равносильно тому, что умереть, и когда он получал письма  от братьев, то смотрел на них как на послание с того света. Он с трепетом вскрывал их, со страхом вчитывался в строчки, и его лицо при этом походило  на цвет миртового кустарника. А когда он зачитывал их моей бабушке, то его голос дрожал,  но тем не менее он старался говорить басом, чего я ранее не замечал в его речи.

II

Пришла тётя и прошла в комнату моей матери. Дверь нашего дома, как и все двери в деревне, всегда была распахнута настежь, за исключением тех дней, когда на дворе шел дождь.

Я отправился в угол,  занимаемый бабушкой в последние пять лет её жизни, и радостно закричал: «Бабушка…бабушка… Пришла Ум Махмуд

Какая Ум Махмуд , мальчик?»  «Да наша соседка,  мать Махмуда».

Она засовывала руку под мышку, как будто хотела достать оттуда кусочек сахару,  улыбаясь при этом,  и показывала мне, чтобы я подошел поближе, я подходил к ней, но не из-за сахара, которым она меня манила, а под воздействием ауры добра, исходившей от неё. При этом я думал, что она хотела поцеловать меня в щеку. Однако она хватала меня за ухо и трепала его так, что у меня на глазах выступали слёзы, приговаривая при этом:

«Это твоя родная тётка  мальчик, а не соседка!». Мое ухо оставалось в её руке до тех пор, пока не подходила тетка и не забирала меня от неё.

III

Хотя Ум Махмуд не была нашей тёткой, она во многом походила на женщин нашей семьи…была высокой и стройной, но более сумуглой.

Когда дядя Рашван прислал свадебную фотографию своей дочери Роз, то  по одежде и прическе та была как бы улучшенной американской копией Ум Махмуд. И моя мать, передав эту фотографию тете, воскликнула: «Ей-богу, клянусь моими детьми, как она похожа на тебя!». И,  когда наконец фотография  попала ко мне, как самому младшему члену семьи, я, не поверив словам матери, стал внимательно рассматривать черты лица родственницы, а затем глянул на обожженное солнцем лицо Ум Махмуд и вдруг увидел, что она плачет!

IV

И все-таки мать Махмуда – не моя родная тётка,  хотя наказание моей бабушки, когда она трепала  меня за ухо (как мне казалось, из-за этого у меня всю жизнь одно ухо будет длиннее другого), заставило меня называть её моей тёткой. И никому не приходило в голову, что я не любил навязанную мне тетю. Свидетельством этому является тот факт, что, когда я заболевал и отказывался пить горькие со страшными названиями лекарства, настоянные на полевых травах, мои родные звали Ум Махмуд, и я с удовольствием с её подачи выпивал эти ненавистные лекарства.

Однако во всем этом крылась какая-то тайна, ждущая своей разгадки. Вы можете высказать любые догадки, близкие к реальности, например, что Ум Махмуд является моей молочной теткой! Однако такая мысль никогда не приходила мне в голову, так как я не знал, что могут быть молочные братья!

V

Моя мать иногда посылала меня домой к женщине по имени Умм Аль Вафа. Её дом стоял на отшибе села. Я звал её тётей, хотя между нами не было близкого родства и наши дома стояли далеко друг от друга. Меня посылали к ней за термометром. Я боялся эту женщину, и одновременно что-то в ней притягивало меня… Однажды, когда  мама начала кричать от боли в животе, меня посылали позвать Ум Аль Вафа, и я понесся изо всех сил, с тем чтобы побыстрее позвать эту женщину. Но вместо того чтобы поспешить к моей страдающей матери, она продолжала ласкать длинными смуглыми пальцами кота по кличке Анбар, спокойно и снисходительно относившегося к её ласкам и солнечным бликам, которые попадали в дом в разрывы между облаками. Мне казалось, что Ум Аль Вафа не в состоянии выбраться из дома раньше захода солнца, чтобы не огорчить её избалованного кота. Иначе что еще могло задержать её, несмотря на крики моей матери, которые, как мне казалось, доносились даже до её дома.

Казалось, что и отец оставался равнодушным к страданиям мамы, поскольку он просто взял лопату и, уходя, сказал бабушке, что сегодня наша очередь поливать огород из общественного канала.

Тетка Ум Аль Вафа выгнала меня из комнаты, в которой находилась мама. Я вышел поиграть в прятки с детьми тётки Ум Махмуд.  Обычно  мы играли  в эту игру в сумерках.

Когда я вернулся домой, мать носила в руках нечто похожее на кота Ум Аль Вафа, однако, без волос. Это существо, которое было завернуто в белые тряпки, кричало. Мне сказали, что Ум Аль Вафа сотворила его, чтобы оно кричало от боли вместо мамы и что Ум Аль Вафа и меня сотворила тем же способом несколько лет тому назад.

Я и боялся  её, и одновременно тянулся к ней, так как думал, что если она может сотворить детей, то она же сможет их превратить в лягушек. Но, наверное, она любит меня, так как часто гладит меня по головке и до сих пор этого не сделала.

VI

Однако в этот раз я был отправлен в дом Ум Аль Вафа именно за термометром. У моего брата, которого сотворила Ум Аль Вафа и который стал ребенком, способным выговаривать буквы (к) и (г) и говорить «аку» «агу», а также улыбаться мне, внезапно поднялась температура.

Когда я вошел в дом. Ум Аль Вафа, бросая какие-то, по-видимому, вкусные куски своему коту, который  ловил их на лету, спросила меня:

«Ну, как твоя  тётка

«Какая тётка?».

«Гм,гм! А сколько у тебя теток мальчик?».

«Ни одной».

«Мальчик, а разве Ум Махмуд не твоя тётя?».

«Не моя. У деда были только мальчики.

«Запомни, мальчик, Ум Махмуд – твоя тётя. Твой отец и она дети козы».

VII

Меня покоробило слово «коза!». Я шел домой и нес картонный футляр с термометром. Иногда я спешил, иногда замедлял ход. Я часто останавливался у глинобитных стен, побеленных известью, как будто хотел найти ответ на мои вопросы.

А что бы было, если бы на стене были написаны  определенные слова, а я не мог бы их прочитать?

Каждый раз учитель, потрясая указкой, говорил: «Читай». Я читаю, а он недовольно спрашивает: «А кто тебя учит читать дома

«Бабушка».

Он стучит по обуви и, усмехаясь, говорит:

«Твоя бабка Ум Халиль?».

«Да, она моя бабушка».

«Да твоя бабушка не отличит буквы алиф от указки».

Однако моя бабушка прекрасно знала разницу между алифом и указкой и часто говорила о моем деде, который достиг 60 лет, а его спина была такой же прямой, как буква алиф. И это факт. Он был худым и высоким, но с течением времени его спина оставалась прямой. Поэтому, когда его укладывали в гроб, то пришлось подогнуть колени. При этом крышка гроба оставалась приоткрытой и ее пришлось скрепить веревкой. Чтобы она не упала.

Когда я бежал по школьному двору с тем, чтобы не быть пойманным, я столкнулся лицом к лицу с учителем Абду. Я бы продолжал бежать, если бы его бамбуковая указка не коснулась моего плеча. Это означало, что я стал пленником его указки.

«Скажи-ка, как это твоя бабка учит чтению, если она не знает букв, кроме буквы алиф?».

«Я читаю, а она в это время кивает головой. Когда же я ошибаюсь, то ее подбородок замирает у груди и остается в таком положении, пока я не исправлю ошибку». Иногда учитель начинал бить себя по ладони указкой. Вероятно, его задевало то, что моя бабушка учила меня чтению лучше, чем он.

Итак, термометр у меня в кармане, а мне трудно пройти мимо водопроводной колонки и не почувствовать жажды. Я напился ледяной воды и подставил голову под струю, из-под колонки. Естественно, я промок. Я вынул термометр из картонного футляра и подумал о том, что если он измеряет плюсовую температуру, то  почему бы им не измерить и минусовую. После этого я сунул термометр под струю воды. Мои руки моментально закоченели; между тем столбик термометра остался неподвижным.

Вернувшись домой, я отдал термометр маме, передал ей привет от Ум Аль Вафа и попросил, чтобы она вернула термометр как можно скорее. Затем я прошел к бабушке, как спокойный и воспитанный мальчик. Я потянулся к руке бабушки, чтобы поцеловать ее, но она отказала мне в этом, объяснив, что целующий руки всегда обманывает. Я понурил голову, загрустил, будто бы выражая тем самым уважение к одиночеству, в котором все эти дни пребывала бабушка. Но она осталась равнодушной и внушительно спросила меня: «Что ты украл, мальчик?».

«Я ничего не украл»

«Дай-ка мне понюхать твою руку».

Я подал ей  свою руку, и она сделала вид, будто нюхает ее; затем, якобы исходя из этого, она делала заключение о том, что я не виноват и ничего не крал. После некоторой задумчивой паузы, которая возникла между нами, я, подражая ее голосу, которым она обвинила меня в краже, спросил:

«Бабушка, а что это за история с детьми козы?».

«Кто тебе сказал об этом, мальчик?».

«Ум Аль Вафа. Она говорила, что твои дети и дети УМ Махмуд, извини меня, дети тети Ум Махмуд, братья, потому что они дети козы».

Бабушка внутренне напряглась, но попыталась скрыть это улыбкой. Затем повторила, как бы  разговаривая сама с собой: «Дети козы… Дети козы… Да мы все дети Адама, дети козы…».

«Авель принес в жертву богу козу, и бог принял ее»,

Меня в этом рассуждении смущала мысль о том, что бог принял в жертву козу от  Авеля. Какая-то внутренняя  сила толкнула меня сказать: «Батюшка Василюс говорит о том, что Авель приносил в жертву теленка… А бог не принял бы и телочку. А ты говоришь козу!!!»

«А разве батюшка Василюс присутствовал при этом

Тогда я не мог подтвердить, был или не был батюшка Василюс там в момент жертвоприношения. И седая борода батюшки Василюса отнюдь не доказательство этому факту. Я очень сожалел о своем несогласии с точкой зрения бабушки и чувствовал, что она уводит меня в сторону от этой истории.

Сейчас, конечно, уже трудно вернуться к этому вопросу. Летом я отложил его в сторону, но отнюдь не забыл о нем.

VIII

Я вернулся в школу, хотя лето еще не закончилось. Как ни странно, я не ссорился с сыном тети Ум Махмуд, как это бывало ранее. Случилось что-то неприятное. В прошлом году мы сидели с ним за одной партой в первом ряду. А в этом году учитель Абду оставил меня  на том же месте и пересадил Махмуда на последний ряд. И я вдруг открыл для себя, что Махмуд стал выше меня ростом.

В день, когда мы приступили к занятиям в школе после летних каникул, я еще не знал секрета его роста. Я был уверен, что утром он надевал брюки, соответствующие его росту, а когда учитель Абду рассаживал нас по местам на первом уроке, я заметил, что брюки ему коротки. Это занимало меня до конца учебного дня, так как я боялся, что Махмуд не выйдет играть в «прятки» в коротких брюках. Когда мы шли домой, я его спросил:

«Махмуд, ты придешь играть?».

«Я-то приду, а вот ты наверняка не придешь, так как будешь занят посылкой, которую твой дядя прислал тебе из Чили».

Но меня совсем не интересовала посылка из Чили, и я, бросив свой портфель в угол, уходя на  пороге был остановлен мамой, которая потащила меня в комнату бабушки. Перед бабушкой лежала куча одежды из посылки, преимущественно  женской, а тётя Ум Махмуд расположилась позади бабушки. Бабушка своей палочкой подняла из этой кучи шерстяную кофту и почти что сунула её мне в лицо, сказав при этом

«На, возьми, зимой это тебя защитит от холода».

Кофта была черной с желто-фиолетово-красным оттенком. Меня эти цвета просто поразили. Наверное, мне передалось по наследству восприятие от отца, который видел в письмах и бумагах из Чили нечто потустороннее. То же самое я видел в кофте с удивительными цветами и в куче одежды из посылки…  Затем я убежал играть на улицу.

IX

За лето и осень я совершенно забыл об истории козы. И только когда в воздухе закружились первые снежинки, я побежал к бабушке посмотреть на ее камин и, в надежде получить три грецких ореха, стараясь выглядеть хорошим мальчиком. Бабушка достала миску с виноградным сиропом и поставила ее между нами.

«Поешь, это тебя согреет».

«Я не замерз».

Однако она своими худыми пальцами двигала миску в мою сторону как бы невзначай, желая соблазнить меня. Я, чтобы подразнить ее, глубоко засунул палец в миску, потянулся к ней ртом и начал с аппетитом есть. Это было скорее желание разозлить бабушку, а не  насладиться сиропом. Наверное, мой аппетит передался и ей, и мы сообща быстро опустошили миску. Виноградный сироп без орехов вызвал у меня желание притвориться сонным, что было немедленно пресечено бабушкой, которая постаралась вспомнить и повторить со мной некоторые  молитвы на русском языке.

Это были те молитвы, которым, как она считает, научил ее посланник царя Николая Романова по имени Иван Ростентов. И я вспомнил, что, когда выпал первый снег в прошлом году, мы сидели за миской с виноградным сиропом, зазвонил деревенский  колокол, и моя бабушка сказала: «А знаешь ли ты, мой мальчик, что сам царь был в меня влюблен?».

«Царь?!..Царь..?!»

«Да, сам царь…»

«Как

«Возможно, этот самый Ростентов, после того как научил меня молитвам, описал меня царю Романову, и он влюбился в меня и подарил нашей деревне этот колокол».

Приближаясь к камину, в котором, треща, ярко горели ветки кустарника, я сказал: «Бабушка, но у тебя же нет доказательств». Бабушка выпрямилась, сунула в камин большую ветку, сказав при этом:

«А колокол, который звонит? Ты что, глухой? Он повторяет мое имя. Мир…ям…Мирья…м.м.м..Дан…Дон…А зовут меня Мирьям Ал-Дондон».

Я попытался ее раззадорить:

«И откуда взялся этот Иван

Она с сожалением покачала головой и промолвила:

«И чему вас только учат на уроках истории?! А разве вам не говорили о том, что Россия отправляла миссию в нашу деревню, чтобы учить нас русскому языку?!»

«А зачем

Мой вопрос был для нее неожиданным, она даже не сразу ответила на него, лишь заметила: «Не знаю, не знаю, вероятно, чтобы мы в своих молитвах поминали царя!».

Казалось, она была довольна тем, что нашла ответ на мой вопрос. Затем бабушка протянула руку, взяла позади себя два ореха и отдала их мне. Я воспользовался случаем и спросил:

«Бабушка, ты так и не рассказала мне о той козе, детьми которой мы являемся!».

Бабушка сказала, что она слышала о такой вещи, которая называется самолет и что это якобы летающий конь с железными крыльями. Однако одно дело слышать, другое – увидеть. «Наша деревня – продолжала бабушка, - не видела ничего летающего, кроме полевых птиц, ворон, а также ласточек и журавлей, которые осенью улетают на юг.

В этот раз в небе над деревней действительно появились железные летающие кони. Твой дед тогда говорил, что это самолеты французов, которые прилетели, чтобы выведать, где расположены позиции повстанцев. Однако страх есть страх».

«Некоторые говорили, что самолеты сначала все разведают, а потом будут бомбить».

Она пыталась руками показать, как они летают, а низким голосом передать их страшный гул.

Почувствовав, что я понял, что такое самолеты, она продолжала: «Испуганные люди спешно грузили свои пожитки на  ослов и мулов и говорили, что надо бежать в пустыню. А уж если французам захочется бомбить, то пусть бомбят пустые дома».

«Зачем прилетали самолеты и бомбили дома, - не выдержав, - спросил я». Она снисходительно отнеслась к моим словам и сказала, что самолеты на самом деле бомбили не дома. А людей, уходивших в пустыню, приняв их за повстанцев.

При этом дома содрогались при разрыве каждой сброшенной бомбы.

Бабушка подняла сжатые в кулак руки и потрясла ими. При этом ее тело задрожало, и она попыталась извлечь из себя звуки, напоминающие взрывы бомб. Потом она замолчала, но тело ее оставалось в напряжении, она как бы снова испытала ужас воспоминаний тех дней. Я сидел, прижав колени к груди, и пристально смотрел на горящие в камине угольки. Снова раздался голос бабушки: «Я и твой дедушка не ушли, как все, в пустыню. Я в то время как раз родила твоего отца. Дома также осталась наша соседка Ум Гдибан с мужем, так как она тоже за два дня  до этого родила дочь Зейнаб, т.е. твою тетю».

«А как же коза?».

«Не торопись», -  сказала бабушка, и ее рот был словно пещера, в которой отражается эхо.

И она продолжила:

«нас охватил страх от доносившегося грохота, казалось, будто бы вулканы извергались вокруг нас, что это смерть пришла к нам, а дома вокруг нас станут нашими могилами. Мы обратились к Всевышнему, чтобы он спас наши души. Он услышал мольбы, и самолеты внезапно исчезли, как и появились. От перенесенного страха у меня пропало молоко, а когда твой дед пошел проведать соседку Ум Гдибан, то узнал, что у нее тоже пропало молоко».

Бабушка замолчала, желая, чтобы я угадал концовку этой истории. Пауза затянулась. Я опасался. Что она забыла, о чем говорила до этого момента, тронул ее за колено и спросил:

«А как же коза?».

Она ответила без желания продолжать этот разговор:

«На этом история закончилась. Твой отец и Зейнаб пили молоко нашей козы со звездочкой на лбу. Так они стали молочными братом и сестрой».

«Ты имеешь в виду, что коза стала матерью для них

Она помахала пальцем перед моим лицом  и недовольно сказала:

«Ох, как я устала от тебя и твоих вопросов!».

Затем бабушка откинула голову на подушку и сидя уснула.

Х

Сын тети,  Махмуд перестал расти. Свидетельством этому было то, что расстояние между отворотом его брюк и обувью оставалось как раньше. Четыре-пять пальцев. А так как он был высоким, то сам себе присвоил право лидера в наших играх во время таяния снегов на улочках нашей деревни, даже когда их  граница перемещалась на склоны Западной горы. Это вызывало во мне ревность, особенно оттого, что мяч вместе с другими вещами мы получили от дяди из Чили. Однажды во время игры я напомнил ему об этом. Наша игра продолжалась. Однако рвение Махмуда постепенно снижалось. Он забрал свой портфель и школьную форму, лежавшие в стороне на лавочке, и ушел. Я догнал его и громко позвал:

«Постой, Махмуд

Он молча обернулся.

«Почему ты перестал играть

Он ответил, опустив руки:

«У меня нет желания играть!».

Я схватил его за грудки:

«Ты ушел из-за того, что тебя не хотят видеть лидером или вообще не хочешь играть?».

Губы его скривились, он не ответил и попытался сделать шаг назад. Я потянул его за рубаху, она порвалась, и из-под нее выглянула кофта странного черно-желто-красно-фиолетового цвета. Моя рука невольно опустилась, и я увидел в его глазах выражение горечи. Это продолжалось какой-то миг. Затем он резко повернулся и ушел, оставив после себя чувство гордости.

Да он, наверняка, не заплачет!

Примечания:

Этот рассказ был напечатан в ежемесячном журнале «Аль Араби» в августе 1997 г. за №465.  Он занял первое место в конкурсе «Лучший рассказ» Автор – сирийский писатель Валид Миамари.

***

.....................

 * راجع مجلة العربي العدد 465 لعام 1997. قصة (اولاد العنزة) للكاتب السوري وليد معماري أو راجع مجموعة أعمال وليد معماري.

بقلم: ليندا بوروف

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

- لن تخمن أبدًا من اتصل بي هذا المساء!

يمكنني أن أتذكر قول والدتي. كان وقت العشاء، وكانت عند الموقد تنقل شيئًا متكتلًا من مقلاة إلى الطبق الكبير. كنا - والدي وأخي ليستر وبرادلي ويليس وأنا - في الطرف المقابل من المطبخ، نجلس حول طاولة طعام صغيرة من الفوروميكا ذات اللونين الوردي والرمادي.

- من؟

تساءل برادلى ويليس وفمه مكتظ بشريحة من اللحم.

قالت أمى وهى تنظر إلى أبى:

- هيلين ليم، تتذكر هيلين ليم من ربيكا لودج،

قال والدي وهو يضع شوكته ويمسح فمه بالفوطة:

- جيز.... أكيد هيلين وويلي ليم.

قالت أمى:

لقد انفصلا، كما تعلم منذ عامين، ما تزال هيلين تعيش في شارع 41، لكن ديلى انتقل إلي هوليستر.

قال أبي:

- حسنا.... بحق الرب

وضعت أمي ملعقتها، ولتفتت لتواجهنا جميعا:

- يبدو أن هيلين تعرضت لمأساة، اقتحمت شقتها وسرقت ليلة أمس.

سأل برادلي ويليس:

- هل أمسكو بالرجل الذى سرق؟

قالت أمي:

- لا

أغلقت قارب الطعام، ثم أضافت:

- كانت هيلين تتناول طعام الأفطار وحدها في مطعم تيفانى، وعندما عادت إلي المنزل كان الباب مفتوحا، وقد ضاعت كل فضتها وبروش أمها وعدد ساعات وأشياء أخري أيضا.

- مثل ماذا؟

- لا شىء يا برادلي، أشياء شخصية علي أية حال لقد طلبت منها أن تحضر إلي هنا وتمكث معنا عدة أيام، تقول أنها تأخذ مهدأت وتسمع ضوضاء.

ثم كانت هناك وقفة.

قال أبي:

- يا للجحيم.

- حسنا آل، كان هذا أقل ما أستطيع فعله.

- لا يا مني، لقد كان كثيرا، أعني، أنها لم ترفع ساعة الهاتف منذ ثلاث سنوات، لماذا أنت؟

- لكنني لم أرفع ساعة الهاتف أيضا.

- حسنا... حسنا

رمي أبي فوطته فوق طبقه ووقف.

همس برادلي لأخي ليستر:

- أتسائل ماذا كان الرجل ملقى علي الأرض.. سمعت أن لصوص القطط دائما ما يتركون بطاقة اتصال، أعني المحترفين من اللصوص.

قلت بصوت عال:

- برادلي، لا أتمني أن تشعر أنك غير مرحب بك في منزلنا.

قال ليستر ساخرا، ثم قهقة مع برادلي.

- فقط لا تشعر بنفسك أنك في منزلنا.

- لكن يرجي تهذيب لغتك أوغادر المكان.

رد ليستر في عنف وقسوة يحتفظ بهما لي دائما:

- ابتعدي عن مؤخرة برادلي، هل يمكن ذلك؟ ألست في علاقة حب معه أو شىء مثل هذا؟

كذبت:

- لا. لست في حالة حب مع صديقك البغيض أنا أحب يومي ريدل.

وهكذا، في المساء التالي وقت العشاء،رن جرس الباب وكانت هيلين ليم، تحمل حقيبة سفر في يد وباقة من الزهور في يدها الأخري، عندما رأت أمي أجهشت بالبكاء، كانت أمرأة صغيرة في أواخر الثلاثينات، ذات عيون عسلية بارزة، وشعر شاحب مفضض من جهتى الفودين. كان مؤخر عنقها عاريا من الخصلات، وبرزت عظام وجها التي كانت جيدة... أنزلت حقيبتها واستدارت نحوى أنا وليستر وقد شبكت يديها مع صدرها.

قالت وهي تنتحب من جديد:

- هكذا.. هؤلاء هم الأطفال.

تمتم أبي بصوت منخفض،

- يا إلهي.. إنها مجنونة.

ثم قال بصوت عال:

- مرحبا هيلين.. مم.. كيف حالك؟

جهزنا لها مأوي في الطابق السفلي،غرفة نوم مؤقتة باردة مغطاة بألواح خشب الصنوبر الصلبة، ورائحة الخراسانة. علقت ملابسها في خزانة من خشب الأرز كانت تحتوي أيضًا على زي أبى القديم فى سلاح الجو. قبل لحظات من وصولها، أزال ليستر مجموعة كبيرة من المجلات الإباحية من تحت السرير.

قالت أمى:

- آمل أن تكون هذه على ما يرام.

كانت بدينة تضع فى قدميها شبشب أحمر، ورأسها مغطى بضفائر مدبسة. أضافت:

- وهنا تلفزيون قديم. إنه شنيع، لكنه يعمل.

بكت هيلين:

- شكرا.. انت طيبة جدا.

قالت أمى، هى وعانقتها:

- لا أريد سماع ذلك.

غادرنا ووصلنا إلى الطابق العلوي لتبادل الآراء. كان أبى يستمع إلينا من وراء مجلد ضخم لجون جونتر، يتذمر بسخرية بين حين وآخر. كنا جميعًا ننتظر بفارغ الصبر عودة هيلين للظهور والتحقق من صحة أو تناقض تكهناتنا، لكنها لم تظهر على الإطلاق خلال ذلك المساء أو خلال أي أمسية أخرى. قبعت في الطابق السفلي مثل سكان الكهوف لمدة ثلاثة أسابيع، وقد سمعناها تبكي أكثر من مرة عبر الشبكة.

كنت في الرابعة عشرة من عمري في ذلك الوقت، وكان طولي ستة أقدام تقريبًا، ونحيلة من القلق الاجتماعي، ومدمرة بفعل الهرمونات الشرسة. كنت راسبة في الرياضيات. لم أستطع الرقص. كان أنفي يلوح في الأفق كبيرا ضخما، ممتلئا بالرؤوس السوداء. نما شعري بشكل وحشى ومشين، وبرز في جميع الاتجاهات مثل الكوميدي الفودفيل. كنت أعيش في أعمق فترة المراهقة، أحتقلر نفسي بقوة شيطانية فاسدة.

في المقابل، بدا أخي ليستر هادئًا وقويا مثل الذئب. قام بتمشيط شعره بمنشفة وعلق بفخر أحزمة الرياضة الضخمة الخاصة به في جميع أنحاء الحمام، بينما كنت أعلق حمالة صدري الملساء على مقبض الباب، حيث كانت تتدلى بشكل مثير للشفقة مثل هيكل عظمي لطائر صغير.

تفاهم ليستر وأبي مع بعضهما البعض بلغة غامضة من الصراخ والقهقهات والألفاظ النابية. قاموا بلكم بعضهما البعض بشكل هزلي على الدالية ولعبة الرست. كانت هيلين ليم، لغزًا مزعجًا لي ولأمى، التى كانت بمثابة مزحة دائمة لهما. أطلقا عليها اسم "تلك الكرة اللولبية العريضة". كل صباح في السابعة، كانت هيلين ترتدي ملابسها وتخرج لوظيفتها كسكرتيرة للمشرف على مصنع لتعليب الفطر. كانت تعود في السادسة، وتوقف سيارتها القديمة( دي سوتو ) بعيدًا عن ممر سياراتنا، وتعتذر عن دخولها من الباب الأمامي، عبر المطبخ ونزولًا من السلم. فقط بعد انتهاء عشائنا الصاخب، كانت تخرج لكى تعد لنفسها صينية من الحساء والخبز المحمص ثم تنزل مرة أخرى، وأطباق الصينى تصلصل بشكل خفيض.

كانت أمي تقول بعد كل خروج ليلي لها:

- المسكينة. "لقد كان هذا كثيرًا عليها.

وفهمت. بعد كل شيء، أن أمامها سلسلة كاملة من المشكلات القانونية. وأن ثقتها بنفسها التي ترسخت بعد طلاقها مما وصفته والدتي بـ "ثلاثمائة جنيه من المخلل الخشن  كان بمثابة ضربة قوية لها.

قال لي برادلي ويليس بعد أن مكثت هيلين أسبوعين معنا:

- هل أستطيع أن أسألك سؤالا؟ كيف تتحملونها يا رفاق هنا؟ لا تغضبى.

- لماذا أغضب؟ لا يهمني رأيك. وإذا كنا استطعنا تحملك، يمكننا بالتأكيد أن نتحملها

- أعني، ماذا تفعل هنا؟

- حسنًا، إنها خائفة. أليست كذلك؟

قال، وهو يضيق عينيه ويركز على نقطة أبعد مني:

- لا . يبدو لي، أن آخر مكان يرجح أن يعود إليه السارق مرة أخرى هو شقتها. أعني أنه بعد قام بنهب كل شىء، من المفترض. إذن. لماذا لا تذهب إلى المنزل؟ ستضطر إلى الذهاب إلى المنزل في وقت ما.

- ربما لأنها وحيدة.

... إذن لماذا تتسكع هنا مثل بعض سكان الكهوف بدلاً من -

- بدلا من ماذا؟

- لا يهم. علي أن أفكر في هذا أكثر وأكثر.

وانطلق متمايلًا، وشفتاه في صافرة صامتة.

كانت ذكاء برادلي "فلكيًا"، كما أبلغتني أمى فى بداية وصوله هنا لأول مرة. فقد تعلم القراءة بشكل عفوي في سن الثالثة ثم تخطى صفا دراسيا. ولكن الآن، وهو في السادسة عشرة من عمره، أصبح برادلي ويليس يعيش فى أحلام اليقظة، ومهرجًا، وصارت درجاته ضعيفة، وقد أضاع براعته في تزوير الأعذار للحضور أو اختلاق أمراض غريبة أثناء الدراسة الصفية.

لا أستطيع أن أقول بالضبط متى أدركت لأول مرة أنني كنت في حالة حب مع برادلي ويليس. أتذكر أنه في بداية العام، بدأ رنين صوته يزعجني ويجذبني، وبدأت في استفزازه بشكل أخرق، محترقًة بالإذلال لعلمي أنني حمقاء.

نتفت حاجبى بالكامل، وملأت حمالتى الصدر، ورسمت عيني. ظهرت في يوم من الأيام مرتديًا نقوشًا وكرينولين، وفي اليوم التالي بالأسود الجنائزي. لقد تأثرت باللهجة البريطانية. في وقت النوم، كنت أشغل جهاز الراديو المحمول وسيختفى ملل غرفة نومى الأصفر، ليحل محله المشهد المبهر لفرقة أمريكان باندستان، وأصبحت الفتاة الجديدة في العرض، وكان برادلي شريكي بشكل منتظم. تحيطنى ذراعاه بإحكام. يضرب خاتمه على صدري الرقيق بينما كنا نتجول بين صفوف الراقصين المعجبين، وأعيننا مغلقة. ساعة بعد ساعة في الظلام، رقصت التوست مع برادلي ويليس على منصة الفرقة الأمريكية لنفسى.

ليس من المستغرب أن هوسي بالعرض كان مزحة عائلية. وبالتالي، ما زلت في حيرة من تخلف أبى عن الخروج في أيام الجمعة في الرابعة، بينما كانت أمى بالتأكيد في مساعدة الصليب الأحمر وليستر في تدريب كرة السلة، كنت متأكدة بنفس القدر من أنني في المنزل، ملتصقة بالتلفاز.

هذا هو المكان الذي كنت فيه عندما سمعت لأول مرة الأصوات القادمة عبر الشبكة الحديدية فوق غرفة نوم هيلين ليم. في البداية، لم أنتبه. ثم خفضت صوت التلفزيون وجلست على الشبكة على يدي وركبتي، وضغطت أذني على الشبكة المعدنية الباردة.

كان أبى يقول: - حسنًا، هيلين.

واعتقدت أنني سمعت الخوف وراء هذا الاعتراف المنطقي، أضاف:

- لقد مررنا بكل ذلك من قبل، أليس كذلك؟ أنا أسألك إلى متى سنستمر على هذا الوضع.

- هذا ما كنت أطلبه منك خلال السنوات الثلاث الماضية، يا آل.

- أوه، لا. أريد تفسيرًا منطقيًا، يقال بطريقة معقولة. ماذا تقصدين بحق الجحيم بالانتقال إلى هنا، والإقامة هنا بحجة واهية.

- لم أستطع أن أتحمل. كان علي أن أكون بالقرب منك، وعلى هذا. لن أستطع التحمل أكثر. لقد وثقت بك، وأخلفت أنت وعودك. قلت إنك ستخبرها. لقد قلت ذلك. مليون مرة وفي كل مرة صدقتك. أريد منك أن تفى بكلمتك.

- أنت تبتزيني بهذا الشكل ولن ينتهي بك الأمر إلى شيء.

كان هناك صوت نشيج.

- إذن ماذا لدي الآن؟

قال ابى:

- يا يسوع.. كيف أوقعت نفسي في هذه الفوضى؟ هيلين، لا يستحق حبنا هذا.

- لم أعد أهتم مطلقا. أنا يائسة. أستلقي هنا في الليلو أفكر في ملابسنا في تلك الخزانة. ملابسنا يمكن أن تبقى معًا، لماذا لا نستطيع؟

- لا أصدق أنك تفعلى هذا بي. إنه أشبه بشيء من فيلم هابط من الدرجة الثانية.

- هل تعتقد أنني أردت ذلك؟ كنت سأفقد عقلي. يا إلهي، بعد أن اتصلت بالشرطة، فكرت في الواقع في قيادة سيارتي فوق منحدر. اعتقدت، لو أنهم اكتشفوا ذلك، فسوف يضعونى فى مستشفى المجانين بالتأكيد.

وكانت هناك وقفة.

- انتظرى لحظة. إذا عرفوا ماذا؟

- حسنًا، لقد فعلت ذلك بنفسي.

- ماذا فعلت بنفسك؟

- كل هذا. ما الأمر؟ لقد اعتقدت أنك فهمت.

- أنت لا تقصدين أن تخبرني أنك سرقت منزلك؟ أسرقت مشداتك وحمالاتك؟

- نعم.

وذلك في لثغة فتاة صغيرة.

- أأنت من كتبت تلك الأشياء على المرآة؟ والساعات والفضية؟ هل فعلت كل ذلك بنفسك؟ ألم يكن هناك أي رجل؟

- لا.

قهقه.

- أوه، لا تنظر إلي هكذا. لقد أخبرتك أنني لا أستطيع الاستمرارعلى هذا الوضع.

- هذا جنون يا هيلين.

شجار.

- انهضى. توقفى عن ذلك. توقفى عن التصرف مثل المجانين، أليس كذلك؟

بدأ صراخ صاخب، تقريبًا ولولة، ثم سمعت أبي يشتم هيلين أولاً ثم يشتم نفسه. أخيرًا، بدأ يغمغم بكلمات المواساة. ثم أصبح البكاء مكتوما.

قال والدي بصوت أجش:

- انزلى شعرك.

هزها. كان هناك شجار آخر قصير، ثم صوت تمزق قطعة قماش ونحيب عميق، هذه المرة من والدي.

- يا إلهى.. أحبك كثيرا جدا. كيف لك أن تستعبديني.

- أوه، آل، كل ما لدي هو لك.

اختنقت من الرعب وثمة رغبة غريبة في الضحك بصوت عالٍ، تعثرت على قدمي، مفاصلي متيبسة من الركوع. وضعت يدي على فمي وغطيت أنفي. الدم ينبض باللون الأحمر خلف عيني. شققت طريقي إلى الباب الخارجى، وأخذت خطوات واسعة على رجلي  المطاطية الخدرة.

قلت لنفسي مرارًا وتكرارًا، ليست مشكلة كبيرة. يحدث ذلك في كل الأوقات. مرتجفة نزلت وتوجهت الى الشارع بأسرع ما يمكن. لقد تحول ضحكي إلى نحيب جاف هز صدري مثل نوبات السعال.

بعيدًا عن البناية الثانية، كان بإمكاني رؤية سيارة هيلين الدى سوتو، فلعبت فى رأسى فكرة تحطيم جميع نوافذها أو وضع السكر في خزان الغاز. لكن هذا لن يقلل من حب أبى لها ، ولن يفسد علاقتهما. بتنهيدة عميقة، عدت ببطء إلى منزلي للجلوس كئيبة على الرصيف أمام البيت حتى نزل الظلام، وقدماى فى الوحل.

في اليوم التالي حزمت هيلين ليم حقائبها وغادرت منزلنا وذهبت إلى بيتها. تبادلت وأمي كلمات الوداع على الإفطار بطريقة محبة للغاية، وشكرتنا هيلين جميعًا وقالت إنها كانت خائفة للغاية، لكنها الآن استعادت رباطة جاشها مرة أخرى ومستعدة للمضي قدمًا.

ردت أمى كانت الحياة مأساوية في بعض الأحيان، لكن هذه الأشياء مرت، وقالت هيلين نعم فعلوها، بعون الله والأصدقاء الجيدين. أبقيت عيني على صحن كيكس، وكان ليستر يتذمر حيث كان عليه توصيل برادلي إلى المدرسة. بدأت أسناني بالاصطكاك وغادرت المائدة.

لا أعرف حتى يومنا هذا ما إذا كانت أمى قد اكتشفت حقيقة هيلين ليم، ولا أعرف ما حدث في علاقة ابى بها. مرت الأيام، ثم الأسابيع والأشهر، ولم يحدث طلاق قط، ولم تنفجر عاصفة. انتهت الكذبة التي عانت منها عائلتنا: تم قراءة الصحف، واستهلاك الطعام، والاحتفال بالعطلات، وشراء الضروريات.

اندفعت إلى  حالة من عدم الثقة الدائمة، مرتجفًة من ضربة لم تسقط أبدًا. أصبت الخوف الشديد لدرجة أنني كنت أتنفس بصعوبة في بعض الأحيان. نمت بشكل سيئ وبدأت في التدخين. وعند سماع صوت برادلي ويليس، كنت أهرب إلى غرفة نومي وأبقى هناك. حتى يرحل.

في أبريل، أصبت بالأكزيما في يدي وطوال الشهر شاهدت برنامج أمريكان باندستان وانا أرتدي قفازات البولي إيثيلين المليئة بالمادة اللزجة البيضاء.

في يونيو، تخرج ليستر وبرادلي ويليس. ذهب ليستر إلى الجامعة في سيارة ( تشيفي) جديدة. قام برادلي ببدايتين فاترتين في سيتي كوليدج، ثم ترك الدراسة وجند في النهاية. قال: لقد ضيع كل شىء حتى نفسه. لكن ربما سيحقق له الجيش بعض الخير. كان هذا آخر ما سمعته عن برادلي ويليس حتى ذكرت أمى بعد سنوات أنه قُتل.

قالت أمى:

- هل تتذكرين صديق ليستر ذا الشعر الأبيض؟ نوع غريب الأطوار الذي لم يجد نفسه أبدًا؟

قلت وأنا أحدق في الجدران الخضراء والفولاذية لغرفة السكن الجامعي.

- برادلي ويليس.

قالت أمي:

- حسنًا، لقد قُتل في فيتنام. أليس هذا مؤسفًا؟ قرأها ليستر في الصحيفة. لقد فقدوا الاتصال، كما تعلمين.

قلت:

- أعلم.

ثم أغلقت الهاتف.

ولكن هناك نهاية أخرى أفضل لحلقة هيلين ليم، وأحيانًا أعود إلى عقلى فى فترة ما بعد الظهيرة التي اكتشفت فيها أمر أبى.

مرة أخرى، أتعثر عند الباب الأمامي، وحدي وفي يأس. لكن هذه المرة برادلي ويليس هناك، وها أنا أقع بين ذراعيه. يشرح لى أن كل شىء سيكون على ما يرام.

أبكي على كتفه حتى أفرغ من البكاء. ثم نركب سيارته ونقود عبر الساحل إلى خليج نصف القمر. نتوقف على جرف يطل على الشاطئ ونشاهد غروب الشمس ونتحدث في فى صوت خافت. وفى الأخير،عندما يحل الظلام، يأخذني بين ذراعيه ونمارس الحب. أراه فوقي، وجهه مضاء بضوء القمر. أستطيع أن أشعر بجسده يرتجف، وأسمع هدير المحيط تحتنا.

وبعد ذلك، لأنني لم أفعل هذا من قبل، ولأنني لا أستطيع التفكير في أي شيء آخر لأقوله في مثل هذه اللحظة، فأنا أهمس، " أوه برادلي، كل ما أملكه لك "

(تمت)

***

..................................

المؤلفة: ليندا بوروف/Linda Boroff كاتبة امريكية. تخرجت ليندا بوروف في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، بدرجة في اللغة الإنجليزية. ظهرت قصصها القصيرة المضحكة، والهجائية والمقالات المميزة في مجموعة واسعة من المنشورات المشهورة، بما في ذلك. ميكسوينى، والجارديان. وجوكر، وهوليوود الخرف، وعصر، ودورية سيمارون، وهوبارت، وغيرها

بقلم: سرغي يسينين

ترجمة: د. إسماعيل مكارم

**

"رسالة الى الشقيقة ألكساندرا"

В этом мире я только прохожий

ضيف أنا في هذه الدنيا،

لوحي لي بيدك الطيبة.

فضوء القمر في الخريف هنا

أيضا هادئ، منعشٌ، وحنون .

**

للمرة الأولى ضوء القمر يمنحني الدّفءَ،

للمرة الأولى أتدفأ على هذه البرودة،

وعدتُ الى الحياة من جديدْ

أحلمُ بتلك المَحبة المفقودة.

**

هذا ما فعلته بنا تلكَ السّهوبُ،

المكحلة ُ بالرملةِ البيضاءْ،

هذا ما صنعته تلك الخطايا ببعض مننا،

وما أثاره الحنينُ لدى البعض الآخر.

**

لذا أبدا لا أخفي عليكِ،

رغم تلك المآسي والخطايا،

بقي لدينا شيء ثمين واحد وغالٍ،

هو حبنا الكبير للوطن، الذي طالما عشناه مَعاً.

13 أيلول عام 1925

***

رسالة إلى أمي

Письмо матери

هل لا تزالين على قيد الحياة يا عجوزتي؟

أنا مازلتُ حيا. سلامٌ إليكِ، سلامْ .

عسى أن يلف عزبتكِ الصغيرة

ذلك الشعاع الفريد، الذي يأتي في المساء.

**

يكتبون لي أنكِ تحملين همّي

وحزينة جدا على أحوالي

وتخرجين عادة الى الطريق

بجُبتكِ العتيقة المُهترئة .

**

وفي ساعات الليلِ الكحلي

تتخيّلين أمرا واحدا وحيدا:

أن شخصا ما في احدى سهرات الحانة

قد طعن قلبيَ بخنجرٍ غريب خلال عراكةٍ .

**

لا شيءَ من هذا القبيل يا حبيبتي، اطمئني .

انه ببساطة بُحرانِ قاسٍ !.

لا تظني أني شخص قد تعتعني السّكر،

كي أرحلَ الى جوار الرب قبلَ وداعِك.

**

أنا مازلت كما تعرفينني رقيقا، حنونا

ولديّ ذلك الحلم الكبيرْ

أن أنتقلَ قريبا من عالمِ هذا الحنين الثائر

الى حضن بيتنا المتواضع .

**

سأعودُ عندما تمدّ الأغصانُ أذرعها

في بستاننا ويغطيه لون الربيع الأبيض.

ولكن لا توقظيني عند بزوغ الفجر

لا تفعلي ذلك كما كنتِ قبلَ ثماني سنين.

**

لا تحاولي ايقاظَ ما قد انتهى،

ولا الذي ما قدر له أن يكون

لقد وقع على كاهلي ومنذ أيام الشباب

كثيرٌ من آلامِ الفقدانِ والتعب .

**

لا تحاولي تعليمي كيف أصلي. لا حاجة لذلك.

لا عودة َ أبدا الى الماضي .

أنتِ سعادتي وأنتِ أملي،

وأنتِ دُنيايَ الجميلة .

**

حاولي نسيانَ ذلك الهَم،

ولا تحزني كثيرا على حالي .

ولا تخرجي كعادتكِ الى الطريقْ

بجُبتِكِ العتيقة المهترئة .

1924

***

رسالة من أمّي

Письмо от матери

ماذا لي بعد،

ماذا يمكن لي أن أتخيّلَ،

عن أي شيء الآنَ

يُمكنني أن أكتبَ؟

أمامي

على طاولتي الكالحَةِ

تقبعُ رسالةٌ،

ترى ماذا كتبت لي أمّي.

**

ها هي تكتبُ:

" إذا كان بإمكانك

تعالَ إلينا.. يا طير الحمام،

تعالَ في أيامَ ما بعدَ عيد الميلاد.

اشتر لي شالا،

ولأبيكَ شيالا،

إذ في بيتنا

ينقصنا الكثير .. الكثير.

**

آه لو تدري كم لا يعجبني

أنّكَ شاعرٌ،

وأنّكَ صرت صديقا

لهذه الشهرةِ التعيسة.

كان أفضلُ لنا

لو أنّكَ منذ الطفولة

مشيتَ بالحقلِ وراء السكّةِ.

**

لقد تقدّمَ بي العُمرُ

وساء ت صحتي

لكن لو كنتَ

أنتَ في البيتِ

منذ البداية

لكانت في البيت الآن كنة

وعلى قدميَّ

هَززتُ حفيدي.

**

غير أنّكَ أضعتَ أولادكَ

في هذه الدنيا،

أمّا زوجتكَ

فتركتها، وصارت من نصيب رجلٍ آخر،

ها أنتَ دونَ أسرةٍ، دون محبةٍ

بل دونَ مرفأ

رميتَ بنفسكَ

في مستنقعِ الحانة.

**

ولدي الحَبيبُ

ماذا بكَ ؟

لقد كنتَ ولدا وديعا،

تتحلى بالرّوح المًسالمة،

وكم ردّ دَ الناسُ:

يا لك من إنسان سَعيد

يا الكساندر يسينين !

**

لم تتحققْ

أمانينا فيك،

في الرّوح ألمٌ ومرارة

إذ كانت لدى والدكَ

فكرةٌ، عبثا جاءته.. أنَّ

تقبض فلوسا أكثر..

مقابل كتابة الشعر.

**

غير أنّكَ

مهما استلمت من نقود

لن ترسلَ شيئاً إلى البيت.

يمكنني القولُ

بكلّ مرارة

أنّي أعرف

من خلال تجربتك:

للشعراء لا تعطى نقوداً.

**

آه لو تدري كم لا يعجبني

أنّكَ شاعرٌ

وأنّكَ صرتَ صديقا

لهذه الشهرةِ التعيسة،

كان أفضلُ لنا

لو أنّكَ منذ الطفولة

مشيتَ بالحقلِ وراء السّكة.

**

نشعرُ بالحزن الشديد

نعيشُ كما في الظلمةِ

ليس لدينا حصانٌ

لو كنتَ أنتَ في البيتِ

لكانَ عندنا كلُّ شيء.

وبفضل عقلكَ −

كنت شَغلتَ مَنصِبَ رئيسِ ٍ

في الإدارةِ المَحليّة.

**

وعشنا حينها في بحبوحة

ولا تجرّأ أحدٌ أن يمسنا بأذى

ولا عرفتَ أنتَ

هذا التعب الشديدَ

ولأجْبرتُ زوجتكَ

أن تتقنَ

غزل الصوفِ

وأنت الإبنُ البار كنتَ

جعلتَ زمنَ الشيخوخةِ لدينا أكثر هدوءاً" .

**

ها أنا أجعّدُ الرّسالةَ

ويتملكني الشعورُ بالرّعبِ،

أمنَ المعقول أن لا مَخرجَ

في دربيَ المنشود هذا ؟

غير أنَّ كلّ ما أفكر به

سأسرده لكم لاحقا

سأحكيه

في جوابي على الرّسالةِ .

1924

***

.............................

هوامش ومصادر:

1.     Esenin.lit-info.ru/Esenin/kritika/Prokushev-prozreniya/kakroman-v-pismah.htm

2 . تم الإقتباس من ديوان الرسم بالكلمات لنزار قباني من مصدر بوابة الشعراء.

2.     Сергей Есенин. Собрание сочинений в двух томах.

Том 2.1990 г.

3.     Сергей Есенин. Собрание сочинений в двух томах.

Том 1.1991 г.

الخوف

للدكتور علي القاسمي

ترجمة: د. حسن دلير

by Ali Al-Kasimi

Translated by Hassane Darir (Professor of Translation and Terminology, Cadi Ayyad University, Marrakech) and revised by W Richard Oakes Jr. (PhD-University of Edinburgh, Independent Scholar) 

                                                    ***

I left the hustle and bustle of the city behind me and sought the spaciousness and serenity of the sea. Earlier that afternoon, as I was roaming the city’s streets looking for work, I felt that its roads had narrowed, and its high-rise buildings were closing in on me from both sides. I had a hard time breathing and felt something in my chest, causing me an agonizing pain that added to my headache. I stretched my neck for a breath of air, and gazed up to the blue sky.  I glimpsed only the tall buildings, approaching one another, until they almost met like the two sides of a mighty pyramid. I tried to take a deep breath, but it became difficult, as if the air had become a heavy, solid substance that could not pass through my nose.

I stood on the side of the road and looked around. It appeared to me that buildings were spinning around about me, and the earth was passing under my feet. Soon, beads of sweat streamed down my forehead, and then covered my whole feverish body. I turned around, but I saw only cars speeding along the street, honking their loud horns, and puffing black smoke from their exhaust pipes. It appeared to me that as that smoke rose, it met the black smoke from the factory chimneys, to gather in the form of a great cloud that enshrouded the whole city, limiting the movement of air, and blocking the sunlight from the sticky alleys. After passing through its treeless backstreets, its wretched neighborhoods lined with filthy secret brothels, and its stinking rubbish heaps and dog droppings, I found myself outside the city and racing towards the sea.

I sat on a hillock in the middle of a field overlooking the sea. My eyes moved from the surrounding green valleys to the blue sea stretching to the horizon, where the fragments of the setting sun spread, as it left to another world, escorted by a few dark clouds. My mind returned to the city’s present condition and to my father’s childhood stories and memories about it, when it used to be an extension of those flowering fields and fresh orchards, where only the tweets of birds and the psalms of shepherds could be heard. However, the shovels of sweeping expansion assassinated their trees, mercilessly uprooted their plants from the depths, so the greenery withered, the birds disappeared, and the clouds no longer rained over them, but they passed quickly without stopping there.

There was nothing to disturb the peace of that evening. The breeze was fine, the sea calm, and its waves gently flowing to embrace the soft sand of the beach. So my eyes began to stray into the ether, and bathe comfortably in the blue water. Thanks to the sea, waves of relief and tranquility gradually swept over my innermost being bringing harmony from its faint roar . The evening enveloped me with its refreshing breezes while its passing clouds brought me company. Little by little I felt refreshed, and my dizziness departed.

In that spacious empty space, I found myself alone on my high, remote hill away from the city, elevated above the sea, immersed in the calm of the evening. I couldn't explain the strange feeling that made me jump and turn my head back in apprehension, much like a startled horse neighs when it senses an approaching earthquake miles away. I stared into the void. The images of the city's buildings were still there, although their colors have faded due to the shifts of daylight. The noise of its factories had been lessened by the distance between me and them, and I can only see their ever-rising smoke in the distance. Nonetheless, I saw four men coming from the city and rushing hurriedly towards the sea. At first glance, I thought they merely taking a stroll on the beach. The first of them had his hands behind his back. They attracted my attention so that my eyes involuntarily followed them.  As they approached, their figures became clearer and clearer to me. I realized that the man walking in the front was dressed in civilian clothes with his hands tied behind his back, while the other three, surrounding him, were in khaki uniforms. I couldn't help but notice that the man with bound hands was leaning backward and walking in a staggered manner, as if the other three were pushing him forward, compelling him to continue walking.

