تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

أقلام ثقافية

وهل يجذب المرء أقداره

الحديث هنا ليس دينيًّا مطلقًا، رغم أنه مجال لا يُتوّقف الخوض فيه، فالقدر ما يزال لغزًا، لا سيما حين يصطحبه القضاء، وقد تعوّدنا فيما تعوّدنا، التّسليم له تيقّنًا، وإيمانًا. إن الموضوع هنا شيء من تصنيع القدر، أو من ممارسة الغد، وتكوين صورته بإرادتنا، ووعينا، كما يؤكّد العديد من الفلاسفة، وعلماء النفس، بعد أن نكون مَنهجْنا أنفسنا على ذلك.

 أخبرتني صديقة أنها منذ حداثة سنها كانت تحب أن ترسم بيتًا، بيتًا فقط، كانت ترسمه على التراب مرات، وهي تلعب مع أترابها في الحارة، تنفصل عنهم بعيدًا، وتتوه في عالم مغاير يخصّها، ثم عندما دخلت المدرسة، وتعلّمت مبادئ الرسم لم تكن تستطيع أن تتخلى عن ذاك البيت الذي غدا بعدها على الورق، حتى أن كل ما تعلّمته من معلمة الرسم اقتصر على ذاك التّشكيل البسيط فقط. تخبرني أنها لاتزال ترسمه وهي في منحدر العمر كلما خربشت على إحدى الأوراق. تعدّدت أمكنة الرسم، ولكن ظلّ البيت هو البصمة الأولى والأخيرة، والمفتقدة في حياتها. غير أنها كما أخبرت كانت ترسمه في كثير من الأحيان مرتفقًا بشمس كبيرة أشعتها مشعّة بشدّة، وبطيور تتصاعد علوًّا مدلوقة في الزرقة. هذه المرأة لم يُقدّر أن تقتني بيتًا يخصّها، ويشعرها بالأمان، والسلام، وعندما استطاعت أخيرًا أن تجسّمه حقيقيًّا، فقدته كما فقد كثيرون بيتوهم في ظروف الحرب، والتّشرد، لكن فيما قصّته عليّ إنّ الشمس، والطيور هما اللذان بقيا لها.

  تلك المرأة تُحيلني إلى مجموعة من الكتب  سبقت لي قراءتها، تغوص في عوالم النفس، وتساعد المرء في القفز على حواجز الألم، والاستلاب، والعجز. ومما تسرده تلك الكتب أنك شخصيّا تستطيع أن تستجلب قدرك إليك، فما تفكّر فيه سيأتيك شرّا، أو خيرًا، تلك الكتب تعلّمك كيف تخرج من التّشاؤم، وتزيل السلبيّة منك، وتعلّمك كيف تستقدم الفرح، والابتهاج إلى حياتك، الثروةَ إن كنت تبغيها، السفرَ لو اشتهيت، حبيبًا بمواصفات معينة، كيف تخرج من تجربة سيئة، من نحسٍ تعتقد أنه لن يبارحك، وبمجرد أن تقرّر أنك ستريد، ما عليك سوى أن تبدأ، وعندها ستُفاجأ بما ستحظى به. من تلك الكتب كتاب "سحر العقل" للدكتورة "مارتا هيات"/ أساليب تساعدك على تغيير حياتك، وكتاب "السر"/ ذا سيكريت"، والذي عُرّف بأنه شذرات من سرّ عظيم تمّ العثور عليها  في الأقوال المأثورة، وفي الآداب وفي الأديان، والفلسفات على مدى القرون ، وضمّت إلى بعضها في هذا الكتاب الذي وُصف بأنه سيغير حياة كل من يقرؤه. ومما جاء فيه من الأقوال الرائعة: "ليكن المظهر كالجوهر، وليكن الظاهر كالباطن/ اللوح الزمردي حوالي 3000 ق.م" ومما جاء فيه أيضًا قول "بوب بركتور" وهو فيلسوف ومدرّب شخصيّ:

