أقلام ثقافية

محمد الورداشي: بحثت فوجدت نفسك

خضت رحلة البحث عن ذوات حرة متفردة، وانصهرت في صخب الحياة الاجتماعية، وشاركت المثقفين والمفكرين همومهم وطموحهم، وسعيت إلى التغيير الفكري والثقافي، وأعليت من شأن الكلمة الشفافة العميقة، وعزفت عن الأدلوجات المتآكلة والشعارات الرنانة الخاوية، وعشت بين ظهراني الدهماء زمنا طويلا، فغرت في نفوسهم المضطربة، ووضعت اليد على دائهم المزمن، ثم فكرت كثيرا وقررت أخيرا بأن تعتزل مضمارهم، وتجتنب ما خاض فيه دهاقنتهم، وتكتشف لنفسك سبيلا قاصدة، سبيلا لا اعوجاج فيها.. ثم ارتميت في أحضان الوحدة والعزلة باحثا عن إنسانك المثالي، بيد أنك لم تحمل مصباحك في واضحة النهار كما نقل عن ديوجين الكلبي، ولم تحمل مطرقة الهدم سعيا وراء بناء الإنسان الأعلى الأقوى كما فعل نيتشه، ولكنك حملت ذاتك المثقلة بالهموم، ارتأيت مشاركة الناس في حياتهم، ومحاولة فهم طبائعهم وطرائق تفكيرهم، ثم ماذا كان المآل؟ هل وجدت الإنسان الذي يشبهك ويحمل الهموم التي تثقلك؟ ها أنت عايشت المثقفين والمفكرين، وشاركتهم همومهم وطموحهم، ولكنك لم تستطع أن تنتسب لزمرتهم؛ لأن ما سعوا إليه لم يجد له سندا في الواقع، وطوباويتهم لم تصمد أمام واقع زئبقي لا يقر له قرار، وكلما ظنوا أنهم فهموه واستوعبوه في شموليتهم ظهرت لهم ظواهر وقضايا اجتماعية جديدة، فخلصت إلى ضرورة الاستفادة من أفكارهم، واستلهام روح فكرهم وطموحهم، وانطلقت وحيدا تبحث عن طريق مخالف لطرقهم، وسبيل خلاص لنفسك ولمن يحمل همومك. ثم هؤلاء الدهماء الذين خالطتهم في حيواتهم، وجالستهم في أماكن عمومية سنوات عديدة، هل هتكت حجب نفوسهم؟ هل غصت في لجج نمط تفكيرهم وسلوكهم؟

بحثت طويلا عن مثالك فلم أجد إلا نفسك؛ لأن الطريق التي سلكتها لم تكن طلبا للعثور على من يشاركك نمط تفكيرك وسلوكك وهمومك، وإنما كانت طريقا نحو ذاتك التي لم تستطع فهمها، والغوص في أعماقها المضربة: فذاتك هذه تضعف كلما ادعت القوة، وتحزن كلما زعمت الفرح، وتحجم إذ تقدم، وتسكن حينما تدعي الحركة والفعل.. ذاتك التي لم تسطع هتك حجبها، ووضع اليد على جرحها الغائر، هذا الجرح العميق الذي صاحبك منذ صغرك، وظل وشما في ذاكرتك ووجدانك، وقيدا محصنا يكبلك ويثقل خطوك. ألا ترى أن سبيل الخلاص لا يكمن في البحث عن مخلص؟ ألم تتمعن قول الفيلسوف بوئتيوس في عزاء الفلسفة حيث استغرب بحثنا عن السعادة خارج أنفسنا؟ أليس البحث عن الخلاص والسعادة والقوة والتفرد خارج ذواتنا جهلا قاتما منا لذواتنا؟ ثم لماذا تدعي الفكر وأنت لا تعرف نفسك؟ ولم تسعى إلى التحرر وأنت تجهل إمكاناته في نفسك، ومواطن القوة فيها؟

يا صاحبي المثقل بهمومه، الغارق في أحلامه وطوباويته، لعمري إني مكلوم لحالك، ومتأسف لخيبة أملك في رحلتك التي لم تكن من أجل نفسك؛ لأنك لم تدر أن لا سبيل لمعرفة الغير إلا بمعرفة ذاتك، ولا إمكان لتحررهم وتغيير منطق فكرهم ونمط سلوكهم إلا بالانطلاق من ذاتك أولا.. ولعل رحلتك القادمة تكون نقطة بدايتها ذاتك المثقلة، ومآلها الإقبال على معانقة الذوات الأخرى علك تستطيع أن تحدث فيها تغييرا فعالا، وتضيء ما عتم في عقلها ووجدانها، فتكون قبسا مضيئا، وسراجا منير تهتدي به الذوات في طريق البحث عن جوهرها، ومواطن قوتها وإخفاقها.

***

محمد الورداشي

في المثقف اليوم