Their faces were sharp-cut, hardened, and turned forward towards the sea. The first man, whose hands were bound, was looking left and right, as if searching for someone or something. Thus, the features of his face became clear to me: a bright forehead, eyes that radiate light, and features whose sweetness was not diminished by hardship, nor was their magnificence obscured by affliction. A bright, beloved face. I thought to myself: This is a face that I know, a face that I have been familiar with since my childhood, but at that moment I couldn't remember his name. I used to meet him in the village where I grew up, run into him in the school where I was educated, and come across him in the city where I worked. But, no longer could I remember his name. His affectionate face appealed to me in my childhood, and I still love him in my old age. His face is close to my heart, dear to my soul. It has the taste of dates and the sweetness of Euphrates water. I have often told my children about him, and they loved him as I did. But I don't remember his name. Help me, my weary memory! Help me with the name of the prisoner! Having failed to remember his name, I thought to myself: "What matters is not the name but the named; the origin is not the word but the self. Let his name be what it is. The same man is in distress today." A perplexing question kept flogging me: "Why are they tying this man's hands?" And where are they taking him, I wonder?"

After a while they came to the shore, waded their feet into the water, took a few steps, and then stopped him in front of them. They stared at him, hatred radiating from their eyes. One of them violently placed his hands on the man's jaws, forcing him to open his mouth. The second pulled something that I could not discern from the open mouth, and the third pulled out a dagger, and cut that thing and threw it into the water. I saw with my own eyes a red thread stretching from that speck of water to the horizon, fusing with the scattered remnants of the sun there, and rising to the sky like a fountain of blood. Then the three men began bowing the captive man's head, pushing it into the water, in an apparent attempt to drown him. The man resisted stiffly, occasionally raising his head upwards and backwards. Meanwhile, he looked at me from afar, or so it seemed to me.  It seemed to me that his eyes were begging me, urging me to move, to shout at them, to do something, to call out to the peasants in the nearby fields, to appeal to the workers in the city's factories, to do anything to save him, not out of pity for him, but out of necessity, human duty, and what his love dictates to me. But I stayed frozen in my place. Fear seeped into the pores of my skin and permeated them, so I felt a shiver running through my body, and from it to my veins and arteries. A stinging coldness prevailed in them, blood froze inside them, and sweat poured from my feverish forehead. The terror emanating from the drawn blades of their daggers paralyzed me, and fear made me crippled and motionless, so I could no longer feel my legs. I was stunned as I was overwhelmed by a flood of apprehension and obsessions. I thought about running towards them, attacking them, but I never moved: I did not raise my head, nor did I open my mouth, stretch out my hand, or move my feet. It occurred to me that doing so would inevitably cost my life, and that I would return this evening to my children, carried in a coffin, instead of bringing them the good news that I got a job.  I would  be like someone who went out in the desert to hunt food for his starving family, but was hunted by a lion. With some bitterness and shame, I admitted in my heart that I was not combative by nature. From my dark, forgotten memories, I remembered how, in my childhood, my fellow students used to wrestle competitively, while I usually stepped aside to read a book.

Therefore, I will turn a blind eye, I will turn my face away from the sea, I will pretend that I did not see anything. I will convince myself that what I have seen was nothing more than a kind of hallucination or a kind of blurred vision. But what will I tell my children after today? Shall I tell them that I preferred the safety of returning to them over risking my life in order to save someone I loved and I still love, and someone they loved and still love? Can I justify my cowardly inaction to them? Even if I concealed the incident from them and covered it up with silence and secrecy, does that mean that what happened did not happen? We cannot manipulate facts with our mouths or distort them with our pens. Even if no one sees my cowardice and defeat, I will live like a broken man inside me, like a palm tree whose trunk has been stabbed with a crushing axe. The sight of that captive man will haunt me like a shadow, wherever I go. My weakness and cowardice will haunt me, and I will no longer be in harmony with myself, which will corrode me from within and cause me to collapse. This defeat will destroy what remains of the bridges that unite me with myself, and connect me to the people of my town, who trust me and also love that man.

I thought to myself: "Since I love this man, I must do something to save him. I must act now, before they amputate his limbs, dismember him, and finish him off." But instead of moving forward, I found myself trembling, and dragging my lame legs backwards. In my spiral of fear, I missed the fact that I, too, was committing a prescribed crime, the crime of failing to assist a person in danger.

………………..

  This short story is a translation of الخوف  by Ali Al-Kasimi. It first appeared in the short story collection Time to Leave (أوان الرحيل, under translation) and is also available under this link:

https://almothaqaf.com/nesos/938920

خمس قصص قصيرة جدا

تأليف: بيبيانا برنال

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

1- ارتباك:

أمي، حلمت الليلة الماضية أن بإمكاني الطيران والسفر لمسافات طويلة في وقت قصير. لقد كان حلما جميلا جدا. تجولت في جميع أنحاء باريس خلال الوقت الذي استغرقته للوصول إلى المدرسة بالحافلة. عندما ذهبت لأقول لك وداعًا، كنت ترتدين نفس ملابسك عندما تذهبين إلى الفراش، وكنت ألبس نفس البيجاما وكان يوم الاثنين أيضًا. انتهزت الفرصة لزيارة أبي. وجدته يرسم، كالعادة. عند رؤيتي، تفاجأ وسألني كيف وصلت إلى هناك. أخبرته بالطائرة لكنه لم يصدقني وحبسني في غرفته. لهذا السبب أنا أتصل بك يا أمي، لذلك يمكنك أن تشرحي أنه حلم وأن عليه أن يدعني أذهب.

***

2- راحة:

امرأة تبكي تحاول كتابة قصة قصيرة. الشيء الوحيد الذي يخطر ببالها هو قصة يبكي فيها البطل من البداية إلى النهاية. عندما تنتهي من كتابتها، يتوقف بكاء البطل. الآن الشيء الوحيد الذي يقلقها هو تهدئة صرخة الكاتب.

***

3- مقابلة:

يدخل المقهى وينظر إلي ويقترب. يبقى. نحيي بعضنا البعض بإيماءة. نتبادل البسمات. اسمح له بالجلوس. يحمل آثار الأمطار الغزيرة التي كنت أفكر فيها قبل لحظة. لقد دخل للجوء. وكذلك فعلت... على الرغم من أنني وصلت إلى هنا قبل أن تمطر بوقت طويل. يقترب أكثر ونحن نتواصل. بعد فترة، يغادر المكان، لأن هناك من أرغمه على الخروج. نعم هو كذلك. ثم أعود لأنظر عبر النافذة من وراء الزجاج لأراه يعبر الطريق. ها هو، تحت المطر، يستأنف طريقه المجهول مثل كلب ضال.

***

4- كوابيس:

تزعج الكوابيس من حولها أكثر ممن تقع لهم مباشرة.

***

5- توقف:

بعد شراء الرأس والذراعين والساقين والجذع والأعضاء، كان من المستحيل على الشبح أن يشترى الحياة.

(تمت)

***

.....................

المؤلفة: بيبيانا برنال/ (كولومبيا، 1985). شاعرة وراوية ومحررة ومديرة ثقافية.

ولدت في كالاركا، كوينديو، في عام 1985. أكملت دراستها الابتدائية في مدرسة أنجيلا أورتيز، إحدى المؤسسات العديدة التي دمرها زلزال 1999 والذي تسبب في الكثير من الفوضى في منطقة البن، وخاصة في أرمينيا. في معهد كالاركا، تخرجت بيبيانا من المدرسة الثانوية ثم درست اللغة الإسبانية والأدب في جامعة كوينديو. حصلت بيبيانا برنال على العديد من الجوائز، أصدرت ديوانى شعر ونشرت عددا من القصص القصير فى دوريات ومجلات مختلفة. ترجمت قصائدها وشعرها الى كثير من اللغات.

الساعة.. قصة للدكتور. علي القاسمي

ترجمة: د. حسن دلير

by Ali Al-Kasimi

Translated by Hassane Darir (Professor of Translation and Terminology, Cadi Ayyad University, Marrakech) and revised by W Richard Oakes Jr. (PhD-University of Edinburgh, Independent Scholar) 

***

Strangeness embodied in a man.

I met him after I joined the Faculty of Arts. His eyes shone with an intelligence that his mouth did not reveal, for he was taciturn, very silent.

It did not take long for my ears to catch what his colleagues were whispering about him. They used to say that he was eccentric, strange-minded, unusual in taste, behavior and hobbies. It was difficult for his students to understand him easily. His words are symbols, and his utterances are far-reaching riddles. His mind gathers contradictions and his personality is made up of opposites. He teaches English literature, but is an expert in the ancient Arabic heritage. He was like a bird of a distinct color, flying away from the flock high in the sky.

A new student arrived in the classroom ten minutes late. As he did not then know the professor, nor the students, he knocked on the door and asked the professor:

- “Is this the class of Professor Sidi Mohamed?”

- “No, his class started at 8: 00.” This is how the professor answered naturally.

The new student walked away disappointed, and did not realize the meaning of the laughter of the students who followed him. Later he realized that Professor Sidi Mohamed had taught him his first lesson in an unforgettable way, to the effect that: Respect the appointments, stick to the time. Time is gold.

For Professor Sidi Mohamed, time is something sacred and of high value, almost equal to the value of the lesson or to the rank of the professor himself, as if he believed in the saying: "If it were not for time, man would not have become a human being." Consequently, I was not surprised that he carried three watches simultaneously: Two wrist watches: One on each wrist, and a third pocket watch in the pocket of his shirt close to his heart. Sometimes, he carried a few more watches in his other suit pockets. Perhaps it is this behavior that caused his colleagues to stigmatize him on charges of strangeness.

My relationship with Professor Sidi Muhammad got closer after he ascertained that I respect time and that I understand or try to understand some of the ideas that he revealed to me. Thus, he felt increasingly confident in me, so one day he invited me to his house to have tea with him.

I was astonished and amazed when I entered his house. I tried very hard to hide my feelings, for I was afraid to offend my host if I showed surprise. The yard of the house was filled with a strange crowd of old and new clocks, emitting a mixture of sounds, chimes, and melodies. In the center of the house was a water clock that took the place of the fountain. I recognized it from its water-filled cylinder, the hollow floating machine in which a little ball fell into a bowl every hour, making a buzzing announcing that an hour had passed.

At the top of the opposite wall was a large sundial. This clock is made of a wooden stick stuck in the wall, on which the sun's rays fall, and its shadow moves on a panel of numerals inscribed on the wall to determine the time. On either side of that sundial, hung two large astrolabes, one of copper and the other of silver. I don't know how he got them, because I had never seen an astrolabe in the markets that I had shopped for years in this city. While I was thinking that the sundial and the astrolabe only help to tell the time on a sunny day, I glimpsed on a table in the corner of the courtyard an hourglass composed of two large glass bottles connected to each other through a small neck. The upper bottle was filled with sand while lines and numerals were inscribed on the lower bottle. The sand particles began to seep from the upper bottle to the lower one through the neck, to indicate time as the sand accumulated over time.

The rest of the walls were overcrowded with clocks of various types, sizes and shapes: A wall clock with a long pendulum dangling from it and dancing right and left, and a wall clock whose pendulum is in the form of a bird chirping minutes and shouting each hour, and a wall clock opening right from its middle between every hour and then, allowing the statue of a small man to emerge from it to announce the time in a hoarse voice and then it closes.

I felt that I should say something, to hide the signs of astonishment on my face, so I drew a smile on my lips and said:

- “The hobby of collecting watches is great.”

My statement seemed silly and meaningless at that point, so I added:

- “Your home is very much like a specialized museum.”

Without looking at me, he said:

- “The clock is the most wonderful thing that the human mind has invented. This is thanks to our ancient Arab ancestors.”

Here I tried to say something clever about my knowledge of the history of watches, but the only statement that came to my mind was the following:

- “Do you mean by that the ticking clock that the Abbasid Caliph Harun al-Rashid gave to Charlemagne, king of the Franks, which frightened his entourage?”

He said:

- “By the clock, I do not mean a machine or a tool, but rather the unit of time. The ancient Arabs of the Sumerians, Babylonians and Pharaohs are the ones who managed to divide time into years, seasons, months, weeks, days and hours, by observing the planets and stars, and dividing the time that they take in each of their cycles.”

We entered the sitting room and my eyes fell upon a large wooden plaque that was hung on the wall, bearing twelve pocket watches. The rest of the walls were covered with different clocks whereas the tables in the room were full of various desk clocks. Their beats mingled in a strange symphony of sounds, melodies, and rhythms.

His old servant was not there that day, so he himself went into the kitchen to make two cups of coffee. I took the opportunity to look at the plaque of pocket watches hanging on the wall. It had twelve pocket watches, as I said. Under every watch was written the name of one of the world's cities from east to west, so that the difference is one hour from one city to another: Tokyo, Kuala Lumpur, Bangkok, Islamabad, Delhi, Mecca, Tripoli, Tunis, Algiers, Casablanca, etc.

The professor came back carrying a tray with a coffee pot and two big cups in it. When he put it on the table, I noticed that one of the cups bore a drawing of a clock with three colored hands.

I did not want to ask him about the secret of the twelve clocks and their usefulness to him for he specializes in English literature, not geography. I tried to divert the conversation from the subject of clocks, about which I do not know much, to another subject, such as coffee, which I consider myself an expert in drinking, but I only managed to make another silly statement:

- “This is a nice watch-shaped cup.”

He immediately retorted:

- “The Arabic word for 'cup' (Finjan) was pronounced 'binkan'. The word "binkan" was used in the Arabic tradition to denote a type of clock with a mechanical mechanism. The cup from which you sip the coffee now does both. Once you've finished drinking your coffee, you can read how long you've been drinking.”

I did not know what to say to him. I found myself turning away from him, and behold, my eyes fell on a table near us. There were seven watches that were the same size and shape, or so it seemed to me. I found myself asking him with a certain impatience:

- “What is the benefit of owning seven watches of the same type, like those arranged on the table?”

He answered calmly, almost monotonously, as if to teach a lesson he had repeated over and over:

- “They are not one type. The first is powered by a screw, the second by battery, the third by hand movement, the fourth by wrist pulse, the sixth  by solar energy, and the seventh by air movement. Furthermore, each one of them alerts me to a different thing, with a different tone.”

I told him, as if indirectly criticizing his obsession with time:

- “I thought that our ancient Arab ancestors did not care about time as we do today, for their camels in the desert did not care about time, as is required by our planes today.”

Surprised, he said:

- “On the contrary, their accurate knowledge of time compensated for their poor means of communication and transportation. Their concern for time was such that they assigned a name to each hour of the day and night. For example, the names of the 12 hours of daylight are: al-dhurur, al-buzugh (dawn), al-duhaa, al-ghazaala, al-haajira, al-zawaal (noon), al-duluk, alasr, al-asil, al-sabub, al-hudur, al-ghurub (sunset).”

He listed those names with such extreme fluency that I envied him for the lightness of his tongue.

The various wall, desk, pocket, and wrist clocks rang from time to time, bells and jingles of various melodies and rhythms. Over time, I discovered that Professor Sidi Mohamed's life is controlled by the bells of his clocks: A bell wakes him from his sleep at dawn to perform the morning prayer, another bell rings for him to enter the bathtub in the bathroom and lie in its warm, comfortable water, another bell takes him out of the bathroom, a fifth makes him sit at the breakfast table, and a seventh alerts him to go out towards the college . A slight jingle from one of his wristwatches calls his attention to the classroom, a jingle from the other watch reminds him of the end of class, and so on.

Our friendship became so close that I came closer to his thinking and became the closest person to him. I was not surprised that he lived alone. No woman could live with all those ticking clocks. As for his old servant, I found out that he was deaf, and so accustomed to the orderly course of his master's life that he no longer needed to read his lips to know his instructions.

When the professor fell ill, I often went to visit him, and was amazed at the silence of those clocks. They had stopped ringing, as if they were careful not to disturb him. His illness was prolonged, and the silence of his clocks lasted for months.

One day, his old servant called me, summoning me to his house in a hurry.

I hurried to his home. I entered his bedroom. There, he was lying on his bed, having passed away. All the clocks were chiming incessantly.

..................

للاطلاع على النص باللغة العربية

https://www.almothaqaf.com/nesos/938473-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A7%D8%B9%D8%A9

ترجمتي الفرنسية لنص الصديق الشاعر التونسي فتحي مهذب

بعنوان (الأشجار اكثر نبلا من الإنسان).

ترجمة: سناء ح. فرووي

***

Fathi Mhadhbi

Les arbres sont plus nobles que les humains,

Les arbres ne versent pas de larmes,

quand les bûcherons leur parlent en langages d'assassins,

quand sonnent les clochettes de pragmatisme,

dans le sang des bûcherons,

quand leurs ombres se cassent comme des fioles de souvenirs âpres,

Ils font face à leur destin, en rires éclatantes,

et affrontent le vent, en sagesse de philosophes,

Les arbres ne sont pas nés bagarreuses,

Ils n'ont  jamais détruit un sanctuaire de pauvre poète,

ni ont-ils tiré une balle pour tuer une rose manifestante,

ou un Cigogne dont le salaire était piqué ,

Ils n'ont jamais dépensé des sommes extravagantes,

pour commettre un génocide,

Les arbres n'ont pas d'avions d'espionnage,

ni d'armes lourdes,

Ils n'ont jamais tué un seul oiseau ni chasé un aigle blessé,

Ils n'ont jamais lancé d'obus sur mon jardinier,

ni insulté la loi de l'attraction ou jeté des pierres sur les passants,

Les arbres sont équipés d'appartements luxueux pour les oiseaux,

de vêtements verts que les doigts de Dieu ont brodés,

Ils appellent les papillons par leurs noms,

et ne cachent pas leur argent dans les fontaines,

Seuls les arbres déchiffrent la langue de pluie,

et les chants du tonnerre  qui fuit les barbares,

C'est vrai que Dieu aime les arbres,

Ainsi, ils vivent très longtemps,

enraciné dans le sol,

attirés par l'orchestre matinal de leurs oiseaux,

Gloire aux arbres, pleins du rythme éternel de la sagesse

###########

Suna H Forawi

Fathi Mhadhbi

Trees are nobler than humans,

Trees do not shed tears,

when loggers talk to them in killer language,

when the bells of pragmatism ring,

in the blood of lumberjacks,

when their shadows break like bottles of bitter memories,

Trees face their destiny with vivid laughter,

and the wind with a wisdom of philosophers,

Trees are not born hostile,

They never destroyed a shrine of a poor poet,

nor did they shoot a bullet to kill a protester rose,

or a stork whose salary was stolen,

They never spent excessive amounts,

to commit genocide,

Trees do not have spy planes, or heavy weapons,

They never killed a single bird, nor chased an injured eagle,

They in no way launched bombs at my garden,

nor insulted the law of attraction, or thrown stones on a passers-by,

Trees are equipped with luxurious apartments for the birds,

and green clothes that God's fingers embroidered,

They call butterflies by their names,

and do not hide their money in the springs,

Only trees can interpret the tongue of rain,

and the songs of the thunder fleeing the barbarians,

It's true that God loves trees,

So, they live very long,

deep-rooted in the earth,

attracted by the morning orchestra of their birds,

Glory to the trees, full of the eternal rhythm of wisdom

..................

الأشجار أكثر نبلا من الانسان

فتحي مهذب

الأشجار لا تذرف الدموع..

حين تحاورها الفؤوس بنبرة القتلة..

وترن أجراس البرقماتيزم

في دم الحطابين..

حين تتكسر ظلالها مثل زجاج الذكريات المريرة..

تواجه مصيرها بضحكة مجلجلة..

تعامل الريح بحكمة الفلاسفة..

الأشجار لم تك عدوانية بالمرة..

لم تهدم ضريح شاعر موهوب..

لم تطلق رصاصة واحدة

لقتل زهرة متظاهرة..

أو لقلق اختلسوا راتبه الشهري..

لم تنفق أموالا طائلة لارتكاب ابادة جماعية..

لا تملك طائرات تجسس..

أو أسلحة ثقيلة ..

لم تقتل عصفورا واحدا أو تطارد نسرا معارضا ..

لم ترم قذيفة باتجاه بستاني..

لم تشتم قانون الجاذبية..

أو تقذف العابرين بالحجارة..

مجهزة بشقق جميلة للطيور..

وفواكه طازجة جدا..

ملابس خضراء مطرزة بأصابع الله

تنادي الفراشات بأسمائها ..

لا تخفي نقودها في الينابيع..

وحدها الأشجار تعي لغة المطر..

وأغاني الرعد الهارب من جند المغول...

فعلا الله يحب الأشجار..

لذلك فهي معمرة جدا..

وسعيدة ومتفائلة حد البذخ..

متجذرة في رحم الأرض..

مشغولة بأوركسترا عصافيرها الصباحي..

لا تفكر في إيذاء الآخرين.

المجد للأشجار المليئة بايقاع الحكمة الأبدي .

قصة:  بوب ثوربر

ترجة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

عندما يدعوك العمل، تحزم حقيبتك وتغادر. على الرغم من توقعك، لم تقم بأي ترتيبات. وبالمثل، فأنت لا تخبر أحداً أنك ستغادر. بعد أيام، عندما تصل إلى مطار صغير في مكان مجهول، ينتظر العمل، مرتديًا زي سائق، يعرض لوحة بيضاء مكتوب عليها اسمك بشكل خاطئ. يرحب بك العمل بطرف القبعة وإيماءة. يعرض العمل حمل أمتعتك، على الرغم من أن كل ما لديك هو حقيبة قماشية بها القليل من الأغراض الشخصية، والآلة الكاتبة في غلافها الصلب. بعد شد وجذب قصير، تتخلى عن ثقل الآلة، ويبتسم لك العمل طوال الوقت . كما تتخلى عن الحقيبة أيضًا، وأنت سعيد بالجلوس بمفردك في المقعد الخلفي. رائحة السيارة غير تقليدية، إنها تشبه رائحة القطط الضالة التي خاضت حربًا هنا. يقود العمل ببطء شديد لدرجة أنك تشعر بالاختناق. ثم يقود العمل بسرعة كبيرة، مما يؤدي إلى تغيير المسارات دون إرسال أية إشارات، مما يزعجك. تسمع خبط الآلة الكاتبة في صندوق السيارة عندما ينحرف العمل داخلا في قطعة أرض من الحصى في فندق. تعتقد أنه فندق. لا توجد لافتة ولا سيارات ولا أشخاص. يطلب العمل منك المال فتربت على جيوبك. يسألك العمل كيف تحب قهوتك. تقول ساخننة، مع الكثير من الحليب، ومع ذلك تتحسس محفظتك، قامعا موجة من الذعر، وربت وصفع هنا وهناك. هل من الممكن أن تكون قد نسيت محفظتك، هل أنت هذا الغبي؟  يمتطى العمل ويتثاءب وينتظر. هل يمكن أن تكون قد أسقطت محفظتك؟ ربما سُرقت، علقها نشّال.

يخبرك العمل بقصة عن أشخاص مثلك، أطفال متأملون يعضون من الألم، ويوقفون ألم الضرب حتى لم يعودوا قادرين على تحمله، ويهربون من المنزل ويستمرون في الركض حتى ذهبوا بعيدًا، ووصلوا إلى الحافة، ومشوا فاقدين الوعى بلا تفكير، تائهين، وقد أصيبوا بالبرد منعزلين،واستيقظوا خائفين وهم مغطون بالثلوج، يرتجفون بشدة. بالكاد تمكنوا  معا من الحصول على نار، لكنهم مع ذلك قاموا بإشعال حريق، وهو حريق يفخر به أي صانع حريق، ثم أشاروا للمساعدة عن طريق تكديس أكوام من الخشب الرطب والأوراق المبللة لإرسال دخان كثيف ينتشر في الريح، ويحرقون صفحات كل كتاب قرأوه على لإبقاء النار مشتعلة، وتقليب الجمر باستمرار بإطار معدني مشوه لمظلة مكسورة، وسحق الرماد ليصير ناعما للغاية حتى يتم جرفه على الفور، مرتفعا مع رياح الشتاء، ليصبح سحابة فى الأفق، ثم بقعة صغيرة من السماء الرمادية، وأخيراً ذرة ابتلعها الليل. على بعد ألف ميل، يستقر بعض الرماد على ظهور الغربان المهاجرة، التي تحمله لأيام، ويختلط الرماد بالزيت الطبيعي لريشها. في البلدات النائمة، تتجمع الغربان فوق الأغصان العالية للأشجار في ساحة الكنيسة، وتطلق نفس التحذير، وطوال الليل الرسالة واحدة، والعمل ينتظر، إنها خدعة قديمة مثل الخلق، حيلة لإغراء الأبطال للعودة إلى منازلهم، أنبياء يتنبأون، حالمون يقاومون الاستيقاظ. يخبرك العمل بكل هذا، ولكن ليس من الآمن أبدًا تصديق القصص التي يرويها العمل عن أولئك الذين جاءوا من قبل - كبار السن الذين لا يمكن تذكرهم، وأولئك الصغار جدًا بحيث لا يمكن نسيانهم. تنتج الحياة سيلا متدفقا من اللاجئين العائدين إلى ديارهم لتولي وظائف المصنع، وقضاء أيامهم المتبقية في صناديق التعبئة، وإعداد الشحنات. لا أحد يسأل عما بداخلها ولكن من المفترض أن في الصناديق الكبيرة توجد قلوب، وفي الصناديق الغيرة توجد خدع وأكاذيب. تتحرك الشاحنات طوال اليوم إلى الداخل والخارج تحمل وتفرع. حتى أولئك الذين تتمثل مهمتهم في إحصاء الشاحنات يفقدون المسار. في الطرف المستلم، يتنكر العمل على هيئة صورة مثبتة في إطار ثقيل، لذلك عليك أن تكون هناك بسلك سميك على ظهرك. لا أحد يعرف أنك تمسك بهذا، ولا حتى الجدار.  يتذكر العمل فقط، ويتذكر في كل مرة تنظر فيها مجموعة من المشاهدين إلى الصورة، ويتأملون الإطار، ويشككون في الموضوع، ويناقشون النية. لا أحد يبحث عنك. لا يذكر العمل اسمك أبدًا. إنه نفس الشيء عندما يتكون العمل بالكامل من كلمات على صفحة بلغة منسية منذ زمن طويل. والأسوأ من ذلك هو أن العمل يستقر في الحجر، مما يتطلب إزالة شاقة، وشق جروح باستخدام أدوات أكثر حدة، وعينًا ثاقبة وحريصة، ورفع أشياء ثقيلة.الانحناء يؤلم. في كل مرة تصرخ فيها يوبخك العمل. في كل مرة تتخبط فيها، ينتقم العمل، وفي النهاية تصير أدواتك ضدك، مما يكلفك عينًا، واستخدامًا جزئيًا للعين. بمرور الوقت يخلق لك العمل عينًا أفضل، وهي حقيقة يُحظر عليك الإبلاغ عنها. كلما حاولت التحدث عن العمل، فإن لسانك يعترض طريقك. كل ما تقوله عن العمل يتضح على الفور أنه خاطئ.  كل ما تقوله يفهم منه سريعا أنك كاذب. سيجعلك العمل ذلك الكاذب. العمل سوف يكسر قلبك. و إلا كيف يمكننى أن أقول ؟

(تمت)

***

.......................

المؤلف: بوب ثوربر/ Bob Thurber

كاتب أمريكي عجوز غير متعلم، لا يحمل أيه شهادات علمية أو درجات أكاديمية ولا تدريب رسمي، ولد بوب عام 1955، نشأ في فقرمدقع وتخرج من الثانوية معدمًا ثم ثضى سنواته الأولى في العمل في وظائف وضيعة وكان فى نفس الوقت يقرأ بنهم ويدرس حرفة القص، لقد أنجز فترة تدريب مهني طويلة، حيث كان يكتب يوميًا لمدة عشرين عامًا، قبل أن يقوم بنشر أول أعماله القصصية، ومنذ ذلك الحين لاقت أعماله  قبولًا واسعًا في معظم الدوريات و المجلات والمختارت الأدبية.  له حتى الآن ست مجموعات قصصية ورواية واحدة، يميل إلى كتابة القصة القصيرة والقصيرة جدًا جدًا. حصل بوب ثوربر على العديد من الجوائز( أربعين جائزة )  منها جائزة: The Barry Hannah fiction prize و The Margery bartlett sanger award، وظهرت نماذج من قصصه في أكثر من 60 مطبوعة من كتب المختارات الأدبية.يعيش بوب ثوربر في ولاية ماساتشوستس، حيث يواصل الكتابة يوميًا على الرغم من فقدانه نعمة البصر تقريبا.

بقلم: لودميلا بتروشيفسكايا*

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

لم يحصد الموضوع الذي رواه جو عن نفسه أي اهتمام من المستمعين له - لا شيء على الإطلاق. جلس الجميع في أماكنهم دون إحساس، وتابعوا تناول الطعام والشراب، ولم يكونوا مستعدين لتقبل أخباره، مع أنه صديق قديم، زد على ذلك أن المضيف، ورب العائلة، كان يعمل تحت أمرته.

وما هي حكاية جو؟. لقد ادعى وهو يضحك أن ابنة أصدقاء آخرين غير هؤلاء (لم يحدد الاسم)، وتبلغ من العمر اثني عشر عاما، نامت معه.

كيف يجب أن يكون رد فعلك على ذلك؟. لا تستطيع أن تقول له "أنت مغتصب أطفال" أو "يا جو أنت مجرم"، فهذا تعليق غريب.

ماذا عليك أن تفعل إذا؟. هل تسرع إلى الشرطة؟. أم تبلغ والدي الفتاة؟. لكن هذا أكثر فظاعة. من جهة سيكون الخبر فاجعة مؤلمة لعائلتها. ومن جهة مقابلة، إن ذهب جو إلى السجن، سيخضع جو للتحقيق والمحاكمة ويلحق بالبنت الصغيرة العار. ثم إن العديد من البنات اليافعات تتصرفن بحرية من حولنا، وهذا يصدق على كل مكان - في الريف والمدينة، وفي معسكرات ومخيمات الصغار... وما دام الآباء لا يعرفون، يبقى كل شيء هادئا. كلما عرفوا أكثر كلما زادت أوجاعهم. فالبنت تكبر وتتزوج أو تذهب بطريقها، وحتى في هذه الحالة عليها تجنب رقابة أهلها، وظلهم الثقيل الذي لا تحتمله، وتعليماتهم الصارمة ودموعهم. وفي نهاية المطاف جو صديق، وموثوق ومجرب أيضا. يمكنك أن تطلب منه إصلاح منظفة الأطباق الآلية، أو ماكينة الخياطة، ولن يرفض لك طلبا. ويمكن أن يأخذ صورة بأشعة إكس لزوجة صديق مريضة. وهو من وجد عملا للمضيف الذي أدون في بيته هذه الملاحظات، وهكذا حرره من واجباته الليلية في مستشفى المنطقة، ووفر له عملا في مخبره بصفة باحث. ولذلك يصعب أن تنتقده أو أن تعارضه. ثم علينا أن ننظر لحياة أصدقائنا الجنسية على أنها أمر شخصي، أو أنها نتاج وهم وتخيلات.

عموما لا يوجد من وقف فوق سريره ومعه مصباح يدوي ليتحرى ماذا يفعل. ولكن يا الله. ثرثرته لا تنافي الحقيقة أبدا. فجو، حسب كلامه، يسلي النساء، وكان يأخذهن جميعا، ولا يرفض إحداهن مهما كانت. ( ثم إن ابنة الصديق هي التي اتصلت به، وقالت إنها ستأتي إلى سيارته، وطلبت منه أن ينتظرها أمام باب المبنى في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وأن ينتظر هناك حتى يغلب النوم والديها. ثم هي من امتطته في السيارة، فقال لها باختصار:"ماذا تفعلين يا صغيرة؟". ومع ذلك تابعت تنفيذ ما عزمت عليه كأنها تأكل قطعة من الزبدة. وإما أن البنت كانت لها تجارب سابقة، أو أنها شاهدت الكثير من الأفلام الجنسية، وقررت أن تجرب كل شيء بنفسها. وعلينا أن نصدق ذلك. ونعتبر أن هذا ما حصل بالضبط. وأن نفترض أن جو لا يكذب ولكنه كسول فقط). وحسب روايته أنه أغوى كلهن. وكانت النساء الشقيات تتبادلن رقم هاتفه بالدور، وبينهن الحوامل المزاجيات أو المعوقات عقليا. وكان يذهب إلى العناوين التي تملى عليه. وفي إحدى المرات عاد إلى العمل وأخبر الحاضرين بصوت رخيم أنه نكح للتو امرأة حاملا بينما قطتها تلد وتنوح في الحمام.

من جهة أخرى كانت علاقات جو جديدة. لأنه لا يمكنه العودة لشيء مستعمل. وبلغة بسيطة لا يوجد في قاموسه مرة ثانية. وقال حرفيا إنه "يعمل بجد وبأقصى طاقة ممكنة"، وأشار إلى لسانه بسخرية. فضحك المستمعون كأنهم يطربون لكلامه، ولكن كانت قلوبهم تمتعض. كيف يمكنك تقبل كلام من هذا النوع: "ركبها أندريوخا، واخترقها من الخلف". كيف؟. وكان يدلي بكلامه كأنه تحت القسم، مهما كان المكان وبغض النظر عن نوع الموجودين. كما أنه أذاع كلاما شديد الخصوصية، وذكر أنه أخذ صورا عارية لجميع نسائه، بواسطة كاميرا بولارويد الفورية. وحسب قوله: لم تعترض أي واحدة منهن. فقد كان يقدم له الصورة هدية، لكنه كان يحتفظ بنسخة ثانية في الكاميرا، ولاحقا يضيفها إلى ألبومه. والسؤال الآن: هل كانت كل واحدة منهن تعتقد أنه لا يوجد سوى نسخة يتيمة بحوزتها، ولا خشية من ذلك؟.

عموما كان ذلك الألبوم هو الطعم الذي يستعمله. وكان أهم سبب لقيام النساء بزيارته أن تلتهمن بعيونهن الصور الفاضحة لزميلاتهن. وكن ينظرن للأمر ببهجة وسعادة بعد أن ينكحهن ويلتقط صورهن. وربما كان وراء ذلك منصب والده الرفيع في جامعة محلية صغيرة. ولعل الجميع كان يفترض أن للابن مكانة رفيعة توفر لهم الحماية والمساعدة في المستقبل، إلخ، فأبوه يمسك بيده خيوط توزيع الشقق وأطروحات الدكتوراة والأدوار الخاصة والوظائف والبعثات والمنح... كل شيء. ولكن نفترض أن هذا الابن - الذي منح نفسه اسم جو - لن يتعب بالتفكير للتملص من كل المآزق المترتبة على أخطائه، فقد كان يستفيد من وضعه، ويتصرف كما يهوى في مدينة يائسة ومهزومة في حقيقة الأمر.

كما أن أصدقاءه الذين سمعوا اعترافاته الصادمة في مطبخهم - كانوا يعتمدون عليه بطريقة ما.

وهم في الواقع، عائلة مثقفة وفقيرة، وكان يقدم لها المساعدات. ولعله أحسن أيضا للأبوين المخدوعين الذين أنجبا تلك البنت الشابة والناضجة.

ولدى هذه العائلة كذلك بنت صغيرة، وربما خافوا من الفضيحة ونشر أخبارها على الجدران... ولكن - كلا. لقد ضحكوا وأسعدتهم حكاياته المعتادة. أضف لذلك من المؤكد أن أيا من أفكار والد جو العنيدة لم تدخل في رأس ابنه القلق. فقد كان يعتمد على نفسه، ولم يقابل والده منذ شهور. وكان أبوه يسافر إلى موسكو في عطلة الأسبوع، وكان الابن في هذه الأيام بالذات يعيش في الشقة عزوبيته، وهي عرين صغير معتم يحتوي على سرير عملاق تحمله ستة أقدام. وكان هناك، في تلك الشقة، لدى الأب والابن، السلطان وتابعه، ما يسمى أورغن ملون، وقد أتقن جو استعماله، وأثبت ذلك بالعزف عليه يوميا وهو يهدر بالضحك. كانت تشتعل ألوان متعددة حسب المفتاح الأساسي أو الثانوي، أو حسب اللحن الذي يعزفه. وأضاف جو الكثير من لمساته الخاصة، وأثبتت إضافاته أنها مفيدة بعد أن جرى اعتقاله وترحيله إلى "المحمية". وفي معسكر الاحتجاز صمم جهاز أورغن ملون من أجل حفلة ديسكو المحكومين. وأن نقول إن جو دون جوان معاصر نوع من الجرأة لأن كل ما حصل تم في الحقبة السوفييتية، ثم إن كل أدواته لم تكن منتشرة ومتاحة. وهذا يشمل جميع المستلزمات، الشقة المستقلة، سيارته، وعلاقته بوالده. ويضاف إلى ذلك أنه لم يكن يخشى شيئا، وهو نوع من الرياء. فقد كان يروي مغامراته بنفسه. ولم يحاول أن يخفي قدراته الجنسية المتواضعة.

بتعبير آخر لا يمكن لا لطباعه ولا لصفاته الشخصية أن تجذب النساء إلى عرينه. وبالتأكيد لن يكون معشوقا.

مع ذلك تبقى أمامنا وقائع: أن جو لم يواجه المصاعب، لا من السلطات القائمة، ولا من معشر النساء. وببساطة لم ترفضه إحداهن وكن تتصلن به. كن تتهافتن عليه. وكانت البلدة كلها مبتهجة بذلك.

لقد أحرز جو النجاح. مع أنه لا ينتقي ثيابه، ولا يغتسل، ويسير بحذاء قذر له كعب مهشم وبال، وعلى يديه بقع من زيت الآلات. هذا هو جو الذي تفوح منه رائحة العرق. وهذا هو جو العاري دائما في بيته (كان يرتدي بذة سباحة إذا زاره ضيوف لا يعرفهم). وهذا هو جو المخترع الذكي الذي يحسن التعامل مع أحداث يومه، والذي لا يقترب من أي آلة معطوبة إلا وتعود للعمل (وغالبا لا تواصل العمل إلا بحضوره).

بالمناسبة هل من المحتمل أن جو، في كشف أسراره للجميع بهذا الحماس - ومباشرة تقريبا - كان يتصالح مع خطاياه لأنه يعترف بها على الملأ؟.

لم تتبادر هذه الفكرة للجميع إلا بعد موته المأساوي؟.

عموما أصبح مفكرا متدينا وهو في السجن، وأثبت حسابيا أشياء كثيرة لا يمكن إثباتها - وسنعود لتفاصيل إضافية فيما بعد.

وقد أحبه أصدقاؤه الذكور لأنه قادر على إصلاح أي شيء متوقف عن العمل، وأيضا لكرمه الحاتمي وشراء المشروب للجميع، وكذلك لاستعداده الدائم لاستضافة من يزوىه وبصحبته بنات. (باستثناء تلك الأوقات التي يرد بها على الهاتف قائلا 'أنا مشغول مع شخص ما').

وفي شبابه كان ملتزما بالحزب. ولكنه الشاب الوحيد المتحرر في النظام. وكل من حوله شعب يعيش حياته النخبوية المتوترة: ثم كانت البلدة مركزا للبحوث العلمية. وكانوا يقرأون الأدب الممنوع وينظرون له كعمل بطولي سري، وكانوا ينظمون محاضرات في المطابخ، ويطبعون في السر أعمال الفلاسفة الممنوعين وكأنهم جواسيس أمثال: برديائيف وفرانك وإلين والأب سيرجوس بولغاكوف. أخيرا كان الأدب المطبوع في الخارج يجد طريقه إلى هؤلاء القراء، ويتغلغل في حلقات تجمعهم: كل شيء ابتداء من العاديين (بيكت، جويس، كافكا على سبيل المثال، وبقية الممنوعين في الاتحاد السوفييتي بدون سبب واضح)، وحتى من هم أكثر عدائية للسوفييت.

وكانت سلطات البلدة تعرف كل شيء تماما عن سقطات ابن الأستاذ. عموما كانت الانحرافات الأخلاقية لا تهم الحلقات الفنية والأدبية (وبالأخص) العلمية.

كان هذا اتجاه الحزب، وعبر عنه في إحدى المناسبات جوزيف بوك مارك (1) الذي قال:"ليس عندي لكم كتاب غير هؤلاء"، وذلك حينما أخبرته عيونه أن الفوضى تسود بين العاملين في حقل الكتابة. وفعلا لم يكن هناك آخرون. ويجب التعامل مع هؤلاء. وهكذا وضع كلام زعيم الكرملين الأسس الدائمة لنظام الغفران السوفييتي فشمل به الخطاة الموجودين في الاتحادات الإبداعية والجمعيات العلمية. على الإنسان أن يلتزم بخط الحزب، وهذه هي خلاصة كل الموضوع. كل شيء عدا ذلك مسموح دون مشكلة. على سبيل المثال يمكن أن تقول عن مهندسي الأرواح البشرية هؤلاء - كما أطلق عليهم جوزيف ذو الوجه المجدور والذراع العليلة - إنهم شهود على مشكلة دور البغاء التي يقيمها أدباء المعارضة في شارع بريوبراجينسكي، حيث يتم إغواء البنات اليافعات. أيضا كانت طريقة التنبيه لتلك القضية مخزية: فقد تقدم أحد القائمين على مبغى الأطفال بشكوى مفادها أن أحد سكرتيري الاتحاد لم يدفع ما يترتب عليه لنصف عام. وهكذا أرسلت بنات الثانية عشرة والخامسة عشرة إلى مستعمرات العقاب، أما السيدة فحكم عليها بعقوبة تجميد مدتها ستة شهور. ولكن لم يعاقب الكتاب. وأجبر محققان شابان من روستوف على الدون، كان قد شاركا بالكشف عن قضية التغرير بالقاصرات (ويتضمن ذلك مشاركة كاتب معروف ارتكب خطيئته في كوخ على أطراف مقبرة) للمغادرة. ونقلا إلى كرازنودار.

هناك كاتب مقالات شاب خدع ستة وثلاثين صبيا (كان يقود حلقة أدبية طليعية) وحصل على عقوبة ثماني سنوات. غير أنه لم يكن هاما، وإنما مجرد سمكة صغيرة، كما أن الآباء هبوا كالعاصفة وسجلوا شكوى.

ولك أن تتخيل ما قيل عن الجمعية الأكاديمية حينما ذكرت أسماء هؤلاء العباقرة أمثال داو. وكانت زوجته كما يمكن أن تقول موقوفة، وقد أرغمت على تجهيز الأسرة للنساء الآبقات اللواتي أتى بهن زوجها إلى البيت. (وبداعي الانتقام استعملت ملاءات قذرة). وهناك أشياء كثيرة عرفت عن الفنانين. مثلا أحد النحاتين اليساريين كان يعيش مع زوج من التوائم الصغار. حسنا، ماذا في ذلك؟. لم يكن هناك آخرون. كل شيء يسير حسب القوانين التي وضعها جو لوك مارك، وكما قال الممثلون في سابق العصر والأوان، مع مرور الوقت "الحجرة الثقيلة تسقط الأرض".

كان جو ينام مع ابنة بالغة وزوجة شابة لموظف هام - وهذا يعني أن سلوكه لم يقل سوءا عن سلوك خليستياكوف (2)، والذي لم يمنحه غوغول فرصة علاقة مع زوجة وابنة الحاكم، مع أن ذلك محتم في الفصل الأخير. لقد وضع جو باهتمام صورة الزوجة المعنية في ألبومه، وعرضها على كل من يريد أن يرى، كما كانت تتباهى أمامه وتعرض نفسها وفق ما يريد ويرغب. ثم خيم على المدينة اهتمام غير مسبوق. فبعد أن منحت نفسها لجو، وكافأها بعرض الألبوم، تعرفت ابنة الموظف الكبير على زوجة أبيها وأخبرت أمها كأنها حققت نصرا. ولم تنشر المطلقة الحكيمة الخبر لخشيتها على سمعة ابنتها ومستقبلها الشخصي (وأضيف هنا عدة كلمات عن البلدة نفسها: تقريبا كل الشوارع حملت اسم لينين. وتجدها على الخريطة مرسومة ومتقاطعة بطريقة مثالية، وكان شارع لينين يمتد وينقلب وينحدر ويتغلغل في كل الأحياء. وهذه هدية من السلطة لإحياء ذكرى قائدنا. ولاحقا في بعض المستوطنات الريفية مثل بيريديلكينو، القريبة من موسكو، تعاملوا مع الاسم بمهارة. تبديل العناوين أو تغيير أسماء الشوارع عمل معقد، ويترتب عليه تصويب الخرائط، وإضافة إشارات ولافتات جديدة، لتتجنب مكاتب البريد الفوضى... فقد أعطوا "شارع لينين" دون بهرجة زائفة اسم "شارع لينا"، وبدا الأمر كما لو أنه تكريم لامرأة تحمل هذا الاسم). وهكذا كان جو جوان يبرز في شارع لينين برشاقته كل يوم جمعة مساء، ويغادر سيارته التي تحمل لوحة بلدية موسكو، ويسير على الرصيف، متحديا الظروف بطريقة حياته المعهودة. وأخبر الجميع بآخر غزواته مباشرة وبصوت مرتفع كأنه ديك على السور. وكان من واجبه أن يخدم المجتمع بطرق تنم عن أقصى درجات الانفتاح العلني. وعلينا أن نقر لبطلنا بفضله: لأن أحدا لم يعترض على ما قال. وتقبل الجميع ما يحصل كالعادة. لم يكلمه أحد عن الطفلة المسكينة التي اختارها ليلا من عنوان يعرفه كلنا، مع أنها ابنة صديقين مشتركين. ماذا سيحصل؟. وكما قالوا ما وقع قد وقع. وفعل التغرير بالقاصرة قد تم وانقضى وتكرر مرارا. ماذا علينا أن نفعل إزاء ذلك الآن؟. هل نشتكي للسلطة؟. ونسهل إرسال البنت إلى مستعمرة العقوبات؟. كلا وألف كلا - لا يجب أن نكون قضاة. وإلا دخل بيننا الشيطان، ولن نفتح له الباب. لن نقبل أن نكون مخبرين. ليس نحن. وهكذا علت الضحكة في أرجاء المدينة (وليس بين أمواج البحر كما قال غوركي).

عموما لم تتمكن ابنة المسؤول قليل الصبر من ضبط نفسها. وحملت أخبار خيانة زوجته الجديدة إلى أبيها المخدوع. ومباشرة ثارت حاجة ملحة للبحث والتدقيق. وهذا يعني إصدار مذكرة. وهذا يعني الاعتقال والتوقيف.

كانت السلطات المسكينة حتى هذه اللحظة تتحلى بالتسامح والحكمة. فهم جميعا أخوة بالرضاعة (3)، وجعلهم جو الفكاهي صغارا ثانية. كانوا ممنوعين من التدخل في الشؤون العلمية، ولا يجب عليهم الاهتمام بالأخطاء السخيفة. ولا ضرورة لنشر الغسيل الوسخ، كي لا يلحق العار بهم جميعا.

أخيرا تم اعتقال جو بعد أسبوع من التحقيقات. وتم استنتاج كل شيء في موسكو، في المخبر الذي كان يرأسه. ولم يؤخذ أي شيء بالحسبان - لا عمله الجيد للجميع، ولا اختراعاته التي كان يحاول أن يسجلها، باذلا جهودا جبارة، وغالبا دون فائدة، في مكتب الاختراعات المضجر.

أما لماذا تم اعتقاله؟. اتهامات سخيفة. خلاصتها أن ذلك الفني الأخرق وقع وثائق للتخلص من جهاز قديم لكنه لم يخرب شيئا. أولا كان جو كسولا جدا للقيام بعمل مضجر مثل تكسير أجهزة تخزين سجلات العام الماضي، وإحراق أنابيب الراديو، وأجهزة قياس جديدة . ثانيا خبأ كل شيء مثل مدبرة منزل بخيلة. فقد يجد له نفعا في وقت لاحق - في ذلك الوقت لم يكن هناك مسمار إضافي يمكن شراؤه حبيا لشح النقود. كان آنذاك وقت العجز. حتى أن جو وعلى نفقته اشترى ترانزستورات من أشخاص يبيعونها أمام متجر الرواد (وهو ما تم اعتباره فيما بعد شراء بضائع مسروقة، وحصل لقاء ذلك على عقوبة سنتين إضافيتين).

ودخلت المدينة تحت موجة من التنقيب. وزعموا أن ذلك للبحث عن الأدب الممنوع، ولكن في الحقيقة كان للبحث عن صور البولارويد. وكانت الغاية إزالة واستئصال عار البلدة. تعرض جو لسجن سبع سنوات في معسكر الأعمال الشاقة مع إذن خاص يسمح له بكتابة رسالتين في الشهر. في إحدى سنوات سجنه عانى من الضرب والاغتصاب والتحقيقات التي استمرت من غروب الشمس حتى الفجر. ومن الظاهر أنه اضطر بالإكراه لتسمية كل شخص يقرأ الأدب الممنوع - ومن منا لا يعترف إن كانت عواقب الامتناع هي تسليمه للمثليين جنسيا؟. وما يدعو للغرابة أنه لم ينجم عن ذلك اعتقالات جماعية. ولم يلمس أحد أي شخص من سكان البلدة. وسمحوا لكل شيء أن يختفي. فسلطات المدينة لم تكن ترغب بفضيحة سياسية شاملة تلفت انتباه ضباط الكي جي بي أصحاب الرتب الصغيرة، المتحمسين لكسب المزيد من النجوم. وأعطي جو منة واحدة: فقد أمضى بعض الوقت في المستشفى بشبهة أزمة قلبية وكسر ضلعين. ولكن الأطباء لم يصادقوا على التشخيص، وأعيد إلى زنزانته. وهناك أثبت وجود الرب بالمنطق والحسابات الرياضية. وهذا هو مجاله العملي. ولم يكن يأمل بشيء. وكتب عنه في إحدى رسائله. لقد بدأت حياته الجديدة والقصيرة هناك، في السجن: حياة شهيد وزاهد متدين ومتعصب. وطيلة وقت العقوبة المحددة، لم يحب غير امرأة واحدة، هي جولييت الصغيرة. بعد سبع سنوات وحينما شارفت عقوبته على نهايتها، انضمت جولييت إلى دير.

***

..........................

1- ستالين.

2- شخصية أساسية في قصة غوغول "المفتش العام".

3- الرضاعة من صدر واحد.