"يمنحك السّر أيّ شيء تريده: السعادة، والصحة، والثروة"، وقول "جون أساراف"، وهو رجل أعمال وخبير استثمار: "يمكننا أن نحظى بما نختار مهما كان، ولا يهمني مدى ضخامته"، وقوله أيضا: " إنّ أبسط طريقة بالنسبة إليّ لاستيعاب قانون الجذب هي أن أعتبر نفسي مغناطيسا، وأنا أعلم أن المغناطيس يجذب إليه مغناطيسا، وأنت أقوى مغناطيس في الكون، فبداخلك قوة مغناطيسية أشدّ بأسًا وفاعلية من أي شيء في هذا العالم، وهذه القوة المغناطيسية التي لا يُسبر غورها تنبعث من أفكارك"، ومما جاء على لسانه أيضًا: "إليك المشكلة، أغلب الناس يفكّرون فيما لا يريدونه، ويتساءلون لماذا يعترض طريقهم المرة تلو الأخرى". وعندما تحاول كقارئ مهتمّ أن تكشف ذاك السّر يأتيك الجواب من "بوب بروكتر": "إنه قانون الجذب"، فالجميع يعملون وفقًا لطاقة واحدة، وقانون واحد ، بطاقة لا نهائية واحدة، نحن جميعًا نقود أنفسنا وفقًا للقوانين نفسها.

 انطلاقًا من هذا سأعود إلى تلك المرأة، وإلى بيتها  الذي كانت تشيده فوق الرمال، وفي خيالها، وفي كل مكان عاشت فيه، إن تلك المرأة، والتي خبرتها عن قرب تهوى العزلة، وقد سيطرت عليها فكرة العيش وحيدة  منذ الصغر، ولم تتمكن طوال حياتها من أن تستبدل ذاك التفكير بالمضادّ له، وقد تعوّدت على ذلك، وتعيش حالة انسجام، وتوافق كبيرين مع ذاتها. فهل يمكن القول إنها قد جذبت بأفكارها، كما يشرح كتاب "السرّ"، ذلك المحور، والمنهج الحياتيّ منذ الصغر حين أحاطت نفسها بالجدران، والأسوار العالية التي كانت تسوّر بها بيوتها؟!

  لم تكن البيوت التي ترسمها صغيرة، بل على العكس من ذلك، فقد كانت ملأتها بغرف متعددة، ولكنها كانت حين تصل إلى ردهة الاستقبال ترسمها ضيقة جدًّا لا تتّسع إلا لها، كانت تقطّع البيوت، ولا تنسى حجرة القراءة، والمطبخ، والشرفات الوارفة، وتزيّنها بالزّخارف، والتّحف المميزة، لم يكن ينقص تلك البيوت أيّ شيء للاستقرار والسكينة، وحين قدّر لها أن تبني بيتها بنته موافقًا لما ورد في تخيّلها تمامًا، وأنيقًا في كل محتوى، وما تزال أنّى تنقّلت تعيش الظرف نفسه، ترسم، وتؤثّث لبيوت جديدة. تلك المرأة اكتشفت في لحظة واحدة أنها لا تملك شيئًا مما تظنه لها، تخيط وتبني في خيالها كتعويض ربما، أما يداها فتبدوان خاليتين من أي أثر تلوين، وحبور. إنها تعود إلى نقطة البداية في كل حين، ولكن عبر الأفلاك نفسها.

  تتأمّل حفيدتها ذات الخمس سنوات مستغرقة صامتة، وهي تبني فوق سريرها ممالك، وعوالم لِدُماها، لتغفو بعد وقت طويل من اللعب الفرداني وسط تلك الممالك، والدّمى، وقد بعثرتها حولها، وتستعيد في المشهد ما سلف من أيام خوالٍ، يحضر في ذاكرتها قانون الجذب ذاك، وتتساءل هل حقيقيّ أننا نصنّع أقدارنا، ومستقبلنا بأيدينا، وهل تلك الحفيدة الجميلة فيما تفعل ترشرش براحتيها النديتين بذورًا لغدٍ يشقّ طريقه؟!

 

أمان السيد

كاتبة سورية/ أستراليا

 

في المثقف اليوم