أقلام ثقافية

افتقار الدولة إلى مشروع ثقافي تنويري

عبد القهار الحجازيفي زمن الريع الثقافي وصل إفساد الثقافة مداه، كنا نتحدث في العقود السابقة عن حصار الثقافة الجادة وتسييح التراث، واليوم صارت السمة الأساسية في هذا المجال ببلادنا تزييف العمل الثقافي، وإفراغ كل ممارسة ثقافية من محتواها العميق ومصداقيتها، فارتبط الإشعاع الإبداعي بالبهرجة وسيطرة السلطة وتوجيهها للتظاهرات توجيها ضيق الأفق يخضع للزبونية والمحسوبية وإقصاء الأصوات الجادة واستقطاب المثقفين نحو الريع الثقافي وخلق شريحة من المنتفعين واستغلال التعارضات لصالح هواجس أمنية بحتة واعتبارات نفعية ضيقة ومؤقتة، ذلك لأن الدولة لم تسع يوما إلى هيمنة ثقافية حقيقية تعكس مشروعا ثقافيا حقيقيا، يرمي إلى التفاف طبقة المثقفين الحداثيين حول شعارها الرنان " من أجل مجتمع ديمقراطي حداثي"، بقدر ما عملت على الحد من جموح الثقافي نحو التغيير كي لا يمس البنيات التقليدية الاجتماعية والعقلية وهي أساس استدامة التخلف، مثلما دمرت التعليم وأفرغته من أية جودة من شأنها أن تحقق نهضة فكرية تربوية وثقافية باعتبارها الرافعة الأساس للنهضة العلمية الاقتصادية والاجتماعية والحضارية.

في هذا السياق يأتي إفراغ هذا الشعار من محتواه "وجدة عاصمة الثقافة العربية" لسنة 2018 للجنة الدائمة للثقافة العربية التي تخصص هذا الشعار سنويا لمدينة عربية، بهدف إبراز الخصوصية الثقافية للمدينة من خلال تراثها المادي واللامادي، ومعالمها الحضارية العريقة والمستحدثة وإظهار مختلف أوجه الحياة الثقافية في شتى صنوفها وتجلياتها اليومية والإبداعية، فقد عمدت السلطة والوزارة الوصية على القطاع إلى خلق إطار للإشراف على "تصريف" ما تراه تفعيلا للشعار وفقا للتصور الضيق المشار إليه، في غياب أوسع الفاعلين الثقافيين بالمدينة، وهو نفس النهج الذي نفذ بمناسبة ما سمي بالمعرض المغاربي للكتاب السنة الماضية والذي أثار موجة من السخط والتذمر والاستنكار في صفوف مثقفي الجهة الذين تم استبعادهم وتغييبهم، وها هي نفس العقلية تتحكم في توجيه فعاليات أدرجت ضمن أنشطة هذا الشعار.

وإذا كان البرنامج المعلن رسميا من أجل الاستهلاك الإعلامي يحمل رقما ضخما يصل إلى 910 نشاط إلى غاية شهر مارس من سنة 2019 فإن غياب الشفافية وتكافؤ الفرص في الشراكات وصياغة هذا البرنامج واستبعاد العديد من الجمعيات الجادة والمثقفين والمبدعين، وسيادة الارتجال في التحضير وضحالة مشاركة الشباب والتلاميذ، وغموض عملية التنسيق مع قطاعات التربية، خاصة وقد أعلنت المديرية الإقليمية للتربية الوطنية عزمها على تنظيم مجموعة من الأنشطة الفنية الثقافية والتربوية في هذا الإطار ثم سكتت عنها إلى حد كتابة هذه السطور كل هذا وذاك يوضح مضي المسؤولين في نفس النهج البعيد عن خدمة الثقافة.

حتى الافتتاح الذي كان من المفروض أن يعبر عن عراقة المدينة ومعالمها الثقافية البارزة وتنوع إبداعات فنانيها ومثقفيها غيب للأسف كل ذلك واحتفى بالبهرجة وبثقافات أجنبية لا محل لها من الإعراب في هذه المناسبة وهذا الشعار، واحتفى الافتتاح بفرح المسؤولين بكلماتهم الرنانة وقد جدوها فرصة لترتيب الأوراق وإعداد العدة لحربهم القادمة على المواقع بهذه المناسبة "الوازنة" مناسبة إعلان وجدة عاصمة للثقافة العربية لسنة 2018 .

إن هذا التشريف الذي حظيت به مدينة وجدة من لدن اللجنة الدائمة للثقافة العربية قد اصطدم للأسف بالخوف الراسخ للدولة من الثقافة ما يدفعها إلى إفراغ كل فعل ثقافي من محتواه التنويري، وتكريس كل مظاهر الارتجال والعشوائية والانفراد والإقصاء والبهرجة والتسييح واختزال ثقافة المدينة في تجليات سطحية... تعبر عن عداء دفين للثقافة وللمثقفين، وعن عجز الدولة عن تحقيق هيمنتها الثقافية لافتقارها إلى مشروع ثقافي تنويري ينسجم وشعارها "من أجل مجتمع ديمقراطي حداثي".

 

عبد القهار الحجاري

 

 

في المثقف اليوم