* ترجمها إلى الإنكليزية ليز برودي

Lise Brody ترجمت أعمال إلينا ماكاروفا، تاتيانا مامونوفا، بالإضافة إلى بتروشيفسكايا. وهي أيضا فنانة تشكيلية.

* لودميلا بتروشيفسكايا Ludmila Petrushevskaya كاتبة روسية معاصرة. ولدت عام 1938 في موسكو. عملت منذ عام 1972 محررة في استوديو التلفزيون المركزي. أول كتاب صدر لها عام 1987 بعنوان "حب لا يموت". عارضت حرب روسيا في أوكرانيا.

Колокол дремавший

بواكير قصائد مترجمة للشاعر الروسي سيرغي يسينين

ترجمة: إسماعيل مكارم

***

ها هو الجَرَسُ الغافي قد استفاق

وأيقظ َ الحقولَ من حَولِه.

فأرضُ الصّباح

تبتسم ُ لطلوع الشمسْ.

*

وتعاقبتِ الدّقاتُ

وانتقل َ الصّوتُ الى السّما الزرقا،

فانتشرَتْ موجاتهُ الرّنانة

في سَماواتِ الغاباتْ.

*

هناك خلفَ النهر

قد اختبأ القمرُ الأبيضُ،

بينما مِياهُ النهر تركضُ،

موجة تعدو خلفَ موجة.

*

هاهي أراضي الوادي النعسانة

تعانق الصّباحَ ،

وهناكَ خلفَ الطريقْ

يضيعُ النغم ُ الجَميلُ .

1914

...........

نقلت الى العربية عن النص الروسي في أوائل شباط

2015

***

فراق

«Ты ушла и ко мне не вернешься…»

تركتِني وما خطر ببالكِ الرّجوع،

ونسيتِ مكاننا الدافِي،

تبتسِمينَ الآنَ لِغيري ،

وتلتحِفينَ بشالكِ الأبيضْ.

*

أحسستُ بالوحدَةِ والغصّةِ والمَرارَهْ،

ومِدفأتي المُشتعلة صارتْ لا تمْنحَني الدفءَ،

غيرَ أنّ قمَرَ البنفسج، الذي جفّ في كتابي،

يَهمُسُ لي عن سَعادةِ تلك الأيام الجميله ْ.

1915

***

والنجم يُشع فوقي

«И надо мной звезда горит…»

النجمُ يشع ّ فوقي في السّماءْ،

غير أنّ الضبابَ يحجُب نورَهُ قليلا ،

وينتظرني دربٌ كبير،

الا أنه بالأعشاب الضارة مُغطى.

*

هذه الدنيا كلها تبتسم لي ،

لكن ّ في الابتسامةِ شيءٌ من الازدِراء،

وهذا هو مَصيري يَبعَثُ لي السّلامَ ،

وَسلامُه مليء بالدمُوع، بَدلا من السّلوان.

1912

***

...................

هوامش ومراجع:

1.     Сергей Есенин. Собрание сочинений в

двух томах. Том 1. Москва.1991 г.

2.     Сергей Есенин. Собрание сочинений в

двух томах. Том 2. Москва.1990 г.

بقلم: يتشيزار أنغيلوف

ترجمة وتقديم: خيري حمدان

***

وجهات

أخذت أمنيتي بالسفر حول العالم تتحقّق في مرحلة متأخّرة نسبيًا من العمر. الحقيقة أنّني أمضيت الثلاثين عام الأولى من حياتي ونيّف في دولة يحظر نظامها السياسي منح حرية التنقل والسفر لمواطنيها بأيّ شكلٍ من الأشكال، لكن وبعد بدء المرحلة الانتقالية وجدت نفسي معدمًا من المال ولا أقوى على تحقيق رغبتي بالسفر قدر ما أشاء. مرّت سنوات طويلة قبل أن أباشر العمل لدى شركة تتطلب مهامها السفر باستمرار كجزء من الوظائف الأساسية. كان عليّ الاستعداد للمغادرة إلى الخارج في أيّة لحظة للمشاركة في المؤتمرات المنعقدة في مختلف المدن الأوروبية. أصبحت المطارات والفنادق والطائرات جزءً لا يتجزّأ من المهنة واللعبة التي تدفع الشركة قيمتها بسخاء لقاء  مشاركتي.

أدركت أخيرًا أنّ أمنيتي قد تحققت.

أطير كلّ أسبوع إلى مكانٍ ما، ألتقي مع زملاء وعملاء وشركاء. نعمل وفقًا جدول مهامنا وغالبًا ما نستأجر صالة في فندق أو نستخدم مكتب الشركة إذا تواجد مثله في المدينة. وأحيانًا نلتقي في أحد مطاعم المطار وبعد الانتهاء من أعمالنا ينطلق كلّ منّا في طريق العودة. وبعد أسبوع أو أسبوعين نعيد الكرّة ثانية في مدينة أخرى.

لم يمضِ وقتٌ طويل حتى باتت عمليات التنقل والترحال ما بين المدن في مختلف القارات عملا رتيب، وازداد تعداد نقاط الوفاء والتخفيضات والأولويات لدى شركات الطيران. ممارسة العمل على هذه الشاكلة يؤثّر من دون شكّ على سلوك المرء ونمطية حياته وتدريجيًا تخون المعني رغبته المبدئية برؤية معالم المدن التي يزورها. وفي أحد الأيام سيكتشف أنّه قد بات يفضّل الفنادق القريبة من المطار. يجري اللقاءات المطلوبة في أروقة الفندق، يتناول الطعام هناك وتأخذ مظاهرُ التواصل الاجتماعي بالتراجع لتنحصر أخيرًا في مجموعة قليلة من الناس الذين لا يعرفهم شخصيًا، لكن يمكن تمييزهم بجدارة عندما يلقاهم، وهم بدورهم يمارسون أعمالهم وحياتهم بذات الطريقة، عدا عن ذلك تجد الجميع معجبين بنمط الحياة هذا.

تدرك أخيرًا أنّ الحشد المتواجد في مرافق ومعابر المطار هي جزء من واقع الدنيا التي ولدت فيها وتعيش فيها ولكن بصورة مكثّفة للغاية. هذا المكان تحديدًا يمثّل كافّة الجنسيات والأعراق والشعوب. يتنقّلُ فيه السويّون والمرضى والمخبولون والأصحاء والحزانى والفرحون المبتهجون. وفيه يلتقي المجرمون والمحتالون والعاشقون وبائعات الهوى. جميعهم هناك مسافرون إلى مكانٍ ما. الحشود في المطارات وداخل الطيارات نادرًا ما يتبادلون الحديث، لكن يصدف أحيانًا أن يلتقي البعض بآخرين يذكرونهم لوقتٍ طويل بغضّ النظر عن طبيعة هذه الذكرى سواءً كانت طيّبة أو مسيئة. وأحيانًا تصبح المطارات معقلا لأحداث ذات طابع سوريالي. 

اضطررتُ مرّة للسفر إلى فيينا في أولى الرحلات الصباحية. كانت الأجواء باردة وعاصفة وتراكمت كثبان الثلوج في كلّ أنحاء أوروبا. الحقيقة أنّني رأيت الثلج للمرّة الأولى في فيينا. التقيت في الفندق المتواجد هناك بالقرب من مخرج المطار بالأشخاص المعنيين برحلة العمل. أنجزنا المهمة المطلوبة وبات بإمكاننا الطيران عائدين. انشغلت بعض الوقت في أحد مقاهي المطار وكان لديّ الوقت الكافي لأمتطي طائرة المساء، وعندما توجّهت أخيرًا للممرّ المخصّص حسب الجدول تبيّن لي أن المطار قد أغلق وخضع لتنظيف مدارجه من الثلوج. اقترحوا عليّ أن أغادر في رحلة الصباح من اليوم التالي وأن أحصل على بطاقة مجانية للمبيت في الفندق المتواجد على بعد ثمانون كيلومتر من المطار.

- شكرًا لتفهّمكم. تشهد المدينة في هذه الأوقات أربعة مؤتمرات دولية وتصفيات رياضية نهائية.. ثمّ هذا الثلج المتراكم! لقد ألغيت كافّة الرحلات ولا توجد غرف فارغة في الفنادق المتواجدة بالقرب من المطار. يمكنكم بالطبع الحصول على بدل خدمة أجرة النقل.

- لا شكرًا، سأبقى في بهو الانتظار. طائرتي ستقلع غدًا صباحًا.

- كما تشاؤون. المسافر التالي لو سمحت!  

أنهيت اجراءات معاينة جوازات السفر ودخلت إلى المعبر المخصص لتوجّه المسافرين إلى الطائرة صباح اليوم التالي. كان عليّ أن أجد مكانًا مناسبًا لقضاء ساعات الليل هناك. أعرف مكانًا قصيّ في أحد الأركان يتواجد ما بين محلين تجاريَيْن. الزاوية المعنية هادئة وخالية من الروّاد لكن المقاعد المصفوفة معدودة ويصعب النوم فوقها.

التقيت هناك شخصية بدت للوهلة الأولى غريبة الأطوار، رجل يرتدي بنطالا قصيرًا مزيّن بألوان علم إيطاليا يمتدّ لما فوق الركبتين بقليل، وقبعة تزلّج على الثلج موسومة بأحرف كلمة ATOMIC بالبنط العريض. لا بأس، فنحن في النمسا على أيّة حال. كما يرتدي الرجل سترة صيفية خفيفة لا تليق بفصل الشتاء البارد ويبدو في رحلته هذه متحرّرًا كالطيور ولا يحمل حتى حقيبة يد. لاحظت بأنّه يبدي اهتمامًا بالأحرف البلغارية المطبوعة على جواز سفري الذي أحمله بيدي. وجّه لي حديثه باللغة الروسية قائلا:

- استقرّ في أحد المقاعد قبل أن يشغرها المسافرون، فبانتظارنا ليلة طويلة ويمكننا في الأثناء تبادل الأحاديث.

- شكرًا، لكنّي لا أتقن اللغة الروسية.

- وكيف هذا؟ ظننت أنّ كافّة المواطنين في بلغاريا يتقنون الروسية. أنا لا أصدّقك، لكن يمكننا على أيّة حال التواصل باللغة الإنجليزية وسنجد طريقة للتفاهم. أنا من أوكرانيا قادم من هافانا. أمضيت هناك إجازتي وأجّلت رحلتي إلى الغدّ. سلّمت متاعي وملابسي مباشرة إلى كييف، وكنت قد احتفظت بسترة وبدلة رياضة في حقيبة صغيرة لأرتديها في فيينا، لكنّي نسيتها في الطائرة المنطلقة من هافانا. أخبروني بأنّهم سيشحنوها خلال 48 ساعة، لكن ما حاجتي لها بعد يومين؟ سهرنا ليلة الأمس مع أصدقائي الكوبيين لوقتٍ متأخّر من الليل وانطلقت إلى المطار كما ودعتهم وكما تراني الآن. لديّ ما يكفي من المال وأربعة بطاقات إئتمان إحداها ذهبية، لكن في هذا المعبر لا توجد محلات لبيع ملابس رجالية، ولا يسمحون لي بالانتقال إلى المحلات الكبرى خلف المعبر من دون تأشيرة دخول نمساوية. لو يفعلون لاشتريت سترة شتوية وقبعة وجوارب دافئة. أرجو أن أنجو بملابسي هذه!

- لدينا ما يكفي من الكونياك، لا بأس سننجو من دون شكّ. حاولت أن أضفي على حديثنا بعض الحسّ الفكاهي.

- احجز مكاني لو سمحت، سأحاول الحصول على بعض الطعام مقابل القسائم التي قدموها لنا. المسافرون يواصلون القدوم وقد نفقد أماكننا.

أنقّل أنظاري في الملجأ الذي عثرنا عليه لأتبيّن ولحسن الحظّ أنّ هذا الركن خفي عن الأنظار فهو يفصل ما بين محلين تجاريين تتواجد أمامهما عربات تسوّق، وعلى الأرجح فإنّ المسافرين العابرين لهذا المرفق للمرّة الأولى لن يلاحظون هذه المقاعد المصطفّة.

عاد صاحبي الجديد الذي أجهل اسمه بعد نصف ساعة بصحبة رجل وامرأة يرتديان مثله ملابس غريبة. يعتمر الرجل قبعة إيرلندية وفي قدميه جوارب ثقيلة وتنورة اسكتلندية وسواه من الرداء غير التقليدي. لكنّ المرأة تبدو أنيقة للغاية وترتدي ملابس ثمينة بما لا يتناسب مع هذا المعبر. أدركت ببطء أنّها ترتدي ثوب زفاف ومن فوقه فيزون من جلود المنك  وفي قدميها حذاء رياضي ثمين وفي شعرها وردة.

- عقدنا القران قبل بضعة ساعات في سلوفاكيا في الطرف الآخر من الحدود النمساوية، زوجتي سلوفاكية. سنمضي شهر العسل في كانكون في المكسيك. لكن وعلى ما يبدو سنقضي أولى ليالي حياتنا الزوجية معكم. ظننت بأنّني قد وضعت بنطالَيْ جينز في حقيبة اليد لكنّي لم أعثر على أثرٍ لهما! لا بأس. 

تحدّث الرجل بلكنة إنجليزية لطيفة وأظنّه قد جلس في مقاعد مدرسة خاصّة لسنوات طويلة ونال شهادته العليا من جامعة عريقة ليتمكّن من الحديث بهذه الأناقة والثقة، التي تختلف بالكامل عن لغة الشارع والملاعب الرياضية.

- بل تبدوان في منتهى الروعة، لكن أين نصلك. عادة ما تتماهى التنورة الاسكتلندية بالسكين على الخصر؟ كيف ستتصرفون الآن إذا صادفتم مواطن بريطاني؟ ابتسم العريس وقال:

- لا عليك، ما أن أهدر بصوتي“Freedom“ حتى ترى البريطانيين يسّاقطون خوفًا على الأرض.

- أمامنا عشر ساعات قبل أن يسمحوا للطائرات بالاقلاع إذا سمحوا بذلك على أيّة حال. ما رأيكم أن نقيم احتفال بمناسبة عقد الزفاف؟ تدخّل الأوكراني قائلا:

- نعم، هذه فكرة رائعة. أفاد الأسكتلندي بأنّه يملك قارورة ويسكي في حقيبة اليد وما أن سمع الأوكراني هذا الخبر حتى انطلق من فوره تجاه المحلات التجارية ثمّ عاد بعد قليل يحمل حزمة من علب البيرة.

بدت شلّتنا في أنظار الآخرين لوحة سيوريالية. أنا أرتدي بذلة سوداء وقميص أزرق فاتح وربطة عنق، الأوكراني كأنّه ذاهب لصالة الرياضة والزوجان كما ذُكرَ أعلاه. أخرجت العروسُ جهازَ الحاسوب، شغّلته وانطلق منه صوت بوب ديلون  وقالت:

- أنا وزوجي نعشق هذا الفنان، جمعت في حاسوبي كلّ ألبوماته.

حضر أعضاء أمن المطار إلينا، راقبونا لبعض الوقت ثمّ ابتسموا من تحت شواربهم وتركونا وشأننا. الحقيقة أنّني قد التقيت بأصدقائي الثلاثة للمرّة الأولى وها نحن نستمع لبوب ديلون ونحتسكي الشراب ونتبادل الأحاديث. نعم، نتبادل الأحاديث على الرغم من اختلاف الفئات العمرية وانتمائنا لدول مختلفة، لكن في جعبتنا الكثير من الحكايات.

اندلع جدال ما بين الأوكراني والعروس السلوفاكية بشأن الأدب الكلاسيكي إبّان حقبة الإمبراطورية الروسية وتبيّن بأنّها تحضّر أطروحة دكتوراه تتناول نتاج الشاعر الأوكراني تاراس شفتشينكو المعروف باسم "كوبزار". أخطأت العروس حين أكّدت على أنّه أحد أهمّ الشعراء الروس خلال القرن التاسع عشر، وبدا صاحبنا الأوكراني فاقدًا لأعصابه، وأوضح لها الرجل أنّ دواوين كوبزار متواجدة في كافّة المنازل الأوكرانية، أمّا الروس فلا يفقهون شيئًا.. لكنّهما سرعان ما سكنا وتجاوزا هذا الخلاف.

نرفع أنخاب صحّة العروسين وبين الحين والآخر يظهر طاقم البوليس المناوب ما بين عربات الأمتعة. ينظرون إلينا باهتمام بالغ، يبتسمون ثمّ يمضون في طريقهم. أتينا على قارورة الويسكي وامتدّت أيدينا بعد ذلك لعبوات البيرة. نامت العروس بعد منتصف الليل بقليل واختفى الأوكراني في دورات المياه ليعود بعد ذلك يحمل بين يديه حزمة جديدة من عبوات البيرة. غريب، من أين يشتريها في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل؟

تجدّد الخلاف والنقاش هذه المرّة ما بيني وبين الأسكتلندي وديلون هو محور الحديث، هل هو شاعر أم موسيقي؟ كلانا يدرك جيّدًا أنّ الجدل عقيم ولن يؤدّي لأيّة نتيجة، في تلك الأثناء واصل ديلون رفضه لنيل جائزة نوبل. ثمّ همس الأسكتلندي قائلا:

- أتدري، أريد أسرة كبيرة والكثير من الأبناء وأريد كذلك ن أدوّن كتاب. سأكتبه ذات يوم. سأصدر مؤلفًا عن خطاب رجال السياسة المعسّل، وسأشير فيه إلى أنّ الناس متشابهون في اختلافهم. البعض ليسوا على درجة عالية من الذكاء والمعرفة ليفهموا هذه الحقيقة. أمّا الجهلة فحدّث ولا حرج.. يبدو أنّ الخمر قد نال منّي يا صديقي! حفل زفافٍ طويل مع الأهالي وهذا السمر الآن في مطار غريب.. أشعر بالتعب.

احتسينا ما تبقّى من علب البيرة ثمّ بذلنا جهدًا أشبه ما يكون بتعذيب وجلد الذات للخلود للنوم لساعة أو أكثر.

- هل أنتم موافقون؟

- نعم، موافقون. 

أخرج الأوكراني من جيب سترته زجاجة فودكا صغيرة وردّد بالروسية بصحّتكم! أتينا على زجاجة الفودكا أيضًا. ارتسمت على وجوهنا ابتسامات خالية من أيّ معنى وبدا الحزن على وجوهنا نحن الثلاثة.

نامت العروس فوق المقاعد المعدنية غير المريحة في المعبر القديم لمطار فيينا. كنت على ثقة مطلقة من أنّنا سنتذكّر ما حيينا أولى ليالي العرس تلك بخيرها وشرّها. كان من الواضح في تلك اللحظات أنّنا غارقون جميعًا في أفكار شخصية وأنّنا منشغلون بذواتنا عن الآخرين حتى أنّنا نجهل أسماء شلّتنا التي أمضت ليلتها في معبر المطار، لكنّنا على الأرجح سنذكر معالم وجوه أولئك الأصدقاء المجهولين وأنّنا أمضينا ليلة خالدة لا تنسى معًا. 

لن يترك أيّ منّا أثرًا قادرًا على تغيير نمط حياة الآخرين لكنّ العروسين سيذكران تلك الليلة حتى يحين موعد الطلاق ومن يدري؟ هذا ليس مهمّ على أّيّة حال. أستيقظت من النوم القلق والبرد الشديد قد جمّد أوصالنا في ذلك المعبر. اختفى الزوجان والأوكراني يغطّ في نوم عميق، رأسه مسدل إلى الخف وفمه مفتوح. لم أحاول إيقاظه فليس لدينا ما نقوله ونضيفه. ثمّ أنطلقتُ في المعبر الذي يؤدّي إلى الطائرة في الوجهة المألوفة.

***

* ولد الأديب ليتشيراز أنغيلوف في مدينة إلخوفو عام 1956. أنهى دراسة الأدب الألماني في جامعة "كيريل وميتودي" المتواجدة في عاصمة بلغاريا القديمة فليكو تيرنوفو. ساهم بترجمة للغة البلغارية الأعمال المسرحية للأديب الألماني بيتر هاندكه الحاصل على جائزة نوبل عام 1979. شملت هذه الترجمات مسرحية "كاسبر"، "شتيمة الجمهور"، "التنبؤ"، "لوم الذات"، نداءات للنجدة". نشرت هذه الأعمال في أهمّ المجلات الأدبية المختصة كمجلة "آه، ماريا". صدرت مجموعته القصصية الأولى بعنوان "التفاوت في طريق باتجاه واحد" عن دار النشر "مكتبة بلغاريا". قصّة "وجهات" ضمن هذه المجموعة.  

بقلم: كاثرين هيني

ترجمة: صالح الرزوق

***

عاد غوردي ابن ميا المراهق من العمل إلى البيت، وكان منهكا. مع ذلك قالت ميا لنفسها: يبدو سعيدا جدا. لا بد أنه يعشق عمله. وهو يعيش حياته كالمخمور.

تبدو ميا مثل أمها. لكن غوردي استثناء بين المراهقين أمثاله، ليس بسبب نباهته أو مظهره - فقد كان شديد التألق، وتعتقد ميا أنه حسن المظهر - وطبيعته لطيفة ودمثة أيضا. وهو الآن في السابعة عشرة من عمره، ولم يتسبب لميا ولو بلحظة قلق واحدة. كان نسيج وحده بين أقرانه المراهقين: من نوع نادر، وسيم وفاتن بوجه طويل، وربما موهوب، ولديه قدرات ليهب الآخرين بركاته ومعجزاته.

حينما عاد غوردي من عمله الصيفي، في السوبرماركت، كانت ميا في المطبخ، تفتح رسائلها، وتغذي وارول، وهو كلب صيد من نوع كوكر، صب غوردي لنفسه كوبا من الحليب وقال:"جاءت السيدة العجوز وطلبت سمكتي قريدس". فقد كان يعمل في قسم الجزارة، ولاحظ أن العجائز اسوأ الزبائن، دائما تطلبن ذرات قليلة من اللحوم. وتابع كلامه:" قالت 'واحدة لي والأخرى لابنتي'، فأخبرتها إن ثمنها اثنين وأربعين سنتا، وحينها نظرت لي كأنها تفكر أن لا تحسب حساب ابنتها في المرة القادمة".

حدقت ميا بغوردي، ابنها الوسيم، بابتسامته الناعسة وعينيه البراقتين ووجهه المحمر، وخطرت لها الفكرة المهينة.. أن غوردي يعيش حياته كإنسان مخدر.

كان المخدر الذي وقع عليه اختيار ميا في أيام الدراسة هو الحشيش. وحين تعود الى البيت بوقت متأخر، تفوح منها رائحة أقوى من رائحة شجرة عيد الميلاد، وعيناها كالزجاج، ولا تتوقف عن الهراء، والإحساس بالجوع. فتضع أمها جانبا حياكتها أو رقعة كلماتها المتقاطعة وتقول:" أهلا بك يا عزيزتي. هل أنفقت وقتا طيبا مع صديقاتك؟".

كان لأم ميا وجه تام الاستدارة، وأنف شامخ، وعينان واسعتان ملؤهما التفاؤل، وابتسامة لا تذبل (كانت تبدو كأنها نسخة من فروستي رجل الثلج، إذا وضعت على رأسه شعرا مستعارا أجعد). وكانت تحب طهي المعجنات في الفرن، أو ما يشبه المعجنات. وكانت تحضر مع ميا عجينة الكعك بالسكر، وتأكلها قبل طهيها، أو تخبز الجلاتين المحلى تحت الدجاج لتحضر منه السميري بالشوكولا.

وكانت ميا تزمجر لفترة طويلة وتسرد حكايات ملفقة، مثل "جاءت هذه الليلة بنت تضع أسلاك تقويم الأسنان، ولم يتعرف عليها أحد، ولم نعرف من دعاها، أو لماذا تضع الأسلاك مع أنها في مدرسة ثانوية، ولكن بعد أن هجرت ميشيل سكوت اعتادت على ذلك -". وأخبرت ميا أمها إنها تعني اعتادت على تبادل القبلات. "وكما تلاحظين أرى أن هذا مجرد هراء. والآن أود أن أخبر ميشيل أن صديقها ينجذب إلى الأسلاك، ولكن أعلم أنها ستغضب".

فتقول لها أمها:" آه يا عزيزتي". ويغطي وجهها لون زهري وتضيف:" يسعدني انك تخبرينني بكل شيء. وأنا مسرورة لأن العلاقة بيننا تقوم على الصراحة".

فتقول ميا:" تناولت هناك أفضل سميري تذوقته في حياتي كلها".

ويمكن أن تفهم أن أم ميا، التي تدير طاولة المبيعات في متجر أقمشة، لا تتعرف على المراهق المدمن، لكن ماذا عن ميا؟. كانت ميا تعمل في عالم الفن، بصفة مساعد مدير لصالة عرض في جورج تاون، ومع أن الصالة هادئة ووقورة إلى حد ما، كانت العقاقير متوفرة. واحتفظت ميا بخمس نظارات شمسية في طاولتها من أجل الفنانين الذين يأتون للمشاركة بمعارضهم مع تلاميذهم إما بعينين لا يظهر البؤبؤ فيهما بسبب تعتطي ااهروين، أو انهما متسعان بشكل قرشين من تعاطي الكيتامين. ولا تستغرق وظيفة ميا إلا أربع ساعات، وفي إحدى المراحل كانت تنفقها برفع شعر نحات مشهور وهو يتقيأ أملاح الاستحمام في دورة المياه. وكانت شهرة ميا معتدلة في الصالة، ومعروفة أنها من أوجد نظام اللاسلكي (في التسعينات) وهو ما سمح للموظفين أن يختفوا في زوايا المعرض، ويتواصلوا مع بعضهم البعض لمتابعة حركات بعض الرسامين قائلين: لديه مشروب في يديه.. إنه يترنح للأمام والخلف... قال لكلوديا وولف إنها "غير ناضجة"... يحاول أن يفتح باب إحدى اللوحات. يعتقد أنه الحمام.

والآن ها هي تفكر أن ابنها مخدر من الحياة. ضحكت ميا من هذه الفكرة. ولكن - غوردي؟. هذا يبدو مستحيلا. حينما كان طفلا كانت أم ميا تقول بصراحة:" أرى بكل وضوح أن غوردي طفل عذب المحيا والطباع، ولا يوجد مثله في العالم. أعلم أنك ستضحكين مني، ولكن أشعر بالأسف لكل الأمهات اللواتي تعتقدن أن ابنهن هو الأفضل". ضحكت ميا منها، ولكنها وافقت سرا. واستمر غوردي بهذه الهيئة.. حلو القسمات وبسيط الطباع في كل المراحل التالية من حياته.

الجميع يعلم أن الحب أعمى. ولا شك أن ميا وافقت أن الحب أعمى. فقد كانت تلتقي مع زوجها السابق بمواعيد غرامية وتفسر عبثه مع النادلات على أنه من باب حسن السلوك والمشاعر الإنسانية. ولكن لا أحد يعترف أن حب الأبوين أعمى أيضا - على الأقل لم يخبر أحد ميا بذلك. ولم ينوه أحد لميا أنها لا ترى غوردي الحقيقي. ولم يخبرها أحد أن الحب يضع غشاوة على البصر كلما نظر الآباء لأبنائهم، حتى أنه يستحيل تخيل أنهم يتعاطون المخدرات - حرفيا يستحيل تخيل حدوث ذلك. غوردي يدخن الحشيش؟. كيف يمكن لذلك أن يحصل؟.

قال غوردي من الكنبة حيث كان جالسا يتفحص هاتفه:" توقفي عن التحديق بي يا أمي. هذا يرعبني".

تدرك ميا كيف يبدأ الإدمان. فقد بدأت هي حينما دعيت إلى حفلة. كانت حفلة من النوع الذي يشترك فيه الصغار في كل عطلة أسبوعية، ولكنها دعيت لمرة واحدة، وأحبت أن تتكرر هذه الدعوة. وحينما مرر أحدهم سيجارة حشيش في الحفلة، نظر الجميع إلى ميا ينظرون لردة فعلها، فتذوقتها مرة. ثم مرة ثانية. (ميا عمليا لم تكن تقاوم ضغط العيون المسلطة عليها في المدرسة). ولكن مع الوقت بدأت تعتقد أن هؤلاء الصغار يزمعون على أمر ما - وبعد النشوة تصبح كل خلية في الجسم متراخية، ويسهل التعامل مع كل المواقف الاجتماعية. وهكذا تحولت إلى إنسانة مسلية ومنفتحة، وفجأة تزايد عدد أصدقائها، وأصبح بمقدورها الاشتراك بالعديد من الحفلات.

بدأت تشعر أن ميا الصلبة هي ميا الحقيقية. وميا الصابرة إنسانة في ظرف لا يتلقى العناية المناسبة، وتعاني من قرحة أو أوجاع الشقيقة. كل إنسان لديه الحق في معالجة معاناته. وعما قريب على ميا أن تدخن في الصباح قبل دوام المدرسة وفي ساعة الغداء، وخلال استراحات دورة المياه في فترة ما بعد الظهيرة (لأن ما بعد الظهيرة مزعجة جدا دون هذه الاستراحات)، وبعد الدوام وقبل الغداء وبعده، وقبل النوم في السرير، بغض النظر عن عطلة الأسبوع حينما تحصل على فترة تنفس طويلة من ما بعد ظهر الجمعة وحتى صباح الاثنين.

خابر ميا زوجها السابق جاك هنري، على أمل التفاهم واستعادة الثقة، متناسية أنه لا يمتلك هذه الصفات، وهي بعض الأسباب التي قادتهما إلى الطلاق.

وأخبرته بتوقعاتها عن ابنهما، فقال:" آه يا للمسيح. أتمنى أنه ليس الحشيش".

عبست ميا وقالت:" أعتقد أن الحشيش أفضل الاحتمالات".

قال جاك هنري:" ولكن الحشيش يجبرك على الاستلقاء والكسل. ولدى غوردون الكثير من الفراغ. وهو بحاجة لمزيد من الطموح".

" حسنا، أنا…"..

قال جاك هنري:" الآن الشباب في شركتي يدخنون الكوكايين إذا كانوا بحاجة لليقظة وكتابة مذكرة. إن لم يكن الكوك فهو الريتالين".

سالته ميا:" هل هذه نصيحتك؟. أنه عليه أن يتجه إلى المحفزات؟".

قال جاك هنري والذي يعمل تسعين ساعة في الأسبوع، ومرة تم تشخيصه بنقص فيتامين D بسبب نقص أشعة الشمس:" كلا. نصيحتي الحقيقية أنه على غوردون أن يخرج من البيت لفترات أطول. فهو ينفق أوقاتا طويلة في البيت".

قالت ميا:" يمكنك أن ترافقه بنزهة في عطلة الأسبوع".

قال جاك هنري:" ليس وعقد أوبرلين للتحويل قد حان وقته، لا يمكنني ذلك".

كان يحتج على طلاق ميا له. بالإضافة إلى بقية الشؤون التي تشغله.

في يوم الثلاثاء حصلت ميا ومعها غوردي على عطلة، وقاما بزيارة دمشق لرؤية أم ميا. أخبرت ميا غوردي وهما يربطان حزامي الأمان:"أخبرتني أنها أعدت مفاجأة لك".

قال غوردي:" ربما شال أفغاني". كانت أم ميا قد حاكت ملاءات أفغانية متعددة لكل صديق وعضو في العائلة، ولأصدقاء الأصدقاء، وأصدقاء أعضاء العائلة. لو أن هذه المنسوجات الأفغانية كانت عام 2020 ورق دورات مياه لأصبحوا جميعا مليونيرات.

قالت ميا وكانت متأكدة مائة بالمائة أتها أشغال أفغانية:" من يعلم".

قال غوردي:"لا بأس لو أنها كذلك. فأنا أحب المنسوجات الأفغانية".

حينما ردت أم ميا على الباب احمر وجهها المستدير بالحبور من المفاجأة التي تفوق مفاجأة الحياكة الأفغانية. وضعت أصبعا على شفتيها ثم تقدمت إلى الصالة، وأغلقت الباب وراءها.

قالت:" مرحبا يا عزيزتي. تبدين جميلة جدا يا ميا ومتماسكة. وأنت يا غوردون يا لك من شيطان وسيم".

قال غوردي:" تحياتي يا جدتي. لماذا نحن نقف في الخارج .. في الردهة؟".

قالت أم ميا:" بنجامين ينام في مقعدي". وبنجامين هو رجل الصيانة المتقاعد في المحلة، شاب أشقر، وله لحية، بالثلاثينات، ومرة ربت على ميا ببهجة. أضافت:" جاء ليوضب المفاجأة، وجهز الكاكاو، وكنا نتبادل كلاما عذبا، ثم غلبه النوم. فقد أتعبته هنا جدا لدرجة مخزية. ولكن هيا إلى الداخل. سأريكما المفاجأة".

تبعا أم ميا إلى داخل الشقة، ومروا جميعا باحتراس من أمام بنجامين، الذي كان يبدو بحالة فقدان للوعي، ومستسلما لمتكأ أم ميا. وكانت تفوح منه رائحة بودويزر قوية. (أحيانا، بصراحة، تكون كأنك تتسلسل وراء أم ميا وتلقي عليها شبكة، وتهددها بالجر إلى الخلف).

فتحت أم ميا باب غرفة النوم الاحتياطية وهمست تقول:" تفضل وانظر. أحضرت لك بلاي ستايشين لتلهو بها في أوقات زيارتك".

بدا غوردي مبهوتا وقال:" هل هذه حقيقية؟. من أجلي؟ شكرا لك يا جدتي".

وضع ذراعيه حول كتفي أم ميا، فلفت خصره بذراعيها، وتمايلا للأمام والخلف قليلا. كانا دائما حميمين في عناقهما.

قالت ميا:" أليس هذا مرتفع التكلفة يا ماما، لقاء شيء لن يستعمله غوردي إلا في فترات متباعدة".

قالت أمها:" آه منك يا ميا. كم أنت مقلقة. تقاسمت التكلفة مع عائلة داك وورث وعائلة موريسي، لديهم أحفاد بعمر غوردي. لا تهتمي. والآن يا غوردون هل يمكن أن تعلمني كيف ألعب بها؟".

قال غوردي:" حتما. ما هي الألعاب الموجودة لديك؟".

قالت أم ميا:" لدي الرجل العنكبوت 3، أضافها بنجامين للجهاز. إذا وافقت أمك على الاهتمام بغدائنا، يمكننا أن نلعب نحن لعبة سريعة. وكل شيء جاهز في الثلاجة يا ميا".

ذهبت ميا إلى المطبخ، وكانت قلقة من التكاليف. ثلاثة لبلاي ستايشن واحدة ليس أمرا "تافها". فقد دفعت ميا إيجار أمها، ومع أن لدى أمها بعض المدخرات، لكنه ليس بالكثير.

قالت أم ميا من الغرفة الأخرى:" ماذا علي أن أضغط لأجعله يقفز؟". رد غوردي بكلام غير مسموع.

فتحت ميا الثلاجة، وتطلعت لمحتوياتها: لحم بقر مشوي، خبز بيتزا، سلطة المعكرونة، رقائق خبز البيتا، طبق من الفريز، وقشدة طازجة للخفق. كل ما تشتهيه، وهذا ليس شيئا "تافها" أيضا.

صاحت أمها:" أنا أتسلق المبنى. انظر لي كيف أواصل التسلق".

قال غوردي:" أنت فعلا تحسنين صنعا".

فكرت ميا كيف أنها في أيام المدرسة الثانوية لم تسأل نفسها من أين لديهم النقود لشراء جينز جورداشي وتذاكر السينما ورحلات عطلة الربيع مع صديقاتها. ولم تفكر بالتضحيات المالية التي تحملتها أمها لتوفر لها تلك الأشياء من مرتبها الذي تتقاضاه من متجر الأقمشة، ومن تقاعد والدها الميت، حتى أصبحت هي بدورها أما. والآن ها هي أمها، تريد أن تلعب الرجل العنكبوت 3 مع غوردي، بينما ميا نفسها لم تهتم، ولو حتى بشراء كونترول. حملت ميا لوح الخشب، ولكنها تمهلت، ومسحت عينيها. زمجر بنجامين في الكرسي، وتقلب بموضعه. لم تفتش ميا غرفة غوردي، ولم تفكر بانتهاك حقه بالخصوصية، ولن تفعل ذلك. كانت ترتب له غرفته فقط - تحمل ما يحتاج للغسيل، وتوضب سريره، وتكنس من تحت السرير بقع الغبار. وإذا اعتبرت ذلك النوع من العناية بالبيت على أنه "تفتيش" فهي تنتهك خصوصيته منذ سبع عشرة سنة. بصدق لم تكن تبحث عن الماريغوانا أو الاطعمة، أو عن كيس مليء بالحشيش.

(عموما لم تجد شيئا).

ولا أحد يعرف مخاطر المخدرات أكثر من ميا. ولكنها لا تقف من مخاطرها موقفا ميلودراميا أيضا، حتى بعد أن أصبح الحشيش قانونيا. وتعلم أن الحشيش سمح لها بحرية التصرف في أمور لا تفعلها دونه. هل كانت ميا سترافق شانس دوبوز إن لم يكن مصدرا للحشيش؟. وهل كانت تسمح لكيربي ستيل (مع أنه من النمط الفاشل) أن يعاشرها تحت كومة من المعاطف في حفلة لو أنها ليست فاقدة لرشدها؟. وهل كانت تتبادل قبلة مع ذلك الولد في زقاق البولينغ مع أن أسنانه فظيعة وكأنها تقبل جورج واشنطن وهو يضع أسنانه الصناعية؟. وهل كانت تخدش سيارة أمها بجوانب المرآب حينما خرجت منه ثم قامت بطلاء الخدوش بطلاء أظافر أزرق؟. وهل كانت بطاقتها لترفض عدة مرات في تاكو بيل حينما اشترت في وقت متأخر عجينة بيتزا ونتيجة ذلك وضعوها على القائمة السوداء؟. وهل كانت لتاكل بيض أرنوب عيد الفصح المصنوع من الشوكولا مع أنه لأخت ليزا موبين الصغيرة؟. وهل كان وزنها يزداد خمسة عشر رطلا في فصل دراسي واحد؟. وهل كانت لتفشل في امتحان الموسيقا؟ (امتحان موسيقا ملعون؟). وهل كانت لتكتب مقالة من ألف كلمة عن قصة مدينتين فيما 990 كلمة من تلك الكلمات مقتبسة من الرواية؟. وهل كانت ترافق شانس دوبوز ثانية بعد أن رفع سقف طلباته؟. وهل كانت تسرق خمس دولارات من حقيبة مطرزة لصديقة أمها السيدة ستيل؟. وهل كانت تسرق عشر دولارات من خزانة المبيعات في مرآب الجيران؟. وهل كانت لتسرق خمسين دولارا من طاولة السيد تريس حينما كانت تعتني بالصغيرة ترينا تريس؟. وهل كانت لتنام وهي ترعى ترينا وتستيقظ لتجد أن المطبخ وترينا (لحسن الحظ لا تزال على قيد الحياة) ملوثين بالدقيق؟. وهل كانت تطرد من عملها في سيتي ديري (قبل أن تسنح لها الفرصة لتسرق منه) لأنها تذوقت بفمها مقدار ملعقة من إناء التسخين؟. وهل كانت أفسدت استقبال جدتها في المطار؟. وهل كانت تقبل بعرض كوش كويل لتعليمها كيف تقود علبة السرعة في الباحة الخلفية من المدرسة، مع أن أصغر بنات المتزوجين حديثا يعرفن ما هو أفضل؟. وحينما فك كوش كويل أزرار سرواله ومد يده ليدها، هل كانت لتنظر إلى الأمام وتسمح ليدها بمداعبته؟. وحينما وضع كوش كويل يده على قفا رقبتها وجر رأسها نحو شفتيه، هل كانت لتفكر فقط كيف يمكنها بعد ذلك أن تهرب من الثقافة الفيزيائية وتنتشي كلما أرادت، دون تسجيل ملاحظات أو أي شيء آخر؟.

فيما بعد ظهيرة اليوم التالي ذهبت ميا إلى السوبر ماركت، ظاهريا لشراء لوازم، ولكن في الحقيقة لتأخذ نظرة من مساعدي غوردي في العمل.

كان غوردي يقف وراء طاولة الجزار، يرتدي قناعا من طراز باندانا ومريولا أبيض مع جينز وقميص سوبرماركت. وبجانبه رجل أمريكي أسود له تسريحة شعر إفريقية وعينان مشعتان فوق قناع مكتوب عليه: من المفروض أن يخفي أنفك أيضا. لا بد أنه لازاروس - ذكره غوردي في بعض المناسبات.

لوحت ميا تلويحة خفيفة لغوردي - تلويحة قالت: لا تقلق. سألتزم بالأصول ولن أسبب لك الإحراج. ووقفت في طابور طاولة الجزارة وراء امرأة مسنة.

قالت العجوز لغوردي:" هل تعتقد أنه يمكنك تقطيع شريحة خنزير إلى أربع أرباع؟ ثم قطع أحد الأرباع إلى نصفين؟.

قالت غوردي:" تقصدين بحجم الثُمن؟".

قالت العجوز بصوت رخيم" نعم. ثُمن شريحة الخنزير. من أجل عشاء الليلة".

تبادل لازاروس وغوردي نظرة، ولكن لم يتأخر عن تلبية طلب العجوز دون تعليق. ثم حان دور ميا. قالت لغوردي:" مرحبا يا عزيزي". والتفتت إلى لازاروس وقالت:"لا بد أنك لازاروس".

ابتسمت لها عينا لازاروس وقالت:" أنت أم غوردون؟. يسعدني رؤيتك. بماذا يمكننا أن نخدمك؟".

قالت ميا جاهدة لتبدو شابة:" أريد خمس أرطال من لحم العجل المفروم". كانت خطتها أن تشتري شريحتي لحم بطن صغيرتين.

فتح غوردي بهدوء باب مؤخرة صندوق المعروضات، ولكن هز لازاروس رأسه وقال:" لا يا رجل. لو أنك أنت من ستأكلها، أحضر المطلوب من الثلاجة الخلفية".

توجه غوردي إلى الغرفة الخلفي، وحدقت ميا بلازاروس، طرف جفناها باهتمام. لو أن ميا في المدرسة الثانوية ولا تزال تطلي شفتيها بطلاء رمادي لماع يمكنها أن تقول:" مرحبا يا لازاروس. هل أعجبتك الحفلة؟" (جملة مدهشة). وسيرد لازاروس:" نعم. تماما". وستسأله ميا إن كان يود اللقاء بها عند المغاسل. عوضا عن ذلك ابتسمت بوهن من خلف قناعها، وأخبرت لازاروس كم يرغب غوردي بالعمل معه. وتساءلت ما الغاية اللعينة من شراء خمس أرطال لحمة عجل مفرومة. وماذا ستفعل بها هي وغوردي. بعد ذلك ذهبت بالسيارة إلى مرآب السوبر ماركت، تبحث عن شيء، ولكنها لم تكن متأكدة ما هو - مجموعة من المدخنين المدمنين، وموزع مخدرات يفحص هاتفه، شاب مهلهل يبدو متفائلا؟. لكنها لم تشاهد غير الكثير من السيارات المتوقفة، مع رجل بدين له لحية وصديري ناصع ويكنس. هل يمكن أنه مروج مخدرات يتنكر بشكل حارس؟. قادت ميا سيارتها لتأخذ منه نظرة أفضل، فلطم جانب سيارتها بمقبض مكنسته، وصاح:" لقد أوقعت علامة مرور يا سيدة. الفوضويات غير مسموح لهن بالدخول".

انتهت ميا من تدخين الحشيش حينما أصابها فيروس معد في ربيع أول سنة من المدرسة الثانوية. استلقت في الفراش لثلاث أسابيع، وكانت أمها تختلس خطواتها من حولها بحرص شديد وبيدها مقياس الحرارة وأقمشة مبتلة باردة وأطباق من المثلجات. كان رأس ميا ينتفض لو حركت عينيها كثيرا، والتهب حلقها حتى سال لعابها على الوسادة ولم تكن تبتلعه، وانتفخت الغدد اللمفاوية في رقبتها بشكل ثنيات ضخمة وأصبحت تبدو مثل نسخة من رامبرانت وهو في الثمانينات. ولم يكن التدخين متوفرا ولو من بعيد، ولا أمكن الخروج بحثا عن شيء تدخنه، وهذا كله بالإضافة إلى الفيروس. عانت ميا من كل أعراض الامتناع عن الماريجوانا: آلام البطن، الرعاش، السهاد، والأهم الغضب والتحسس.

وكانت تثرثر وتقول:" لماذا يا أمي أصابني الفيروس؟ توقفي عن عزف موسيقا المصاعد الغبية. لماذا تحيكين باستمرار؟ أنا لست بحاجة لكساء أفغاني آخر. ولا أريد كوكتيل الحليب. وأود أن أموت. اخرجي من هنا واتركيني وحدي".

وكانت أمها ترد بحنان:" مسكينة ميا. بائسة صغيرة".

وحينما شفيت ميا أخيرا، كان جسدها أقل باثني عشر رطلا، و عزيمتها قوية ومصممة أن لا تمر بمثل هذه الظروف. ولم تعرف ما هي الأعراض التي سببها الفيروس والأعراض التي سببها الإقلاع عن الحشيش. ولذلك تخلت عن الحشيش، وتوقفت عن المشاركة بأكواب يستعملها الآخرون. وعادت إلى المدرسة، ولكنها توقفت عن حضور الحفلات. وكانت صديقاتها المخلصات تأتين أحيانا، ولكنها تعتذر لهن أنها مشغولة بالدراسة. وهذا صحيح. عليها أن تدرس. وقد فعلت.

كان غوردي يعمل في نوبة متأخرة، وتسهر ميا بانتظاره، لتساعده على التماسك. غير أنها تسقط نائمة على الكنبة، وحينما تستيقظ، يكون غوردي قد غطاها بغطاء أفغاني، وهو يقول بنعومة:"عودي إلى النوم". فتنصاع له وتنام.

في اليوم التالي أرسلت أم ميا، التي لا تعرف كيف تكتب رسالة، إلى ميا رسالة نصية وهي في عملها كالتالي: هييي ميا. كيف حال؟ وكيف غورد؟ أنا أخبز مع جيرد هنا. أمك.

تأملت ميا الرسالة، وطرفت بعينيها بسرعة، كأن ريحا عاصفة تهب على وجهها. ثم اتصلت بأمها.

قالت: "مرحبا يا أمي. إنه أنا".

قالت أمها بصوت يدل على الحبور:" أوووه. مرحبا. هل استلمت رسالتنا؟".

"نعم استلمت رسالتك".

قالت أمها بانفعال لشخص ما:" استلمتها".

سألتها:" أمي، من معك؟".

قالت أمها: "شاب رائع جدا اسمه جاردي قابلته في غرفة المنشار. أمه تعيش هناك في الجناح الجنوبي. وبينهما خلاف صغير في الرأي، وهو لا يشعر بالراحة من فكرة العودة إلى شقتها حاليا، ولذلك دعوته إلى شقتي. أنفقنا وقتا طيبا ونحن نقلب في ألبوم صوري، ثم اقترح جاريد أن يعلمني كيف أرسل رسالة نصية بالهاتف".

"وكم عمر جاريد يا أمي؟".

قالت أمها:" هو طالب متقدم في الثانوية".

"وماذا تعني كلمة "الخبز"؟.

"جاريد أخبرني أنها تعني طهي البسكويت، ولكننا في الواقع نحضر السميري. كان جاريد يشعر بالجوع، وأنت تعرفين كيف يحب المراهقون الأكل؟".

سألتها ميا فجأة:"وكيف شكل عينيه. وهل له رائحة الأشجار ؟".

قالت أمها:"لا أريد أن أكون خشنة معك، ولكن الآن أنا مشغولة برفقته. سأرسل لك رسالة أخرى عما قريب. وداعا يا عزيزتي".

انتهت المكالمة وبعد دقيقة رن هاتف ميا برسالة أخرى من رقم أمها. ونصها: يا رجل جهزت قالب العجينة في بيت العجوز والآن سأدعها تأتي وتراني.

توقعت أن الرسالة لشخص آخر، ولكن ردت ميا ببرود، مفترضة أنه بمقدورها أن تتحلى بقوة الأعصاب في كتابة رد. قالت: من فضلك توقف عن استعمال هاتف أمي، واترك شقتها. وإلا اتصلت بالأمن حالا.

جاء الرد من جهاز ك. جاريد يقول: آسف.

ثم: سميري بالكاراميلا.

عاد غوردي إلى البيت من العمل، وهو يحمل هيئة إنسان متهالك أيضا. تنهدت ميا وفتحت زجاجة نبيذ.

وفي يوم الخميس جاء ميغيل صديق غوردي. وهما صديقان منذ اشتركا في مدرسة تحضيرية ثنائية اللغة في غلوفير بارك، وهناك يتحدث الجميع الإنكليزية حصرا. لكن ميا وغوردي يعيشان الآن في بيتهيسدا، أما ميغيل وأبواه يعيشون في فيينا، فرجينيا، ولذلك تتطلب أوقات اللهو أو التسكع أو مهما كان يفترض أنه اسمها، حافلات أوبر مرتفعة التكلفة، وعادة يتضمن ذلك يوما أو يومين من الإقامة. ولم تتذمر ميا من الاستضافة. كان ميغيل صبيا خجولا وحالما، ومهذبا، بطيء الحركة، وأيضا بطيء الكلام. ولكن ميا تنظر له حاليا بعين جديدة. هل فعلا أن ميغيل بطبيعة جيدة وحالمة أم أنه مخدر؟ (طبعا، لو هو كذلك، هذا يعني أنه كذلك منذ كان بعمر سنتين، ولا يزال).

ذهبت إلى المطبخ. كان ميغيل وغوردي يجمعان زجاجات الماء وقطع الغرانولا، ورقائق البطاطا، لحملها إلى غرفة غوردي.

سألت:"كيف الحال يا ميغيل؟".

بدا ميغيل مباغتا - بالعادة لا تكلمه عن أي شيء باستثناء الاحتياجات وأنواع الطعام المفضلة.

"لا بأس".

"هل لديك عمل في الصيف".

"نعم".

"ما هو؟".

أرسل ميغيل لغوردي نظرة يطلب النجدة. وقال:"محطة وقود".

"تعمل في محطة وقود؟".

"نعم".

قالت ميا برشاقة:" هذا يعني أنه عمل رائع. أخبرني الآن، ماذا تريد أن تصنع بوقت راحتك؟ بعد نهاية نوبة عملك؟".

"بعد نهاية نوبتي أذهب إلى البيت".

"حسنا لكن..".

"المدير لا يريد أن نتسكع بعد نهاية النوبة".

"آه، لماذا؟".

"لأن دواين استعمل أنبوب الرادياتور في كتابة 'الرأسمالية تقتل' على الرصيف".

"نعم، ولكن هل تذهب فورا إلى البيت؟ أم أنك أنت ودواين تذهبان -".

"طردوا دواين".

"حسنا، هل تلتقي مع أصدقاء آخرين في مكان آخر؟ مثلا في الخارج؟ ربما في الحديقة؟ أو خلف المبنى؟ هل يقدمون لك المساعدة، إممم، لترتاح أو لتفرغ شحنتك؟ هل قدموا لك -".

قاطعها غوردي:" أمي. أنت غريبة جدا اليوم".

"لست غريبة يا عزيزي". (قالت ميا كما لو أن أم ميا تتكلم من مكان بعيد أوت له بعد التقاعد) "أنا مهتمة بحياة ميغيل فقط. أريد فقط أن أعرف إلى أين يذهب ومن أين يأتي".

دحرج غوردي عينيه وقبض على ذراع ميغيل، وصعدا إلى غرفته، فمالت ميا بجبينها على الثلاجة. كان خداها حارين من الخجل. لاحقا رقدت في السرير مع وارول وبيدها كأس ضخم من النبيذ، وحينها اتصل جاك هنري.

سألها بصوت عميق، صوت يشبه التحرش:" هل يمكنني الكلام مع أم بابلو إسكوبار؟".

تنهدت وقالت:" أتمنى أن تتوقف عن إطلاق النكات".

"لماذا؟ هل جرى شيء خطير لغوردون؟".

قالت ميا:" كلا. أرغب أن لا تتحفني بطرائفك فقط، لبعض الوقت".

"وكيف غوردون؟".

"على ما يرام. ميغيل معه ويلعبان بالبلاي ستايشين".

قال جاك هنري:" ينفق غوردون أوقاتا طويلة مع الإنترنت. وأنت لا تعلمين نوع الشباب الذين يصادفهم". كان لجاك بطاقة عضوية بلاتينية في تيندر، وكان لعدة سنوات يتصل بموقع Match.com، وتوقعت ميا أنه يمكن عده أحد مؤسسي الموقع.

سألته ميا:" هل من سبب لاتصالك؟".

قال جاك هنري:" نعم. أتساءل إن بمقدورك المجيء إلى المكتب غدا مساء لتوقيع نقل الصلاحيات إلى عقارات أريزونا".

كانت ميا وجاك هنري قد انفصلا بالطلاق منذ اثني عشر عاما، ولكن لا يزال بينهما حزمة استثمار مشترك: سندات، وعقود، وعقارات، ونقود، وأموال سائلة وما يوازيها، وسوى ذلك... أشياء. أحيانا كان جاك هنري يبيع الأشياء وأحيانا يشتري أشياء، وكانت ميا توقع باسمها كل أشكال الأوراق لأن جاك هنري زوج فظيع، مع ذلك فهو مزود لها.

قالت له:"سأكون في المعرض على الأقل حتى التاسعة. لدينا عرض".

قال جاك هنري:" مري على المكتب بعد ذلك. أنت تعلمين أنني أتأخر في عملي".

في الواقع لا تعلم ميا إلى متى يتأخر جاك في عمله. ولكنها تعلم أنه أخبرها أنه يتأخر في العمل، ولكنها تفترض دائما أن البقاء لوقت متأخر في المكتب مجرد رمز لنكاح البنت التي تعد له القهوة. (وجاك هنري متأكد أن ميا تحل ألغازه بدقة متناهية في هذا الشأن).

قالت:"حسنا. نلتقي غدا".

وأغلقا الهاتف. أطفأت ميا النور، ولفت وارول بذراعيها، ونامت، ورأسها يدور قليلا من النبيذ.

في التاسعة من الليلة التالية ذهبت إلى مكتب جاك هنري. وأرسلت إلى غوردي رسالة مختصرة وهي في الطريق نصها: هل عاد ميغيل إلى بيته بحالة جيدة؟

كتب غوردي بالرد: أعتقد ذلك.

هل رأيته يصعد في حافلة أوبر.

نعم.

وهل نظرتما إلى لصاقة أوبر وقارنتماها بلوحة القيادة؟.

كلا، نسينا.

تنهدت ميا. وتمنت أن ميغيل لم يركب سيارة عشوائية تقوده إلى مزرعة أعمال غير مشروعة حيث سيكد لما بقي له من أيام. كتبت له: من فضلك اتصل بميغيل لتتأكد أنه عاد إلى البيت بأمان. سأتأخر قليلا. تذكر أن تخرج وارول بنزهة قبل أن تنام.

وقفت أمام مبنى مكتب جاك هنري، وأعادت هاتفها إلى حقيبتها. فتحت الباب الزجاجي الثقيل، وكانت متألقة جدا وبوهيمية، بتنورتها السوداء القصيرة، وسترتها الجلدية. وصعدت بالمصعد ذي الباب النحاسي إلى الطابق العاشر، وكان جاك هنري جالسا في مكتبه الواسع وراء طاولة عريضة.

جلست ميا في كرسي الضيوف أمام طاولة جاك هنري، ووقعت الأوراق. كان جاك هنري يشرب الويسكي، وكانت ميا تشرب النبيذ، والآن يشربان الويسكي معا. نظرت ميا من نافذة المكتب إلى أضواء المدينة المتألقة مثل مصغر قرية عيد ميلاد، وكان جاك هنري يخبرها بصوته العميق عن ضمانات الحياة المرفهة والمصادر المتنوعة ورغبته بشراء مكتبة تاريخية في كايب كود وكاسحة ثلج صغيرة.

تثاءبت ميا.

قال لها جاك هنري إذا ضجرت جدا سيعرض عليها شيئا مثيرا. وفتح صينية الطاولة، وقال هذه مخصصة للكوكايين. قالت ميا إنها اعتقدت أن هذه الصواني مجرد سطوح للكتابة، فقال جاك هنري:" كلا. اسمحي لي أن أريك". واقتطع خطين من الكوك من مكان ما تعتقد أنه احتفظ به في علبة فضية مخصصة للبطاقات. وشم واحدا من الخطين، ثم لف ورقة من عشرين وقدمها إليها، فقالت لا، شكرا، وكأنه يشجعها، هيا حاولي، لا تكوني متزمتة، مر عليك أسبوع مضغوط، فأخذت العشرين، واستنشقت الخط الثاني، لأنها عمليا، كانت دائما فاشلة في مقاومة الضغط.

سرع الكوك دقات قلبها. وأخذ جاك هنري يدها وقادها إلى كنبة جلدية في زاوية مكتبه، وساعدها على الجلوس. في البداية ارتفعت حرارتها، ثم حلت عليها فكرة عميقة تمكنها من تثوير طريقة غسيلها.

قالت لجاك هنري:" أعطني دفترا. علي أن أدون فكرة".

قال جاك هنري:"ليس الآن، فيما بعد". ومد يده تحت تنورتها.

قالت ميا:" يمكنني تدوين الفكرة وأنت تفعل ذلك". كان يشعر أنه قادر على كل شيء، وضمنا القيام بعدة مهام في آن واحد. فقدم لها دفترا رسميا وقلم حبر، ووضع يده تحت تنورتها مجددا، وجر سروالها الداخلي. رسمت ميا تخطيطا سريعا لغرفة الغسيل مع أسهم تظهر المسار المحتمل للثياب القذرة حتى تصبح نظيفة ولماعة في نظامها الجديد. ورسمت ثلاث سلات غسيل وكتبت قرب الثالثة: هام جدا. لا تنسي. ووضعت حولها دائرة عدة مرات. (لن تتذكر هذا الأمر المهم لاحقا). وتخلت عن الدفتر الرسمي وفكت أزرار سروال جاك هنري، وفعلا ذلك. فعلا ذلك مثل بشر بلغوا سنا معينا، طبعا، فجاك هنري استبدل ركبته، وعلى كتف ميا جرح قديم، وكلاهما كان يضع نظارات للقريب والبعيد. ولكنه كان لا يزال جنسا جيدا. كان الجنس هو لغة الحب بينهما، أو ربما اللغة الوحيدة منذ أن واصلا ممارسة الجنس بعد فترة طويلة من ذوبان الحب. ربما جسم كل منهما لا يزال متعلقا ومحبا بجسم الآخر؟. وربما جسماهما كيانان متفصلان عن عقليهما؟. وربما كان جسماهما كالأطفال. وقد التحم جسم جاك هنري مع ميا بموعد لهو؟ وربما كان عقل ميا وجاك هنري في غرفة أخرى، يشربان القهوة الخفيفة ويتحاوران بلغة معزولة وعدائية عن مقدار الكلمات التي يعرفها جسداهما للتعبير عن الرؤية؟ وبدت هذه الفكرة متغلغلة فيها. ورغبت ميا بالعودة للدفتر الرسمي.

هناك أجزاء رديئة أيضا، ولا تفضل الاقتراب منها. ذلك مثلما يحصل حينما تنحني ميا بإغراء فوق طاولة جاك هنري وتقول:" انتظر. لا تلمس مزرعة سانشيز".

بعد النهاية، وحينما ربت على مؤخرتها وقال:" شكرا يا حلوتي"، شعرت من أعماقها أنه يعتقد أنها موظفة تطلب ترقية. وحينما فحص جاك هنري بوليصات السوق في هاتفه كانت ميا لا تزال ترتدي سروالها الداخلي. وحينما ذهبا معا إلى "متجر سعادة كل الليل" اشترت ميا كل أصابع الخبز الأصفر المتوفر (ليس لأنها جائعة ولكن لأن ألوانه الذهبية تبدو مثل ضوء الشمس)، وغازل جاك هنري البنت البائعة بوجودها. وأرادت ميا أن تعرب للبنت أن الحياة معقدة، وأنها هي وجاك هنري يشتركان بالكثير من الأمور: ملف استثمار، وتقاعده، وعضوية في نادي السباحة في يثيسدا، وحب السباغيتي الباردة، وذكريات إصابة ميا بانهيار عصبي في إيكيا IKEA مزدحم وهي حامل في شهرها السادس، فاستلقت ووجهها على الأرض في قسم الأقمشة المنزلية. وأنجبا ولدا. وهما يحبانه جدا، حتى لو أن جاك هنري لا يعبر عن حبه بالطريقة التي ترغب بها. لا يمكن لأحد أن يهرب من كل هذه الالتزامات. (وأيضا لن تتخلى ميا عن عضوية نادي السباحة في هذا التوقيت).

فيما بعد وقفت ميا وجاك هنري على الرصيف أمام متجر "السعادة". نظرت ميا إلي هاتفها لأول مرة منذ فترة طويلة، ولاحظت أنها الخامسة صباحا. كان غوردي قد أرسل لها ستة عشر نصا وخابرها أربع مرات لكنها لم ترد على أي منها.

قالت ميا:" آه، يا إلهي".

سألها جاك هنري:"ماذا؟".

قالت ميا:"لاشيء". لأنه حينما كان غوردي في التاسعة، ونسي جاك هنري ملاقاته عند موقف الحافلات في إحدى المرات، لم يغادر غوردي حافلته، وعاد معها إلى المرآب الكائن في سيلفر سبرينغ. وتوجب على ميا أن تأتي به من هناك. وكان يثغو من الخوف والجوع، حتى وقت متأخر من تلك الأمسية. كان أسوأ مثال ممكن عن تربية الأبناء، ولم تكن لدى ميا النية للتخلي عن لقب الأم المثالية في هذا الوقت المتأخر.

أضافت:" فقط يجب أن أعود إلى البيت".

صافحته كأنهما موظفان أدركا فجأة أن كلا منهما نسي تقديم نفسه إلى الآخر. ثم رافق جاك هنري ميا إلى حافلة أوبر. وقلقت ميا على الفور من أن يعتقد سائق الأوبر أنها بغي.

قالت له:" أنا محامية". وحاولت دس أصابع الخبز في حقيبتها. ثم أضافت:" انتهيت للتو من قضية قانونية متوترة جدا".

وأرادت أن تواصل الكلام. كان يبدو من المهم جدا أن يفهم سائق الأوبر أنها ليست النوع الذي يتعاطى المخدرات أو يعاشر المحامين ويسهر الليل كله. نعم فعلت ذلك، ولكنها ليست من النوع الذي اعتاد على ذلك، أو على الأقل لن تكرر هذه الأفعال.

ثم بلغ ذهنها ما يشبه تحويلة في سكة قطار، وبدأ يتدحرج على القضبان متسائلا كيف تكون العودة إلى نظام البيت دون أن ينبح وارول ويوقظ غوردي. نظرت إلى هاتفها. آخر رسالة من غوردي تقول - أين أنت؟؟ - وكانت مسجلة في الساعة 2:16. بالتأكيد غرق بالنوم الآن. ولو أنها فتحت قفل الباب بسرعة كافية، يمكنها أن ترمي لوارول خبزة ثم تختلس خطواتها على السلالم، وترتدي منامتها، وتخبر غوردي إنها في البيت منذ الثالثة، فالعودة في الثالثة يعني التأخير، ولا يعني السهر في الخارج طيلة الليل و -

توقفت حافلة أوبر أمام بيتها. كان غوردي جالسا على السلالم الأمامية، ووجهه شاحب ومتوتر من القلق. قفز بمجرد أن غادرت الحافلة وصاح:" أين كنت؟ حتى أنك لم تتصلي".

كان الحال كأن ميا مراهقة وغوردي هو الذي أخذ دور أمها.

عبرت المرج وجلست على سلالم الشرفة. وجلس غوردي بجانبها.

سألها مجددا:" أين كنت؟".

شعرت ميا شعورا جارفا أن زمن الكذب قد ولى. أخذت نفسا عميقا واعترفت له. ولكن كان كلامها همهمة وخلاله التقطت أنفاسها وأسقطت بعض الكلمات عدة مرات، حتى أن ما قالته بشكل عملي كان غامضا ويحمل فراغات. كما يلي:" كنت ..... وقمت.......مع..،..".

قطب غوردي جبينه وفكر. ثم قال:" هل شربت فينتانيل...".

"ليس فينتانيل. كوكائين" (تمييز تلجأ له الأمهات المخلصات على ما يظهر).

"حسنا. تعاطيت الكوك ومارست الجنس مع مروض الكلاب؟".

"تعتقد أنني تعاطيت الجنس مع مروض الكلاب؟".

" ترك بطاقته في فتحة الباب ولم أجدك هنا. لذلك توقعت...".

وقفت ميا على قدميها برشاقة وقالت:" آه يا إلهي. موعد وارول. نسيت أنه من المفروض أن يأتي مربي الكلاب ليأخذه أمس. هل تعتقد أنه علينا أن ندفع لقاء حجز موعد له؟. وماذا لو وضعنا على قائمته السوداء؟،.

قال غوردي:" أوه يا أمي، تمالكي نفسك".

وجعل الكوك ميا ترغب بمتابعة موضوع موعد وارول على الأقل لعشرين جملة، ولكنها صمتت وجلست مجددا. قالت:" آسفة".

"هل يمكننا العودة لما كنت بصدده مجددا؟".

"تعاطيت الكوك، ومارست الجنس التجميلي مع والدك" (حياتها حافلة بالعبارات المدهشة مؤخرا).

قال غوردي:" آه. وماذا كنت تجملين؟".

"بالأساس كل زواجنا".

"وهل تفعلين ذلك كثيرا. تتعاطين الكوك؟".

نظرت إليه وقالت:"لا. لم أفعلها من قبل". كانت عيناه سوداوين مثلها. هذا هو حصانها الخرافي الجميل. سألته:" هل تتعاطى الكوك".

نظر غوردي إليها برعب صريح وقال:"كوك؟. حتى أنني لم أدخن الحشيش. ولا أشرب".

"توقعت فقط...".

"تبررين أسوأ شيء لم أرتكبه إطلاقا. بعد العمل أحيانا. أنا ولازاروس نربط عشر عربات معا ونجرها على طول الهضبة إلى مرآب السيارات".

"هذا..". وتمالكت ميا نفسها وتوقفت. كانت على وشك أن تقول إن هذا خطير جدا، وهو كذلك، ولكن لاحظت أن هذا هو تفسير اللغز وراء عيني غوردي البراقتين وخديه الملتهبين. قد تجعلك المخدرات تبدو بهيئة ما، ولكن يمكن للتمرين أن يقود لنفس النتيجة. ويمكنها أن تتخيل المتعة في ذلك -- العربات الثقيلة تقعقع وتتضاعف سرعتها، وحواجز موقف السيارات تتطاير بسرعة ملحوظة، ثم سمعت صوت صرختها النهائية الناجمة عن البهجة. ضحكت قليلا، وهي تفكر بذلك.

سألها غوردي:"على ماذا تضحكين؟".

قالت ميا:" أنا سعيدة وحسب". أرادت أن تقول أنا سعيدة لأن بيننا هذه الروابط. ولكنها منعت نفسها.

كانت الشمس تشرق للتو. والسماء عند الأفق تصبح برتقالية، ومن الأعلى يخيم عليها ظل كريمي مزرق، ثم أزرق داكن مخضر كغلاف الذرة، وفي النهاية بنفسجي، يتخلله عدة نجوم قليلة مرئية. فكرت ميا: يبدو كأن الله رسم صورة بالطبشور، ثم محاها بأصبعه، ولكنها لم تكن تؤمن بالله.

قالت لغوردي:" انظر. هذا شهاب. لم أشاهد نجما يخر من قبل. أو لعله قمر صناعي؟. هل حركة المراكب الفضائية تختلف عن النجوم؟. علينا أن نفكر بذلك. وأن نعرف الحقيقة. و.. أتمنى فعلا أن يزول أثر الكوك سريعا". تنهدت ومالت برأسها على كتف غوردي. منذ متى كان غوردي أطول منها ويمكنها ركن رأسها على كتفه؟.

هز غوردي رأسه، كأن ميا حالة ميؤوس منها، ولا يمكن التعايش معها، وربما كانت كذلك. لكنه لفها بذراعه. تغلب على ميا فجأة شعور مؤكد أنها هي وأمها وغوردي ليسوا نسخا مكررة، ولا يجب عليهم تكرار نفس الخطأ. وهم فقط يدورون حول أدوارهم الموكلة إليهم بصفة أم وطفل، طفل وأم، ويتبادلون الأدوار بالرعاية والتسبب بالقلق، أو بالحاجة للرعاية ومنح الرعاية. وسيتابعون في هذا الجو طيلة حياتهم، فيزداد اللمعان والإضاءة ثم يخفت. وفكرت ميا (أو ربما كان الكوك هو الذي يتكلم) نعم، هي وغوردي وأمها مثل أضواء في مركبة فضائية، تشتعل وتنطفئ، بالتناوب، وهي تطير، وتشق طريقها، باتجاه المستقبل.

***

.........................

* كاثرين هيني Katherine Heiny كاتبة أمريكية. مولودة في ميشيغان، تلقت الماجستير من جامعة كولومبيا. وتعيش في الهافر دي غرايس، ماريلاند، مع عائلتها. لها عدة مجموعات قصصية منها "ألعاب وطقوس" 2023، و"عازبة ولامبالية ولطيفة" 2015. وكذلك عدة روايات منها "النهوض في الصباح الباكر" 2021 و"الانحراف المعياري" 2017….

* الترجمة عن مجلة / ناراتيف Narrative.

قصة: إروين شو

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كانت الجادة الخامسة ساطعة بضوء الشمس عندما عبرا حديقة بيروفورت وبدأا فى السير نحو ميدان واشنطن. كما كانت الشمس دافئة على الرغم من أننا فى شهر نوفمبر، وبدا كل شىء يؤكد أننا فى صباح يوم الأحد، الحافلات والناس فى ملابسهم الأنيقة، يمشون ببط أزواجا أزواجا، والمبانى الهادئة بنوافذها المغلقة.

أمسك مايكل بذراع فرانسيس بإحكام وهما يسيران وسط المدينة تخت ضوء الشمس،كانا يسيران بخفة، يبستمان تقريباً، لأنها ناما متأخرين وتناولا إفطاراً جيداً، كان ذلك يوم الأحد. فك مايكل إزرار معطفه وترك جوانبه ترفرف حوله فى مهب الريح، سارا فى صمت وسط الشباب والناس اللطيفين،الذين يبدو أنهم يشكلون على نحوها معظم سكان هذا الجزء من مدينة نيويورك.

قالت فرانسيس وهما يعبران الشارع رفم ثمانية :

- احترس... ستكسر رقبتك

ضحك مايكل وضحك فرناسيس معه.

قالت :

- ليست جميلة على أية حال... على أية حال ليست جميلة لدرجة أن تكسر رقبتك عند النظر إليها.

ضحك مايكل من جديد، ضحك بصوت أعلى هذه المرة، ولكن ليس بنفس القوة :

- لم تكن سيئة المظهر، كانت ذات بشرة لطيفة، بشرة فتيات الريف، كيف عرفت أننى أنظر إليها ؟

مالت فرانسيس برأسها إلى جانب وابتسمت إلى زوجها من تحت حافة قبعتها المائلة. وقالت :

- مايكل حبيبي

ضحك مايكل، ضحكة صغيرة هذة المرة، ثم قال :

- حسنا الدليل هنا، معذرة لقد كان لون البشرة، إنها ليست من ذلك النوع من البشرة التي نراها كثيرًا في نيويورك، معذرة.

ربتت فرانسيس على ذراعه برفق و جذبته قليلًا لتسرع به نحو ميدان واشنطن. قالت:

- ما أجمل الصباح. هذا الصباح رائع. عندما أتناول الإفطار معك أشعر أنني بحالة جيدة طوال اليوم.

قال مايكل:

- نبيذ. استعادة النشاط صباحًا.. خبز وقهوة مع مايك.

- القصة أيضًا أنني نمت طوال الليل مقطوعة النفس بجوارك مثل الجبل.

- في ليلة السبت أسمح بمثل هذه الرفاهية فقط، بعد انتهاء عمل الأسبوع.

قالت:

- ستسمن.

- أليس تلك هي الحقيقة؟ الرجل النحيل من أوهايو.

قالت:

- أحب هذا. خمسة أرطال إضافية للزوج.

قال مايكل بجدية:

- أحب هذا أيضًا.

قالت فرانسيس:

- لدي فكرة.

- زوجتي لديها فكرة. تلك فتاة بارعة.

قالت فرانسيس:

- هيا لا نرى أحدًا اليوم. هيا فقط نكون وحدنا، فأنا وأنت دائمًا ما نكون مع الآخرين نشرب نخبهم أو يشربون نخبنا، نحن لا نكاد نرى بعضنا البعض إلا في الفراش.

قال مايكل:

- مكان اللقاء العظيم. ابقى في السرير لفترة من الوقت وسيظهر كل من تعرفه هناك.

قالت فرانسيس:

- رجل حكيم. أنا أتحدث بجدية.

- حسنًا و أنا أستمع بجدية.

- أريد أن أخرج مع زوجي طوال اليوم، أريده أن يتحدث معي فقط، ويستمع لى أنا فقط.

سأل مايكل:

- ما الذي يمنعنا من ذلك؟ أرى جماعة تنوي أن تمنعني من رؤية زوجتي بمفردي يوم الأحد؟ أي طرف؟

- عائلة ستيفنسون، يريدون أن تمر عليهم في الساعة الواحدة، ثم يأخذوننا فى رحلة معهم إلى الريف.

قال مايكل:

- آل ستيفنسون المرعبون. واضح. لن يحصلوا على ما يريدون، يمكنهم أن يتفسحوا في الريف مع أنفسهم، أنا وزوجتي يجب أن نبقى في نيويورك...

- أهو وعد؟

- وعد.

مالت فرانسيسن وقبلته في أعلى أذنه.

قال مايكل:

- حبيبتي... هذه هي الجادة الخامسة.

قالت فرانسيسن:

- دعني أنظم برنامجًا. برنامج يوم الأحد في نيويورك لزوجين شابيين يبعزقان فيها نقودها.

-   تمهلى.

قالت فرانسيس:

- في البداية دعنا نشاهد مباراة كرة قدم، مباراة كرة قدم للمحترفين.

قالت ذلك لأنها تعرف أن مايكل يحب مشاهدة لعب المحترفين، ثم أضاقت:

- الشياطين سيلعبون. وسيكون لطيفًا أن نكون في الخارج طوال اليوم ثم نجوع، وبعد ذلك نذهب إلى مطعم كافتاج ونتناول شريحة لحم كبيرة جدا بحجم مريلة الحداد مع زجاجة من النبيذ. وبعد ذلك، هناك  فيلم فرنسي جديد في السينما حيث يقول الجميع... يقولون، هل تنصت إلي؟

قال:

- بالتأكيد.

تابع بعينيه فتاة دون قبعة ذات شعر أسود، تقص شعرها مثل الراقصات – يبدو مثل الخوذة – كانت الفتاة تسير وهي واثقة من نفسها، تمتلك رشاقة الراقصات، وكانت بدون معطف وتبدو ثابتة جدًا وقوية، بطنها ضامر مثل بطن الصبيان تحت تنورتها، أنا ردفاها فكانا يهتزان بجرأة لأنها كانت راقصة ولأنها أيضًا كانت تعلم أن مايكل ينظر إليها، ابتسمت إلى نفسها عندما مرت به، و لاحظ مايكل كل هذه الأشياء قبل أن يعود وينظر إلى زوجته، قال:

- بالتأكيد. سنذهب لمشاهدة الشياطين وسنذهب لأكل اللحم وسنرى الفيلم الفرنسي. لكم تحبين كل ذلك!

قالت فرانسيس بشكل قاطع:

- هو كذلك.. ذلك هو البرنامج لهذا اليوم. أم ربما كنت تفضل أن تتمشى ذهابا وإيابا  في الجادة الخامسة.

قال مايكل باهتمام:

- لا. لا مطلقًا.

قالت فرانسيس:

- أنت دائمًا تنظر إلى النساء الأخريات، إلى كل امرأة ملعونة في مدينة نيويورك.

قال مايكل متظاهرًا بالمزاح:

- أوه، تعالى الآن، إلى الجميلات فقط، وبعد كل ذلك، كم عدد النساء الجميلات في نيويورك، سبع  عشرة؟

- أكثر، على الاقل أنت تفكر في ذلك، أينما سرت.

- ليس صحيحًا. أحيانًا، ربما أنظر إلى امرأة أثناء مرورها بي. في الشارع. أعترف، ربما في الشارع أنظر إلى امرأة ذات مرة للحظة..

قالت فرانسيس:

- في كل مكان. كل مكان ملعون ذهبنا إليه: مطاعم. أنفاق، مسارح. قاعات المحاضرات، حفلات الموسيقى.

قال مايكل:

- الآن، حبيتي، أنا أنظر إلى كل شيء، لقد منحني الله عينين، فأنا أنظر إلى النساء والرجال وأنفاق السكك الحديدة و الصور المتحركة و الأزهار الصغيرة في الحقول، أنا دونما قصد أفحص العالم.

قالت فرانسيس:

- ينبغي أن ترى النظرة في عينيك وأنت تفحص البشر صدفة في الجادة الخامسة.

- أنا زوج سعيد.

ثم ضعط على مرفقها بلطف، مدركًا ماذا يفعل، ثم أضاف:

- وكنموذج لهذا القرن العشرين السيد والسيدة مايك لوسيس.

- أتعنى هذا حقًا؟

- فرانسيس، حبيبتي...

- هل أنت حقًا رجل سعيد؟

قال مايكل وهو يشعر بأن صباح الأحد كله يهبط ثقيلا داخله مثل الرصاص:

- بالتأكيد. الآن ما هذا الإحساس بحق الجحيم في حديثك هكذا؟

- أود أن أعرف.

سارت فرانسيس وهي تنظر أمامها مباشرة، دون أن يعبر وجهها عن أى شيء، وتلك كانت طريقتها دائمًا عندما تناقش أو تشعر بالسوء.

قال مايكل بصبر:

- أنا زوج سعيد بشكل رائع.. أنا موضع حسد من جميع الرجال اللذين تتراوح أعمارهم بين سن الخامسة عشر وسن الستين في ولاية نيويورك.

قالت فرانسيس:

- كف عن المزاح.

قال مايكل:

- لدي بيت جميل، وأحصل على كتب رائعة ومسجل اسطوانات وأصدقاء لطاف. أعيش في المدينة بالطريقة التي أحبها وأمارس العمل الذي أحبه، وأعيش مع المرأة التي أحبها. عندما يحدث شيء ما طيب. ألا أجري إليك؟ وعندما يحدث لى شيء سيء ألا أبكي على كتفيك؟

قالت فرانسيس:

- نعم، أنت تنظر إلى كل امرأة في الطريق.

- تلك مغالاة.

قالت فرانسيس وهي تسحب يدها من تحت ذراعه:

- كل امرأة. إن لم تكن جميلة تبتعد عنها سريعًا. و إذا كانت نصف جميلة تراقبها لمدة سبع خطوات..

- يا إلهي يا فرانسيس.

- أما إذا كانت جميلة فبالتأكيد تلوي عنقك..

قال مايكل وهو يتوقف:

- هاي. هيا نأخذ مشروبًا.

- لقد تناولنا الإفطار للتو.

قال مايكل وهو يختار كلماته بعناية:

- الآن، انصتي يا حبيبتي. إنه يوم لطيف وكلانا يشعر بالرضا وليس هناك من سبب لفقد هذا الشعور. دعينا نحظى بيوم أحد لطيف.

- كان يمكن أن يكون لدينا يوم أحد لطيف إن لم تكن تبدو كما لو كنت ستموت لو لم تركض وراء كل تنورة في الجادة الخامسة.

قال مايكل:

- هيا نتناول مشروبًا.

- لا أريد شرابًا.

-  ماذا تريدين، شجاراً؟

قالت فرانسيس بحزن شديد لدرجة أن مايكل شعر بالأسف لها:

- لا. لا أريد شجارًا. لا أعرف لماذا بدأت هذا النقاش. حسنًا، لندع هذا،  هيا نقضي وقتًا طيبًا.

تأبط مايكل ذراعها في حياد وسارا معا دون كلام وسط عربات الأطفال و كبار السن الإيطاليين في يوم الأحد والفتيات في حديقة ميدان واشنطن.

بعد فترة قالت فرانسيس وهي تستعيد نبرة صوتها التي استخدمتها في الصباح وفي بداية مشيهما:

- آمل أن تكون مباراة اليوم جيدة. أحب ألعاب كرة المحترفين، يضربون بعضهم البعض كما لو كانوا مصنوعين من الأسمنت.

قالت ذلك محاولة أن تضحك مايكل، أضافت:

- إنهم يثيرون الفتنة، إنه لأمر مثير للغاية.

قال مايكل في جدية تامة:

- أريد أن اقول لك شيئًا. أنا لم ألمس امرأة أخرى، مطلقًا طوال الخمس السنوات التى قضيتها معك.

قالت فرانسيس:

-   حسنًا.

- تصدقين ذلك، أليس كذلك؟

- حسنًا.

سارا بين المقاعد المزدحمة تحت أشجار منتزه المدينة الفوضوي، قالت فرانسين كما لو كانت تتحدث إلى نفسها:

- حاولت ألا ألحظ ذلك. أحاول أن أصدق أن ذلك لا يعني شيئًا. بعض الرجال يحبون ذلك، أقول لنفسي، لابد أنهم يرون ما يفتقدونه.

قال مايكل:

- بعض النساء هكذا أيضًا. لقد عرفت في حياتي سيدتين.

قالت فرانسيس وهي تسير إلى الأمام مباشرة:

- لم أنظر أبدًا إلى رجل آخر.. منذ المرة الثانية التي خرجت فيها معك.

قال مايكل:

- لا توجد قاعدة.

- أشعر باضطراب داخلي، داخل معدتي، عندما نمر بامرأة، وتنظر إليها، فأرى تلك النظرة في عينيك، وتلك هي الطريقة التي تظرت بها إلى في المرة الأولى في منزل أليس ماكسويل، و أنا أقف في غرفة المعيشة بجوار الراديو، وقبعة خضراء، وسط كل هؤلاء الناس.

قال مايكل:

- أتذكر القبعة.

قالت فرانسيس:

- نفس النظرة، وهذا يجعلني أشعر بالسوء، يجعلني أشعر بالفزع.

- اسكتي. من فضلك حبيبتي، اسكتي.

قالت فرانسيس:

- أعتقد أنني أريد أن أتناول مشروبًا الآن.

سارا إلى بار في شارعة ثمانية دون أن يتفوها بكلمة واحدة، ساعدها مايكل لكى تجتاز حافة الرصيف ثم قادها وسط السيارات، مشي وقد أغلق معطفه. أخذ ينظر بتمعن إلى حذائه البني الثقيل اللامع، وهما يخطوان داخل البار. جلسا بالقرب من النافذة في البار، يتدفق عليهما شعاع الشمس، وثمه نار صغيرة مبهجة في المدفأة. جاء نادل ياباني صغير، وضع بعض المعجنات (بسكويت مملح) وابتسم إليهما في سعادة.

سأل مايكل:

- ماذا تطلبين بعد الإفطار؟

قالت فرانسيس:

- براندي على ما أعتقد.

قال مايكل:

- كورفوازير ( نوع من كونياك) اثنان كورفوازير.

جاء النادل بكأسين وجلسا يشربان البراندي في ضوء الشمس، أنهى مايكل كأسه وشرب قليلًا من الماء. ثم قال:

-  نعم أنظر إلى النساء، صحيح، لم أقل إن ذلك صحيح أو خطأ، أنا أنظر إليهن إذا مررت بهن في الشارع وإن قلت لم أنظر إليهن، فأنا أخدعك، أخدع نفسي.

قالت فرانسيس وهى تعبث بكأسها:

- أنت تحدق فيهن كما لو كنت تتمناهن، كل واحدة منهن.

قال مايكل بهدوء وكأنه لا يتحدث إلى زوجته:

- على نحو ما. على نحو ما هذا حقيقي. لا أستطيع أن أفعل شيئا حيال ذلك. لكنه حقيقية...

- أعرف ذلك، لهذا أشعر بالسوء.

صاح مايكل:

- براندي آخر، أيها النادل، اثنان براندي زيادة.

قالت فرانسيس:

- لماذا تهينني؟ ماذا تفعل؟

تنهد مايكل وأغلق عينيه ومسحهما برفق بأطراف أصابعه:

- أحب الطريقة التي تبدو عليها النساء، من أفضل الأشياء التي أحبها في نيويورك هي أسراب النساء. عندما جئت إلى هنا لأول مرة إلى نيويورك من أوهايو كان ذلك أول شيء لفت انتباهي، مليون امرأة راعئة في جميع أنحاء المدينة، ميشت وقلبي في حلقي.

قالت فرانسيس:

- طفل... ذلك إحساس طفل.

قال مايكل:

- خمني ثانية... خمني مرى أخرى، كبرت الآن، أنا رجل أقترب من منتصف العمر، و أميل إلى السمنة ومع ذلك أحب المشى في الجادة الخامسة في الساعة الثالثة على الجانب الشرقي من الشارع بين شارع خمس عشر  وشارع خمسين حيث يخرجن جميعًا. يعتقدن أنهن يتسوقن، في فرائهن وقباعتهن المجنونة، كل شيء يأتي من جميع أنحاء العالم في ثمان بنايات، أفضل الفراءات وأجمل الملابس وأكثر النساء جمالًا، يخرجن لإنفاق المال بشعور طيب، ناظرات إليك ببرود، ليجعلنك تعتقد أنهن لا ينظرن إليك أثناء مرورهن بك.

وضع النادل الياباني المشروبين وهو يبتسم بسعادة غامرة. سأل:

- هل كل شيء على ما يرام؟

أجاب مايكل:

- كل شيء رائع.

قالت فرانسيس:

- إذا كان مجرد زوج من المعاطف الفراء و قبعات ب 45 دولار...

- إنها ليست معاطف الفرو أو القبعات. ذلك مجرد شهد لهذا النوع من المعين من النساء. افهمي. لست مجبرة على الاستماع إلى هذا.

- أريد الإستماع.

- أحب الفتيات في المكاتب، أنيقات، بنظارتهن الشمسية، ذكيات، نشيطات، مرحات، يعرفن كل ما يدور حولهن، يعتنين بأنفسهن طوال الوقت.

ركز مايكل عينيه على الذين يمرون ببطء خارج النافذة ثم أضاف:

- أحب الفتيات في شارع أربعة وأربعين وقت الغذاء، الممثلآت. متأنقات في انتظار أن يكتشفهن المخرجون. أحب البائعات في متجر ماسي، يولين اهتمامًا بك في البداية لأنك رجل، تاركات الزبائن من النساء ينتظرن. يغازلونك بالجوارب و الكتب و إبر الفونوغراف، لقد تراكمت لدي كل هذه الأشياء لأنني كنت أفكر في الأمر لمدة عشر سنوات، والآن تسألين عنها وها أنا أجيب.

قالت فرانسيس:

- استمر.

- عندما أفكر في مدينة نيويورك، أفكر في كل الفتيات، الفتيات اليهوديات، والإيطاليات والإيريلانديات و البولنديات والصينيات والألمانيات والزنجيات والإسبانيات والروسيات، جميعهن في موكب المدينة، لا أعرف ما إذا كان هذا شيئًا خاصًا بي أو ما إذا كان كل رجل يسير في المدينة له نفس الشعور في داخله. لكنني أشعر وكأنني في نزهة في هذه المدينة. أحب أن أجلس بالقرب من النساء في المسارح، الجميلات المشهورات اللاتي قضين ست ساعات ليكن جاهزات ويبدون هكذا. والفتيات الصغيرات في مباريات كرة القدم بخدودهن الحمراء،خاصة عندما دفء الطقس، الفتيات في ملابسهن الصيفية.

انتهى من شرابه، ثم أكمل:

- تلك هي القصة، لقد طلبت ذلك، تذكري. لا يسعني إلا أن أنظر إليهن، لا يسعني إلا أن أرغب فيهن.

كررت فرانسيس بدون وضوح:

- أنت ترغب فيهن.. أنت قلت ذلك.

قال مايكل بقسوة ودون حذر لأنها جعلته يفضح نفسه:

- حسنًا. أنت من استدعى هذا الموضوع للنقاش وسنناقشه بشكل كامل.

أنهت فرانسيس شرابها وابتلعت ريقها مرتين أو ثلاثة، ثم قالت:

-  أتقول أنك تحبني؟

- أنا أحبك، لكنني أيضًا أريدهن. حسنًا.

قالت فرانسيس:

- أنا جميلة أيضًا، جميلة مثل أي واحدة فيهن.

قال مايكل مؤكدًا على ذلك:

- أنت جميلة جدًا.

قالت فرانسيس فى توسل:

- أنا طيبة معك. كنت زوجة صالحة ومدبرة منزل جيدة، وصديقة جيدة، لقد عملت كل شيء من أجلك.

قال مايكل:

- أعرف.

مد يديه وأمسك بيدها.

قالت فرانسيس:

- تود أن تكون حرًا في...

- سشششش.

سحبت يدها من يده وقالت:

- قل الحقيقة.

نقر مايكل على حافة كأسه بإصبعه وقال بلطف:

- حسنًا.. أشعر أحيانًا أنني أود أن أكون حرًا.

قالت فرانسيس في تحد وهي تقرع المائدة:

-  حسنًا.. في أي وقت، قل.

- لا تكوني حمقاء.

أدار مايكل مقعده نحوها وربت على فخذها.

بدأت في البكاء، بصمت، دافنة وجهها في منديلها، مالت بشكل كافٍ حتى لا يلحظها أحد في البار. ثم قالت وهي تبكي:

- يومًا ما، سترحل...

لم يقل مايكل شيئًا، وجلس يراقب النادل وهو يقشر الليمون ببطء.سألت فرانسيس بصوت أجش:

- أليس كذلك؟ هيا، أخبرني، تكلم. أليس كذلك؟

قالت مايكل وهويعيد مقعده إلى حيث كان:

- ربما.. كيف لي بحق الجحيم أن أعرف؟

واصلت فرانسيس:

- أنت تعرف. ألا تعرف؟

قال مايكل بعد وهلة:

- نعم.. أعرف

توقفت فرانسيس عن البكاء وتمخطت في المنديل مرتين أو ثلاثة، ثم وضعته جانبًا، ولم ينبيء وجهها عن أي تغيير. قالت:

- على الأقل أسد لي معروفًا.

- بالتأكيد.

- توقف عن الحديث عن مدى جمال هذه المرأة، أو تلك. عينان جميلتان، صدر لطيف، مظهر جميل، صوت عذب.

ثم أضافت وهي تقلد صوته:

- احتفظ بهذا لنفسك، لست مهتمة.

قال مايكل وهو يشير إلى النادل:

- معذرة... سأحتفظ بذلك لنفسي.

غمزت فرانسيس بطرف عينيها وقالت للنادل:

- براندي آخر.

قال مايكل:

- اثنان.

قال النادل وهو يتراجع إلى الخلف:

- نعم سيدتي، نعم سيدي.

نظرت فرانسيس إلى مايكل في هدوء عبرالمائدة وتساءلت:

- هل تود أن أتصل بآل ستيفنسون؟ سيكون الجو لطيفًا في الريف.

قال مايكل:

- بالتأكيد... اتصلي بهم.

نهضت من وراء المائدة وقطعت الحجرة سائرة نحو الهاتف. شاهدها مايكل وهي تمشي، متفكرًا، يالها من فتاة جميلة، يا لها من سيقان لطيفة.

(تمت)

***

.......................

المؤلف: إروين شو /  IRWIN SHAW(1913-1984)

ولد أروين شو عام 1913 في نيويورك في أسرة مهاجر أوكراني وهو ينتمي إلى الجيل التالي من الكتاب الأميركيين العظام : ( فيتزجيرالد، - همنجواي- فوكنر- توماس وولف – باسوس ) بدأ حياته الأدبية في منتصف ثلاثينات القرن الماضى، وقد أثبت شو منذ خطواته الأولى أنه صاحب أسلوب متفرد، وموهبة أصيلة وذلك عندما نشر في في عالم الأدب، 1936 مسرحية ثورة الموتى، فجلبت له شهرة واسعة، وأروين شو كاتب مسرحي و روائي وسيناريست وكاتب مجيد للقصة القصية،   ترجمت أعماله إلى معظم لغات العالم، اشتهر في العربية بمسرحية ثورة الموتي، لكنه كاتب روائي قدير وكاتب قصة قصيرة بارع، وتعد قصة الفتيات فى الفساتين الصيفية درة قصصه القصير، وربما كانت القصة القصية هى أكبر الأجناس الأدبية التصاقا بمبوهته ككاتب. حاز إرين شو على جائزة أوهنرى فى القصة مرتين وجائزة الاكاديمية الأمريكية للفنون والآداب مرة، توفى شو فى دافوس بسويسرا عام 1984م.

بقلم: برونا دانتاس لوباتو

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

عادت إلى المنزل فقط من أجل حضور الجنازاة. جعلت تأشيرتها غير قابلة للعودة، ولم تتمكن من الحصول على إجازة من العمل. كانت تدين لوالدتها بثلاثة أعياد على الأقل، وثلاث ليال من ليالى رأس السنة الجديدة، وثلاث حفلات أعياد الميلاد. لتسوية ديونها، اشترت لوالدتها تذكرة رخيصة إلى نيويورك مع توقف لمدة ثماني ساعات في مدينة بنما وأربع ساعات أخرى في ميامي. لم تركب والدتها طائرة من قبل، ولم تكن تتحدث الإنجليزية ولو بكلمة واحدة، ولم تكن تعرف كيف تستعد للرحلة.

قالت الابنة:

- ما عليك سوى اتباع تعليماتي.

وكتبت لوالدتها خط سير رحلة دقيق وسيناريو للمقابلة الجمركية فى المطار. حفظت والدتها بعض العبارات بالإنجليزية: أنا أسافر وحدي. أنا أزور منذ ثلاثة أسابيع. ابنتي تعيش هنا. عبر سكايب، ساعدت الابنة والدتها على حزم أمتعتها، وطلبت منها أن تترك كل ملابسها الاستوائية وصنادلها في المنزل، ولا تحضر معها سوى السترات السوداء والبيج والأحذية المقفولة. شاهدت والدتها، بشعر أشعث وهالات سوداء تحت عينيها، شاهدتها وهي تلف جواربيها وملابسها الداخلية وتضعها في شقوق صغيرة في حقيبتها جنبًا إلى جنب مع القهوة المميزة وحلوى الجوافة التي تذكرها بطفولتها.

في الليلة التي سبقت جمع الشمل، بينما كانت والدتها الحلوة تحلق فوق المحيط وتتناول وجبة خفيفة من الفول السوداني بجانب زوجين مراهقين من بلد ما، شربت الابنة ثلاث زجاجات من الكورونا أثناء تنظيف حوض الحمام والمرحاض، وغسيل كل الأواني والمقالي المتراكمة على الموقد، وبعد أن تخلصت من حاويات الأرز واللحوم الفاسدة في الثلاجة. توجهت إلى الطابق السفلى وغسلت لحافها الوحيد المتعفن ذي الخطوط الزرقاء الباهتة، حتى تشعر والدتها بالدفء في ليالي نيويورك الباردة.

نامت الابنة في النهاية، لكن والدتها لم تنم. لقد غطت ساقيها بالبطانية الخفيفة التي قدمت لها وانتظرت. وضع الزوجان المراهقان فيلم رسوم متحركة ولم يشاهداه، وكانت أعينهما مغطاة بأقنعة العين الحريرية، فتح الصبي الزوج مسند الذراع بالكامل. بينما حملت الأم الشابة عبر الممر طفلها بين ذراعيها وهى تتناول العشاء، وكانت تهزه بلطف عندما يشرع فى البكاء. سرعان ما أنهت الأم وجبتها الخاصة: باستا بيني مع المارينارا وشريحة براوني. انطفأت الأنوار في الطائرة وواصلت الوالدة الانتظار في الظلام. تحركت الطائرة الصغيرة ببطء فوق خريطة العالم على الشاشة أمامها، وقد تمنت أن تتحرك الطائرة بشكل أسرع حتى تشعر بالراحة والأمان مع ابنتها. مع عدم وجود نص لتتذكره، ولا خرائط للمتابعة، ولا حقائب ثقيلة لحملها. أشرقت الشمس عندما كانت على وشك الهبوط في بنما. استطاعت أن ترى الجبال الخضراء والطريق الريفي قبل أن تغلق الستارة على نافذتها. حتى لا تزعج الزوجين المراهقين، لم تكن قد ذهبت إلى الحمام مرة واحدة، وكانت سروالها يضيق بشكل غير مريح حول الخصر.

في المطار الثالث، تم فحص القهوة التي كانت أحضرتها لابنتها. أمسك ضابط إدارة أمن المواصلات بالوعاء وقال شيئًا لم تستطع فهمه. عندما مدت يدها لتظهر له ما بداخله، صرخ، ثم أبعده عنها ولم يرده أبدًا. ملأت استماراتها بقلم أحضرته معها من المنزل وتمكنت من تذكر كل عباراتها الإنجليزية التى حفظتها. التقطت صورتها وفحصت بصمات أصابعها. قال أشخاص يرتدون الزي العسكري، " هذه الطريق، سيدتي"، وأشاروا بأذرعهم إلى رواق تلو رواق.

في نيويورك، رأت ابنتها أولاً، وهي تحدق في لافتة العائلة "مرحبًا بعودتك". ركضت الأم نحوها ولفت ذراعيها حولها، وأمسكت بيدها، وعانقتها بقوة، مندهشة من مدى صلابة ابنتها، كيف كانت حية و قابلة للمس، بعد سنوات من كونها مجرد صورة كرتونية على الإنترنت. ظلت الابنة تحدق في الأم، وما تزال تنتظر وصول الأم بالكامل إلى عقلها، لتبدو أقل شبهاً بالكرتون على خلفية ذلك المطار الأمريكي. قالت الابنة، "لا أستطيع أن أصدق أنك هنا"، وقالت الأم، "لا أستطيع أن أصدق أنك حقيقية." وخرجتا من المطار متشابكتى الأذرع. تعجبت الأم كيف ترى أنفاسها. تفوح من الهواء رائحة الجليد. حجب ضباب كثيف المنظر من نوافذ القطار و من مطار جون كنيدي. كانت الأشجار على طول الطريق تبدو بلا أوراق تقريبا.

حملت الابنة، وهي تلهث، الحقائب المعبأة بعناية في طريقها إلى الطابق الخامس. لقد أضىء وجه الأم عندما دخلت أخيرًا عالم ابنتها الخاص، وهو مكان لم تشاهده سوى عبر شاشة الكمبيوتر، مثله مثل معالم المدينة الشهيرة التي شاهدتها فقط على التلفزيون. سارت من مشهد إلى آخر جرمها الرمادي يتأرجح برفق من جانب إلى آخر.

- آه، تلك الوسادة! تلك اللوحة! تلك الأريكة! لقد عرفتها.

قالت الأم وهي تنتزع إناءً صغيرًا لؤلؤيًا من حافة رف الكتب، وهو عبارة عن دائرة مثالية خالية من الغبار تُركت وراءها في المكان الذي وقفت فيه لسنوات. أمسكت الابنة بيد والدتها الأخرى، التي شعرت أنها أصغر في يدها مما كانت تتذكر - لكم ذبلت - وقبلتها.

في المطبخ، وضعت الابنة الخبز الطازج في سلة وصبت الماء الساخن في إبريق الشاي العتيق، ثم وضعت أكواب الشاي على الصحون الملائمة وقدمت الشاي لأمها مع بطيخ مقطوع مسبقًا في أوعية كبيرة - كل الأشياء التي لم تفعلها بمفردها أبدًا، في حياتها من شطائر زبدة الفول السوداني فوق حوض المطبخ.

كما أنها صنعت إبريقًا طازجًا من القهوة المقطرة بينما كان الشاي، والذي كان في الغالب احتفاليًا، ذريعة لإخراج أفضل ما لديها من أدوات، والذي لم يكن أي منهما يشربه، أصبح باردًا. شربت كلتاهما قهوتهما مع الحليب وبدون سكر. أكلتا الفاكهة ثم شرائح الخبز بالزبدة بسرعة بين الرشفات.. ثم سكبت الابنة فنجان قهوة آخر وآخر.

قالت الأم:

- صادروا القهوة التي أحضرتها لك. من نوع "بيلاو"، المفضلة لك.

قالت الابنة:

- أنا آسف للغاية

وتهت مرات عديدة.

- سأل الابنة:

- هل كنت خائفة؟

- في البدايه. ولكن بعد ذلك بدأت الأمور تسير تمامًا وفق ما قلت. كانت هناك سهام في جميع أنحاء المطار وقد قادتني إليك مباشرة. لقد كنت حقًا في نهاية أطول رواق، تمامًا كما وعدت وأكدت لى.

والطيران؟  -

- اعتقدت أنني سأشعر بأنني أخف وزنا - حتى بلا الوزن - لكن الأمر لم يكن مختلفًا كثيرًا عن الجلوس في المصعد. شعرت بالضيق والثقل طوال الوقت.

سرعان ما غُطيت المائدة بالفتات وحلقات القهوة البنية من أثر قيعان أكوابهما، ورفعت الفتاة كوبها إلى شفتيها، عندها فقط أدركت أنه أصبح فارغا مرة أخرى. وضعته بجانب فناجين الشاي الصغيرة الفاخرة، التى ما زالت ممتلئة لم تمس.

أعجبت الأم بالمنزل الأنيق، وبذوق ابنتها في الفراش والأثاث، رغم أنه كان في الغالب من شركة إيكيا/ IKEA. غربت الشمس قبل الخامسة، وبدا الأمر غريباً بالنسبة لها. اقترحت الابنة تشغيل الضوء السعيد/ HappyLight لجعل هذا اليوم يدوم لفترة أطول قليلاً. ضغطت على زر وتوهج وجهاهما، وصار لون الجدران البيضاء أزرق مخيف. كانت والدتها تلهث، مسرورة ومذهولة فى ذات الوقت لأنه يمكن المرء التحكم في يومه.

قالت:

- ابنتي تعيش في صندوق أحذية في نيويورك مع مصباح لضوء الشمس.

في الليل، بعد تناول حلوى الجوافة وتنظيف أسنانهما، رتبت الابنة سريرًا لأمها على الأريكة القابلة للطي في غرفة المعيشة، أدفأ غرفة في الشقة، ووالدتها - أوه، والدتها،  والتي شعرت بالألم والتعب بعد الرحلة- نامت بسرعة. لم تتذكر أن تقول ليلة سعيدة أو تسأل عما إذا كان لدى ابنتها وسادة إضافية حتى تتمكن من رفع ساقيها.

حاولت الابنة النوم لكنها لم تستطع. شعرت بالإرهاق الشديد، رغم أنها لم تكن هي التي سافرت. تحت سريرها في غرفة نومها الصغيرة: صندوق من الأسرار لا يستحق الاحتفاظ به، ولكنه لا يستحق الكشف عنه أيضًا. هزاز أرجواني، زجاجة ويسكي، زجاجة من الحبوب المنومة مع التعليمات الطبية. في الخارج، تستريح على الرفوف في غرفة المعيشة، حول والدتها النائمة: بطاقات عيد الميلاد من رفقاء الغرفة القدامى، والبطاقات البريدية من الأصدقاء البعيدين، وكتب طاولة القهوة المليئة بالأطباق اللذيذة والأماكن البعيدة. أي شيء يجعلها تبدو أكثر إثارة للإعجاب، حتى لو شكت في أن تأثيرها ضئيل. لم تهتم والدتها بهذه الأشياء، التي تم ترتيبها بعناية شديدة من أجلها. ركزت الأم فقط على تفاصيل كيفية عيش ابنتها في هذا المكان، والأشياء التي ساعدت ابنتها على تدبير أمورها.

سألت الأم مشيرة إلى الخلاط:

- ماذا تفعلين بهذا؟ وأين تغسلين ملابسك؟

بالنسبة لها كان منزلها عمليًا. كان كل سطح مغطى ببقايا أيامها. حبوب في أغلفتها، كتب طبخ، مقص بجانب عبوة مفتوحة. لا شيء مزخرف، لا شيء سدى، باستثناء صور ابنتها في أماكن أجنبية - لندن، لشبونة، ولوس أنجلوس - والتي كانت تحب أن تعرضها على كل صديق زائر وعمال التوصيل.

أدركت الابنة بعد فوات الأوان، بعد الكثير من القلق، أنها نسيت تناول حبوب منع الحمل في تلك الليلة. بعد خمس ساعات من النوم المضطرب، قامت أخيرًا بدفع البطانيات جانبًا ونهضت على أطراف أصابعها من السرير لترى ما إذا كانت والدتها تبدو بخير. كانت الشقة بأكملها مظلمة، ولم يكن هناك سوى جزء صغير من الضوء يسطع من تحت الباب الأمامي، قادمًا من الممر بالخارج. أشعلت الابنة المصباح. أمسكت والدتها حاشية اللحاف بإحدى يديها وأخفت الأخرى تحت الوسادة. كانت ترتدي ثوب نوم أبيض بزخرفة مكشكشة جعلها تبدو مثل طفلة. ارتفع صدرها وهبط ببطء، وأبدت الفتاة إعجابها بمظهرها الهادئ، وليس كما لو أنها وصلت لتوها إلى بلد أجنبي وتنام الآن في سرير مؤقت في شقة صغيرة لشخص آخر.

ومع ذلك، لم تستطع الابنة السماح لها بالنوم، ولم تستطع مقاومة محاولة إيقاظها. لمست ذراعها وهمست:

- ماما، استيقظي. سأقوم بإعداد الإفطار.

تمتمت الأم بشيء ما واستدارت إلى الجانب الآخر، وفمها مفتوح قليلاً، وشعرها الفضي مبعثر على جميع أنحاءالوسادة، بينما كانت يداها الآن مضغوطتين تحت وجهها كما لو كانت تصلي.

قالت الفتاة وهي تنحني ويدها تحوم فوق رأس والدتها:

- آسفة. سأتركك تستريحين.

شعرت الابنة فجأة أن والدتها لا تعرف مكانها. لم تكن تعرف هذه الشوارع ولن تتمكن من إيجاد طريقها إلى المنزل بمفردها. كان من المفترض أن تحميها ابنتها، وترشدها وتساعدها على العودة عندما يحين الوقت. لقد وثقت في ابنتها للقيام بذلك وسلمت نفسها لحمايتها. لذلك كانت ابنتها تراقبها - للتأكد من أنها لم تستيقظ على الأريكة المنفردة وحدها، لتتأكد من أنها لن تشعر بالارتباك.

دخلت الابنة المطبخ المشرق. كان ضوء النهار قد بدأ للتو في الظهور عبر النافذة التى فوق الحوض، وكان المطبخ يغتسل بظل بارد من اللون الأرجواني. فتحت الثلاجة ونظرت، وهي تفكر فيما يجب أن تعده لهذا اليوم. سرعان ما تنهض والدتها وتواجهها وتتحدث كما لو أنهما لم يفترقا أكثر مما كانا معًا في حياتهما. قامت بعصر برتقالة في كوب، وسخنت قطعة خبز في المحمصة، وأعدت فنجانًا من القهوة القوية،، ورتبت كل شيء بشكل أنيق على صينية لم تستخدمها من قبل.

في غرفة المعيشة، حلمت والدتها أنها كانت تطير حقًا.

(تمت)

***

......................

المؤلفة: برونا دانتاس لوباتو / Bruna Dantas Lobato كاتبة برازيلية ومترجمة أدبية مقيمة في سانت لويس. بولاية ميسوري بالولايات المتحدة الأمريكية. رابط القصة المترجمة:

https://www.guernicamag.com/reunion/

تأليف: شيلبي هينت

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

أستمر في تغيير الوقت المحدد لشرب السوائل قبل النوم، لكنني ما أزال، كل يوم في الساعة الثالثة صباحًا، توقظني مثانتي للتبول. أولاً، أمشي إلى المطبخ وأفتح درج الأواني الفضية، وأخرج أكبر ملعقة، وأسحب وعاء زبدة الفول السوداني من الخزانة، وأخرج كومة، وأعيد الوعاء. آخذ ملعقتي من زبدة الفول السوداني إلى الحمام. في الحمام، أنزل ملابسي الداخلية بيد واحدة، وأجلس على المرحاض، وألعق زبدة الفول السوداني من الملعقة كما لو كانت مصاصة أثناء التبول. يبدو أن هذه الأفعال خارجة عن إرادتي. ليست زبدة الفول السوداني الشيء الوحيد الذي استمتعت به بلعق الملاعق في الحمام. قصة تحب والدتي سردها وهي كيف أنني عندما كنت طفلة صغيرة، كانت الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تجعلني أستحم، هى السماح لي بإحضار برطمان من زبدة المارجرين كونتري كروك لأكلها بملعقة بينما كانت تغسل شعري بالشامبو. هذا الانجذاب لتناول الطعام عالي الدهون بملعقة في الحمام هو أحد العادات العديدة منذ طفولتي والتي كنت أتمنى أن أتخلص منها الآن. هذا النوع من العادة التي تجعل المرء يتساءل كيف يمكن لأي إنسان آخر أن يراها على أنها أي شيء سوى فظاظة. إنني أدرك كم هو مثير للاشمئزاز- الملابس الداخلية أسفل كاحلي، والبول يقطر في وعاء المرحاض، والملعقة في فمي- لأنني في خوف دائم من أضبط هكذا. أجلس على المرحاض، نصف نائمة، ألحس زبدة الفول السوداني، تزداد قلبي في كل مرة أعتقد أنني أسمع زوجي يسير في الممر. لقد نزل في الواقع إلى القاعة أكثر من مرة لاستخدام الحمام في منتصف الليل بينما كنت هناك ألعق زبدة الفول السوداني. عندما يحدث ذلك، يطرق على الباب ويسأل، هل أوشكت على الانتهاء ؟ أدفع الملعقة في فمي، وأصدر ضوضاء مثل أه أه، بينما أحاول التخلص من زبدة الفول السوداني المتبقية في أسرع وقت ممكن. قبل التشطيف أحشو ملعقتي النظيفة المصقولة في حقيبة المكياج. عندما أفتح الباب لأعطيه دوره، أشعر بخيبة أمل لأنني أسرعت في طقوس أستمتع بها وأتوق إلى الإقلاع عنها في نفس الوقت، ولكن من الأفضل أن تشعر بالاندفاع وخيبة الأمل بدلاً من أن يكتشف زوجك أنك مقرفة. أخرج من الحمام ويقبلني وهو في طريقه إلى الداخل. يقول إن طعمك مثل زبدة الفول السوداني، لكنه أشبه بهمس ناعم وهادئ أكثر من كونه اتهامًا. نعم، أجبت. يغلق الباب خلفه وأعود إلى الفراش. من الصعب الحفاظ على الزواج طالما لدينا. عدم لعق زبدة الفول السوداني علانية من الملعقة أثناء التبول هي إحدى الطرق التي أؤدي بها دوري. يتظاهر بأنه لم يعثر على واحدة من ملاعق زبدة الفول السوداني في الحمام، هكذا يفعل ما يفعله.

(تمت)

***

............................

المؤلفة: شيلبي هينت/ كاتبة ومعلمة ومحرر في منطقة الخليج. وهي مساهم منتظم في يمكن العثور على كتاباتها على العديد من المواقع الالكترونية ةالمجلات والدوريات الأدبية وهذه القصة من موقعها الخاص على الشبكة العنكبوتية. وفيما يلى رابط القصة:

http://www.svjlit.com/creative-non-fiction/svj-online-november-2022-where-ive-been-tonight-by-shelby-hinte/

قصة:  أوجوستا فارو

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كان فم دولوريس نظيفًا. كانت تغسل أسنانها حوالي ست مرات في اليوم ؛ تسلكها بالخيط واحدة تلو أخرى، اثننان تلو أخريين، لأعلى، ولأسفل، وحولها. فى كل يوم تدفع الفرشاة بين الأسنان في الزوايا الصلبة. التشطيف والمضمضة المستمرة. فم نظيف."اغسلى فمك يا فتاة!" سمعت صوت خالتها حولاء العينين، ذات التنورة المربوطة مثل زوج من الجوارب. كانت تقول دائما: "فمك هو بطاقة الدعوة الخاصة بك". "هل ماتت أمي لأن فمها كان قذرا ؟" سألت دولوريس دمياتها في صمت. ثم قامت بغسل أفواه الدمى ونظفت أسنانها بالفرشاة وكسرت أسنانها السيليلويد الصغيرة. كلمة جميلة جدا!  " سليوليد "! كانت تتمنى أن يكون اسمها سليوليد. لهذا السبب، عندما  داعب الفتى ثدييها وهمس في أذنها: "هل اسمك حقًا سيليلويد؟" أجابت وهي تذوب، "نعم، هو سيليلويد - لقب دولوريس. لم تر الصبي مرة أخرى وتساءلت عما إذا كان يكره السليلويد الناشئ. بعد وفاة سيلو السوداء العجوز كما قال، وسمعت دولوريس عن شركة طيران البرازيل وجميع الطائرات التي فقدت، اعتقدت أنه من الأفضل دفن الاسم مرة واحدة وإلى الأبد. لكنها حافظت على أسنانها نظيفة. والفم نظيفا أيضا.

***

-  منذ فترة يا دكتور، كنت أحلم بأن فمي ممتليء بالنمل. ماذا يعني ذلك؟

-  أنت لم تتزوجى قط .

-  ولكن ما علاقة الزواج بفم ممتليء بالنمل؟

- إذن أنت مصابة بداء السكري، وتتناولين الكثير من الحلويات.

- لكنني قلت لك يا سيدي، أنا لا آكل الحلويات أو اللحوم.

- ذلك هو السبب في أن أحلامك غريبة. أعني لماذا يمكن لفتاة فى الخمسين أن تعيش بدون حلويات أو لحوم وهى غير مضطرة إلى ذلك؟

- هذا مفيد لصحتك يا دكتور. قرأت ذلك في مجلة.

-  يستحسن أن تكون رأسك جيدة .

- أليست  رأسي جيدة ؟

-  حسنا، يمكن أن تكون أفضل.

***

تركت الطبيب وهى في قمة الغضب. ماذا كانت تتوقع؟ طبيب منزلى في إبط هذا العالم. حصل على شهادته منذ سنوات. يعمل فى بلدة ريفية - هذا ما تأخذ منه. كيف يمكنه أن يقدر شكواتها وأحلامها بشأن النمل؟ لقد سمعها كثيرًا، ففقد الاهتمام.

- لا أريد أية حلويات في هذا المنزل، ولا حتى للزوار أو تناول الأدوية. يمكن للزوار أن يتناولوا القهوة، وهذا كل شيء! لا أريد البسكويت، لا شيء يمكن أن يجلب النمل. هل فهمت ذلك،يا  أورورا؟

ومنذ ذلك الحين أصبحت أحلامها أكثر ورودا. كان فمها مكتظًا بالنمل يسقط قطعًا من الأسنان في الشقوق بين الألواح الأرضية. لقد عض النمل شفتيها بمناشيره الصغيرة المصنوعة من السليولويد مع وجود مسافات صغيرة بينهم مثل أسنان الدمى. قطع طرقا سريعة من فمها إلى الأرض، ومن الأرض إلى فمها. وضحك بصوت عالٍ على طريقة ضحك النمل. مصمصوا شفاههم، وطحنوا أسنانهم، وسحقوا، وكانوا في الحقيقة مثل مناشير الألعاب. كانت دولوريس تستيقظ غارقة فى عرق لزج وتتوجه للاستحمام. وتقوم  بتنظيف أسنانها مرات ومرات في منتصف الليل.

في اليوم التالي، كانت تستيقظ متأخرة، وتفتح النوافذ وتبحث في المرتفعات والمنخفضة عن النمل. لا شىء. وكانت تستدعي الخادمات، لكن لا يوجد نمل في الأفق، ولا أثر له.

***

أرسلت دولوريس فى طلب الماء المقدس وجاء الأب رومولو ليرشه في الأركان، والفرغات الموجودة فى الخزائن، والمخزن، والشقوق الموجودة في الرفوف. نامت دولوريس جيدًا، وبقت دولوريس لعدة أيام دون أن تحلم. لا فم، لا نمل، لا أسنان صغيرة متناثرة،لا قعقعة.

ثم عادوا فجأة، وهم يقضمون ويضحكون بصوت عالٍ. فى جميع الألوان والأشكال.  تأرجح ملكة النمل مؤخرتها بإثارة فجة. النمل الناري يؤطر الصور في طابور واحد مكتمل ، النمل اللاسع يحيط النوافذ والأبواب، على الجدران، يتدلى من الثريات، يحيط بأثاث غرفة الجلوس. صعد النمل المجنح على الطاولات، واحدًا تلو الآخر، في مسيرة منظمة، تمامًا مثل الجنود الصغار. سمحت دولوريس لنفسها بالصياح وامتلأ البيت بالناس. اهتزت البلدة مثل عش النمل

-  إنها بحاجة إلى علقة ضرب جيدة.

- هيا يا زي، كن منصفًة، إنها العزلة التي تدفعها إلى تصرفات الأطفال.

- هراء. إنه الخمول. هذا كل ما فى  الموضوع.

- حسنًا، قد يكون الأمر كذلك، لكنها أختك. يجب أن تشعرى بالأسف لها. دعينا نجعلها تبقى معنا

-  مستحيل. لماذا لل تتزوج ولها بيت خاص بها؟ من المفترض أن تتزوج النساء يا دول.

وهكذا كان ذلك. لم يحدث تجمع الناس فرقا ولم يجد نفعا.

***

دولوريس هادئة، مهووسة. سارت الأمور نحو الأسوأ بين عشية وضحاها. الآن يأتي الأولاد ضاحكين وينتفخ فمها فجأة بالنمل

- مرحبًا، أخرج من هنا! أنت فقط تريد أن تتحسس ثديي السليلويد وبعد ذلك ستتزوج فتيات المدينة الكبيرة. اخرج من هنا الآن "

كان الأولاد يهربون، لكنهم يعودون حاملين نملًا هائلاً ونما حتى أصبحوا بطول أسطح المنازل

***

دولوريس هادئة، مهووسة. بين عشية وضحاها سارت الأمور نحو الأسوأ، يأتي الصبية الآن وهم يضحكون، أفواههم ممتلئة بالنمل وفجأة يقذفون بها.

- مرحبًا، أخرج من هنا! أنت جئت فقط لكى تتحسس ثديي السليلويد وبعد ذلك تذهب لتتزوج  من فتيات المدينة الكبيرة. اخرج من هنا. الآن.

يهرب الصبية يهربون، لكنهم يعودون حاملين كميات هائلة من النمل،يلقون بها بطول  بطول أسطح المنازل .

***

كانت دولوريس تستيقظ وتبلل رأسها في الحمام أو تحت الحنفية، وتبكي، وتذهب وتنظف أسنانها. النوم لا يأتِ أبدًا. في اليوم التالي، عيناها مجهدتان غائرتان جافتان، تستيقظ متأخرة، صامتة. الشاي مع الخبز المحمص فقط ثم تنظف أسنانها بالفرشاة وترسل إلى إخوتها وأخواتها، ولكن لا يأتى أحد. وعندما يحضرون، بالكاد يستمعون وهي تعيد عليهم مخاوفها، ثم يغادرون، وهم منزعجون، ويغلقون الباب خلفهم فى عنف.

***

بدأت دولوريس في زيارة منازل جيرانها، لستفسر عن النمل

"   - لا، دونا دولوريس، لم يكن لدينا أي نمل هنا. فقط ألقى نظرة على شجيرات الورد. أنها سليمة. ودعينا نلقي نظرة على الحلويات في المخزن، لا، كل شيء نظيف، لا يوجد نمل هنا. أعتقد أنك لا بد أنك تتخيلين أشياء.

***

قررت دولوريس غسل المنزل بالكحول، ثم بالكيروسين. كانت تنام أثناء النهار لتتجنب الحصار الليلي. لكنهم يأتون دائما. يتمايلون أو يسيرون بوقاحة وهم يلتهمون كل شيء

ويخرجون من أنوف الصور على الجدران، ويدخلون من خلال آذانهم وأفواههم. وأحيانا  كانوا يصعدون على ذراعي وساقي دولوريس. يضحكون ويطحنون أسنانهم المصنوعة من السليلويد. يمتص النمل عيون الدمى التي كانت تزين الأرفف واحدة تلو الأخرى.

كل شيء يكرر كل شيء وكان هناك المزيد من نوبات الأرق والصراخ.

ذات صباح مشمس، استجمعت دولوريس شجاعتها وقامت بزيارة لواء الإطفاء. سعداء بالمساعدة، خرجوا، وألقوا نظرة شاملة حولهم، وتفحصوا جميع أنحاء المنزل من الخارج.

- إنه في رأسك فقط، سيدتي، أعتقد أنك ترى أشياء. كل شيء فى مكانه، لا يوجد نمل هنا.

***

هذه المرة أعلنت دولوريس الحرب. وضعت أرجل سريرها في أربع علب كيروسين مملتئة بالماء. "دعهم يحاولون الآن، سوف يحصلون على ما سيحدث لهم! ها ها! سيكون هناك الكثير من النمل الميت، ولن يصدق ذلك أحد ". لكن لم يكن سوى أيام قليلة من السلام. ليلا ونهارا، رويدًا رويدًا، عاد النمل ببطء، وأسرع  فى مسيرته ، مشوا، ومشوا، وقضموا، وقضموا، وقصوا شعر دولوريس الذهبي (تساءلت عما إذا كان من المفترض أن تصنع أعشاشًا) وسرعان ما بدا الأمر كما لو كان فمها والأنف والأذنين مغطاة بالسكر.

-  زي، هيا، لنأخذ أختك إلى مدينة أكبر لتلقي العلاج. بعد كل شيء، أنت المسؤول عنها، أيها المسكين !

- كلام فارغ. هذا ما يحدث للنساء اللواتي لا يعملن ولا يتزوجن. تحتاج النساء إلى أزواج وأطفال لرعايتهم، وإلا فإنهم يتقلبون، كل على طريقته الخاصة.

يئست شقيقة زوجة دولوريس، وتعبت من مطالبة زوجها بالمساعدة. يا لدولوريس المسكينة، من ظاهر الأشياء أنها غير قادر على التخلص من النمل.

***

كان الصمت هائلاً في ذلك اليوم في المنزل القديم الكبير وبحلول منتصف فترة الظهيرة كانت دونا فيليسبينا تتشوق لرؤية ما حدث - لم يكن ذلك شيئًا عاديًا. كانت الأبواب ماتزال مغلقة منذ الليلة السابقة، وكل شيء صامت و في مكانه

دخلت على أطراف أصابعها حتى وصلت إلى غرفة دولوريس واستقبلها مشهد مؤسف

لم تكن دولوريس تتنفس، كانت ترقد بلا حراك، بيضاء حليبية، عارية، يزحف فوقها النمل من جميع الألوان والأحجام في موجة من الحركة مثل نهاية العالم. كان ضجيج النمل هائلا. يجيء ويذهب فى جنون

أحاطت الدمى ذات الفم المفتوح بأسنانها المصنوعة من السليولويد بسريرها. العديد من الدمى من جميع الأحجام تجلس وتشكل إكليلًا حول السرير. وضحكت دولوريس على ابتسامتها المنعزلة، والفم النظيف والرائحة الحلوة، ولكن  كان منها تتدلى خيوط - خيط من النمل

الصغير - تتدلى من تحت الأغطية، عبر الأرض إلى  خارج النافذة. خيط رفيع من النمل المبتسم الصغير، الصغير جدا.

المؤلفة: أوجوستا فاروا، كاتبة قصة قصرة  وشاعرة وباحثة من البرازيل، ولدت عام 1948، وتخرجت بشهادة فى أصول التربية عام 1967، ثم ماجستير فى نظرية الأدب واللغويات عام 1992 م وهى عضو فى اتحاد الكتاب البرايزلى وأكاديمية جوياس للآداب والفنون النسائية وعضو فى هيئات أخرى عديدة ثقافية وأدبية. لها أكثر من ستين كتابا فى الشعر والقصة القصة وأدب الأطفال. تعد مجموعتها القصصية أفرياجيم أى البرد أشهر كتبها التى صدرت لأول مرة عام 1988. وقد حصلت المجموعة على تقدير النقاد فى البرازيل، وقصة النمل واحدة من قصص هذا الكتاب الذى يحتوى على ثلاث عشرة قصة قصيرة.والقصة منشورة على موقع كلمات بلا حدود مترجمة الى الانحليزية ترجمها أليسون انتركين وهو كاتب استرالى مهتم بترجمة الأدب البرايزلى، أما ترجمتنا فعن النص الانجليزى، وهذه هى المرة الأولى التى يترجم فيها عمل فى العربية للكاتبة الكبيرة المشهورة أوجوستا فارو.

***

....................................

* رابط القصة على الشبكة العنكبوتية: موقع كلمات بلا حدود

September 7, 2007

Published in September 2007

https://wordswithoutborders.org/read/article/2007-09/the-ants/

ظننت أنني أعرف زوجي منذ 20 عاما. لم أعتقد ذلك - وما زلت لا أعتقد ذلك.

بقلم: بيل بوردن

ترجمة: محمد عبد الكريم يوسف

***

عندما بدأ الحجر في آذار 2020، قررت أنا وزوجي الدخول في الحجر الصحي مع طفلين صغيرين، كانا في سن 15 و 12 عاما، في منزلنا في مارثا فينيارد. وصلنا في 15 أذار واستقرينا في الإقامة لفترة طويلة، حيث قمنا بتفريغ السترات والأحذية والكتب المدرسية والتشيلو.

أقام زوجي مكتبه في المنزل على منضدة كرتونية في غرفة المعيشة، وكان ينهض من الفراش في الساعة 4 صباحا ليتمشى ويقلق بشأن الأسواق. لقد قام بتقطيع ثلاثة أنواع مختلفة من الخشب وأشعل نيرانا رائعة. وقدم لي الويسكي الحاد مع غروب الشمس (اعتقدنا وقتها أن الويسكي سيقتل الفيروس). تعلمت ابنتنا الكبرى أن تصنع النوكي ؛ تعلمت ابنتنا الصغرى لعب فورتنايت. يسعدنا استخدام منزلنا في غير موسمه ورؤية الجزيرة لأول مرة في ضوء الشتاء المتأخر.

بعد أسبوع، في 22 آذار، الساعة 6 صباحا، قال لي زوجي إنه يريد الطلاق. حزم حقيبته وركب سيارته الجيب وربط بها مقطورة المعيشة. كنا متزوجين منذ ما يقرب من 21 عاما.

عندما وصل إلى مدينة نيويورك، عرض روايته قائلا: لقد اعتقد أنه كان يريد حياتنا لكنه لم يفعل ذلك. كان يعتقد أنه سعيد ولكنه لم يكن كذلك. انقلب كل شيء. لم يكن يريد منزلنا أو شقتنا. و لم يكن يريد حضانة أطفالنا.

لم يكن لدي أي فكرة أنه غير سعيد. كان زوجي رجلا ينام الساعة 9 مساء. ويتتبع دورات نومه على تطبيق على الهاتف. كان أول من غادر حفل عشاء. عمل ولعب التنس وعاد إلى المنزل وشاهد المزيد من التنس على التلفزيون. لم يكن حنونا أو عاشقا، لكنني شعرت بتيار من الحب الدائم معه. لم يغازل النساء الأخريات أمامي قط. لم نتشاجر أبدا. بدا قانعا ومستقرا في حياتنا. لقد صمم إضافة إلى مرآبنا وزرع شجيرات التوت في العام السابق لمغادرته.

كانت هناك امرأة أخرى، كما يحدث غالبا عندما يغادر الرجال. اتصل بي زوجها في ليلة 21 آذار عندما كنت أقوم بتنظيف أرضية المطبخ بعد العشاء وترك رسالة بريدية صوتية: "يؤسفني أن أخبرك أن زوجك على علاقة غرامية بزوجتي".

في تلك الليلة، اعتذر زوجي وندم قائلا إنه يحبني وأن هذه العلاقة لا تعني له شيئا. لكن بحلول الفجر، عندما أعلن مغادرته، بدا مختلفا، مصمّما. كانت عيناه الخضراوان متحجرتان.

تمتلئ بقية القصة بمزيد من الكليشيهات. غادر في العام الذي بلغت فيه الخمسين من عمري، وهو العام الذي وصل هو فيه إلى قمة النجاح المهني في العمل. اشترى شقة أنيقة جديدة في مانهاتن، ثم وكل محامي طلاق معروف، وعاملني بجفاف دائم في التعاطف و المحبة.

ما هو مختلف في قصتي هو أن زواجي تحطم في فجر جائحة كورونا. كان ذلك في وقت مبكر من الأزمة عندما غادر المنزل. كنا نطهر أيدينا بالبيوريل، ونمسح العبوات، ونستخدم القفازات في محل البقالة، لكننا لم نرتدي الأقنعة بعد. كنا نواجه العديد من الأشياء المجهولة، بما في ذلك مدى خطورة الفيروس، ومدة إغلاق المدارس، ومتى يمكننا توقع الحصول على لقاح. كنا خائفين، واستمتعت بأمان زواجي بشدة. لكن رحل زوجي.

كان لدي منزل ومال ومكان معزول للحجر الصحي - كنت آمنة بكل المقاييس. لكن شريكي، الذي وعد بحمايتي وحماية أطفالنا، اختفى بين عشية وضحاها. ولم يتمكن الأشخاص الذين كانوا سيدعمونني ويطعمونني ويساعدون الأطفال - عائلتي وأصدقائي المقربين من الوصول إلي أثناء الحجر و الإغلاق. بكوا معي على الهاتف، لكنني كنت أستيقظ كل يوم وأنا أواجه الخوف والألم بمفردي.

قررت ألا أحتسي الخمر، مع العلم أن ذلك سيجعلني حزينة، لكنني أيضا وجدت صعوبة في تناول الطعام. في غضون أسابيع كنت قد خسرت 20 رطلا من وزني، وهي المعاناة نفسها التي تعرضت عليها على مدى عقدين من الحمل والحياة الأسرية.

لم يكن لدي أي معلومات عن زوجي ولماذا هجرنا. بعد التصريحات العامة عن تعاسته، لم يعطني شيئا - لا يوجد تفسير لما كان ينقصنا في زواجنا أو في داخلي، أو المدة التي شعر فيها بهذه الطريقة، أو حتى إعلان مشاعر تجاه المرأة التي كان يواعدها. رفض مقابلة المعالج معي. في غضون أسبوع، توقف عن الرد على مكالماتي الهاتفية. كما توقف شقيقه وشقيقته عن التواصل معي قائلين إنه لدعمه نفسيا، لا يمكنهما الاتصال بي.

لو كانت الحياة طبيعية، لو كنا في نيويورك، لو تمكنت من اللحاق به في الشارع وجعله ينظر في عيني، ربما كان لدي بعض الفهم لما كان يحدث. لكنني كنت في جزيرتي المنعزلة، وكان في مكانه، ولم أكن أعرف شيئا، إلا صدمة اختفائه.

ومن المفارقات أن ثبات زوجي وصموده هو الذي جعلني أقع في حبه. التقينا في شركة محاماة حيث كان أحد كبار المساعدين، وكنت مساعدا مبتدئا تم تعيينه في مجموعته في عامي الثاني. لقد كان محاميا عظيما ذا عقل سريع وراجح، وقادر على الإشراف على عشرات الصفقات في وقت واحد، ومدروس ومنهجي في ما يتراكم لديه من المستندات القانونية. كان طويلا، أشقرا ونحيلا، صورته ظل مماثل لوالدي. كان يرتدي البدلات ويشمّر أكمام قميصه أثناء عمله. لقد كان بالغا راشدا كل ما في الكلمة من معنى.

عندما دخل مكتبي، أغلق الباب وقبلني، وأنا استسلمت وانتهيت. كان عازما على الزواج بي في غضون أسابيع من تلك القبلة، وتعهد بالاعتناء بي، والدخول في دور والدي المتوفى كحامي. وتزوجنا، في غضون عام، كلانا كان مؤمنا (ما زلت أؤمن) في الحب.

كان ثبات زوجي أيضا جذابا لي. كان الرجال في عائلتي متقلبي المزاج ولديهم فورات عصبية. لم يؤمن زوجي بالصراخ أو حتى القتال. كان صوته دائمًا منخفضا، وغالبا ما يكون هامسا، ورفض دائما الدخول في جدال. كان منزلنا هادئا وخالٍ من الصراع، وكان ذلك بمثابة انتصار لي، و منحني شعور متعجرف بأنني كنت أعيش حياة أفضل.

لكن الماضي المتمرد يكمن خلف المظهر الخارجي الهادئ لزوجي: مراهق يتعامل مع القانون، ومشاكل في المدرسة. كان هناك الكثير من النساء يتعقبنه وقصص بعضهن تلاحقه، ولا يستسلمن لرفضه.

كان هذا السرد مثيرا بالنسبة لي، المتمرد السابق الذي كان يرتدي بدلة، ومشكلة طالبة المدرسة الثانوية التي هبطت في شركة محاماة النخبة، محطمة القلب. لكن عندما أفكر فيما حدث، أفكر في هذا الجزء منه. الولد الشرير فيه يخلع الزي الخانق للزوج و مظهر الأب الذي تبناه بشكل مفاجئ.

بعد ثلاث سنوات تقريبا، ما زلت لا أفهم سبب مغادرة زوجي. ازدادت غرابته فقط، وأصبح خصما في عملية الطلاق، وبينما كان لطيفا مع أطفالنا وأحيانا يتواصل معي عبر الرسائل النصية، كان أكثر تصميما في رغبته في عدم مشاركة الحضانة أو الأبوة والأمومة اليومية.

مع استمرار الوباء، كان هناك القليل من التفاعل الاجتماعي وتدفق المعلومات لدرجة أنني لم أسمع شيئا عنه من أي شخص. لا أعرف ما إذا كانت المرأة الأخرى لا تزال مهمة بالنسبة له أم أنها لا تهمه على الإطلاق. لا أعرف ما إذا كان قد خدع طوال فترة زواجنا أم أن هذه الخيانة كانت خيانته الأولى. لا أعرف ما إذا كان قد تغير فجأة أو إذا كنت أنام مع شخص غريب لمدة عقدين من الزمن.

كان بإمكاني التعاقد مع محقق خاص، وكان بإمكاني الاتصال بزوج المرأة التي كان يراها، وكان من الممكن أن يلاحق أهل زوجي للحصول على إجابات. لكن كل هذه الطرق أشعرتني بالدناءة، كما لو كنت أستبدل كرامتي بقصاصات من المعلومات. كان علي معرفة كيفية المضي قدما في حياتي دون أن أعرف.

إن وجود مساحات فارغة عندما تحاول تذكر ماضيك وإدراكه يبدو وكأنه شكل من أشكال فقدان الذاكرة. أو مثل مشاهدة بداية الفيلم ونهايته، وفقدان الأجزاء الوسطى الأساسية من القصة.

ليس لدي أي سر لمشاركته حول كيفية المضي قدما دون إجابات. مشيت كثيرا، ومارست شكلا من أشكال التأمل جعلني أشعر وكأنني أتقدم إلى الأمام. توليت المزيد من الأعمال القانونية، وطهي الطعام لأولادي، ومشيت مع كلبنا، واشتريت سجادة جديدا. وفي النهاية، بعد عدة أشهر، وجدت نفسي على طريق ليس له علاقة به، وتوقفت عن النظر للخلف والجانبين، ونظرت فقط للأمام.

أراه أحيانا من بعيد في حي مدينتنا المشتركة. يبدو مألوفا لي، وضعيته ومشيته، وشعره الأشقر الرملي وحذاءه الرياضي البرتقالي، ويقفز قلبي قليلا عند رؤيته. لكن بعد ذلك أتذكر أنه غريب عني وكأني لا أعرفه، وأنا أمشي.

***

........................

* عن صحيفة نيويورك تايمز، 30  حزيران 2023

النص الأصلي:

Was I Married to a Stranger? By Belle Burden, June 30, 2023,

https://www.nytimes.com/2023/06/30/style/modern-love-married-to-a-stranger.html?

قصة: بوب ثوربر

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كان عائدًا إلى منزله بعد أن قضى سهرة جنائزية طويلة ومراسم جنازة قصيرة عندما رآها للمرة الأولى، كانت ترتدي ملابس وردية من رأسها حتى أخمص قدميها، بما في ذلك المشابك البلاستيكية في شعرها وظلال عيونها وأحمر شفتيها الكريمى وأظافرها اللامعة. جلست في مواجهته في المقعد الطويل في مقدمة الحافلة.

قام بتسجيل ملاحظة في مفكرته، كتب: امرأة مصنوعة من حلوى غزل بالبنات.

في المرة التالية التي رآها فيها كانت ترتدي ملابس زرقاء مع أقراط بلاستيكية مدورة بيضاء اللون كبيرة، كما لو كانت أساور، وقرر أنها إما أنها أصغر بعامين أو أكبر بكثير مما كان يظن في البداية .

في المرة التالية التي رآها فيها كانت ترتدي ملابس وردية اللون مرة أخرى، ساقها العاريتان قويتان وثمة ضمادة على كاحلها، أعلى حذائها الرياضي الخال من الأربطة .

في المرة التالية كانت ترتدي ملابس منقوشة جميعها باستثناء حذاء بني، تقول لرجل  يرتدى قبعة بنية اللون، أنها أفرجت عن أسهمها وعززت أصولها المالية وأصبحت متفائلة في أمريكا.

في المرة التالية  التي رآها فيها كانت تدندن عيد الميلاد، اعتقد أنها موسيقى برامز .

في المرة التالية التي رآها فيها، كانت هي والسائق يتبادلان أطراف الحديث، وكان يرتشفان من أكواب فولاذية متطابقة تنفث بخارًا.

في المرة التالية التي رآها فيها سألته عما إذا كان بإمكانه أن يمنحها ورقة بيضاء من مفكرته وعندما أعطاها الورقة البيضاء قطعت جزءًا منها وأعادت له الباقي، بعد لحظة سألته إذا كان بإمكانها أن تستخدم قلمه، بعد ذلك رآها تعطي السائق ورقة مطوية.

في المرة التالية التي رآها فيها بدت متوترة ومنزعجة؛ وعلى نحو ما ظلت تلمس شعرها.

في المرة التالية التي رآها كانت حاملاً ولكن ليس كثيرًا .

في المرة التالية التي رآها فيها كانت تقول لسائق الحافلة أنه رجل طيب ومحترم، رجل لطيف للغاية، لكنه لن يتمكن من جعلها على الحالة التي اعتادت عليها.

في المرة التالية التي رآها فيها، ابتسمت للتو. ليس كثيرًا في وجهه كما هو الحال مع أي شخص آخر حيث كانت تفرك بطنها كما لو كان مصباحًا سحريًا.

في المرة التالية التي رآها فيها لم تعد حاملاً، وهو ما كان يعتقد أنه غريب إلى حد ما.

في المرة التالية التي رآها فيها، كانت تعاني من ألم واضح، وهي تميل إلى الأمام وتمسك بطنها، كما لو كانت تعاني من ألم شديد.

في المرة التالية التي رآها فيها كانت رابطة الجأش تمامًا.

في المرة التالية التي رآها فيها، قالت: "هذا أروع خبر سمعته منذ فترة طويلة. جيد  بالنسبة لك. يا لها من نعمة. تهانينا." لم تكن تنظر إليه أو تنظر إلى أي شخص آخر. في الواقع كانت عيناها مغلقتين ولم يكن لديه أي فكرة عمن كانت تخاطبه.

في المرة التالية التي رآها، كانت جالسة بالقرب من السائق وسمعها تهمس، "لأنك تقول ذلك. لا يا سيدي، لا أعتقد ذلك.

في المرة التالية التي رآها فيها، قالت لطفل يجلس في حجر أمه: أنت لست وحشًا صغيرا حقا، أليس كذلك ؟

في المرة التالية التي رآها فيها كانت منعزلة تمامًا إلى حد ما، وعندما أخبرها أنه كان قد سجل ملاحظات فى مفكرته،وعندما فتح المفكرة لكى يقرأ لها بعض الجمل، طلبت منه التزام الهدوء لأنها لا تشعر بالرغبة في التحدث وكانت أشعة الشمس تسبب لها الصداع.

فانتقل إلى مقعد في الخلف وأغمض عينيه، الأمر الذي كلف الكثير من الجهد، والذي تطلب طاقة أكثر مما ينبغي؛ بل الكثير من الطاقة لدرجة أن الجهد المبذول لإبقائهما مغلقتين جعله مستنزفًا وضعيفًا وفارغًا.الأمر الذي دفعه إلى الاعتقاد أن العلاقة برمتها يجب أن تكون أقل من الحب الحقيقي، وليس أكثر من الافتان.

وهو ما دفعه إلى التفكير في المرة الأولى التي رآها فيها، في ذلك الصباح بعد الجنازة، على الرغم من أنه على مدار حياته لم يتذكر إلى الآن من الذى وافته المنية.

في المرة الأخيرة التي رآها فيها كانت عارية على القمر، فقط صورة خيالها محددة بظل رمادي، ومع ذلك يمكن لأي شخص أن يرى أنها ساحرة، أو عرافة، أو روح شريرة في أبشع صورها، وقد اعتبر ذلك بمثابة تحذير.

***

.....................

المؤلف: بوب ثوربر/ Bob Thurber

كاتب أمريكي عجوز غير متعلم، لا يحمل أيه شهادات علمية أو درجات أكاديمية ولا تدريب رسمي، ولد بوب عام 1955، نشأ في فقرمدقع وتخرج من الثانوية معدمًا ثم ثضى سنواته الأولى في العمل في وظائف وضيعة وكان فى نفس الوقت يقرأ بنهم ويدرس حرفة القص، لقد أنجز فترة تدريب مهني طويلة، حيث كان يكتب يوميًا لمدة عشرين عامًا، قبل أن يقوم بنشر أول أعماله القصصية، ومنذ ذلك الحين لاقت أعماله  قبولًا واسعًا في معظم الدوريات والمجلات والمختارت الأدبية. له حتى الآن ست مجموعات قصصية ورواية واحدة، يميل إلى كتابة القصة القصيرة والقصيرة جدًا جدًا . حصل بوب ثوربر على العديد من الجوائز (أربعين جائزة)  منها جائزة: The Barry Hannah fiction prize وThe Margery bartlett sanger award، وظهرت نماذج من قصصه في أكثر من 60 مطبوعة من كتب المختارات الأدبية. يعيش بوب ثوربر في ولاية ماساتشوستس، حيث يواصل الكتابة يوميًا على الرغم من فقدانه نعمة البصر تقريبا .

 

بقلم: أشيغول سافاش

ترجمة صالح الرزوق

***

اختفى الصيف. على طول الفولغا، تم طي خيم البيرة حيث كنا نجتمع في غضون الأسابيع الأولى، وأودعت في الشاحنات. ولعدة أيام، كان طلاب البلدة يجلسون بين الأوتاد. وفي الأسابيع التالية تم تجميع الأوتاد وحملها، وأقفر الممشى فوق الماء الرمادي.  وتبدل لون أوراق الشجر وتساقطت، مثل طلاء الأبنية الصفراء في البلدة. وظهرت القبعات المستديرة الفخمة مع أول هبة ريح قادمة من النهر. وهذا مشهد تخيلناه دائما. هو ومعاطف الفراء. وأشعلت المقاهي أضواء النيون في النهار. وجلس المخمورون الوحيدون في الحديقة الفارغة. واجتمعت العجائز المرتديات ثياب القماش والصوف لبيع الخضار الملقاة في الدلاء. وأخيرا تشكل لدينا إحساس عن مكان وجودنا. وأسعدنا الجو الغائم. ورغبنا أن تتكاثر الغيوم ويشتد البرد. وأملنا بهبوط الثلج، وانتظرنا الضوء الرمادي. وتقريبا ابتهجنا بالنادلات المكفهرات، وكنا نأمل أن يهملننا لفترة أطول، وأن يجبن بهزة من رؤوسهن حينما نسأل بلهجتنا المضحكة إن كان لديهن بيلميني (الشيشبرك). ثم نتبادل النظر ونحن نبتسم بزهو ونقول:"ها نحن في روسيا".

بالعودة إلى الجامعة، كانت حجرات مساكننا مزينة ببوسترات تصور النساء الكادحات في الفترة السوفييتية، وبإعلانات شوكولا تعرض صورة كوزيا الوجه الصبياني المجعد، ولكن لم يكن لدينا شخصيات كرتونية. كنا نشعر بالحنين لتلك الأشياء التي لا نمتلكها. فقد ولدنا بعد عدة عقود منها. وكنا نشتاق لأشياء أكثر واقعية، حتى لو أن العصر تخلى عنها قليلا.

إحدانا عقدت العزم على قراءة "المعلم ومارغريتا" بالروسية، وأخرى قرأت "الحرب والسلم". وأعلنا عن هدفنا دون تردد في أول عام لنا في الجامعة، نحن نكافح لنبني أنفسنا ونتطور. وكنا نقول إننا دائما مهتمات بهذه الثقافة وشعبها، واستعملنا كلمات مثل "رواقي" و"نبالة" لنصف بها عاطفتنا.

*

وكان هناك عدد آخر محدود من الأجانب في البلدة. قابلناهم في مقهى إنترنت حيث يجتمع الأجانب يوميا. ودعانا تاجر ألماني، عاش عاما في ديلوير، إلى حفل غداء في أسبوعنا الأول، حينما كنا جاهزات لبداية ما. وكنا نجتمع بعد المحاضرة لنذهب إلى السوق، ونتذوق الأطعمة التي لها مظهر غريب جدا. وذهبنا أيضا إلى السونا قبل أن يبرد الطقس.

أخبرنا التاجر في حفل الغداء:"أنتن جماعة عظيمة". وطلب من أجلنا الشراب وقال:"أنتن تذكرنني بأيام دراستي حين كنت طالبا".

ولاحقا حينما وقفنا في الخارج نرتجف ونسعل ونحن ندخن قال:"مرحبا بكن جميعا في روسيا. لدينا الكثير من المتعة هنا". ولكن لم نره مرة ثانية. كان هناك صبيان من البعثة التبشيرية - أو هذا ما توقعناه، بسبب هيأتهم الحسنة التي لا تتناسب مع سلوكهم المباشر. كانوا يحتارون حيال نكاتنا. وهناك بنات إيطاليات حضرن للعمل في دار الأيتام. كنا نتلاقي في KFC، ربما فقط لتكون محطة في غربتنا، ولنشعر بالتقارب حينما نتناول قطع البطاطا.

قلنا: “خيرا هذا شيء دون قشدة سميكة. شيء غير مخلل".

وكنا يوميا في المحاضرة نتبادل أخبار ما حضرته العوائل لنا من طعام للغداء. الحنكليس المدخن، ملفوف من مئات الأنواع، وكعك مع جبن محلي. ولسبب ما كان ذلك يجبرنا على الانفجار بالضحك. وكنا نتبادل الحكايات عن المضيفات كأننا في منافسة، ونلاحظ كل شيء تقمن به مثل باحث أنثروبولوجي أو ممثل كوميدي. وكانت إحدانا تنام على كنبة مطوية في المطبخ. وأخرى توقعت أن "العم" الذي يزور العائلة أسبوعيا، حينما يغيب الأب في سويسرا، هو في الحقيقة عشيق الأم. وهناك حكايات كنا نتبادلها كلما عدنا بعد العطلة في العام اللاحق، وبرواية هذه الحكايات بيننا كانت تبدو مقبولة - فهي عن هذا العالم الغامض الذي نتعرف عليه. حكايات عن تجاربنا الشخصية. قبل وصولي، تخيلت أنني أستسلم لمنطق الوقت، وكأنني أدخل في شرنقة. وسأغادرها بعد التحول في غضون عام، و سأبدو نسخة مطورة من نفسي. وكنت على ثقة أن هذا العام سيمنحني كل الأشياء التي تنقصني، حتى دون أن أعرف ما هي.

عشت برفقة غالينا إيفانوفنا، وهي امرأة مسنة ذات شعر برتقالي، ينسجم لونه مع طراز الزهور الناعمة المطبوعة على ثوبها القطني. كانت تذرع الممر بخطواتها رواحا ومجيئا طيلة اليوم، وهي ترتب شبكة من الأكياس البلاستيكية المتزايدة المتدلية من مقبض السخان، وتتخلص من بقايا طعام في الثلاجة أو على الشرفة. ثم تبدل أمكنة الأكياس دون سبب واضح. وتوقعت أنها في الثمانينات من عمرها، ولكن الناس يبدون أكبر مما هم في الحقيقة (وكنا ندعو ذلك "مرض التدهور الروسي" - كل البنات الشقراوات والنحيفات ينمسخن في غضون ليلة واحدة إلى بابوشكات - جدات).

كانت غالينا إيفانوفنا تعيش في وسط المدينة، قرب الجامعة، حيث نتلقى محاضراتنا. ولبنايتها الحجرية  نوافذ مقوسة وباب صدئ مستدير ولافت للنظر. وقد أخبرتني بزهو أن فيلما تم تصويره في هذا البناء. ومن الداخل كانت تنبعث رائحة العفن. أما الشقة ذاتها فهي قديمة جدا، ذات أنابيب تسرب الماء، وذات شقوق، ولكنها مدعمة بنظام من القطع البلاستيكية، والألواح، والقطن.

كنت أنام في غرفة المعيشة على الكنبة، قرب خزانة زجاجية مليئة بتجهيزات الطعام المصنوعة من الخزف الصيني الأزرق، والأكواب الزجاجية.

وبجوارها وضعت محاليل ودهون التجميل. وفي وقت الإفطار والغداء، كنا نجلس حول طاولة المطبخ على كرسيين دون مساند، وكانت غالينا إيفانوفنا تسألتني:"هل تودين الحساء الآن؟. أم الدحاج الآن؟".

وكانت تسكب الأطباق واحدا بعد الآخر، بغض النظر عن جوابي.

من اللحظة التي قدمت فيها نفسي، وضعت اسمي جانبا وأطلقت علي اسم ماشا. قالت في أول غداء اشتمل على الحساء والكعك:"لا يوجد أحد سوانا يا ماشا".

وقد توفيت للتو أختها إيرينا، التي تقطن في الأعلى. وكانت بالنسبة لها أما حانية، أيضا، واستمرت كذلك حتى آخر لحظة. ولا أعلم هل هذه علامة طيبة، أم إشارة تدل على المصاعب. وقالت غالينا إيفانوفنا إن ابني إيرينا يعيشان في موسكو.

سألتها: "وماذا عن أولادك؟".

نفضت رأسها.

سألتها:” ولكنك تحبين الطلاب؟".

نهضت غالينا إيفانوفنا من الطاولة. وبعد دقائق، عادت ومعها ألبوم صور فوتوغرافية، جرت كرسيها إلى جواري. فتحت أول صفحة وعرضتها علي، صورة بعد صورة، وهي صور بنات في الجامعة يرتدين القمصان الرقيقة وبلوزات الحياكة اليدوية، وهن تبتسمن أمام الخزانة الزجاجية.

وبدأت تعرفني بهن:"ساشا. آليا، لارا. تانيا. كاتيا".

وهناك أيضا صور بنات تحضن غالينا إيفانوفنا أو تقبضن على يدها. كانت تلوح بيدها في الفراغ كأنها تصرفهن، وكأنها مرتبكة، ولكنها لم تسرع بقلب الصفحة. وفي نهاية الألبوم توجد عدة صور أرسلت من الولايات المتحدة، وتمثل احتفالا جماعيا بعيد الميلاد، ورحلات قريبة، وقلعة ديزني لاند.

قالت غالينا إيفانوفنا:"هذه فلوريدا. وهذه ماين".

وأخرجت الصورتين من الصفحة البلاستيكية لتعرض علي اسم المكانين المكتوبين بحروف سيريلية على الخلف. من الواضح أن هاتين البنتين، اللتين تشتركان بشيء ما يخص حياتها، هما محبوبتا غالينا إيفانوفنا، وتتذكرهما باسميهما الحقيقيين.

قالت:” هذه جيسكاتي. انظري. وهذه الجميلة ستيفاني".

في الأمسية التالية، حينما جلسنا في المطبخ بعد الغداء، سألتني إن كنت أود الذهاب إلى المسرح. كان بمقدورها أن تسأل صديقتها، التي تعمل في شباك التذاكر، لتحجز لنا مكانين.

قلت:” شكرا لك، لا ضرورة لذلك".

حاولت أن أخبرها أنني لن أفهم مسرحية ناطقة بالروسية.

سألتني:"ما رأيك بعرض موسيقي؟".

قلت مجددا:"لا ضرورة لذلك. شكرا جزيلا".

كنت أخطط للانضمام إلى الأخريات بعد المحاضرة وزيارة KFC.

قالت:"إيرينا تحب المسرح". تساءلت إن كانت تتكلم بصيغة الحاضر من أجلي.

قلت:” أتمنى لو تعرفت عليها".

"ألن تضجري هنا، دون أي تسلية؟".

فتحت يدي بشكل كتاب، وصنعت حركات صامتة كأنني أكتب.

بعد قليل قالت غالينا إيفانوفنا: "الجميع رحلوا".

وافقت بإيماءة. ثم قلت:” أنا هنا. وأنت هنا".

بعد تنظيف الطاولة، تبعتني إلى غرفتي، وأخرجت إطارا من نهاية الخزانة الزجاجية. وأشارت إلى صورة رجل له شارب، ويتقلد ميداليات عسكرية.

قالت:"هذا زوجي. رحل أيضا. كان يقرأ كثيرا، مثل البنات".

في اليوم التالي في المحاضرة أخبرت الأخريات أن أمي المضيفة شخصية رائعة.

قلت: "يا جماعة. أعتقد أنها تعيش مع الأموات".

*

في تشرين الثاني أقفرت الأشجار وأصبحت عاقرة. قمنا بما يجب علينا في البلدة. زرنا الكاتدرائية، وعبرنا من الجسر إلى الحصن القروسطي، واشتركنا بجني الفطر مع إحدى مضيفاتنا، واستمتعنا بوقتنا في أحد الملاهي الليلية. حتى أننا حضرنا عرضا مسرحيا وغادرنا بعد نهاية المشهد الأول. وزرنا البنات الإيطاليات في الميتم وأنفقنا الأمسية مع الأطفال. وذهبنا برحلة في نهاية الأسبوع إلى بيت تولستوي الريفي، واشترينا من هناك الفرو وأوشحة مطرزة بورود تشبه ما ترتديه العجائز في السوق.  وعندما عدنا من الرحلة، كان وشاحي متدليا على ظهري بشكل مثلث، فجرتني غالينا إيفانوفنا من ذراعي إلى غرفتها وأجلستني على السرير. وأحضرت بقجة من القماش كانت على الخزانة وفكت عقدتها على الأرض.

قالت وهي ترفع بيدها ملابس من القماش:"هذه أمي". وكررت الكلمة. وعرضت علي غطاء طاولة من القماش. والفوط المناسبة له، وثوبا رقيقا من الكريب. قمت بتقليد إشارة الخياطة بيدي فوافقت برأسها.

وكررت قولها:” هذه أمي".

وفي الأسفل استقر زوج جوارب أطفال، وثوب بتطريز أزرق ناعم.  وفي تلك الأمسية، طلبت مني أن أجالسها في غرفتها لنشاهد عرضا عن بنت في المدرسة الثانوية، لها نظارات سميكة، وأساور معدنية. شربنا الشاي، ثم توجهت غالينا إيفانوفنا إلى الخزانة، وأحضرت كيسا من الحلوى. وعندما بدأ العرض، أشارت إلى الممثل ذي الشعر الأسود وأخبرتني:" كانت معجبة به. ولكنه لم يهتم بها".

حسبت أن البطلة ستتعرض لبعض التبدلات في الحلقات القادمة، كما هو الحال دائما. نهضت أثناء الإعلان التجاري، وصنعت بيدي ما يشبه وسادة ووضعتهما بجانب خدي.

قالت غالينا إيفانوفنا:"حسنا". وصرفتني بحركة من يدها.

استلقيت على الكنبة، وانتهيت من اختبارات القواعد وحضرتها لليوم التالي. وأضفت بعض التفاصيل للفقرة التي تصف بلدتي. وكتبت أن هناك أشجار قيقب كبيرة مشهورة بلونها الخريفي. وأن كل أفراد أسرتي يعشن على مقربة، ومع أن بلدتنا صغيرة، فهي جميلة. وحاولت أن أستعمل كل الكلمات الروسية التي أعرفها، ولكن التركيب لم يشبه مسقط رأسي: مكتب البريد، المكتبة، الحديقة العامة، المقعد، المسبح، السينما.

بعد ذلك أخرجت دفتري الذي أدون فيه التفاصيل كل مساء: رائحة الشوندر في الشقة، وقطع الصحف المربعة المقصوصة لاستعمالها بدل ورق دورة المياه. وأضفت رزمة الثياب القديمة التي عرضتها علي غالينا إيفانوفنا، وكيس قطع الحلوى في الخزانة.

*

وهناك الضجر الذي بالغنا به - اللعنة، هذه البلدة مضجرة - هناك الضجر نفسه.

وفي كل أمسية بعد المحاضرات، كنت أمشي في الشوارع القليلة إلى بناء غالينا إيفانوفنا، ثم أعود على الأقدام إلى الجامعة لأؤدي واجباتي المنزلية في غرفة المحاضرات. وبعد ذلك أتجول في أرجاء البلدة، وأنتهي إلى الكاتدرائية. وتذهب الباقيات إلى بيوت العائلات المضيفة. وكن جميعا يقطن في الضواحي، وكن قلقات من العودة في المساء حينما يتضاءل عدد الحافلات. لكن أنا محظوظة لانني أعيش في وسط المدينة، وأتمتع بحرية المجيء والانصراف كما أشاء. وأخبرتني الأخريات أنه لا يوجد شيء في أحيائهن - لا دكاكين ولا حديقة، فقط الأبنية الإسمنتية الكئيبة المصفوفة على طول الطريق. وما أن يبلغن البيت، كما قلن، يصبحن تقريبا سجينات. وربما كان هذا السبب في مشاركتهن في حياة عائلاتهن. يرعين الأطفال، ويزرن المعارف، ويساعدن في تحضير الأطباق التقليدية التي تحتاج لوقت طويل.  واستقروا بهذا الروتين،  وهكذا اعتقدت أنني أنا غير المحظوظة، في خاتمة المطاف - لأنني خسرت هذه الحياة الأصيلة.

في المساء استلقيت على الكنبة، أفكر إن كان لدي ما أضيفه إلى مذكراتي. كنت قد وصفت البلدة، بالإضافة إلى بعض الحقائق والأساطير التاريخية، ونسخت بعض القصائد من رواية "الدكتور زيفاغو" التي حملتها معي للإلهام.

جاءت غالينا إيفانوفنا إلى حجرتي بعد نهاية برنامجها التلفزيوني، ولم تقرع الباب، وجلست مباشرة على طرف السرير. وأخبرتني بما سأتناوله في الإفطار والغداء. أيدتها. فقالت:"في هذه الحالة سأذهب في الغد إلى السوق".

وفكرت ربما هذه هي طريقتها في الاستفسار إن كنت أريد مرافقتها.  في بعض الأوقات، وهي تدردش، تفك أزرار ثوبها دون أي شعور بعدم الراحة. فهي ترتدي عدة طبقات تحته - قميص قطني مدسوس تحت سروالها الداخلي، جوارب طويلة - ولذلك لا يمكنها أن تتعرى أبدا. ولكن تملكتني الدهشة أول مرة حصل هذا أمامي، حتى أنني وقفت وذهبت إلى الخزانة للتخلص من عدساتي اللاصقة. خلعت غالينا إيفانوفنا ثوبها، ووضعته على ركبتيها. سألتها هل تستعد للنوم؟.

قالت كأنني أعرض عليها أن تتكئ علي وهي تعبر الشقة لتتمكن من الوصول إلى فراشها بسرعة: “لا تهتمي. لدي أمور يجب أن أنتهي منها". 

كان يحيرني طريقة التفكير بسرد ما يجري للآخرين. ولكن فترة التسابق على تبادل غرائب مضيفاتنا كانت قد مرت وانقضت.

*

في نهاية تشرين الثاني، وصلت علبة من أبوي إحدى الطالبات، مملوءة بألواح شوكولا سنيكرز، والحلوى القوية، والفوشار، وعدد كبير من الكتب المتنوعة. ولا بد أن الأبوين سمعا أننا استهلكنا ما لدينا من كتب ولم يتبق جديد في مكتبات البلدة، وعموما لم يكن فيها غير ثلاث مؤلفات بالإنكليزية: صورة دوريان غراي، النساء الصغيرات، ونداء البراري. في العلبة وجدنا روايات جاسوسية وتشويق، من النوع الشائع في مواطننا، وكتبا عن أماكن غريبة ومواقع تاريخية - بعضها تجري أحداثه في كابول، وشنغهاي، وسانت بطرسبورغ، وهي عن الثورات أو الخياطات.

وزعنا الكتب بيننا وكنا نتبادلها بانتظام. كنت أقرأ أسرع من غيري وأحثهن على قراءة ما لديهن بسرعة. بعضهن قدمن لي كتبهن دون قراءتها. كن حينها مرتاحات في روتينهن. لاحظت التبدل، هدوءهن، وتراجع حيرتهن من هذه الحياة الجديدة.

قرأت دون اهتمام بالحصص، كنت أسرع إلى غرفتي حالما أصل إلى البيت، ودون أن أمنح غالينا إيفانوفنا الفرصة لتأتي وتسرد لي وقائع يومها. كان قد استقر بنا الحال على روتيننا، نعيش يومنا دون أن تقلق إحدانا الأخرى. كنت أغادر البيت قبل الإفطار، وأقرأ في قاعة المحاضرات قبل وصول الآخرين. وأنضم إلى غالينا إيفانوفنا للغداء، وأنهض لغسل طبقي حالما أنتهي منه، رغم احتجاجها وطلبها المتكرر أن أتركه في المغسلة. ثم أذهب إلى غرفتي لأواصل القراءة.

كانت الشخصيات وجغرافيا الأمكنة تندمج معا - العجيب والمألوف، المأساة والملهاة. وكنت مسرورة لأنني أكتشف قدراتي على التركيز، وقراءة كل ما أجده في طريقي، كان هذا دليلا على حبي. وأخيرا كان هذا هو البهاء الناجم عن تبدلي.

*

انتسبت الأخريات إلى دوائر اجتماعية تضم أخوات وأخوة مضيفاتهن. وأصبح لبغضهن هواية: طلاء الخشب، الأيقونات، الغناء مع الفرق المحلية. إحدى البنات أسست فريقا من الطالبات الروسيات للعب الكرة اللدنة، وكانت تدربتهن في أوقات المساء.  وقد ساعدناها في ترتيب بيع معجنات لتشتري للفريق قمصانه، وجاء كل الطلاب والأساتذة، مبتهجين بهذه المناسبة. ونظمت بنت أخرى دروسا لتعليم الإنكليزية في الميتم.

أخبرنا منسق البرنامج أننا فريق مثالي. فقد تأقلمنا بشكل جيد وبسرعة. ولم ينغص علينا غير حادث سيء واحد، حينما تأخرت إحدى الطالبات في الليل، وذهبت من الملهى الليلي مع شقيق مضيفتها. أرسلت جامعتنا رسائل إلكترونية تدل على التعاطف والتحذير، ولكن أدركنا أن الأمور تجري هذا المجرى في أي مكان.

*

وفي أول ليلة مثلجة، قررت أن أقوم بنزهة. جاءت غالينا إيفانوفنا إلى الباب وأنا أرتدي بوطي وأخبرتني أن الجو قارس البرودة، ولا يصلح للخروج.

قالت:"اجلسي معي وشاهدي العرض". وابتسمت مثل بنت فمدت يدها لتقبض على ذراعي.

قالت: "لماذا تفضلين دائما أن تكوني وحدك يا ماشا؟".

أخبرتها أنني لا أستطيع عمليا متابعة ما يجري في العرض.

قالت:"هراء. راقبي كلامك".

أخبرتها أن مفاتيحي معي، ولا ضرورة للقلق حول عودتي للنوم.

تجاوزت الجامعة والحديقة إلى الكاتدرائية. كانت رقائق الثلج تعصف بصمت في الضوء الذي ينهمر من نور الشارع. كانت الساحة خالية. دخلت في واحد من الطرقات التي تتفرع كالأشعة من الكاتدرائية. كانت هذه صفة تميز تصميم المدن القروسطية وعزمت أن أضيفها إلى مذكراتي. وصلت إلى النهر، وكان متجمدا بطبقات رقيقة.  وتقدمت نحو الحصن. من الشاطئ المقابل، تناءت البلدة واستسلمت لجدار معتم من الأشجار. كنت أفكر بسطور يمكنني إضافتها إلى مذكراتي، وحاولت أن أتذكر مشهد الساحة الفارغة المحتشدة بالثلوج، وحينها سمعت صوتا ورائي، يطلب مني أن أكون متنبهة وحذرة.

وقف شاب بعمري تقريبا على مبعدة أمتار قليلة، وهو يدخن سيجارة. ابتسم ابتسامة سطحية. فأومأت برأسي.

كرر:"كوني حذرة. وإلا ستتجمدين".

ولم أستوعب هل كلماته عدائية أم صديقة فهززت كتفي.

قال:"عموما ماذا تفعلين هنا؟". واقترب. توقعت أنه مألوف. سألته:” هل أنت شاعر أو شيء يشبه ذلك؟".

قال:"لا". بدأت بالعودة إلى اتجاه الكاتدرائية وسمعته يضحك من ورائي.

صاح:"هيي. ماذا يجري؟".

لسبب ما، مع أنني لم أشعر بالخطر، أسرعت بخطواتي. وما أن بلغت الكاتدرائية شرعت بالجري. في البيت، لاحظت أن لفة النقود سقطت من جيب معطفي.

في الصباح التالي بعد محاضرة الثقافة، طلبت مقابلة المشرفة وأخبرتها أنني أيضا خدعت في الأمسية السابقة.

أضفت:” لا شيء خطير. ليست خسارة عظيمة".

ولكن أخطرتها إنني قررت أن أعود، ولن أنتظر فصل الربيع أيضا. حذرتني المشرفة من الاندفاع إلى قرار سريع. وقالت من المخجل العودة الآن، ولا سيما أنني بدأت أعتاد على اللغة الروسية. وافقتها، وكنت أهز رأسي كل الوقت وهي تتكلم.

سألتني:” متى ستسنح لك فرصة مماثلة؟".

أضفت أنه في الحقيقة هناك مشكلة أخرى: أنني لا أحظى بحظ كبير في الكلام بالروسية مع مضيفتي. قلت لها هي كبيرة بالعمر. ولست متأكدة أنها قادرة تماما على استضافة طلاب وهي بهذا العمر. وأشرت إلى حقيقة أخرى وهي ضعف قدراتها الفيزيائية المحدودة، وربما هي ليست عقليا جاهزة كذلك - ولا يمكنها أن تميز بوضوح بين الحي والميت، وفي عدة

مناسبات، كانت تتعرى أمامي.

استنفرت أحاسيس المشرفة.

قالت:” لم نكن نعلم بذلك. ولكن كل البنات كن معجبات بها على الدوام".

واقترحت أن تجد لي عائلة أخرى.

وافقت أن غالينا إيفانوفنا امرأة رائعة. ولكنها تتقدم بالعمر، وهذا ليس خطأ أحد. وأضفت ربما من الأفضل لي أن أركز على الجانب الأكاديمي المتوقع في الفصل القادم في كل الأحوال. ثم إن د اللغة الروسية ليست أول اهتماماتي. حثتني المشرفة على الاستمرار على الأقل حتى نهاية العطلة. ولاحظت أنها مهتمة، من أجلي وكذلك من أجل سمعة البرنامج.

قالت:” حسنا. وشكرا لكل شيء".

وقبل مغادرة مكتبها، أخبرتها أن غالينا إيفانوفنا حساسة جدا. ومن الأفضل أن لا ينمو لعلمها  أي

شيء مما قلت.

*

كان البعض ينفق العطلة مع المضيف. أخريات سافرن إلى موسكو. وقررت الانضمام لهن، ومن هناك أتابع برحلة أخرى، ربما إلى قازان، أو شمال أرخانجيلسك - وكان في ذهني خطة رحلة بالقطار تنتهي في مكان خرافي وأسطوري، وذلك قبل العودة إلى البيت.

خلال الأسابيع الأخيرة لي في البلدة، شاركت بالمحاضرات بحماس، وصنعت صفا من بطاقات الكلمات، وأضفت إلى مذكراتي كل المشاهد والأصوات التي كازت في طريقي. وحضرت تمارين الفرقة الموسيقية، وذهبت إلى الميتم في يوم المباراة مع الأطفال. وعندما رجعت إلى البيت، أخبرتني غالينا إيفانوفنا أنها تركت لي الطعام على الطاولة، فقط إذا كنت أريده.

سألتني في أحد الصباحات وأنا أغادر:"هل أخطأت معك يا ماشا بشيء؟".

فقد أخبرتها  أنني بعد المحاضرة سأزور مضيفة إحدى زميلاتي على الغداء.

قلت:” كلا". كنت أريد الاستمتاع بكل وقتي قبل أن أنتهي.

قالت: "ستغادرين لأنك لا تحبي هذا المكان؟".

قلت:"كلا. أنا أحبه فعلا".

ولم يكن في ذهني كلام آخر أقوله.

*

لحق بي المرض قبل الرحلة إلى موسكو بيوم واحد. وفي الصباح التالي، حينما كانت الآخريات تصعدز على متن القطار، أصبحت عليلة جدا، ولم يكن بمقدوري الوقوف. كانت غالينا إيفانوفنا تأتي إلى حجرتي  على مدار الساعة، وتضع يدها على جبيني، وتبدل كيس مخدتي، وتحضر الحساء للطعام، ولكن لم ألمسه.

قالت:"هيا يا ماشينكا. خذي القليل منه فقط".

وكنت أبكي كلما حثتني على الطعام بهدوء وأنا أشعر بالخزي.  في إحدى المساءات، حينما تمكنت من أكل عدة ملاعق، حملت كتبي إلى جانب سريري.

قلت بحركة من رأسي: كلا. وشكرتها.

قالت :"ولكنك تحبين القراءة". وجعلني هذا أبكي.

أحضرت المقعد من المطبخ، وجلست في غرفتي بقية يومها. كنت أغط بالنوم وأفيق وغالينا إيفانوفنا جالسة على الكرسي، ويداها في حضنها، دون أي علامة تدل على نفاد الصبر.

قلت لها:"ستمرضين أيضا. من فضلك لا تبقي هنا".

لوحت بيدها.

في اليوم التالي غادرت السرير وحصلت على حمام سريع. في المساء جلسنا عند طاولة المطبخ. بعد ذلك ذهبت إلى غرفة غالينا إيفانوفنا لمشاهدة العرض التلفزيوني. كانت البنت لا تزال ترتدي الأساور والنظارات السميكة. ولكنها ضمنت لنفسها مكانا في مجتمع غرفة الصف. ولا حظ الولد ذو الشعر الأسود ذلك.

حينما كنت عائدة إلى غرفتي سألتني غالينا ايفانوفنا ما هي خطتي في المساء القادم. ليلة العام الجديد.

أخبرتها:” لا شيء".

قالت:” سنأكل معا. من المهم أن نكون متلازمتين".

بعد الظهيرة ذهبت إلى الكاتدرائية، كانت جدرانها تنهض من تحت الثلج، وقبابها المذهبة مطمورة بالأبيض. اشتريت هدايا من الغرف الخشبية الموزعة حول الساحة لأحملها معي إلى بلدي. كان مرشد سياحي يتكلم عن نمط الطرقات التي تنبع من الكاتدرائية. وقبل أن أنصرف، نظرت إلى صفوف الأيقونات الكثيرة، وأياديها ترتفع للتبريك أو للاعتراف، وحاولت أن أستخلص شيئا من هذا المشهد لأحمله معي أيضا. ثم توجهت إلى السوبر ماركت واشتريت كعكة بالمثلجات.

أحضرت غالينا إيفانوفنا طاولة المطبخ إلى غرفتي، وغطتها بغطاء من قماش أحمر، ووضعت عليها أكوابا من الزجاج. وعلى طاولة صغيرة مقبلات وقارورة كونياك. كانت صورة زوجها كذلك على الطاولة، مع صورة إضافية لطفل، بعمر سنة أو اثنتين، وكان ملفوفا بملاءة من التريكو. رفعنا كوبينا لنشرب نخب العام القادم. أومأت غالينا إيفانوفنا للصورة قبل أن تأخذ رشفة. وحينما كنا ننظف الطاولة، شكرتها على حسن ضيافتها لي، وقدمت لها دبوسا عنبريا بشكل القلب، اشتريته في ذلك اليوم من أمام الكاتدرائية.  وفي الوقت الذي كان التلفزيون يعرض به الألعاب النارية من الساحة الحمراء، كانت تغط بالنوم على الكنبة.

*

لاحقا تذكرتها بحنان. وصفت مخللاتها وحساءها، وأثوابها القطنية المطبوعة، وذهنها البطيء المشتت، كما لو أنها شخصية في قصة خرافية. وقلت كانت العجوز تدعوني ماشا. بعد بعض الوقت كتبت إليها، ووقعت باسمي الأجنبي الذي خلعته علي. حتى أنني أرسلت لها صورة تذكارية - لحجرتي في المساكن، وغرفة الطعام، وبيت والدي، والشوارع، وحدائق المدينة، والكنيسة الخشبية البيضاء المشيدة على التلال.

أخبرتني بالهاتف إن بلدتي تبدو مثل بلدتها.

قالت:” لا بد أنك كنت في بيتك معنا".

وآخر مرة كلمتها فيها، كانت في عشية العام الجديد، ليس قبل وفاتها بمدة بعيدة.

صحت أقول:"عاما سعيدا. أتمنى أن أمامك كأسا من الكونياك".

"هل تتذكرين يا ماشا حينما احتفلنا معا".

"طبعا. كانت لحظة رائعة".

"كنت الأخيرة. أخبروني أنه يجب أن لا أستضيف بعدك أحدا".

قلت:"ولكن كنت مضيفة متميزة جدا".

قالت:"ما كان عليك أن تكلميهم عني، أيا كان ما قلت لهم".

ثم أضافت:"ولكنني أغفر لك".

*

بسرد تفاصيل حكاية مغامرتي الروسية، لا يفوتني أن أقول إن تلك الشهور، برفقة مضيفتي العجوز، كانت وقتا مؤثرا ترك ظله على حياتي، وعلمني شيئا عن حياة الآخرين. ولكن من بين كل التفاصيل التي لم أذكرها في القصة، ونسيتها مع الوقت، لا أزال أتذكر عصارى اليوم الذي أحضرت فيه غالينا إيفانوفنا مجموعة الكتب. ولسبب ما لم أفهم تماما، لماذا جعلني مرأى تلك الكتب أبكي.

جلست غالينا إيفانوفنا على مقعد قرب سريري وفركت لي يدي ببن راحتيها. ولاحظت أنها كانت تبكي أيضا.

وأعتقد أنها قالت لي:"هذا محزن جدا".

ولست متيقنة أنني فهمتها على نحو صحيح.

قلت:"أنا غير حزينة. أنا على ما يرام".

هزت رأسها.

قالت:"نحن هنا. الواحدة بجانب الأخرى".

وأخبرتني إنها آسفة، لأنه ليس بمقدورها أن تقدم لي مساعدة أكبر.

***

.................

* إيشيغول سلفاش Aysegul Savasكاتبة تركية تعيش في باريس. صدرت روايتها الأولى بعنوان "المشي على السقف". 

النص الإنكليزي منشور في مجلة "غورنيكا" الأدبية.

 

قصة: روبرتا ألين

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

تحت سماء ضبابية، تتجول امرأة أجنبية بمفردها في يوم الإجازة في السوق الصباحي بينما يقوم الباعة بترتيب الفواكه والخضروات. ثمرة فاكهة تسقط من سلة المهملات وتُسحق تحت قدم من الرمل تجذب عين المتسول. تمسح النساء أيديهن على مآزر قذرة بينما تشم الكلاب أقدام المارة. أسراب من الذباب تلطخ ثمار الجوافة الناضجة. بينما يرفع بائع ذراعيه لضبط القماش المشمع فوق كشكه، يكشف قميصه المرتفع عن بطنه ندوبًا سوداء كبيرة. راكعة وسط الحطام، أم ترضع طفلًا من صدر يشبه الكمثرى المتعفنة. أم شابة تجري في السوق وهي تصرخ أن طفلها قد ضاع. صبي يبيع قطة مولودة حديثًا. يضع القطة في كيس ورقي ويغلق عليها. يقوم بتمزيق الثقوب في الكيس بأسنانه حتى تتمكن القطة من التنفس. عندما يضحك، تتشبث قصاصات من الورق بلسانه. وسط الضوضاء والغبار والضجيج، كان على الرجال الرابضين تحت أكياس رمادية ضخمة، وأعينهم ملقاة على الأرض، أن يمروا بصفوف من الأقفاص المليئة بالببغاوات والكناري وخنازير غينيا والطيور. فتاة في كشك خضروات تمسك أنفها وتمسحه بطرف فستانها البالي. خلف الأكشاك والشاحنات توجد منازل قديمة في الشوارع الضيقة المتعرجة. تحتوي جميع شرفات الطابق الثاني على نفس الدرابزين من الحديد المطاوع، الملتوي  إلى الخارج. لكن المرأة الأجنبية لا ترى أي شيء من كل هذا. هي قلقة فقط على صديقها. هل كان مخلصا؟ هل ستغادر طائرتها إلى الوطن بعد ظهر اليوم؟

المؤلفة : روبرتا ألين / Roberta Allen . فنانة تشكيلية وكاتبة روائية أمريكية ولدت روبرتا ألين فى نيويورك عام 1945 م، في العشرين من عمرها، سافرت بمفردها إلى أوروبا وعاشت لفترة وجيزة في أثينا وأمستردام وبرلين، ثم في المكسيك. على مر السنين، سافرت، غالبًا بمفردها، إلى منطقة الأمازون البيروفية وإندونيسيا وتركيا ومصر ومالي وبلدان في أمريكا الوسطى. ألهمت أسفارها العديد من قصصها. وهى مؤلفة لثمانية كتب، بما في ذلك مجموعات القصص القصير. كانت روبرتا ألين عضو هيئة التدريس في المدرسة الجديدة لسنوات عديدة، كما قامت بالتدريس في جامعة كولومبيا. كانت زميلة تينيسي ويليامز في الرواية عام 1998. وهى أيضا فنانة تشكيلية معروفة، عرضت أعمالها في جميع أنحاء العالم. وعرضت أعمالها في متحف متروبوليتان للفنون.

***

بقلم: فيرجينيا وولف

ترجمة: هشام علي*

***

أيما ساعة تستيقظ تسمع أصوات أبواب توصد. زوجان من الأشباح يتنقلان من غرفة إلى أخرى يدًا بيد، يرفعان هذا، ويفتحان ذاك، ويتأكدان.

تقول الزوجة: "تركناه هنا. يضيف الزوج: "أوّه، هنا أيضًا"، ثم تهمس: "وفي الطابق العلوي". يخافت بصوته: "وفي الحديقة". يقولان بصوت خفيض: "بهدوء كي لا نوقظهما".

ولكننا لم نهتم بإيقاظكم لنا. لم يكن ذلك الذي يشغلنا على الإطلاق. قد يقول قائل: "إنهما يبحثان عن شيء ما، يفتحان الستارة"، ثم يكمل قراءة صفحة أو اثنتين. وقد يجزم: "الآن قد وجداه"، ثم ينحي القلم جانبًا على الهامش. وبعد ذلك، قد ينهض منهكًا من القراءة ويتحقق بنفسه فيجد المنزل خاويًا، والأبواب مشرعةٌ على مصراعيها، وليس هناك سوى حَمامُ الغابِ ينشد أغاريده وهدير آلة الحصاد ينبعث من الحقل. "ما الذي أتيت لأجله هنا؟ ما الذي أريد أن أعثر عليه؟ يداي خاويتان. "لعل ذلك الشيء في الطابق العلوي؟" التفاح كان بالغرفة العلوية. ها نحن نعود مجددًا إلى أسفل الدار، وها هي الحديقة ما تزال على حالها منذ سنين، ولم يتغير سوى ذاك الكتاب الذي انزلق بين العشب.

لكنهم وجدوا هذا الشيء في غرفة الاستقبال. لم يكن بمقدور ذاك الشخص أن يراهما، فزجاج النوافذ تنعكس على صفحته ألوان التفاح والورود، وأوراق الشجر تزدهي خضرة ترف على كامل الزجاج. وعندما يتنقلان داخل غرفة الاستقبال، تظهر التفاحة جانبها الأصفر، غير أنهما سرعان ما ينتشران في أرجاء الطابق إذا فُتح الباب، ويتعلقان بالجدران ويتدليان من السقف، ماذا؟ يداي فارغتان. يعبر ظل طائر القلاع السجادة، وينبعث من أعماق آبار الصمت صوت حمامة الغاب. وإذا بالمنزل ينبض نبضات خفيفة وينبعث منه صوت ينادي: “أمان، أمان، أمان. "الكنز مدفون، الغرفة..." توقف خفقان المنزل فجأة. آوه، هل كان هذا حقًا الكنز الدفين؟

بعد لحظة يخفت الضوء. في الخارج بالحديقة إذن؟ لكن الأشجار ترخي سدول الظلام على شعاع شمس حائر. يبدو الشعاع دقيقًا وغريبًا وهو يغوص بهدوء تحت سطح الزجاج وإذا بي أتابعه مجددًا لأتحقق مصيره الذي سرعان ما يؤول دومًا للاحتراق خلف الزجاج. الزجاج يجسّد الموت، فشبح الموت حال بيننا، خيم على المرأة أولًا منذ مئات السنين فآل زمانها إلى خط الزوال. بعد ذلك، رحل عن المنزل مغلقًا كل النوافذ، حتى سكن الظلام الغرف. ترك المنزل وتركها وطاف العالم من شماله إلى شرقه هائمًا يرمي بنفسه المرامي، إلى أن رأى النجوم تغوص صوب الجنوب، فقصد المنزل فوجده قد انحدر بين التلال. تتعالى نبضات المنزل ومعها ينبعث ذلك الصوت: "أمان، أمان، أمان". "الكنز كنزك".

يشتد صفير الرياح في أرجاء المكان. تتمايل الأشجار وتنحني هنا وهناك. تتساقط أشعة القمر وتنسكب بشدة بين قطرات المطر، بينما تنحدر أشعة المصباح في استقامة من النافذة. تحترق الشمعة في جمود وسكون. يتجول الاثنان بين جدران المنزل ويفتحان النوافذ ويهمسان لكيلا يوقظاننا باحثين عن السعادة.

تقول الزوجة: "هنا كنا ننام" فيضيف: "وهنا كنا نغرق في بحور من القبلات." "نستيقظ في الصباح--" "نرى الأشجار وقد اكتست باللون الفضي--" "وفي الطابق العلوي--" "وفي الحديقة--" "وعندما يحل الصيف--" "وفي وقت تساقط الثلج في الشتاء--". " تنغلق الأبواب في مكان بعيد وتصدر صوتًا خفيضًا يشبه خفقان القلب.

يقتربان ويتوقفان عند المدخل. تهب الرياح، وتتساقط الأمطار بلونها الفضي اللامع على الزجاج. ويهوي الظلام بأجنحته السوداء فيغطى أعيننا. لا نسمع خطوات بجانبنا، ولا نرى سيدة تلقي عباءتها مثل الأشباح. يداه تغطيان المصباح. راح يهمس: "انظري، إنهما نائمان على ما يبدو وأمارات الحب ترتسم على شفاههما".

ينحنيان ويمسكان بالمصباح الفضي فوقنا، ويحدقان فينا برهة. ثم يتوقفان طويلًا. تمضي الرياح في اتجاه مستقيم ويتمايل لهيب الشموع تمايلًا خفيفًا. وتخترق أشعة ضوء القمر المتوهجة أرض المنزل وجدرانه وتلتقي وتلون الوجوه المنحنية، الوجوه المتأملة، الوجوه التي تتفحص النائمين بحثًا عن سعادتهما الدفينة.

"أمان، أمان، أمان" راح قلب المنزل ينبض ويردد باعتزاز. يقول الزوج "ها قد مرت سنون طوال"، وترد الزوجة "وها أنت قد وجدتني مجددًا هنا في نومنا، وأثناء القراءة بالحديقة، والضحك واللعب بالتفاح في الغرفة العلوية. هنا تركنا كنزنا". وهما لا يزالان في وضع الانحناء، انقشعت الظلمة عن أعييننا. "أمان، أمان، أمان!" راح قلب المنزل ينبض بقوة. وبعدما استيقظت صحت: "يا إلهي، هل هذا كنزكما الدفين؟ الضوء الكائن بالقلب".

***

* باحث في الدراسات العربية - جامعة لوفن، أنتويرب، بلجيكا ​

للشاعر: لوي رونيه دي فوريه

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

كم مرّة أيضا علينا أن نقول1

ما قلناه  وأعدنا قوله مرارا

كم مرّة أيضا سنحلم بلغة

لا تستعبدها الكلمات

كما في أيامنا هذه

حيث الكلّ يرتعش من رغبة محتشمة

ليس لنا ظمأ إلا لعناق صامت

ما الذي يشبعنا أفضل من أخطر التبادلات

هل علينا أن نعيد باستمرار

ما نبحث عنه ولن ندركه؟

ربما يكون أكثر حكمة أن نتخلّى عن ذلك

لكن العقل والجنون يقاومان بقوّة متساوية

دون أن ينتصر أحد هما على الأخرى

هل يصبو الفكر قليلا إلى الراحة

أن يجعل من هذه المعركة العقيمة لعبته

التي لا يربح فيها إلاّ من خسر؟

أيّ حركة تثيره وأي أخرى توقفه

لحظة يستعدّ للقفز؟

هل تكون من وراء مداورة للكلام لا تنتهي

بلوغ منفذ هاجسه الوحيد

مازال هناك ضباب كثيف يغشي بصره

لاشيء يقوده سوى علامات في الفراغ

حاملة لرسائل تتألمّ دوما

من أن تنحرف دون أن تبلغ وجهتها

كشيء تقذفه كلّ مرّة يد مرتعشة

هل علينا أن نقول بأنها لا تتطلّب جوابا؟

العثور على صيغة للخروج من المأزق

وبأقصى سرعة ، فذاك ثمن الخلاص

لكن أن ننتظر طويلا من الليل حتى يضيء

الطريق الضيق الذي به يكون المنفذ

***

* لوي رونيه " أشعار صامويل وود" (فاتا مورغانا 1988)

........................

2-

الكلمات التي يستخدمها كل فرد ويسيء استخدامها حتى وفاته2

هل رأيتموها يوما تحرّك الأوراق وتحيي سحابا؟ّ

كل من ينوي الاستفادة من السّكون

لا يمكن أن يحصّل حكمة الصمت

من الأفضل مادام اللسان لا يقصّر

الكلام عن شيء آخر دون قول شيء يذكر

بل وعن الموت الذي دون محتوى

يلتفّ بتشدّق خطابي مظلم

إلى حدّ إثارة الرعب شديد

أقدم ممّا نستخدم من الكلمات الضخمة

مثل أزهار مزيفة لتزيين قبر

نَوْرة مزركشة ، إذا ما سوّدها الزمن.

تصدأ أكثر من ذكرى الأموات.

***

لوي رونيه

5Poèmes de Samuel Wood édité chez Fata Morgana en 1968   1

La chambre des enfants en 1960 *2

قصة: لويس فيليلا

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

انتهى الحلاق من لف المنشفة حول رقبة الزبون. لمس وجهه بظهر يده.

- لا يزال الجو حارا

سأل الصبى:

- في أي وقت حدث ذلك؟

لم يرد الحلاق. ظهر بعض الشعر الرمادي على قميص المتوفى شبه المفتوح. كان الصبى يراقب باهتمام. ثم نظر إلى الحلاق.

سأل الصبى مرة أخرى:

- في أي وقت مات؟

قال الحلاق:

- عند الفجر. مات في الصباح الباكر.

مد يده:

- الفرشاة والكريم.

سرعان ما أخذ الصبى الكريم من الحقيبة الجلدية التي استقرت على الطاولة. ثم أخذ إبريق الماء الذي أحضره عندما دخل الحجرة: صب القليل من الماء في كوب الكريم( الصابون ) وقلبه حتى تزبد. كان دائمًا سريعًا في الإرسال، ولكن في هذه اللحظة بدت سرعته مصحوبة ببعض التوتر.

أخيرًا، انزلقت الفرشاة من يده وسقطت على ساق الحلاق الذي كان جالسًا بجانب السرير. اعتذر التلميذ وهو لا يزال خارج نطاق السيطرة وبدون رحمة

قال الحلاق وهو يمسح بقعة الرغوة من فوق سرواله:

- لا شىء.

يحدث ذلك.

قام الصبي، بعد تنظيف الفرشاة، بتقليبها أكثر قليلاً في الكوب وحتى ذلك الحين سلمها للحلاق، الذي لا يزال يهزها سريعًا. قبل أن يبدأ العمل، نظر إلى الصبي.

سأله بلطف:

- هل ترغب في الانتظار في الخارج؟

- لا سيدي

- ليس الموت مشهدًا لطيفًا للشباب.

بدلا من ذلك، لا أحد تحرك.

بدأ يمرر الفرشاة على وجه الرجل الميت. تم إغراق اللحية البالغة من العمر أربعة أيام تقريبًا بالصابون.

وعبر الباب المغلق ثمة دمدمة مكتومة بأصوات تتلو المسبحة. كان هناك ضوء في السماء. و دخل الهواء النقي من خلال النافذة المفتوحة للغرفة.

أعاد الحلاق الفرشاة والكوب ممتليء بالرغوة ؛ كان الصبي يحمل موس الحلاقة والمسن في يده ؛ وضع الكأس بالفرشاة فوق المكتب.

قام الحلاق بشحذ الشفرة. كان أسلوبه فى الشحذ معروفًا جيدًا في الصالون، مصحوبًا بألحان الموسيقى الكلاسيكية المبهجة التي يصدر صفيرًا. هناك في الغرفة، بجانب رجل ميت، شحذ بإيقاع مختلف، وأكثر تباعدًا وبطء ؛ قد يستنتج شخص ما أن الحلاق كان يصفر في رأسه مسيرة جنازة.

قال الصبي:

- إنه أمر غريب للغاية !

توقف الحلاق عن شحذ الشفرة:

- غريب؟

.  - نعم، إننا نحلقها

نظر الحلاق إلى الميت وقال:

- ما ليس غريبا؟. هو، نحن، الموت، الحياة ؛ ما ليس غريبا؟

بدأ فى حلقها. أمسك رأس القتيل بيده اليسرى وكشطه بيمينه.

قال الفتى:

- أتمنى من الله أن أموت حليقاً.

شاهد الحلاق لتوه كيف تسير أعماله.

سأل الصبى:

- هل يمكن أنه يراقبنا من مكان ما؟

نظر إلى الأعلى، وكان السقف لا يزال مضاءً كما لو كانت روح الموتى هناك تراقبهم ؛ لم ير شيئًا، لكنه شعر كما لو أن الروح موجودة هناك.

كانت الشفرة تنظف الآن تحت الذقن. لاحظ الصبي وجه الرجل الميت، وعيناه المغلقتان، وفمه، ولونه الشاحب: بدون اللحية، بدا له الآن أكثر موتا.

تسائل:

- لماذا يموت الناس؟. لماذا يجب أن يموت الناس؟

لم يقل الحلاق شيئًا. انتهى من الحلاقة. نظف الشفرة وأغلقها وتركها على حافة السرير.

قال:

- أعطني المنشفة، وبلل قطعة من القماش.

غمس الصبي الخرقة في الإبريق وعصرها لتصريف الفائض. ثم قدمها للحلاق مع المنشفة.

كان الحلاق ينظف ويغسل وجه الميت بعناية. باستخدام طرف الخرقة، أزال بعض الرغوة التي دخلت الأذن." سأل الصبى:

- لماذا لا نستطيع التعود على الموت؟ ألا يجب أن نموت يومًا ما؟

ألا يموت الجميع؟ فلماذا لا نعتاد على ذلك؟

نظر إليه الحلاق لثانية.

قال:

- هذا صحيح.

أدار وجهه مرة أخرى نحو القتيل. ثم بدأ في تشذيب شاربه.

سأل الصبى المتدرب:

- أليس غريبا؟ لا أفهم.

قال الحلاق:

- هناك أشياء كثيرة لا نفهمها.

مد يده:

- مقص.

بدا أن الحركة وضجيج الأصوات في المنزل تزداد ؛ من وقت لآخر يمكن سماع بكاء أحدهم. اعتقد الصبى بسعادة أنهم أوشكا على الانتهاء وأنه في غضون بضع دقائق أخرى سيكون هناك، في الشارع، يسير في هواء الصباح المنعش.

نهض من كرسيه ونظر إلى وجه القتيل.

قال الحلاق: - المقص مرة أخرى.

فتح الصبي الحقيبة مرة أخرى وأخذ المقص. انحنى الحلاق وقص طرفًا صغيرًا من شعر الشارب.

ظل الاثنان يشاهدان.

قال الحلاق:

- الموت شيء غريب جدا.

في الخارج، كانت الشمس تضيء المدينة بالفعل، والتي كانت تتجه نحو يوم آخر من العمل: كانت المتاجر تفتح، وكان الطلاب يذهبون إلى المدرسة، وكانت السيارات تمر في اتجاهات مختلفة.

سار الاثنان في صمت طويلا. حتى وصلا عند باب الحانة توقف الحلاق:

- هل ندخل لتناول مشروب؟

نظر إليه الصبي بخجل. حتى الآن كان يشرب فقط سرا على خفيف، لم يكن يعرف ماذا يجيب.

قال الحلاق وهو ينظر إليه بابتسامة لطيفة:

- القليل من الشراب مفيد دائمًا لاستعادة أعصابك

قال الصبي:

- حسنا...

وضع الحلاق يده على كتف الصبي ودخل الاثنان الحانة معًا.

(تمت)

***

................................

المؤلف: لويس فيليلا / كاتب روائي خصيب له شهرته الواسعة في البرازيل. ولد عام 1943 فـي بلدة صغيرة تدعى ايتوييوتابا داخل ولاية مـيـنـاش جـيـرايـش فـي وسط البرازيل. ودرس الفلسفة ونال شهادة من جامعة ميناش في بيلو اوريزونته. قضى أوائل سنة 1968 م في سان باولو كناشر ومحرر في جريدة بعد الظهر، وهي تجربة أفادته فيما بعد فى فنه الروائى والقصصى. منذ سنة١٩٦٧م ظهر بوصفه واحدا من أكثر الكتاب الشباب في البرازيل تميزا،حيث اصدر مجموعته القصصية الولى " الزلزال " والتى فازت بالجائزة الوطنية فى القصة عام 1968 م ولعل كاتبنا يعد أفضل كتاب البرازيل في استخدام الحوار. والقصة المترجمة هنا عن الانجليزية.

***

by Ali Al-Kasimi

Translated by Hassane Darir, Professor of Translation and Terminology (Cadi Ayyad University, Marrakech) and revised by W Richard Oakes Jr. (PhD-University of Edinburgh, Independent Scholar) 

***

The yellow and fading sun was looming at the far horizon, slowly coming down to its lair, when I and my little girl were returning, after a mid-year vacation, down a long, deserted road, strewn over a grey and bleak land, which had forgotten the taste of rain for years, and in which the trees were transformed into bare, scrawny skeletons. Its greenery and its birds had deserted it, leaving it to face its sad fate alone. The waters bid farewell to the canals and valleys, and the herds of cattle disappeared, and the shepherds' psalms became silent.

In the living room upstairs, a suspicious movement behind the window caught our attention. My daughter cautiously approached her, and as soon as she lifted the curtain, a terrified dove flew away in the air, and soon came to the roof of the opposite house. My daughter cried hilariously: "Ah! That pigeon had settled in here, while we were gone, and left behind two eggs." She looked at them quietly for a while. Then she sat down beside me, and tucked her little head into my chest as I continued to read my book and brush her long soft hair. It was not long before the pigeon returned to the window, after being reassured that danger was far away, to incubate her two eggs.

My daughter continued to frequent that window, watching the pigeon, which has become accustomed to her peaceful approach. It was no longer frightened by her appearance. Sometimes she found only the two eggs when the pigeon was gone, and after a while, it would carry some straw or twigs to arrange them in its nest.

In the evening I was watching the television news broadcast, while my daughter was standing by her favorite window. There followed news from all over the Arab world: horrific floods killing hundreds of children, women, and the infirm, sweep through Somalia, which has been ravaged by famine and civil war…. A new massacre by armed groups in Algeria killed 450 people in one village, mostly women, children, and the elderly... Hundreds of children dying every day in Iraq, due to the embargo and the lack of milk, food, and medicine... Suddenly my daughter screams:

- "Look, the egg is hatching, the chick is breaking it with its head, with its little beak, it is coming out of it with difficulty... Look at the poor thing, how weak it is. How small! How smooth its featherless body is! It didn't come out of the egg completely ... it's falling to the ground... It does not move ... It's a lifeless, I'm afraid it's dead... Oh my god! Where is its mother? What can I do? Papa, how can we help it?"

When I went to bed that night, I could not sleep. The pigeon in the next window had been wailing and wailing incessantly all night long.

***

................................

  This short story is a translation of  الحمامةby Ali Al-Kasimi. It first appeared in the short story collection Time to Leave (أوان الرحيل، under translation) and is also available as part of a study under this link: https://www.almothaqaf.com/readings-5/964871.

تأليف: لورى ستون

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

شرح  لى صديقي أحداث برنامج تلفزيوني كنت قد نمت أثناء مشاهدته. قال، "عندما يكون لدى الناس احتياجات عاطفية، فهذا يشير إلى أنهم ضعفاء وسيخسرون في العمل." وأوضح أن الناس يمكن أن يكونوا إما ناجحين وبلا قلب أو معقدين عاطفياً ومحكوم عليهم بالفشل. كانت فيه أعماق لم ألحظها من قبل. عندما التقينا، كان يعيش مع امرأة أخرى وتفاجأ أكثر من أي شخص آخر عندما تركها فجأة. بعد ذلك فقدت الاهتمام بالمخططات التقليدية.

قام أخصائي أقدام بحقن كاحلي بنوفوكايين وحفر حوله بمشرط. قلت، "ما هو الشيء الأكثر غرابة الذي رأيته مؤخرًا؟" قال، "هذا"، مشيرًا إلى أشواك الصبار المغروسة في بشرتي. إبر البرميل الصبار شائكة مثل ريش النيص وتتحرك في اتجاه واحد فقط، مثلي تمامًا عندما قابلت صديقي. وجد أخصائي الأقدام أربع قطع من الصبار مغطاة بقطع من اللحم ووضعها في جرة. انا قلت لماذا؟" قال: في حالة احتياج شركة التأمين إلى إثبات. قلت، "هل تريد أن ترى أشياء أخرى خطأ في قدمي؟" قال: "ليس اليوم ".

مازال لدى صديقي مشاعر تجاه المرأة التي تركها. تركتهما المفاجأة لرحيلهما يدوران في باب دوار. أحاول ألا آخذ هذا على محمل شخصي، لكنني أعتقد أنني يجب أن آخذه على محمل شخصي. بعد أن انفصلا، لم يصبح صديقي والمرأة صديقين تمامًا. لا أعرف ماذا أصبحا  لأنني لم أرهما معًا أبدا. لا أعرف ماذا أفعل بهذه العلاقة. كان لدي صديقة كانت راقصة. أخبرتني عن الأزياء التي كانت ترتديها: الأبيض لكبار السن من الرجال ؛ الدانتيل الأحمر لللاتينيين. الأربطة الجلدية لراكبي الدراجات النارية. كانت تقول أن كل شخص لديه حياة سرية. صديقي حريص على إخباري عندما يتلقى رسالة نصية أو بريدًا إلكترونيًا من المرأة التي غادرها وعندما يرتبان لقاءً. كان من المعتاد أن يكون العشاء. الآن، فى الغالب يتناولان الغداء. هناك دائما  ورطة طعام ودائما يدفع. يقول إنه يشعر بالسوء حيال التسبب في ألمها، لكنني أعتقد أن فقدانها يسبب له نفس القدر من الألم. ما الفائدة لها من هذا ؟ أعتقد أنه من الأسهل أن تحب شخصًا غير موجود. أعتقد أنه وحيد بالنسبة لها. وأنا لا ألومه. أنا لا ألوم أي شخص على كونه وحيدًا بالنسبة لشخص آخر. الوحدة هي عزاء، لأنها تذكرك أنك تريد شيئًا ما. تتيح لي علاقتهما نوعًا من الحرية أيضًا، لكني أعتقد أن أفكاري السرية تدور في الغالب حول الحياة السرية لصديقي.

اليوم قال صديقى، "لقد كان اللقاء معك بالتأكيد أيسر تحولاتي." حلقت مروحية في سماء المنطقة ولم أستطع معرفة ما إذا كان يمزح. لطالما كان هناك شخص ثالث في علاقتنا، وأتساءل من الذي يبقي هذا في اللعب، وأنا متأكدة تمامًا من أنه صديقي، ويجب أن أقول إنه يجدد سعادتي به لأرى كيف يمكن أن يكون مراوغًا. عندما أتجول في شقتنا وأغرق يدي في تربة نباتاتنا،أشعر بالسعادة بغض النظر عما سيحدث بعد ذلك. أنا أحب بقايا الطعام. الأشياء جيدة جدا عند الانتهاء. أشياء تنتظر على الطريق لركوب والراحة. الشخير في نهاية ضحكتك. تم افتتاح مطعم جديد في مكان قريب بقائمة فرنسية وبار كبير.

في طريقي لممارسة اليوجا في اليوم التالى، مررت برجل كنت قد قطعت علاقتى به. كنا بالقرب من المكان الذي يعيش فيه. ابتسم كما لو كنا نتقابل عن قصد وقال، "مرحبًا فاليري". أخرجت سدادات أذني وقلت، "مرحبًا. سمعت أن والدتك ماتت ". لوح بيده وقال، "نعم، لقد مضى على ذلك وقت طويل جدًا"، وكأنه يقول إنها قد تجاوزت مدة صلاحيتها ولا تقضي عرضي في الأخلاق الحميدة في هذا المنعطف في حياته. لقد ذكرت والدته لإزعاجه. بدا ذلك لائقًا. عندما يتخلى الناس عني أو أتخلى عنهم ولكن لا يزال لدي مشاعر تجاههم، آمل أن يذبلوا في غيابي، لكنهم لا يفعلون ذلك أبدًا. كنا نقف تحت السقالات. لم تكن المدينة هي المدينة التي مشينا فيها لأميال عديدة على مدى سنوات عديدة. لم أكن أعرف قط أين وقفت معه، ولم أكن أعرف ما إذا كنت أفتقده. قلت، "هل يجب أن نقول مرحبًا عن قصد مرة أخرى؟" قال نعم." لم أكن أعتقد أن هذا سيحدث. اعتقدت أن زهور البتونيا التي اشتريتها في ذلك الصباح قد لا تفيد في رحلتنا القادمة بعيدًا، لكن هذا لم يكن سببًا فى عدم شرائها.

ذات يوم ذهبت إلى النصب التذكاري لامرأة لم أكن أعرفها وغادرت ومعى بعضا من رمادها في ظرف فضي صغير. بدا أن الناس أعجبوا بالمرأة الميتة أكثر مما أحبوها. إذا مت وكنت مهيبا، فإن الناس يكذبون عند ذكركم. إذا مت وكنت رائعًا، فلن يتمكن الناس من استحضارك بوضوح لأن الكشط يتغلغل فينا بشكل أعمق من الضوء الذي يسقط على الكرسي. تساءلت عما إذا كانت ستنسى. في الحقيقة يمكننا الخروج من حياة الأشخاص الذين تعلقنا بهم لسنوات، وعلى العكس من ذلك، يمكننا العودة في الذاكرة مرارًا وتكرارًا لشخص غريب جلسنا بجانبه بصمت في قطار. حملت رماد المرأة في جيبي، ولم أعرف فى أى مكان أنثره. عندما شعرت به في جيبي، تذكرت موتي وأسقطته. عندما كان بيكابيا يحتضر، رسم مان راي لوحة صغيرة وكتب عليها أن العرض لم يلغى، بل كان مجرد رسالة. أرسل دوشامب برقية إلى بيكابيا قائلاً إنه سيراه قريبًا مرة أخرى. عندما تهدأ عقلك، ماذا تسمع؟ ماذا لو أخبرتك أنه يمكنك الحصول على كليهما؟.

في صالة الألعاب الرياضية، قال الرجل الذي سيصبح صديقي، "ماذا تريدين أن تفعلى؟" قلت، "أود أن أصطحبك إلى الطابق العلوي وألقي بك بجوار الحائط." قال: "هل تريدين أن تتمددى؟" جلسنا على حصائر وأرجلنا ممدودة على نطاق واسع. أمسكت بذراعيه وأمسك بخصري. كان الجو متقلبًا فى الخارج، وانتشرت رقائق الدهون فى الهواء الكئيب. تساءلت عما إذا كنت سأعود في يوم من الأيام إلى هذه اللحظة وأجدها لطيفة. وحتى الآن لم يحدث ذلك.

(النهاية)

***

....................

ملاحظة: فرانسيس بيكابيا (ت 1953) و مان راى (ت 1976) ومارسيل دوشامب (ت 1968) فنانون ورسامون تشكيليون مشهورون ارتبطوا ثلاثتهم بالحركتين الدادية والسريالية فى القرن العشرين.

المؤلفة: لوري ستون / كاتبة أمريكية، من مواليد عام 1946 م، خريجة كلية بارتارد عام 1968م وحاصة على الماجستر من جامعة كولومبيا عام 1969م، مارست الصحافة والنقد المسرى والكتابة النقدية بصورة عامة إلى جانب كتابة الرواية والقصة القصيرة، عملت كاتبة مقيمة في معهد برات، جامعة أولد دومينيون، ثوربر هاوس، مركز كيميل هاردينغ نيلسون للفنون، وكلية موهلينبيرج. قامت بالتدريس في ورشة عمل كتاب باريس، والندوات الأدبية الصيفية في سانت بطرسبرغ، روسيا، وجامعة تشابمان، وسارة لورانس، وأنطاكية، وفيرلي ديكنسون، وولاية أوهايو، وجامعة ولاية أريزونا، وفوردهام، ومؤتمر كتاب ستونكوست. حصلت على إقامات قصيرة في جامعة ييل، وكال آرتس، وكلية ترينيتي، وجامعة شمال تكساس، ومركز آرت سنتر في باسادينا، وكلية ميلز، وجامعة إنديانا، وجامعة كونيتيكت، وكلية الفنون في معهد شيكاغو للفنون. عملت في مجلس إدارة دائرة نقاد الكتاب الوطنية وأدرجت في "سلسلة الكتاب الأحياء" في كلية موهلينبيرج. ألفت ستة كتب لكنها اشتهرت بكتابها "حياتي كحيوان، قصص" (2016م)،  نشرت قصصها فى معظم المجلات والدوريات الأدبية المشهورة،والقصة المترجمة هنا منشورة على موقع مجلة الأدب الالكترونى (العدد رقم 96 بتاريخ 23 ديسمبر 2019 م)، وفيما يلى رابط القصة لمن أراد الاطلاع على الأصل:

https://electricliterature.com/boyfriend-by-laurie-stone/

by Ali Al-Kasimi

Translated by Hassane Darir (Professor of Translation and Terminology, Cadi Ayyad University, Marrakech) and revised by W Richard Oakes Jr. (PhD-University of Edinburgh, Independent Scholar)

***

The sick dog's breaths resonate, rise, escalate, and blend with a rattle, dislodging the faltering sleep from the lashes of Samir's eyes. For seven consecutive nights, the dog Lieber has been laying dying in the adjacent room where the homeowner sleeps. The cardboard wall could not prevent the dog's anguish or the repeated expressions of sympathy of its French owner from penetrating Samir's ears, and depriving him of sleep.

How many times the idea of getting rid of the dog flirted with him, insisted on him, reminded him of the past. They used to do this in his small village, relieving a rabid or tubercular dog, and by the same token, relieving themselves. But there is no way to do this. Reaching the moon is easier than being alone with the dog Lieber these days. Madame Dupon never leaves him, she nurses him, comforts him with her touches, whispers, and sad looks, all day long. So, when will the dog Lieber die, relieving himself and everybody else?

In the morning, before going to his university, he had to help Madame Dupon carry this dog in a rug, and take him down to the ground floor, so that the dog could relieve himself in the adjacent street, as had been his habit. Then he would carry him with her, and ascend the long stairs, to reach the fourth floor, trying to conceal his panting, and control his breathing. How he wished that this lady had chosen a dog that was smaller and lighter than this huge dachshund, or that this old building had been attached to French technology in the form of an electric elevator.

- “Let's rest a little here, my dear!”

- “As you like, madam!”

- "Imagine, my dear Samir, that the second veterinarian to whom I showed Lieber for his treatment also, insolently, suggested giving him a (lethal) injection. What a horrible brutality!”

- “Maybe the veterinarian wanted to put an end to Lieber's pain and suffering, ma'am!”

- “We, French people, have lost, today, the high decency and kindness we used to have.1 I am sure, my dear Samir, that you would not be satisfied with that; You Arabs belong to an ancient civilization. My great-grandfather was one of the archaeologists who accompanied Napoleon to Egypt, and my mother could read Arabic, and I know a lot about your civilization. You consider the dog to be a living being like a human being, so his feelings must be taken into consideration.”

There is no doubt that this old woman is raving about what she does not know. Ah, if she had seen the stray dogs in the town next to his village, when the police chased them from time to time, and shot them dead. He remembers it well, and saw it with his own eyes when he was young. His older brother would joke with him sometimes, saying:

- “Don't go out, Samir, this morning, the police are hunting dogs today, and I'm afraid they will mistake you for one.”

Even in his village, where dogs are used as guards, no peasant allows his dog to enter the cottage or approach the communal council. All dogs are unclean. But here, in France, they hand-feed dogs, wash them in their baths, and do everything for them. Even the big grocers are full of delicacies for dogs.

He will not forget when he once bought himself, on the first day of his stay in Paris, some inexpensive canned goods from a large grocer. He brought them back to the house, and when Madame Dupon saw them, her face cheered up and she said:

- “Thank you, dear Samir, for your kind gift. Lieber must appreciate your gesture after eating these delicious foods. Now I know you really like me. The English proverb says, "Whoever loves me, loves my dog." You may not know that I studied English and traveled to..."

As of today, Lieber has not been able to eat for seven days. Madame Dupon has been bringing him his food on time, putting it in front of him, bringing it close to him, calling him sympathetically. He turns gently to her, and looks at her with fading sorrowin his eyes, as if he is apologizing for the annoyance and sadness, he causes her.

- “See, dear Samir? Lieber can no longer eat his food, and I'm scared, really scared this time. Oh my God, what would I do if I lose him?”

She closed her tired eyes, as if praying for Lieber. She closed her eyes for a long time, and images of her long, happy time with Lieber passed through her mind. For fifteen years Lieber has been her companion in her solitude, and her friend in her loneliness. He sits with her in the evening when darkness covers the sleeping city, and the rain gently washes her windows, and the wind caresses the branches of the trees of her surrendered gardens. Lieber puts his warm head on her thigh, and she falls asleep. In the morning, when she is getting ready to go out, she addresses him:

- “Lieber, where did you put the keys? Lieber, didn't you see my white bag? Stay here until I come back. Be wise.”

In the afternoon, he goes out with her to the nearby garden, jumping here and there. She throws the ball to him; he catches it, and quickly returns to her. On the way home, Lieber meets another dog, and he stands as if to exchange greetings with him, and she also exchanges words of courtesy with the lady who owns the other dog, if she has not met her before. And if she was one of her acquaintances, the conversation diverged.

- “Oh my God, what would I do if Lieber left me?”

The breathing of the dog Lieber increases and subsides, mixes with a sad rattle, mixes with a faint wailing, then fades little by little, leaving only the intermittent, painful wailing of the widow.

***

……………………..

* Lieber is a German word meaning dear, darling or beloved. Lieben means love.

1- This short story is a translation of : (الكلب ليبر يموت) by Ali Al-Kasimi.

It first appeared in the short story collection Time to Leave (أوان الرحيل, under translation) and is also available as part of a study under this link: https://www.almothaqaf.com/readings-5/965329

by Ali Al-Kasimi

Translated by Hassane Darir (Professor of Translation and Terminology, Cadi Ayyad University, Marrakech) and revised by W Richard Oakes Jr. (PhD-University of Edinburgh, Independent Scholar)

***

Darkness was enveloping the trees and plants of the public garden, giving him the impression of long and short black ghosts with many moving arms, like a huge dark octopus. Last night's rain had frozen on the ground, here and there, resulting in frost that breaks under his feet. A snowy wind blew through the cap he was wearing, stinging his ears, nose, and lips, turning them red as the mane of a rooster. His gasps of successive breaths chimed with the chatter of his teeth and the trembling of his limbs. As he was vigorously running, a dark heap appeared to him on the side of the lane. He had no time either to glimpse at or linger on that heap; he only thought of it as a heap of stones brought in to restore the fence of the public garden, or a heap of branches gathered from trimming trees. It doesn't matter.

At the dawn of the next day, he set out, as usual, to jog in the public garden next to his house. In the semidarkness, he glimpsed the heap still in place on the side of the lane. When he approached it this time, he felt a suspicious movement. He had no time to look closely or meditate too long, for he had to come straight home to shower, eat breakfast, and go to work in the factory by seven o'clock. For this reason, he contented himself with assuming that the movement came from one of the stray dogs or cats that take refuge in the garden. It doesn't matter.

On the third day, as he was running close to the same heap in the same place on the side of the lane, he saw what looked like a hand outstretched from it. After a few steps he stopped running to turn back to her, and stare at her. Behold, an old woman draped in a black cloak, was leaning her back against a large tree in the garden. He bowed his head in silence for a moment, then put his hand in his pocket, took out some money, and put it in the hand that was out in the open. But it did not take the money, so it fell to the ground. He picked up the money, put it back in her hand, and alerted her by calling her, but she remained silent, and did not take the money. He touched her palm, and moved it gently, perhaps she fell asleep while sitting. But a terrible cold ran from her hand to his fingers, spreading a wave of chill and apprehension all over his body. Before he had time to think it over, the woman's entire body tilted with that slight movement, and she fell to the ground, lifeless.

***

بقلم: فكتور هيجو

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

آن لي أن أرتاح؛

لقد أرْداني القدر.

لا تحدّثوني عن شيء آخر

لاشيء غير الظلمات حيث ننام!

*

ماذا يريدون أن أبدأ من جديد؟

لا أريد منذ الآن

من الخليقة الهائلة

سوى شيئا من الهدوء والسلام!

*

لماذا مازلتم تنادونني؟

لقد أدّيت مَهَّمتي وواجبي.

من يعمل قبل الفجر،

يستطيع أن يذهب قبل المساء.

*

حِداد وعزلة في سنّ العشرين!

عيناي، تتجه إلى الأسفل صوب العشب

فتفقد عادتها اللطيفة

النظر إلى أمي في البيت.

*

فارقتنا إلى القبر؛

وأنتم تعلمون جيدا أنّني اليوم

أبحث، في هذا الليل الذي أسدل ستاره

عن ملاك آخر هارب!

*

تعلمون أنّي أيأس

من قوّتي تدافع دون جدوى

وأتألّم مثل أب،

أنا الذي عانيت كثيرا كطفل!

*

تقولون عملي، لم يكتمل.

مثل آدم المطرود،

أنظر إلى قدري،

وأرى بوضوح أني قد أتممت.

*

الطفل المتواضع الذي أسعدني الله به

حبه لي يستطيع أن يساعدني؛

كانت سعادة حياتي

النظر إلى عينيه ترقبني.

*

إذا لم يشأ هذا الإله أن يُنهي

العمل الذي جعلني أبدأه،

إذا أراد أن أعمل أكثر،

فليس له سوى أن يتركني!

*

ليس له سوى أن يتركني أعيش

بجانب ابنتي

في هذه النشوة حيث أسكر

بأنوار غامضة!

*

هذا النور،نهار من كوكب آخر،

إلهي الغيور، أنت تبيعه لنا!

لماذا سلبتني النور

الذي لي بين الأحياء؟

*

هل تصوّرت، أيها السيد الفاتك،

أنه من فرط تأمّلك،

لا أرى قطّ هذا الكائن اللطيف،

وأن بمقدوره أن يرحل؟

*

ألم تقل بأنّ الإنسان، ظل كاذب،

يا للأسف! يفقد إنسانيته

بالنظر كثيرا إلى هذه الظلمة الرائعة

التي نسمّيها الحقيقة؟

*

وأنّنا نستطيع ضربه دون أن يتألم

وأنّ قلبه مات مللا

وأنه من فرط النظر إلى الهاوية

ليس له في نفسه سوى هوّة سحيقة

*

لِيَذْهَبْ،، ثقيلا، حيثما ترسله،

وأنه منذ الآن، صلب،

لا أفراح له في هذه الحياة،

ولا آلام أيضا؟

*

هل تصوّرت أنّ روح حنونا

تنفتح عليك لتزداد انغلاقا،

وأنّ أولئك الذين يودّون أن يفهموا

ينتهون إلى عدم الحبّ؟

*

إلهي ! هل تصدّق، حقّا

أنّي سأفضّل، تحت السماوات،

الشعاع المخيف لمجدك

على بريق عينيه المريح؟

*

لو كنتُ قد عرفتُ قوانينك الكئيبة،

وأنك لا تمنح أبدا لنفس العقل المفتون

هذين الشيئين،

السعادة والحقيقة،

*

بدلا من رفع حجبك،

والبحث، بقلب حزين ونقيّ،

لأراك في أعماق النجوم،

إلهي الخفيّ، لعالم مظلم،

*

كنت سأحبك أفضل، بعيدا عن وجهك،

أن أتبع، سعيدا، طريقا ضيقا،

ولا أكون سوى إنسانا عابرا

يمسك ولده بيده!

*

الآن، أريد أن يتركوني !

لقد أنهيت ! انتصر القدر.

ماذا الذي يستمروا في إحيائه

في الظلّ الذي يملأ قلبي؟

*

أنت من تكلّمني، تقول لي

أنه يجب، مذكّرا عقلي،

قيادة الحشود الهالكة

نحو وميض الأفق؛

*

وأنه ساعة تستيقظ الشعوب

يطلب كل مفكّر هدفا عميقا

وأنه يجب على كلّ من يحلم

يجب على كلّ من يرحل!

*

يجب على روح، و نار خالصة أن تحيي،

أن تعجّل، بضيائها،

تألّقا أسمى

للبشرية مستقبلا ؛

*

يجب أن نكون، أيتها القلوب الوفية،

دون أن نخشى المحيطات

جزءا من الاحتفالات بأشياء جديدة،

من معارك العقول العظيمة!

*

ترون دموعا على خدّي

وتقتربون منّي مستاءين،

مثلما نوقظ بذراعنا

أنسانا ينام طويلا.

*

لكن تخيّلوا ماذا تفعلون!

يا للأسف! هذا الملاك ذو الجبين الرائع،

حينما تدعونني لاحتفالاتكم،

فقد يكون باردا في قبره.

*

ربما داكنا وشاحبا،

تقول في سريرها الضيق:

"هل نسيني أبي،

ليس هاهنا، أشعر بالبرد الشديد؟"

*

ماذا! حينما بالكاد أقاوم

الأشياء التي أذكرها،

حينما أكون محطّما، متعبا وحزينا،

حينما أسمعها تقول لي: " تعالى!"

*

ماذا؟ أتريدون أن آمل،

أنا، من قُسِمْتُ بضربة صادمة،

في الإشاعة التي تلاحق الشاعر،

في الضجيج الذي يصنع الفارس التائه!

*

تريدون أن آمل أيضا

في انتصارات هادئة ومريحة!

أزفّها لنُوَّم الفجر!

أن أصيحَ: " تعالوا ! تمنّوا!"

*

هل تريدون أن، أنضمّ

إلى المعترك بين الأقوياء،

وعيناي تراقب القبّة اللامعة بالنجوم...

- أوه! العشب السميك حيث يوجد الأموات!

***

فيكتور هيجو

نوفمبر 1846 القصيد الثالث من الكتاب الرابع: التأملات"

................

أضواء على القصيدة:

" ثلاث سنوات مضت"، قصيد كتبه فيكتور هيجو الشاعر الفرنسي الشهير (- 1885-1802.) بتاريخ نوفمبر 1846، هي القصيدة الثالثة من " الكتاب الرابع: Pauca mea غدا، عند الفجر..." لديوان: " تأمّلات".

" غدا عند الفجر.." من نوع أشعار الألم، والمعاناة حيث يحتلّ موت " ليوبولدين Léopoldine ابنة فيكتور هيجو، حيزا كبيرا." ثلاث سنوات مضت " هو جواب هيجو لجمهوره الذي يطالبه بكتابة الشعر بعد توقفه عن ذلك بعد موت ابنته. يشاركنا هيجو أحزانه ويعتبر موت ابنته ظلما من الله. فيطلب من جمهوره ما يكفي من الوقت لتجاوز حالة الحداد وان يتركوه في سلام.

يشير شكل القصيدة وتقسيمها إلى مقاطع، إلى قراءة متقطعة مثل النحيب. والتعبير بصيغة المتكلّم عن نوع من " الاعتراف".

تأليف: تانيا أندروود

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

يصفعني كارلوس على إليتي في محل بيع اللحوم، حيث نعمل سويًا خلف المنضدة أقوم بتقطيع الطماطم إلى شرائح رقيقة، يبد أنها لم تكن رقيقة جدًا، أبعد كارلوس قبعة الفرن البيضاء عن جبهته وقال:

- مان. نحن لا نعمل كفريق، أريد أن نعمل معًا كفريق.

توقفت للحظة، تظرت إليه وهو يتكلم، ثم عدت إلى الطماطم.

يزعم باول، المدير، أنني أفضل من يقطع الخضروات إلى شرائح هنا، فيقول:  "الخيار يكاد لا يرى"

لا يعلم باول. أنني طوال الوقت أقطع الخيار بطريقة سيئة، في الواقع أخفي الشرائح السيئة في فمي دون أن يرى أحد. أضح كل الشرائح السيئة في فمي، وأحب طعمها، شرائخ الخيار بيضاء مثل الورق عندما تمسك بها في الضوء، وشرائح الطماطم نحيفة جدًا، لذلك تذوب في الفم وتختفي تمامًا فوق لسانك؛ أضع كل هذه الشرائح السيئة داخل فمي، لذلك ثمة الكثير من البذور بين أسناني طوال اليوم.

لم يشاهد باول كارلوس وهو يصفع إليني. يقول:

- شوان، هات لنا مزيدًا من البصل.

نزلت أتمشى إلى الثلاجة وأنا مازلت أرتدي القفازات المطاطية، ومع ذلك شعرت أن يدى جافتيين ورطبتين فى ذات الوقت. ضرب الهواء البارد وجهي وجلب رائحة ساخنة من جسدي إلى أعلى وجهى وحوله. نزلت على ركبتي والتقطت البصل الأحمر، اثنين اثنين في كل مرة، و أنا أفكر في الرائحة التي ستفوح مني، نهضت فإذا بالباب يفتح وإذا بكارلوس واقفًا، شعره الأسود ملبد حول عنقه وملموم على هيئة ذيل حصان. أمسك بي وجذب وجهي نحوه، شعرت بذراعيه القوتيين الصلبتين حول ظهري، لم تكن تلك هي المرة الأولى التي حاول فيها عمل هذا، لكني هذه المرة تركته دون مقاومة، وضع فمه في فمي، ادخل لسانه، كان حارًا، تذوقنا  معًا طعم الطماطم، شعرت بالتراب على وجهى من أثر قفازه. توقف عن تقبيلي ، فقلت:

- لدي صديق.

قال:

- شوان.. أنت لا تعنين ذلك. ما لديك مجرد مساحة أرجل.. لقد رأيت هذا الشاب. سبق أن جاء إلى هنا ببشرته الشاحبة وقميصه ذي الجيوب.

قلت:

- وأنت أيضا.. لديك صديقة.

تطلع كارلوس نحوي بعينيه الشديدتي السواد، أمسكني بلطف من وسطي بكلتا يديه وضغط قليلًا، ثم قال في أذني هذه المرة:

- لا بأس. أحب الفتيات الكبيرات.

دفعته بعيدًا، وقلت له أن يذهب إلى الطابق الأعلى ويبتعد عني. حملت البصل في سلاله البلاستيكية وأنا مازلت أشعر بطعم كارلوس في فمي.

في المنزل كان جريج أمام الموقد، يقوم بإعداد صوص المكرونة السباجيتي بمعلقة خشبية كبيرة، وكان يرتدي قميصًا كنستائيًا. وخداه حمراوان قليلًا من أثر الحرارة. بادرنى لى:

- مرحبًا.

ثم قبلني وأضاف:

- هل بحثت عن عمل هذه الظهيرة؟

قلت:

- لا. ذهبت مع جيني لشرب البيرة. لقد عملت وردية زيادة اليوم. لم تعمل أبدًا وردية زيادة.

قال:

- ألم ينوي باول أن يرقيك قريبًا؟

لم أجبه. جريج ذكي. إنه مهندس ، ظل معي يعمل لمدة عام ونصف العام في محل اللحوم بعد أن تخرجت من الكلية. أود أن أحدثه عن الطماطم وكيف إذا حركت يدك بطريقة صحيحة، يمكن أن تقطعها كما في الإعلان التجاري بالتليفزيون تمامًا.

نظر لي جريج وهو يواصل تقليب الصوص. كان ينظر نحوى غير منتظر الإجابة، ولكن فقط من أجل أن ينظر لي. يمكن أن أقول أن ثمة شيء خطأ، نعم في وقفته بهذه الطريقة خاصة وأن كتفاه منحيان، ثمة شيء ما خطأ.

قال:

- لذلك.. ذهبت إلى الدكتور اليوم.

أخبرني جريج أن قلبه صار أسوأ مما يظن، وأنا الدكتور قال إذا واصل على هذا الوضع فإنعليه أن يقوم بإجراء عملية زرع قلب. قال:

- لا زيادة في الملح في البيت، لن أستطيع أن أتذوق الملح ولا القهوة لكن انظري، يمكننا أن نتعلم كيف نطبخ معًا على هذا النظام الجديد.

كان جريج قد أصيب بمشاكل في القلب العام الماضي. وقد ظن في البداية أنها مجرد اضطرابات قلبية بسيطة ، فلا شيء يدعو للقلق في هذا. عندما أنام في الليل ورأسي على صدر جريج، أكاد أسمع قلبه يتوقف، فترة الصمت بين الدقة الأولى والتي تليها تبدو لي عدة ساعات، وقد نسيت أنني أتنفس بشكل طبيعي بينما أنتظر قدوم الدقة التالية، أرغب في النوم على صدر جريج ثانية، ويمكننى أن أقول أنه لاحظ ذلك ولكنه لم يقل شيئًا.

أقف الآن هناك وأراقب جريج ينظر نحوي، أنفه طويل معقوف ورموشه ثقيلة تجعله يبدو حزينًا دائمًا ، حتى لو لم يكن كذلك. ترك المعلقة تسقط ببطء في القدر. يمكنني رؤية العرق على جهه. ولكن فجأة تراجعت عن ذلك عندما أمسكني جريج كنت أفكر في كارلوس، سمعته يقول " نحن لا نعمل كفريق" بينما يجذبني جريج إليه ويتنهد.

في الصباح اتصلت بأمي، لا أعرف لماذا فعلت هذا؟ إنها عادة ما  تجلعني أكثر توترًا، ذهبت إلى الحمام وفتحت الدش، مازال جريج نائمًا، يداه ملفوفتان في الملاءة، حدثت أمي عن قلب جريج، ثم عن كارلوس. قالت:

- اسمعي جيدًا، عليك أن تقرري ماذا تريدين؟

أخبرتني أنه لايحق لي أن أؤذي الناس لأنني أعرف ماذا أفعل؟ بعد ذلك سألتني عن عملي  ، ثم سألتني إذا ما كان باول قد رقاني أم لا ، وإذا ما كنت بحثت عن أي عمل آخر. شعرت ببرودة قدمي على بلاط الحمام، سكت، فقالت:

- حسنًا، يجب أن أذهب.

لم تقل لي كل ما تريد أن تقوله، أعرف أنها تريد أن تقول كما أنا بطيئة بشكل مؤلم في كل شيء، وأنني فقط أجلس و أترك الأشياء تفلت منى أو تسقط فوق رأسي، دون أن أفعل شيئًا، هي لم تقل ذلك، ولكني سمعته على نحو ما.

بعد أن أنهيت المكالمة، ظللت جالسة فوق قاعدة الحمام وأنا أستمع إلى صوت ماء الدش ، إذا أنصت بشكل كاف يمكنك أن تشكل ألحانًا من صوت الماء.

التقيت جريج في الكلية بعد أنا استلمت العمل في محل اللحوم مباشرة. قال لي أنني أعظم فتاة مرحة قابلها في حياته. وقال أن ثمة شيء في يجعله يريد أن يضحك طوال الوقت. اعتدت أن أكون مرحة، واعتاد جريج أن يقول أنني يمكن أن أكون مبهجة، لأنني أجعل الناس يبتسمون لمجرد النظر إليهم. الآن عندما أنظر إلى نفسي في المرآة، يبدو وجهي جافًا، وتبدو عيناي رماديتين، لا زرقاء صافية، لا أري أي بريق تحت سطح جلدي، وأعجب أين ذلك الجزء من نفسي.

في أول شتاء تواعدنا فيه، أخذ جريج كل ستراتي الصوفية إلى ماكينة تجفيف الغسيل, وعندما قبلني، كان يلمس وجهي دائمًا. لقد جعلني جريج قوية كما كنت في الواقع هناك. اعتدت على رجال مثل كارلوس، رجال منحطون وغريبو الأطوار رائحتهم مثل البيرة ويجعلونني أشعر كما لو كنت مهزوزة. تبدو رائحة جريج مثل المطهر والمنظفات.

جريج وأنا ،على طرفى نقيض، أنا بهيكلى الضخم وطيات اللحم الناعم حول خصري. جريج، هو الذي يبدو كما لو كان يمكن أن يختفي، كما لو كان يمكنه أن يمشي عبر البنايات ويتلاشى في الهواء الرقيق. عظامه الطويلة تبدو صغيرة جدًا، أظن أنها تكاد أن تتكسر. يحب جريج هذا. يقول الناس الكبار جذابون مثل الناس الصغار, يقول أننا نتوازن مع بعضنا. لم يدعوني أبدًا بالضخمة، لكن ذلك ما يعنيه لم أحب أننا لم نفعل ذلك كثيرًا. إن ذلك يجعلني غير مرتاحة. إن ذلك يجعلني خائفة من شيء ما، لكن لم أعرف ماذا؟ ولم أعرف حتى متى توقفت عن الشعور.

لابد أن يكون هذا قبل الآن، على الرغم من أن اليوم هو اليوم الأول الذي أدير فيه ذلك الأمر فى رأسي.

مشيت تحو الحوض، وغسلت أسناني. استعملت فرشاة أسنان جريج. نظرت في المرآة وتخيلت نفسي جريج. فرشاة أسنانه يختلف طعمها عن فرشاتي. دافئة تقريبًا، تخيلت أنني شاحبة ونحيفة وأن قلبي ربما ينفجر إذا أكلت كثيرًا من الملح. نظفت ما حول فمي وتخيلت أنني قصيرة النفس. أتخيل أنني أريد شيئًا سيئا للغاية  ويمكننى أن أعطي أي شيء مقابله .

عندما وصلت إلى المحل أخيرًا ذلك الصباح، اتصلت بي أمي مرة آخرى، قالت:

- هكذا، ماذا نويت أن تفعلي؟

يدخل الزبائن يريدون قهوة، ، يريدون جبنة بالكريمة، يريدون دستة، لكن لا يوجد سوى الساخنة.

قلت:

- ماما. أنا في العمل.

عندما أغلقت الخط كنت خلف منضدة التجهيز. أقطع الخيار إلى شرائح سميكة غير متساوية. رأيت كارلوس يراقبني بينما وجهي يشتعل. قطعت إصبعي بدلًا من الطماطم، شريحة من الجلد كانت بيضاء ثم تحولت إلى حمراء.

مشي ورائي المدير باول ، ثم قال:

- شوان، ماذا تفعلين؟ الزبائن هناك. اربطي يدك بضمادة وهاتي مزيدًا من الطماطم.

راقب كارلوس كل هذا، يخرج صحيفة  من كعك البصل من الفرن ثم وضعها في سلة معدنية. وثمة نصف ابتسامة على وجهه.

بعد أن وضعت الضمادة، نزلت إلى الطابق السفلي حيث الثلاجة. اتجهت إلى الأقفاص الخشبية وأخذت قفصين اثنين ممتلئين بالطماطم. عرفت أن كارلوس سيأتي إلى الأسفل، لذلك وقفت هناك، أنتظره، والطاطم في يدي. عندما فتح الباب لم أذهب إليه. وقفت تمامًا حيث أكون، ولكنه وصل إلي، وبدأ يقبلني على أي نحو، فعل ذلك لوهلة. ولكني فقط وقفت دون أي حراك، فتوقف ونظر نحوي.

قلت:

- حسنا.

فقال:

- حسنا  ماذا؟

- لا أعرف.

جلست على الأرض، أفكر في أمي، وهي تسألني ماذا أود أن أفعل، فكرت في جريج، فكرت في ليلة من أسبوعين معي حيث كنا ننام معًا على الأريكة. يستمع إلى أغنية رقم 9 على على أسطوانة المطربة تريسى شابمان مرة بعد مرة ، رقم 9 هى أغنيته المفضلة,  يقول لى بصوت منخفض وناعم:  " أحبك أكثر من أي شيء يا شوان. أعرف أنك لا تحبيني بنفس القدر. أعرف أن ثمة شيء ما خطأ، لكن أعتقد أنه يمكننا القيام بتجاوز ذلك". أري يده تفرم التوم في قطع رفيعة، أري العضلات الصغيرة فى ذراعه تتحرك عندما يقلب الصوص. أفكر في الطماطم وكيف أن قشرها بارد ومتبل. فكرت كيف عندما أقطعها قطعا مستوية وتامة، مراقبة جلدها الندي الشاحب والضعيف. إنها تبدو تمامًا كما لو أنني لم أفكر في أي شيء.

مشي كارلوس بعيدًا عني وفتح الباب البارد. خلفه الضوء ولمبة فلورست أمكنني أن أشعر بالحرارة القادمة من البدروم ببطء. أمسك كارلوس بالباب مفتوحًا لدقيقة ثم مد ذراعيه في حركة واسعة ثم أسقطهما إلى جانبيه.

قال:

- أنا راجع إلى الطابق الأعلى. هل ستأتين؟

استدار بعد لحظة أخرى. وانغلق الباب مع ضوضاء مكتومة خلفه.

جلست تحت الضوء المعتم، أضواء باردة لدقيقة أخرى قبل أن التفت إلى يساري وأسحب مزيدًا من الطماطم من القفص. فردت مريلتي حتى المنتصف وملأتها بالطماطم بقدر ما أستطيع. فى حرص، وقفت وفتحت الباب البارد. على الرغم من حرارة البدروم الثقيلة أشعر ببرودة مريلتي على لحمى بينما أتبع كارلوس إلى الطابق الأعلى.

(النهاية)

***

.........................

ملحوظة للمترجم: هذه القصة ترجمتها من سنوات بعيدة ونسيتها ،بالضبط  كان ذلك عام 2009 م ، ولأنى وقتها لقلة الخبرة لم أكن أهتم بأسماء المؤلفين فلم أكتب شيئا عنها ، أما القصة فكانت منشورة فى ذلك الوقت على صفحة مجلة الكترونية /nidus.no 9 – 2007 . لكن من أسف لم تعد المجلة موجودة. من ناحية أخرة بحثت بجدية عن المؤلفة / Tanya Underwoodمن هى؟ وهل لها أعمال أخرى. قصص أو كتب؟ من أسف لم أعثر على شىء.

ثلاث قصص: ناتالي وارثر

ترجمة : د.محمد عبدالحليم غنيم

***

1- دراجة

ذهبت للنوم وأنا امرأة واستيقظت دراجة. مفاصلي صلبة ومطوية مثل كرسي الشاطئ. مؤخرتي سرج. ثدياي هما الإطاران الآن. بقيت في المرآب وصوتي الوحيد هو الجرس. في رحلة طويلة، تمر بى امرأة أخرى هى الآن دراجة أيضا. "هذا صعب "، أقول لها، فتقول، هكذا كما كونك امرأة: االبدلات، التروس، السواعد، الإطارات المثقوبة، المقود المثني. في الليل، تُعلق عجلتى الخلفية من السقف مثل بقرة عند الجزار. بجانبي ثلاث نساء سابقات أخريات من مختلف الأحجام. تتلامس مقاودنا مثل الإمساك باليدين."دراجة جميلة "، يقول أحدهم للرجل الذي يركبني. أعتقد أنني أشعر بالفخر.

**

2- حشرة العتة

لقد ولدت من جديد كعثة وعرفت على الفور أنه لم يكن لدي الكثير من الوقت. لا تعتقد أنك ستشعر بالعمر، لكنك ستشعر بذلك. في هذا الجزء من الثانية، تستطيع أن تفهم بالضبط ما أنت عليه. لم يكن هناك شيء، ثم كان هناك ضوء، وبعد ذلك عرفت كل شيء سأعرفه على الإطلاق. عندما جاء الموت كان صغيرا، مثلي.

**

3- منشفتان للتجفيف

أعثر على قرطى زوجتك الثانية في جيب معطفي: كبيران، وذهبيان.

عندما أغادر، تأتي هى،عندما تغادر، آتي أنا.

في الأسبوع الماضي نظمت ظلال أحمر الشفاه من الوردي إلى الأحمر - قوس قزح للتقبيل.

أجد عبتوها من الشامبو في الحمام الذي تستخدمه أنت فقط.

تقوم بصنع الانتشلادا( فطيرة محشوة باللحم ) وتترك واحدة في الثلاجة من أجلك. أو ربما من أجلى.

أطلب أن أعرف من هي، لكنك تقول، هذا ليس الترتيب.

يجب أن ترتدي زوجتك الأخرى قمصانك للنوم. أشاهدك من المدخل، تفك الأساور.

إنها تتعمد أن تترك أدلة لي: كومة من بذور المانجو على منشفة في المرآب، وخصلة من الشعر البني في درج ملابسي الداخلية، وكلمة "تقريبًا" تم تسطيرها مرارًا وتكرارًا في الجريدة. تقريبًا. تقريبًا. تقريبًا.

ألبس قرطيها: ثقيلان مثل قلب الإنسان.

(تمت)

***

.......................

المؤلفة: ناتالي وارثر/ Natalie Warther كاتبة أمريكية، حاصلة على ماجستير في الفنون الجميلة من كلية بنينجتون وشهادة البكالوريوس من جامعة نورث إيسترن. تكتب القصة القصيرة جدا، و تعيش ناتالى وارثر فى لوس أنجلوس.

السيدة وقططها التى لاتحصى

قصة: هينا فاطمة خان

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

وبينما كانت ذرات الغبار تتراقص وتتلألأ عبر زجاج نوافذ هذا المنزل الكبير، استيقظت السيدة المسنة (في منتصف الستينيات من عمرها) لتنفس الأمل الجديد الذي يولده كل صباح .

ينتشر الشعور بالكآبة في الهواء هنا، وكان هذا الفراغ وقططها التي لا تعد ولا تحصى هي الرفيق الوحيد للسيدة. يبدو أن ولعها بالقطط لا ينتهي أبدًا، لكنها لم تستطع الاستمتاع بها حتى الآن لأن زوجها كان يكره حتى رؤيتها. الآن فقط هي تدرك دفئهم ورفقتهم .

تبدو الجدران قاتمة، وهذه البرودة يمكن أن تزعج أي عابر سبيل. النظرة الهادئة الملساء على وجه السيدة مجرد واجهة. عليها أن تحتفظ بها لتستمر في الحياة. كل ما لديها الآن هو قططها. بعد التعافي من مرض جسدي حاد، بالكاد تستطيع السيدة التنقل في هذا المنزل الكبير.حيث يعتنى بجميع أعمالها من قبل الخادمة التي تخرج من المنزل عند حلول الغسق - في الوقت الذي يتحول فيه لون هذا المنزل إلى لون أغمق، تغني له الجنادب والصراصير فقط. هذا عندما تريد رفيق لكن السيدة ليست وحيدة أبدًا في هذا السرير الخشبي ذي الأربع أعمدة، حيث تشغل قططها التي لا تعد ولا تحصى معظم هذه المساحة؛ طوال الليالي تريح السيدة رأسها على الفراء الناعم للقطط.

بعد وفاة زوجها بفيروس قاتل، تمسح القطط دموعها، من تناول العشاء إلى الأنين، يفعلون كل شيء معًا. لا تزال الجوائز التذكارية تتألق على حافة النافذة تظهر حب السيدة لزوجها الراحل. لهذا الشوق لفإن لا يختفي أبدًا، فقط هذه القطط تعطي الحيوية لهذا المنزل العظيم الذى نادراً ما يصل إليه حتى أضعف بصيص من الأمل.

تضرب أشعة شمس الصباح الساطعة نوافذ الجار الكبير اليائس. الارتجاف والارتعاش لم يتركا جانب السيدة العجوز منذ وفاة زوجها. كل هذه الهشاشة تستمر في توليد المزيد من اليأس وتؤدي إلى مرض غير مسمى. كل ما يمكن أن تقدمه هو "الدفء العصبي" و"المودة" لقططها التي لا تعد ولا تحصى.

كانت مشغولة معظم اليوم بمشاهد القطط التي تتجول لتهدئة آلامها ومخاوفها العامة .

في بعض الأحيان، تذهب المساعي الجادة للقطط للتخفيف سدى حيث ينتهي الأمر بالسيدة المريضة بدفن وجهها في يديها ثم تنتحب؛ كان زوجها المتوفى أكثر وحشية، ولم يحب قط رؤية القطط حوله. حتى أنفاسه الأخيرة، يمكن للسيدة أن تستمتع بزوجها أو القطط .

غالبًا ما تقوم قطط السيدة بتنظيف نباتات الجوسامر بلعق جميع الشبكات البيضاء. لكنها الآن لا تشعر بالرغبة في نفض الغبار عن المنزل أو تنظيفه، فكل ما تفعله وتريده هو فقط رفاقها المخلصين القطط العديدة. لا صافرات الإنذار أو الأذان يمكن أن توقظ السيدة، ولكن رغم قلة حنان زوجها، فإنها تنام كل ليلة بشوق سري، وهو ما يتعلق برغبة الالتحاق بزوجها في الجنة. ولكن بعد ذلك تريد السيدة أيضًا أن ترافقها القطط هناك أيضًا، في عدن. هل من الممكن أن يحقق ذلك فى وقت ما؟

(النهاية)

***

.....................

المؤلفة: هينا فاطمة خان / Hina Fatima Khan  صحفية متعددة الوسائط مقيمة في الهند ولديها خبرة 7 سنوات في هذا المجال، حصلت هينا خان على درجة الماجستير في الصحافة المتقاربة من مركز أبحاث الاتصال الجماهيري فى جامعة الملة الإسلامية.

صيد السمك في نهر ساسكويهانا في شهر تموز

بقلم: بيلي كولينز

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

صيد السمك في نهر ساسكويهانا في شهر تموز

لم اصطد السمك قط في نهر ساسكويهانا

او في اي نهر قدر تعلق الأمر بذلك

لأكون صريحا تماما.

*

لم استمتع—ان كان في ذلك متعة-

لا في تموز ولا في  اي شهر

بصيد السمك في نهر ساسكويهانا.

*

الاحتمال الأكبر انني يمكن ايجادي

في غرفة هادئة كهذه-

على الجدار لوحة لامرأة ،

*

زبدية من المندرين على المائدة-

محاولا ان اصنع الاحساس

بصيد السمك في نهر ساسكويهانا،

*

مجذفا عكس التيار في قارب خشبي،

تاركا المجذافين ينزلقان تحت الماء

ثم ارفعهما ليقطرا ماء في الضوء.

*

لكنني لم اكن اكثر قربا الى

صيد السمك في نهر ساسكويهانا من قبل

الا عصر احد الأيام في متحف في فيلادلفيا

*

حين وازنت بيضة زمن صغيرة

امام لوحة يلتف فيها

ذلك النهر حول منعطف

*

تحت سماء زرقاء منفوشة الغيوم،

وعلى امتداد الضفتين اشجار كثيفة،

وشخص ملفع بمنديل احمر

*

يجلس في زورق

اخضر صغير مسطح القعر

ممسكا بصنارة الصيد النحيفة.

ذلك شيء ليس من المحتمل انني

افعله دوما، هكذا اتذكر انني قلت

لنفسي وللشخص القريب مني.

*

ثم طرفت عيناي وانتقلتُ

الى مناظر اميركية اخرى

من اكداس التبن والماء يمور ابيض فوق الصخور،

*

وحتى منظر لأرنب بري بني

بدا مشدودا متأهبا الى حد

تخيلته ينط خارجا من اطار الصورة.

***

.....................

* بيلي كولينز شاعر أمیركي من موالید مدینة نیویورك عام ١٩٤١یتمیز شعره بكسر جمیع الأشكال والأوزان التقلیدیة فھو یكتب شعرا متحررا من جمیع القیود وله أیضا آراء حول الغموض في الشعر وتعقید الشكل الشعري وفي تأویل القصائد یعبر فیھا عن انحیازه إلى البساطة ووضوح التعبیر والشعر الذي یسھل فھمه معترضا على الشعر الذي یكتبه الشعراء لغیرھم من الشعراء ولیس لجمھور عریض من القراء. شغل كولينز منصب شاعر الولایات المتحدة بین عامي 2001- 2002 وخلال فترة إشغاله ھذا المنصب حرر كولینز مختارات شعریة بعنوان (شعر ١٨٠) تتألف من ١٨٠ قصیدة على عدد أیام السنة الدراسیة. وھي مجموعة یسعى كولینز من خلالھا إلى إیصال الشعر إلى أكبر عدد من طلاب المدارس وإشاعته بین المراھقین. نال كولينز جوائز عديدة على مجموعاته الشعرية وفيما يأتي بعض عناوينها: (قصائد فيديو) 1980؛ (التفاحة التي أدهشت باريس) 1988؛ (فن الغرق) 1995؛ (الإبحار وحيدا حول الغرفة) 2001؛ (تسعة خيول) 2002؛ و(المتاعب التي يثيرها الشعر وقصائد أخرى) 2005. في القصيدة التي نترجمها هنا، يتناول الشاعر علاقة التجربة الحياتية - متمثلة بصيد السمك في القصيدة— بالفن - متمثلا فيها بلوحات يجدها الشاعر في احد متاحف الفنون بمدينة فيلادلفيا الأميركية، مؤكدا اهمية تأثير كل منهما في حياة الانسان.

بقلم: ألكساندر بوشكين

ترجمة: إسماعيل مكارم

Александр Пушкин

Отче наш

والقصيدة، يحاكي فيها نصا في (الصلاة الربانية)

***

أبانا الذي في السماوات

سَمِعتُ في الخلوة البسيطة

كيف ردَّ دَ رّجلٌ مُسن صلاته الجميلة،

كان يُرددها بخشوع، وأنا استمعُ:

*

" أبانا. أيها الأبُ الذي في السماوات!

إنَّ إسمكَ المُقدس الأبدي

يشعُّ في قلوبنا،

سَيأتي مَلكوتكَ،

وسَتكونُ مشيئتكَ معنا،

كما في السماوات كذلك على الأرضِ.

أعطنا خبزنا كفافنا

بيديك الكريمتين،

وكما نغفر نحن للمذنبين إلينا

أغفر لنا، نحن المذنبين أمامك،

أغفر يا أبانا لأبنائك .

ولا تدخلنا في إضلال،

ومن فتنة الماكر

نجنا ". هكذا أمام الصّليب،

*

كان العجوز يتلو صلاته، بينما

السّراجُ من بعيد يُرسلُ ضوءَه الخافتَ في الظلمة.

دَخلتِ المَسرّة ُ إلى القلب

بسماع صَلاةِ ذلك الشيخ المُسن.

***

.......................

* قام الكساندر بوشكين بتدوين هذه القصيدة عام 1836 أي قبل عام واحد من تاريخ رحيله. هذه القصيدة، وقصيدة (الآباء النساك والزوجات الطاهرات)، إلى جانب ثلاثيته التي دونها عن دحر الإنتفاضة في وارسو، تلك الإنتفاضة، التي جرت عامي 1830-1831، هذه النصوص كلها تدل على فهم عميق من قبل الشاعر للأمورالفلسفية، والدينية، والسياسية، التي سادت في المجتمع الروسي بتلك المرحلة..

مراجع ومصادر:

قمنا بترجمة هذه القصيدة من النص الأصلي الروسي.

وحافظنا على هيكل القصيدة كما ورد في النص الروسي.

وهذا ما تمليه أخلاقيات الترجمة.

كلاريس ليسبكتور

(مقتطف من كتاب المرأة التى أكلت السمك)

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

بعد ظهر أحد الأيام كنت أسير في الشارع لشراء هدايا عيد الميلاد.امتلأت الشوارع بالناس الذين يشترون الهدايا. في وسط كل هؤلاء الأشخاص، رأيت مجموعة تتجمع حولها، وذهبت لأرى: لقد كان رجلًا يبيع عدة قرود، كلهم يرتدون ملابس مثل الناس ومضحكون للغاية. اعتقدت أن كل شخص في المنزل سيحب الحصول على قرد صغير لعيد الميلاد. اخترت أنثى القرد الصغيرة الناعمة جدًا والجميلة، والتي كانت صغيرة جدًا. كانت ترتدي ثوباً أحمر اللون وترتدي أقراطاً وعقوداً من باهيا. كانت لطيفة معنا، وكانت تنام طوال الوقت.

تم تعميدها باسم ليزيت. بدا أحيانًا أن ليزيت تبتسم متوسلةً العفو عن نومها كثيرًا. بالكاد كانت تأكل، وبقيت ساكنة في ركن صغير، كان مخصصًا لها فقط.

في اليوم الخامس بدأت أتساءل عما إذا كان كل شيء على ما يرام مع صحة ليزيت. لأن سلوكها الهادئ والوديع لم يكن طبيعياً.

في اليوم السادس كدت أصرخ عندما اكتشفت الأمر: "ليزيت تحتضر! دعونا نأخذها إلى طبيب بيطري! " الطبيب البيطري هو الطبيب الذي يعتني بالحيوانات فقط.

كنا جميعًا خائفين للغاية لأننا بالفعل أحببنا ليزيت وأحببنا وجها الذى يشبه المرأة الصغيرة. يا إلهي، لقد أحببنا ليزيت كثيرًا! وأردنا لها بشدة ألا تموت! كانت بالفعل جزءًا من عائلتنا. قمت بلف ليزيت في منديل وركبنا سيارة أجرة وسارعنا إلى مستشفى للحيوانات. هناك أعطوها حقنة على الفور حتى لا تموت. كانت الحقنة جيدة لدرجة أنها بدت وكأنها شفيت مرة واحدة وإلى الأبد، لأنها فجأة شعرت بسعادة غامرة لدرجة أنها ركضت في جميع أنحاء الغرفة، وأطلقت صيحات من السعادة، وصنعت وجوه قردة صغيرة مضحكة، ومجنونة لإرضائنا. و عند ذلك اكتشفنا أنها تحبنا حقًا وأنها لم ترنا من قبل لأنها كانت مريضة جدًا لدرجة أنها لم تكن لديها القوة.

ولكن عندما تلاشى تأثير الحقنة، توقفت فجأة مرة أخرى وجلست في يدي هادئة وحزينة. ثم قال الطبيب شيئًا فظيعًا: أن ليزيت ستموت.

عندها فهمنا أن ليزيت كانت مريضة جدًا بالفعل عندما اشتريتها. قال الطبيب: أن علينا ألا تشتري القرود في الشارع لأنها في بعض الأحيان تكون مريضة للغاية.

سألناه بتوتر شديد:

ماذا الان؟ ماذا ستفعل يا سيدي؟ -

وهذا ما أجاب:

- سأحاول إنقاذ حياة ليزتي، لكن عليها أن تقضي الليلة في المستشفى.

عدنا إلى المنزل بمنديل فارغ وقلوبنا فارغة أيضًا. قبل أن أنام، طلبت من الله أن ينقذ ليزيت.

في اليوم التالي اتصل الطبيب البيطري لإعلامنا بوفاة ليزتي في الليل. هذا عندما فهمت أن الله يريد أن يأخذها. امتلأت عيناي بالدموع ولم أكن أمتلك الشجاعة لإخبار الآخرين بالخبر. ولكننى أخيرًا فعلت، وكان الجميع حزينًا جدًا.

لأنه افتقدها كثيرًا، سأل أحد أبنائي:

- هل تعتقدين أنها ماتت وهي ترتدي أقراطها وقلادتها؟

قلت إنني متأكدة من أنها فعلت ذلك، وحتى لو ماتت، ستظل جميلة.

ولأنه كان يشتاق إليها كثيرًا، نظر إليَّ ابني الآخر وقال بحنان شديد:

- هل تعلمين يا أمي أنك تشبهين ليزيت كثيرًا؟ 

إذا كنت تعتقد أنني شعرت بالإهانة لأنني أبدو مثل ليزيت، فأنت مخطئ. بادئ ذي بدء،لأن الناس بالفعل يشبهون القردة الصغيرة ؛ ثانيًا،لأن ليزيت كانت مملتئة بالرحمة وجميلة جدًا.

- شكرا لك يا بني.

هذا ما قلته له ومنحته قبلة على وجهه.

في يوم من الأيام سأشتري قردًا صغيرًا يتمتع بصحة جيدة.

لكن هل نسيت ليزيت؟

أبداً.

(تمت)

***

...................

المؤلفة: كلاريس ليسبكتور / ولدت كلاريس ليسبكتور عام 1920 لعائلة يهودية في أوكرانيا. للهروب من المذابح، هاجرت عائلتها إلى البرازيل عندما كانت طفلة. أمضت طفولتها في مدينة ريسيفي شمال شرق البلاد. نُشرت روايتها الأولى، "بالقرب من القلب المتوحش"، عندما كانت تبلغ من العمر 23 عامًا. اكتسبت شهرة واسعة على الفور وأصبحت بمرور الوقت واحدة من أشهر الكتاب البرازيليين. نشرت الروايات والقصص و المقالات الصحافية حتى وفاتها عام 1977. نُشرت هذه القصة لأول مرة في البرازيل عام 1971 هذا هو أول منشور لها باللغة الإنجليزية. عام 2013. كان آخر أعمالها الأدبية رواية "ساعة النجمة" التي نشرت سنة 1977 بعد وفاتها وقام بترجمتها إلى العربية د.ماجد الجبالي سنة 2017. والقصة المترجمة هنا مقتطف من كتابها للأطفال: المرأة التى أكلت السمك. والكتاب يضم أربع قصص، وهذا رابط النص المترجم:

https://lithub.com/the-woman-who-killed-the-fish

تأليف: جون سوكول

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

شعر وارين بيد ناعمة لينة تطرق أذنه اليمنى ونقرة ملحة ولكن خفيفة من إصبع فوق أذنه الأخري، قالت السيدة الشابة وهي تربت جانب وجهه:

- سيدى؟ هذا يكفي الآن. من فضلك. بدأ الناس ينظرون نحونا.

رد وارين وهو يرفع رأسه عن البطن المنتفخ:

- أوه، آسف.. اغفري لي.. لكن ذلك شعور جميل. شكرًا كثيرًا لك.

في طريق عودته إلى الاستوديو الخاص به، جلس وارين بجوار امرأة حامل في الحافلة. كان قد سألها بهدوء إذا ما كان يمكن أن ينصت إلى الحياة فى داخلها وقال: "زوجتي على وشك أن تلد طفلًا أيضًا " مقدمًا مبرره لطلب مثل هذا الفضل. وعندما وجدت الجد في نظره وافقت أن تسمح له بأن يضع رأسه فوق بطنها للحظة. وكالعادة تجاوز وارين الحد المسموح له، لذلك كان صحيحًا أن الناس قد بدأوا في النظر نحوهما.

عندما نهضت المرأة لتنزل في محطتها قال وارين:

- شكرًا مرة أخرى.

ابتسمت له متفهمة، ولوحت بيديها بخفة كما لو كانت تقول له "لا تشر إلى هذا مرة أخرى " ثم التفتت نحو النافذة، خطر لوارين أنها قد خجلت.

مبتهجا مشي وارين قدر بنايتين إلى مرسمه، وعندما وصل إلى هناك، توجه إلى جهاز التدفئة، ورفع درجة الحرارة، فبعد أقل من ساعة ستصل الموديل الجديدة، لذلك يجب أن يكون االدور العلوى دافئًا، فقد كانت الموديلات يصررن على ذلك.

وضع الماء من أجل إعداد القهوة، وأدار جهاز الكاسيت، وضع إسطوانة مخدوشة على القرص الدوار، كان وارين يستمع كثيرًا إلى موسيقى برامرز فى تلك الأيام .

عندما غلى الماء، أعد القهوة، شم رائحتها وفكر في نفسه.كيف يبدو الشىء الملموس الصغير عندما يكون لدى المرء شىء يتشوق إليه، شىء يعيش من اجله، حمل قهوته إلى مقعده القديم بجوار النافذة المغطاة بالستائر وخزانة الكتب غير المرتبة، جلس وانتظر وصول الموديل.

بعد أن انتهى من شرب القهوة، أعد الكنفاه وجهز مكان وقوف الموديل، لكنه في البداية نظر إلى عناوين الكتب على الرفوف، ووجد الكتاب الذي يريده. انتزعه والتفت إلى اسكتشات دافنشي لجنين فى الرحم، تأمل جنينا لم يولد ملتفا داخل رحم مظلم. بدا الشكل البشرى الصغير فى الرسم مثل نسخة نائمة من تمثال المفكر للنحات الفرنسى أوجست رودان (برأسه  الضخم بين ركبتيه) متأملا بداية الحياة. وقد جعلت الاوردة المتدلية الملتفة حول التجويف الأسطورى للجنين وارين يفكر في قشرة الجوز المتعرجة.

قام وارين بعد ذلك بتقليب الصفحات ليصل إلى تصوير دافنشى: تصوير الجماع ودراسات أخرى، تأمل الرسومات التشريحية، الرسومات عميقة ومفيدة: شفاه وعيون من نماذج تم تشريحها مرسومة بإتقان. ثم شعر وارين بانقباض فى الصدر بسبب الرهبة التى شعر بها فى حضور مثل هذا الفنان العظيم (على الرغم من نبذ رسوماته مرات عديدة)، وأرجع وارين أن هذا الشعور بالانقباض إلى إدراكه أنه لن يكون أبدا فى نفس المستوى بلوحاته غير الكتملة وبقعه الموحلة وأشكاله المنسية التى لطخت بشكل عشوائى على القماش. حاول عدم التمادى فى الحديث عن أدائه المتوسط، بعد كل هذا، كان مازال فى البديات، وعندما فكر فى مثل هذه الأمور أيب بالاكتئاب، لم يستغرق الأمر كثير وقت لإحباطه.

سرعان، ما كان هناك طرق على الباب، نحى وارين الكتاب جانبًا، وابتلع بقايا القهوة التى في الكوب، وأسرع يفتح الباب.

- مرحبًا

قالت المرأة الشابة ذات البطن الكبير، فقال وارين:

- مرحبًا، ادخلي.. ادخلي.

كان قد طلب من وكيل الموديلات، في وسط المدينة أن يرسل إليه امرأة شابة حاملا. وقد فعل حقًا، إنها تامة، لم تكن مجرد حامل، لقد كانت حاملا جدًا، على الأقل ثمانية أشهر.

- الناس في الوكالة يقولون أنك تريد موديل حامل.. حامل حقيقة، يقولون،  لذلك أنا هنا. لا أستطيع أن أصدق هذا، أنا لم أعمل منذ الشهر الثاني من حملي. لقد تصورت أنني لن أعود للعمل إلا بعد أن أضع طفلي، لكن الوكيل اتصل بي وقال مرحبًا ليندا هناك هذا الفنان الذي يحتاج إلى موديل حامل، حامل جدًا، هل أنت مستعدة ؟ لذلك قلت " أكيد لم  لا؟" هل تريد دائمًا أن ترسم الموديلات الحوامل؟

قالت المرأة الشابة ذلك ونظرت إلى وارن بابتسامة ساخرة،ابتسامة متكلفة تقريبًا.

قال وارين:

- حسنًا، في الواقع، أرسم أفكارًا تجريدية، لكن، كما ترى زوجتي حامل وأردت العودة إلى موديل حي مرة أخرى. لم أرسم موديلًا منذ أن كنت في المدرسة. أحب أن أرسم بعض الصور والرسومات لزوجتي عندما تحمل. وخلال مراحل الحمل المختلفة كما تعلمين؟ لكني فكرت أنه من الأفضل أن أتدرب مسبقًا، أعتقد أن هذا مهمًا، أقصد أعتقد أنه مهم لي كفنان. لكي أرسم زوجتي عندما تحمل. أقصد، حتى لو بقيت في العادة تجريدياً. هذه مناسبة خاصة ألا تعتقدين ذلك؟

قالت المرأة الشابة:

- حسنًا، إذا قلت ذلك. عمل الموديل وهو مجرد عمل بالنسبة لي. وأنا وزوجي بالتأكيد بحاجة إلى المال. لم يطلنى أحد للعمل منذ أن كنت حاملاً، فيما عداك بالطبع، أنا لا أشكو، لا تفهمني خطأ. إن هذا مجرد شيء قليل خارج المألوف، هذا كل ما في الأمر، لكن لكل واحد ذوقه الخاص، أليس كذلك؟

قال وارين:

- الحمام هناك.. يمكنك أن تستخدميه كغرفة تبديل الملابس؟

قالت ليندا:

- أكيد، حسنًا، إذا كنت جاهزًا للعمل، أخلع ملابسي حالًا، وعندما أخرج يمكنك أن تخبرني بما تريد.

قال وارين:

- لا بأس.

وأخذ منها معطفها وعلقه فوق شماعة حائط بجوار الباب.

بينما تخلع ليندا ملابسها، جهز وارين طبق ألوانه ومزج نصف دائرة من الألوان فوق قطعة خشب قديمة.

سرعان ما خرجت ليندا عارية من الحمام وقالت:

- حسنا.. أين تريدني؟

قال وارين وهو يشير إلى منضدة الموديل.

- على اليمين هنا. دعينا نرى. دعينا نجرب وضعية جلوس سهلة ولطيفة، كبداية.

جلست ليندا على منصة من الخشب الفينير وقالت وهي تنظر إلى وارين:

- أهكذا؟

أجاب وارين:

- أوه،.. حسنًا.

ثم ذهب إليها ووضع كلتا يديه على العروق الزرقاء المستديرة في محيط بطن ليندا، وحاول أن يلاطف بشهوة البطن المنتفخ، لذلك ارتفع ببطء بطن ليندا إلى المنتصف، عندئذ قالت وهي تؤكد على مخرج كل حرف في كلماتها:

- انتظر فقط دقيقة.

أجاب وارين في براءة:

- ما الخطأ ؟

- أنت – أكرر – لا يسمح لك بلمسي، أتفهم النزاهة والتفانى وكل ذلك، لكن  قواعد   الوكالة تقول " أن الفنان لا يلمس الموديل" إذا كنت تريديني أن أجلس بطريقة معينة، عليك فقط أن تشير بيديك، بهذه الطريقة اوتلك الطريقة، حتى أفهمها. هل فهمت ذلك؟

- ليندا. أنا آسف جدا، أعتذر، أؤكد لك أنني لم أقصد أية إساءة.

قالت ليندا:

- أنا متأكدة من أنك لم تفعل ولكن، للرجوع إليها في المستقبل....

- حسنًا، حسنًا، هذا جيد. تمامًا كما أنت، إذن. ذلك تمام..

عندئذ رفعت ليندا رأسها وابتسمت كما لو كانت تعرف طوال الوقت أفضل وضع لوارن.

خلال الساعتين التاليتين، تراجع وارين مرات عديدة عن الكنافاه لفحص عمله اليدوي، تمشى مرات عديدة لدراسة بطن ليندا من جميع وجهات النظر الممكنة، أخيرًا قالت ليندا:

- حسنًا، انتهى الوقت. لا أستطيع أن أقف فوق الساعتين. دعنا نرى ماذا ستدفع؟"

قالت ذلك ومشت إلى الكنافاه حاملة روبها. لف وارين شعر الفرشة الخشن في قماشة الورق الموحلة وانتظر رأي ليندا. حدقت ليندا إلى العلامات القليلة والبقع التي وضعها وارين على الكنافاه ونظرت بسماجة إلى النقاط واللطخات كما لو كانت تشكل جزءًا من خريطة سرية.

قالت:

- ما هذا؟

- أوه، ذلك فقط تحت الرسم، هذه الكنافاه تحتاج إلى العديد من ساعات العمل قبل أن تصبح مثلك.

- آمل ذلك.

قالت ليندا ذلك وأسرعت نحو الحمام لكي ترتدي ملابسها.

بمجرد أن غادرت ليندا المكان نحى وراين ألوانه جانبا، ونظف فرشاته في زيت التربنتين والصابون والماء، ثم اندفع ليلحق بالحافلة إلى المركز المجتمعي. حيث يبدأ فصله الدراسي في تعلم الطبخ عند الساعة الثانية. وكانت هذه حصته الأولى، ولا يريد أن يفوته أي شيء.

عرف وارين أنه كان هاويا غير محترف، دائمًا ما يندفع ويقوم بعمل جديد متصورًا أنه المناسب، ثم يتخلى عنه، لهذا كان متوسطًا في العديد من الأشياء، وليس جيدًا في أي واحدة منها، لكن تلك كانت طريقته، لا جدال في ذلك، هكذا فكر في نفسه.

في المركز المجتمعي اكتشف أن الفصل صغير، حوالي ثمانية أو تسعة أفراد، كلهن من النساء بما فيهن المدربة.

عندما انتهى التدريب، جمع كل فرد متعلقاته الشخصية، وارتدى معطفه وغادر الغرفة فيما عدا امرأة بقيت هناك في آخر القاعة، كانت تحمل طفلًا رضيعًا فوق ذراعيها، جلست في المقعد كما لو كانت تخطط للبقاء لفترة من الوقت، كان وارين قد لاحظها من قبل. الآن صمم أن يحصل على نظرة أفضل، عاد وارين إلى الخلف كما لو كان في طريقه إلى المغادرة، تجاوزته المدربة تاركة إياه وحده مع المرأة والطفل، اقترب وارين من المرأة فى خجل، وسألها:

- أيمكنني أن أجلس.

قالت:

- بالطبع.

- أوه، إنه لطيف.

صححت:

- إنها

قال وارين:

- آه إنها لطيفة، ما اسمها؟

أجابت المرأة بفخر:

- أليسون. أتمت أربعة شهور الأسبوع الماضي.

سأل وارين وهو يدرك مدى حرجه:

- لماذا تنتظرين هنا؟

أجابت المرأة:

- حسنًا.

ثم أضافت وهي ترفع رقبتها لترى الباب:

- فكرت أن أنتظر حتى يغادر الجميع، ثم أرضعها قبل رحلة الحافلة الطويلة إلى المنزل، فعندما يجوع الأطفال لا يحبون أن ينتظروا.

قال وارين بحماس:

- أتنوين أن ترضعيها؟ أوه، هل تعقتدين.. حسناً، هل تعتقدين أن باستطاعتي أن أشاهد؟ أعرف أن ذلك يعد تعديًا على خصوصيتك، إذا كنت لا تمانعين .. أتعرفين، النساء في أوروبا والبلدان الأخرى يرضعون أطفالهم في الأماكن العامة بشكل طبيعي، إنه فقط نحن الأمريكان نتكلف الحياء والحشمة في مثل هذه الأشياء،   سبب سؤالي هو أن زوجتي ستنجب طفلاً، وحسناً، إذا...

توقف للحظة ثم أضاف.

- إذا كنت ترين أنه من الأفضل أن أمشي فأنا أتفهم ذلك.

- لا لا، ابق. لا بأس أعتقد أنني أعرف شعورك. زوجي كان له نفس الأسلوب وأنا حامل بأليسون، حتى أنه ذهب إلى سيدة في محل الخضراوات وطلب منها أن يدفع طفلها للخلف وإلى للأمام في عربة الأطفال لبضع دقائق، إلى جانب ذلك أنا لا أمانع.

فتحت المرأة بلوزتها وراقب وارين بوقار وهي تمسك بثديها المنتفخ وتوجه حلمته البنية إلى فم طفلها الباحث عنه. همس وارين:

- هذا جميل. هذا جميل حقًا.

ابتسم لنفسه وهو يتذكر رسم دافنشي لمقطع عرضي للشبكة يمتد من داخل جسد المرأة عبر الغدة الثديية.

نظرت المرأة من حين لآخر وابتسمت لوارن، مفتونة أنه بدا مفتونًا للغاية، ثم سألته وقد  بدت مستريحة جدا لحضور وارين:

- كم مدة حمل زوجتك؟

- كم المدة ؟ أوه أتقصدين مدة الحمل؟ أوه فقط شهور قليلة.

ابتسمت المرأة واحنت رأسها لتراقب طفلها الرضيع.

شاهد وارين الأم والطفل حتى شبع ونعس، تحدث إلى المرأة وهو يمشي معها نحو محطة  حافلاتها. سألها:

- أأنت متاكدة أنك على ما يرام؟

- نعم أنا بخير، شكرًا لك.

شعر بالوحدة القاسية عندما تركها هناك، ثمة فراغ.

في الحافلة شعر وارين بانقباض شديد في معدته، يأس يغوص في داخله ثم ينهض، ليرقص مثل اللهب حول طوقه، ويرتع مثل الحمى إلى مناطق غامضة في دماغه، ربما ذلك لأنه قضى يومًا جميلًا ومرضيًا والآن وهو في طريقه إلى المنزل لا يصدق أنه ثمة شيء يمكن أن يفسد هذا اليوم.

نزل من الحافلة وهو يحاول نسيان اكتئابه، عندما وصل إلى بنايته، جمع بريده وصعد الدرج باتجاه شقته رقم 6.

مر بالسيدة كوفنجتون التي كانت تتحدث إلى إحدى جاراتها في الردهة، لم يحبها وارين، كانت بدينة وغريبة الأطوار، لا تشبع من النميمة، أمل وارين ألا توقفه للحديث إليه.

قال وارين في عجلة وهو يواصل صعود السلم:

- مرحبًا.. سيدة  كوفنجتون.

ردت في صوت رخيمم ممطوط:

- مرحبًا وارر ي ين.

بمجرد وصول وارين إلى مقدم مدخل الشقة، سمع السيدة كوفنجتون تهمس لجارتها، فكان صوتها بمثابة مقصلة اليوم التي هبطت على عنقه:

- وارين هو الساكن العزب فى المبنى.

انتهت

***

.........................

* جون سوكول / John Sokol كاتب ورسام أمريكى يعيش فى ولاية أوهايو، نشر العديد من القصص فى المجلات الادبية المطبوعة والالكترونية.

إحتفاء بيوم ميلاد الشاعر الروسي الكبير

الكساندر بوشكين (1799 -1837)

إعداد وترجمة: إسماعيل مكارم

***

هذا النسيم الرقيق

يداعب الأثير ليلا،

بينما نهر كوادالكويفير*

تجري مياهه متدفقة،

تصدر خريرا جَميلا.

**

وها هو القمر ذهبي اللون يطلع.

أرجو الصّمت ...أسمعُ صوتَ الجيتار

وهناك شابة إسبانية على الشرفة

تتكئ على الدرابزين.

**

هذا النسيم الرقيق

يداعب الأثير ليلا،

بينما نهر كوادالكويفير

تجري مياهه متدفقة

تصدر خريرا جميلا.

**

إخلعي هذا الشال أيها الملاك اللطيف،

واظهري كيوم مُشرق،

دعيني أرى هذا القوام الرائع

من خلال الدرابزين.

**

هذا النسيم الرقيق

يداعب الأثير ليلا،

بينما نهر كوادالكويفير

تجري مياهه متدفقة

تصدر خريرا جميلا.

1824

***

والثانية عن موسم الخريف وشجيرة الكرمة.

«Виноград»

شجيرة الكرمة

أنا غير نادم على وردات الجوري،

تلك التي ذبلت في أيام الربيع الماضي،

غالية على قلبي الكرمة وتلك الدوالي،

حين تنضج عناقيدها على سفح الجبل.

تلك أجمل صورة في وادينا ذي الغلال

وبهجة هذا الخريف الذهبي

هذي الحبات البلورية الطويلة

تذكرك بأصابع صبية شابة جميلة.

1824

***

والثالثة عن جمال الطبيعة والشتاء في روسيا في زمن الشاعر، أي في الربع الأول من القرن التاسع عشر.

Зимнее утро

صَباحٌ شتويّ

ما أحلى هذا الصّباح، حيث الصّقيعُ والشمسُ

لا تزالين نائمة يا صديقتي الحَسناء،

هيا استيقظي، حان الوقتُ يا جميلة،

إفتحي عينيك المغمضتين، يغمرهما الهناء،

وانهضي لاستقبال أورورا الشّمال، *

وكوني نجمة الشّمال ِ الرائعة.

**

أتذكرين كيف كان المساء، إذ غضبتِ العاصفة الثلجية،

وفي الأفق المعتم ساد جوّ سَديميّ

أما القمرُ فكان شبيها بنقطة باهتة،

كان يلوح بلونه الشاحب من خلال الغيوم السوداء.

وكنتِ جالسة يغمرك الحزنُ.

والآنَ .. أنظري من الشباك:

**

تحت هذي السّموات الزرقاء،

تحت هذا الغطاء الجميل الرائع

ها هو الثلج يشعُّ بنور الشمس،

والغابة بأشجارها العارية وحدها سوداءُ

أما أشجار الشوح، رغم الندى الثلجي، تزداد اخضراراً،

والنهر تحت الجليد يرسل بريقه الجميل.

**

الغرفة تشع بضوء الكهرمان الجميل

والموقد يكسرُ الصّمت

بفرقعات الحَطب، الذي يشتعل.

أمر ممتاز أن تفكرَ وأنت على الأريكة !

أتدرين، هل نأمر بأن يُسخروا لنا

الفرس ذات اللون الأحمر الداكن للسير في مركبة الثلج ؟

**

إذ أن الإنزلاق على الثلج في الصّباح،

يا صديقتي يسمح لنا أن نتنزه

بمركبة الثلج، تجرها فرسٌ غير عَجول ٍ .

سنزور تلك السّهولَ الفسيحة،

والغابات الغنية، الكثيفة،

وشاطئا عَزيزا على قلبي.

***

دونت في الثالث من تشرين ثاني عام 1829

.......................

* في السادس من حزيران من كل عام يحتفل المجتمع الروسي بأقسامه: الرسمي، والأكاديمي، والشعبي بيوم ميلاد الشاعر الروسي العظيم الكساندر بوشكين، والده سيرغي بوشكين.

وبذات الوقت يعتبر يوم السادس من حزيران يوم اللغة الروسية، كون الشاعر بوشكين أغنى هذه اللغة بمؤلفاته الناجحة، الممتازة: نثرا أوشعرا، حكاية او رواية.

وُلدَ ألكساندر في أسرة تنتمي إلى طبقة النبلاء في السادس من حزيران عام 1799 في مدينة موسكو، حصل على تعليمه الإبتدائي في بيته، أي أن الأهل استدعوا الى البيت معلمات ومعلمين قاموا بتربية الولد وأشرفوا على تعليمه: منهم من كان من فرنسا، ومنهم من ألمانيا، ومنهم من كان من بريطانيا. في عام 1811 قرر الأهل إرسال ولدهم الكساندر إلى (ليسي) المدرسة المتوسطة التي افتتحت قرب العاصمة وهي مدرسة خاصة بأبناء النبلاء، تأسست بغرض إعداد الكوادر للعمل في مؤسسات الدولة.

كان يعمل في هذه المدرسة كبار الأساتذة، وكبار المثقفين، والفلاسفة، والأدباء الروس ومنهم الشاعر الروسي غ. ر. درجافين. في عام 1817 أنهى الكساندر بوشكين تعليمه في هذه المدرسة وعين ليعمل لدى دائرة الأمور الخارجية. كان عمر الشاعر الكساندر قصيرا جدا، إذ توفاه الله في 29 كانون الثاني عام 1837 خلال مبارزة مع جورج دانتيس. ويعتقد الخبراء والمؤرخون الروس والأجانب أن الجهة التي تقف وراء وفاة الشاعر هي الحركة الماسونية.

إحتفاء بيوم ولادة الشاعر الروسي الكساندر بوشكين وجدنا من المناسب تقديم باقة من قصائده إلى القراء باللغة العربية: الأولى عن جمال إسبانيا.

إسبانيا التي سحر جمال الطبيعة فيها جعل شعراء الأندلس يتغنون يجمالها وجمال الصبايا هناك، والبساتين، والوديان، فرأينا أنه حتى نزار قباني، شاعر القرن العشرين يتغنى بهذا الجمال، من قصائده: (مذكرات أندلسية) و(أوراق إسبانية) و(أحزان في الأندلس) و(وغرناطة)، إسبانيا هذي تركت انطباعا رائعا عن بعد لدى الكساندر بوشكين.

Александр Пушкин

« Ночной зефир…»

............................

هوامش ومصادر:

* كوادالكويفير: نهر في إسبانيا، ربما ما يسمونه العرب (نهر قرطبة)،  أو ما يطلق عليه الإسبان اسم آخر (النهر الخامس).

* أورورا: اسم أخذ من الميثولوجيا الرومانية، وتعني إلهة الفجر.

ملاحظة: تمت الترجمة من النص الروسي الأصلي. في النصوص الأول  والثاني والثالث حافظنا على هيكل القصيدة وعدد الأسطر، كما تملي  علينا أخلاقيات الترجمة.

1. АЛЕКСАНДР ПУШКИН. Евгений Онегин.

Стихотворения. Проза. Москва. 2020 г.

 بقلم: كريس أباني

ترجمة: صالح الرزوق

***

"في البداية نهر. والنهر تحول إلى طريق، الطريق تشعب في كل العالم. ولأن الطريق كان في سالف الزمان نهرا فهو جائع باستمرار".

* بن أوكري- طريق المجاعة

في هذا الصباح البارد كانت نزهتي بجوار البحيرة ساحرة، هناك خصل من الضباب الذي يتلوى ويغيب في العدم، وأسراب من طيور البحر الصامتة تطير بتشكيلات عديدة، كأنها خفر سواحل طبيعيين. في البيت جهزت إبريقا من شاي إيرل غراي من أجل العمل الذي ينتظرني. الشاي الساخن يترك ضبابا، ورائحة زيت البرغموت تشعرني بالدفء، وتخلق إحساسا قديما بالراحة والأمان. على طاولتي صورة فوتوغرافية نظرت إليها. رأيت صبيا بالعاشرة أو الثاني عشرة، ويحمل صبيا آخر أصغر منه. كانا يتقدمان في طريق ترابي ريفي، وأشجار كثيفة على الطرفين. ومن بعيد أمامهما أربع بنات مراهقات تتقدمن بعرض الطريق، وتتمخترن عليه. إحداهن التفتت برأسها إلى الخلف لتتأكد من مكان الأولاد.

صورة بسيطة في إطار أنيق، وفي خلفيتها حقل رائع، لكنه بسيط أيضا. ويمثل صورة ست أولاد أفارقة يمشون على طول طريق ترابي ريفي. ولا تلاحظ أي خطر داهم، ولكن هناك جو متوتر يحيط بالأولاد، ولا يستوجب رفع راية حمراء. ومع ذلك لفتت الصورة انتباهي فورا، وتخلل أنفاسي إحساس عصبي، وعلى الفور وقفت أمامها وشردت بها. وهذا رغم حقيقة أن الصورة لفنان نيجيري اسمه فكتور إكبوك، وقد وجدتها في صفحتي على إنستغرام. ورأيت فيها مباشرة شيئا مألوفا ويسبب الارتباك، وهو مشهد منخفض أرضي غريب تماما.

وأؤكد مجددا أنني لا أعرف المشهد، ولا أعرف أي شخص في الصورة، ولا يسعني معرفة المكان. لماذا؟. فالصورة ملتقطة قبل عدة أيام، وعلى وجه الدقة في سورينام. ولكن كان أثرها مقلقا، بسبب الانفصال عن الفترة والمكان وحتى الذاكرة. ثم لمعت في رأسي فكرة. وربط دماغي الصورة بصورة في عقلي. وأنا أقول "صورة"، ولكن بالمعنى البصري الدقيق لا يمكن وصفها بذلك، وستتضح الأسباب لاحقا.

الصورة هي لأخي الأكبر مارك، عمره بصعوبة ثماني سنوات، ويحملني وأنا بعمر ست شهور، وكنا نهرب من بيتنا الكائن في ريف أفيكبو، فقط قبل ساعات من توغل الجيش النيجيري إلى مدينتنا من جهة شاطئ نديبي، حيث حطوا للتو، على بعد ثلاث أميال. هذه ليست صورة بالمعنى الدقيق جدا لأنه وأنا أتذكر الحادثة فعليا في أعماق وعيي الباطن، وحينما كان بمقدور ذاكرة من هذا النوع أن تسجل بشكل دائم حتى وأنا في هذا العمر المبكر، فإن قدراتي للتعامل معها قد تكون موضع تساؤل. لأنه لا يمكنني "رؤية" شيء تورطت به. وكما اخبرونا لا يمكن أن نكون "مشهدا" و"ننظر" بنفس الوقت إلى ذلك المشهد من الخارج.  ولذلك ما أتذكره عمليا، وهو ليس أقل وضوحا بكل النواحي من الصورة التي أنظر لها، لا يمكنه أن يكون حقيقيا. ولكن هذا قد جرى. وهذه حقيقة. وهنا نكون لحظيا بمواجهة شيء بمنتهى القسوة عن تجربة اللاجئ - أن تكون لاجئا شيء لا هو اسم و لا فعل. ولكنه تأرجح في الوقت -المكاني، وهو ما يتكرر باستمرار.  أنت دائما بوقت واحد لاجئ حتى بعد أن تكون قد فقدت هذه الصفة. وما أن تصنف بها حتى تحمل دائما هذه "الرائحة" الوجودية المرافقة للانزلاق من موضعك. وتدرك أنك تعايشت مع الحالة وحملتها معك دائما، لكن التجربة نفسها لا ترتبط دوما بما تعتقد أنه حقيقي، أو ما هو مقبول في الذاكرة. وهكذا، أنت دائما وحدك مع حالة تالية مزعجة ناجمة عن الصدمة والجرح المتكرر دون امتلاك الكلمات الضرورية الكفيلة بالتعبير عن التجربة التي مررت بها. وتتبدل التفاصيل مع كل سرد وإعادة سرد، حتى تشك بخبراتك الأصلية عنها. وتفقد اليقين بما لك، وما يعود لخبرات عائلتك، وما يعود لإعلام تلك الفترة، وما يخص الذكريات المستعادة. هل لاحظت أن صورة اللاجئ الواضحة، هي الصور التي سنتعرف فبها على حالات وظروف لاجئ هارب بشكل دائم؟. اللاجئ دائما على الطريق في مكان ما، على قارب في مكان ما، ولا يصل على الإطلاق. بعضهم يحمل مظلات، وحقائب، وأولادا، حتى أن بعضهم يربط توابيت بمؤخرة الدراجات، وآلات خياطة. وهناك أشياء، على رؤوسهم، وفي العربات، وعلى الدراجات، وتراهم تيارا طويلا مزدحما من الناس، نهرا بشريا يائسا. هناك بيت مفقود وبيت لا يمكن ترميمه أواستعادته. أنت دائما على أهبة الرحيل وغير قادر على العودة وغير قادر فعليا على الاستقرار أو الانتماء إلى أي مكان آخر.  

الجغرافيا ليست عاملا حقيقيا هنا، بل هي تتجاوز فكرة وحقيقة الرحلة. وتجربتي باللجوء هي نتيجة الحرب الأهلية بين بيافرا ونيجيريا منذ 1967 حتى 1970. وباعتبار أنني إغبو، ما يسمى العرق المتمرد، وحتى بعد انتهاء الحرب، وحتى بعد خطاب "لا منتصر ولا مهزوم" الذي ألقاه رئيس نيجيريا، الجنرال يعقوبو غاون، لا يزال الإغبو حتى يومنا هذا لاجئين وفي بلد أسلافهم. الحرب دائما هي الشبح وستبقى دائما شبحا يستحوذ عليهم. هناك شيء ما يتعلق باللاجئين، أكثر من أي نوع آخر من الناس النازحين، وهو ما يخيم على وهم الاستقرار الذي تطمح له الدولة الحديثة. ربما لأن هذا الجسد دليل على تطور أقل مما نريد أن نعتقد ضمن شبكة "إنسانيتنا". ربما لا يوجد جسد آخر يسبب كل هذا القلق مثل جسد اللاجئ. اللاجئون يطورون مجموعة من العقد أينما رحلوا في العالم، وأينما حاولوا أن يستقروا. ولا أعتقد أن هذا ببساطة نتيجة الخوف الأصلي من أن يجتاحك قطيع من المهاجرين البرابرة. وربما هو جزئيا نتيجة الذنب - معظم الأمم التي تقبل اللاجئين هي غالبا مضطرة أخلاقيا لذلك، لأنهم أكثر ثراء والاقتصاد مستقر بعد نهب خيرات بقية الأمم عبر التاريخ. أو أحيانا لأنهم مسؤولون مسؤولية مباشرة عما يجري. خلق حالة انهيار الدولة يخلق معه جماعة من اللاجئين. وهذا بشكل طبيعي يولد مشاعر المهانة، وألما عاطفيا. وربما كان أعمق أشكال الخوف موجودا في جسد لاجئ يلتقي فيه ضعف الأمة واستقرارها حتى يحصل توازن بينهما.

بعد أن أدركت أننا حين ننظر إلى وجوه اللاجئين نحن ننظر مباشرة إلى إمكانية خاصة بنا.  ولا يوجد هناك شيء ما عدا بركة وبهاء غريبان، وكيان آلي لا يرحم، واصطدامنا به، هو ما يجعلنا بمأمن من التحول إلى لاجئين. هذا الإدراك سائل، وتلك الهوية سائلة، لذلك يمكن أن تتحقق أو تستقر، وإنكارنا لهذا، هو في قلب الوضع البشري. نحن نخاف، وأحيانا نمقت، اللاجئين، لأن وجودهم هو مصدر رعبنا العميق: فنحن لم ولن ننتمي لأي مكان. وبالضد من كل الاعتراضات، أمريكا ليست فعليا أمة مهاجرين ولكنها أمة لاجئين.

صدمة، نزوح، وأمل متهور هو كل ما يحمله الأمريكيون من علامات أخذوها عن ركاب سفينة ماي فلاوير بعد وصول الجماعات المتلاحقة منهم، أو أن هذه العلامات أدخلت إلى هنا عنوة. وهذا أحيانا هو الرعب غير المعترف به والصامت، والحقيقة التي تجعل الأمريكي أمريكيا. هذا يعني أن هذه الأشباح من ماضينا عدائية، وأن هذه الأطياف المجردة من النفس والأمم السابقة لن ترحل ببساطة وستسكن في حواراتنا اليومية عن الهوية. وهي حوارات معقدة لأننا نشعر جميعا بنوستالجيا غامضة تتغلغل فينا وهمها تعريف كل أجزاء ماضينا التاريخي، ونحن ممزقون عمليا لأنه علينا أن نستوطن أي جزء من تلك المراحل الماضية. وكلمة نوستالجيا بمعناها الأصلي تحيل إلى ألم ناجم عن جرح قديم. وهذه الروح العاطفية التي ترافق غالبا النوستالجيا هي أسلول فقط لتحمل الألم حينما نتذكر الجرح. ولهذا السبب اللاجئ هو الجسد الرومنسي الذي يتحدى أكثر من سواه الحساسية الحديثة، فهو يحمل كل علامات الظل الذي دفناه أو خففنا حدته، وبنفس الوقت كل احتمالات وضعنا الحالي.

ونحن ندرك حينما نواجه اللاجئ أننا نحدق في مرآة ذكرياتنا الشخصية عن النزوح. ونتذكر الألم الناتج عن فقدانها، فهي لا تزال مقيمة في أعماقنا من الداخل، وهي تكلم معاناتنا وبالتالي تضعنا في شبكة من المصاعب القصوى: كيف نوازن عاطفتنا مع احتياجاتنا لتعريف حدود الضيافة - وكلاهما ضروري إن كان علينا مساعدة أصدقائنا النازحين حتى يستعيدوا كرامتهم مجددا.

يتعرف اللاجئ على كل أشكال الحنق والاضطراب والخوف غير الواعي. ومثله أولئك العاملون بالنيابة عن مجتمعاتهم. وتنبع هذه المشاعر من قلق تشعر بها الثقافة الأعرض والأوسع.  وهذا ليس جديدا، كما أنه ليس وقفا على أمريكا، ولكن تتفرد أمريكا بشعور الخزي والسكوت على هذه المشكلة. وإن كان علينا تحقيق أي تطور في هذا الشأن، علينا أن نتعلم كيف نعترف، وأن يكون كلامنا خارج أرض الصواب والخطأ، والأهم أن نتعلم كيف نفاوض مخاوفنا والشعور بانعدام الأمان.

***

مارك ذو الثماني سنوات، يمشي في طابور طويل من اللاجئين وهو يحملني، وهذه الصورة لا تفارقني وتخيم على علاقتنا. وحقيقة أن وزني وأنا ابن ثماني شهور ترافق مع وزن صدمة الحرب التي شردتنا، وأصبح ذلك من وجهة نظره شيئا لا يمكنه التخلي عنه ربما خشية الموت، ومعه ظهر شيء خاص به وله أهميته. أن تكون بعمر ثماني سنوات وعليك حمل أخ أصغر لعدة أميال، وأنت خائف من التعب الذي ينالك فقد يتسبب بسقوطه، وخائف من الرصاص، وخائف من الموت، وهو شيء حقيقي، لكنه غير واضح في عقل ابن الثماني، أو أنه لا يمكن تصوره. والحرب، بغض النظر عن المسافة التي تعلن عنها الأخبار والتلفزيون، نشبت فجأة وغالبا دون سابق إنذار بالنسبة للناس الذين أثرت بهم. و لا يهم كم عدد حالات الطوارئ التي تعلنها الدولة، وعدد منع التجول المفروض، وما تخبرك به الأخبار المحلية. للبشر قدرات لا محدودة لتطبيع العالم كي يعيش ويزدهر. وفي الشهور التي أفضت بنا إلى مرحلة بيافرا، تم ذبح مئات ألوف الإغبو الذين يقيمون في شمال نيجيريا خلال حملات تطهير عرقي، وتم تشويه أجسادهم وأعيدت إلى أراضي الإغبو الشرقية بشكل جثامين مبتورة الأطراف ومحزومة بعربات القطار. أضف لذلك حاول زعماء الإغبو التفاوض على السلام، وحاولوا التمسك بأمل هو البلد المولود حديثا والمسمى نيجيريا. وهكذا قاد والدي عائلتنا من مدينة إغبوغو الخاصة بالإغبو حيث كنا نعيش، وحيث كان هو عضوا سابقا في البرلمان، ولكنه في حينها كان مدير مدرسة، إلى مدينة أسلافنا وهي بلدة أفيكبو، فقد كان يعتقد أن المكان آمن ويمكننا انتظار "المشاكل" ونحن بأمان نسبي منها. ثم في أحد أوقات ما بعد الظهيرة، حينما كانت أمي تجهز الغداء، وصل أحد الأقارب وأخبرنا أنه بقي معنا نصف ساعة لنجتمع ونفر بحياتنا. وكان حزم الأمتعة في يوم عمل يحتاج لأكثر من ذلك. وغالبا أفكر بصعوبة ما جرى على الوالدة، وهي امرأة بيضاء فيرظرف حرب نيجيرية. كان عليها أن تحمل أربع أولاد، وهي حامل بولد آخر، وأن تفر على الأقدام مع طابور طويل من اللاجئين. وأن تواجه احتمال الموت المرعب كل يوم وسط واقع المجاعة والخسارات والخوف. وأن تحاول الهرب من بلد إلى آخر.  وأن تعبر عدة مئات من الأميال، مسافة تستغرق بالسيارة أربع ساعات في زمن السلم، ولكن في واقع الحرب والموت، استغرق الأمر سنتين، لأن الطريق لم يكن مستقيما على الإطلاق. فالرحلة كانت إلى مطار وحيد يعمل، وهو طريق سابق. وخلالها ولدت ابنتها في مستشفى تعرض لقصف الأعداء. ثم تركت كل أبنائها باستثناء أصغرهم وديعة عند لاجئين آخرين كي تسبق القصف وعلى أمل جمع الشمل مجددا.

احتفظت بأصغر صبي، وهو بالكاد بعمر عام، وفي ذلك المستشفى كانت القنابل تسقط عليك وأنت تحاولين الولادة. ولم يكن معك غير ممرضة خائفة وراهبة إيرلندية هادئة تشغل منصب قابلة، وهي من ساعدتك بولادة الابن على فراش قرب حلوياتها وشاي إيرل غراي. وكانت تدحرج كليهما من جناح إلى آخر لتسبق القنابل، وفعلت الممرضة نفس الشيء مع الأم. ثم كنت تقفزين من بلد إلى بلد آخر حتى يسمح لك بلدك بالدخول وبشماتة.

كل هذه الذكريات لا تفارقك. أحد أصدقائي، وهو لاجئ سابق، أخبرني أن الشعور قليلا يشبه التنقل عبر نظام دور للرعاية، أنت تشعر دائما أنك خارج أرضك، ودائما تشعر أنك عبء، ودائما تشعر أنك خارج كل شيء.

وأنا، مثل كل لاجئ، أعرف مئات القصص عن المصاعب والمخاطر واحتمال خسارة الحياة والرحلة الدائمة للشفاء. وهناك أشياء كثيرة تشعل هذه الذكريات الحلوة المرة. وبالنسبة لي رائحة شاي إيرل غراي قوية جدا. يتخللها راحة وصراع. ومعرفة مفادها أنني دائما أنفصل عن لاجئ. ولو أن الطريق متعاطف ذات يوم سوف أصل.

***

.................... 

* كريس أباني Chris Abani روائي وشاعر وكاتب مقالات وسيناريو ومسرحي. مولود في نيجيريا لأب من الإغبو وأم إنكليزية. ترعرع في أفيكبو النيجيرية، وتلقى إجازة في الأدب الإنكليزي من جامعة إمو الحكومية، والماجستير في الأدب والجنوسة والثقافة من كلية بيركبيك في جامعة لندن. ثم الدكتوراة في الأدب والكتابة من جامعة جنوب كاليفورنيا. استقر في الولايات المتحدة منذ عام 2001. من أهم أعماله السردية: "التاريخ السري للاس فيغاس"، و"أغنية من أجل الليل". من أشعاره مجموعة "سانتيفيكوم"و"لا يوجد أسماء للأحمر". أباني صوت دولي في مسائل الإنسانوية، والفن، والأخلاق، والمسؤولية المشتركة في السياسة. وهو أستاذ اللغة الإنكليزية في جامعة نورث وستيرن وعضو مقرر في لجنة الجامعة.

 

 

بقلم: إيفا سيمز

ترجمة: صالح الرزوق

***

منذ عام 2005 أجريت أنا وطلابي بحثا عن المجتمع المحلي. وكان همنا ترميم الفضاءات الطبيعية التي تعرضت للتدهور بسبب الصناعة وذلك في الأحياء الداخلية من بيتسبوراة. وقد قدمنا العون لإنشاء حديقة إيميرالد فيو، ويعود الفضل بها لمبادرة من سكان المنطقة. ثم تبنت مؤسسة تطوير المجتمعات المحلية CDC تطوير ورعاية 275 موقعا من سفوح مرتفعات تغطيها الغابات في جبل واشنطن، وهي محلة مجاورة لوسط بيتسبوراة. وقد سهلت معظم بحوثنا عقد حوار حول دور الحديقة والاهتمام بها وإجراء مسوحات ومقابلات عن تاريخها الشفهي. كما أننا طورنا أساليب للتعامل مع المتشردين سكان الحديقة، وخوف المجتمع المحلي من "النشاطات المشبوهة في الغابات" كما قال أحد السكان. وخلال السنوات الستة السابقة، نظف أكثر من ألف متطوع ما يزيد على 80 طنا من النفايات من 275 موقعا تقع ضمن غابات المنطقة المأهولة. وهناك رأيت سيارات وثلاجات وأسرة ذات نوابض لحق بها الصدأ. أما في السهول والأماكن المفتوحة رأيت إطارات مطاطية ودمى من البلاستيك وأكياس نايلون وعبوات زجاجية فارغة وأحجار سيراميك وإطارات من الفينيل أو الألومنيوم وعلاقات سقوف وأنابيب لدنة وأشكالا أخرى مختلفة من مخلفات المقاولين. جدير بالذكر أن 80 طنا من النفايات يعادل 173.396.81 رطلا.

النفايات ظاهرة تدل بشكلها الفيزيائي المنظور على فائض من الآخر، وعلى أحداث ومعان غير مرئية لها علاقة بها. وغني عن الذكر أنها شيء أبعد مما تراه العين. فهي "نظام مرجعي" (هوسيرل 2001. ص41) يدل على شبكة عريضة من الدلالات ويندرج بها المظهر البسيط للنفايات مع الطبيعة، وحالما نبدأ التفكير بالنفايات على أنها نظام مرجعي، تبرز أمامنا أسئلة استاطيقية واجتماعية ونفسية.

يمكن التعرف على معظم أنواع النفايات، في مكانها على الأرض، وفي الغابات، فورا: فهي تتكون من أشياء صنعها البشر، ولا تتحلل بدورة من عدة سنوات محدودة، وتشكل مخاطر محتملة على الحياة البرية، وهي دميمة بشكل واضح. وبالعادة تتعامل معها الطبيعة على فترة عقود فتصدأ أو تغطيها بأوراق متعفنة وقاذورات حتى تغوص في باطن الأرض، ومعظم من يحب القيام بنزهات في الغابات يستفزه أن يرى ثلاجة صدئة بأبواب مفتوحة تقاطع هدوء وجمال المنظر الطبيعي. ماذا يقلقنا من النفايات؟. ولماذا تعتدي على إحساسنا الجمالي وتحفز أكثر من 1000 متطوع يشعرون بالرغبة للمجيء إلى الغابات وجر هذه الأشياء إلى حدائق المنطقة، حيث يمكن تجميعها وحملها بشاحنات شركة تنظيف المدينة؟ والأهم: ما هو مفهوم سكان المدينة عن الطبيعة والذي يهيب بهم لتنظيف الفضاء الطبيعي؟.

أتذكر أول مرة رأيت فيها كومة هائلة من النفايات في الغابة منذ عدة سنوات مضت. في يوم خريفي رقيق وملون كنا نمتطي جيادنا ونعبر من ساحة السباق في بلدية إنديانا التابعة لبنسلفانيا. وكانت مشاعري منسجمة ومشحوذة وتفكيري ينصب على حصاني. وحالما واجهنا أول منعطف على الطريق، جفل الحصان إلى الخلف وتقريبا أغلق عينيه. ومباشرة رأيت في عرض الطريق أكياسا بيضاء مملوءة بالنفايات، كان رد فعل الحصان فوريا: فالأكياس البيض المليئة دخيلة على نظام الطبيعة واستفزت مشاعره، وتأهبت كل عضلاته للجري السريع. ولم يهدئه غير أساليب التسكين المعتادة: اللمسات اللطيفة على أطراف بدنه القوي، ومحاولات تشجيعه ليلتف من حول أكياس النفايات بدورة لها شكل قوس واسع. وبعد أقل من دقيقة عاود جريه.

النفايات مقلقة فعلا. والأكياس البيض المحشوة بها لم يكن مصدرها هذا المكان. إنها لا تنتمي له. ومن الواضح أنها لم تجد في المشهد الطبيعي موطنها المناسب. جذع شجرة انهار حديثا يسبب القلق أيضا لمخلوقات اعتادت على الحياة الطبيعية. ولكنه سرعان ما يتحلل ويندمج بالغطاء الأخضر ثم الأرض. ويعود من حيث جاء. وهذا ينطبق أيضا على الحيوانات النافقة في الغابة: فهي بدورها أزعجت حصاني، ولكن بعد عدة أسابيع كانت تدخل بالبيئة المحيطة ونمر من جانبها دون أن نلاحظها. ولكن ليس هذا حال أكياس النفايات. فهي لعدة سنوات تخفق وتخشخش بزوائدها البلاستيكية البيض. كما أنها لا تتحلل وتعود من حيث جاءت. وتواصل بقاءها كذكرى دائمة عن دور البشر في مقاطعة المشاهد الطبيعية المستمرة وتلوثها بأشياء هي من صنع الإنسان.

النفايات، من زاوية نظر تكوينية، مادة لا يمكن استيعابها كلها كما هي. وهي لا تتلاشى (أو أنها تتلاشى ببطء شديد) وتدخل في الخلفية وتقاطع توازن المشهد الكلي. والأسوأ، وهو نموذج أوضح، أن كومة نفايات المحيط الهادئ الكبيرة والتي تغطي في بعض التقديرات مساحة من المحيط تعادل "ضعف حجم قارة الولايات المتحدة الأمريكية" (ماركس وهاودين، 2008)، وتتكون من دوامة طافية معظمها يأتي من بلاستيك الأنهار والشواطئ. وهذا البلاستيك يتفكك إلى جزيئات أصغر ويدخل في السلسلة الغذائية. وثلث فراخ القطرس في الجزر المرجانية بين اليابان وهاواي تموت لأن آباءهم يطعمونهم البلاستيك الذي يطفو من نفايات دوامة المحيط الهادئ، وطيور القطرس والسلاحف ليس لديها غريزة تميز بين ذرات البلاستيك ومصادر الإطعام الأخرى - ولهذه المشكلة عواقب كارثية على هذه الأنواع.

الدرس الذي تعلمته من حصاني ومن فراخ القطرس عن النفايات أن البقايا الصناعية تحرف حقل جهاز الإدراك وجهاز الهضم في الكائنات الحية لأنها لا يمكن أن تندمج عضويا بالحياة ودورة التحلل في العالم الطبيعي. وهي إما تبقى مكانها في المشهد الطبيعي كاحتقان مؤلم في وعينا (مثل الثلاجة الصدئة) أو أنها تتحلل بطرق تحويلية تعمل على تسميم السلسة الغذائية (مثل المبردات التي تتسرب من الثلاجة الصدئة وتلوث الماء الأرضي).

***

...................

إيفا سيمز Eva -Maria Simms: أستاذة في قسم العلوم النفسية، جامعة ديوكسن، بيتسبوراة، الولايات المتحدة.

عن كتاب: علم النفس البيئي، الفينومينولوجيا، والبيئة. إعداد د. فاكوش، ف. كاستريلون. ص 237-250

الصفحة 5 من 7

في نصوص اليوم