أقلام ثقافية

عباس الأموي.. ذكرى صديق أخذته موجة الطائفية

محمد الاحمدلم استطع أن أرثيك يومها، لأنه كان موسما قد تساقطت فيه الحمم، القاسية المتلاحقة من كل حدب وصوب، فخسرت فيه معظم الأشجار الباسقة من بستان عمري، وخلفت في عمقي راسبا تكلس جبلا في دمي وما عاد الدم في دما؛ كذلك الوقت فلا عدت من هزيمتي منتصرا. رأيت العراق كله فيك فالوطن ثلة أصدقاء، وقد تلقفته أمواج أبناء الفعلة الغرباء اغتيالا، صيدا ثمينا، تهجيرا، تفتيتاً، تمثيلاً، ليعود الهيكل البشري العراقي بلا جثة، مثخن الجراح. فعاد وطننا بلا وطن، وأصدقائنا الغرّ الميامين بلا موطئ قدم، يحملون الجرح هوية، ويندبون أيامهم مرير البكاء.

فكان علي أن اكتم حزني عليك طوال ذلك العام، لأننا سويا قد انهينا كتباً متميزة بما كنا نخترقه بالبصيرة، ما كانت لتقرأ، إلا بالتحدي والصبر الجميل، وشاهدنا أفلاما طويلة جدا، ما كانت لتشاهد إلا بالإصرار وانتظارا للموسم الجميل. غير آبهين بالممنوع أو المسموح، فالسنين التي مشيناها معا انفرطت كما سنبلة، أو انكسرت كقدح من خزف، وصارت أيامي القادمة، دونك، ينقصها الكثير من الحماس، وقليل من الصبر، وما عاد الموت إلا قريبا يطلّ علي من الطرقات، ويظلل بامتداد سوداوي كل حبات المطر، حيث يطاردني بين السطور، التي ارتجها في كل جهشة عليك، وما عادت الأنفاس القديمة كما عهدتها عندي، ف(فيدرك فليني) صاحب أطول اللقطات الفنية إبداعا ما عاد يمسك لحظته الهاربة كما كان يحصل إذ مات هو الأخر ويحلم بتصميم كاميرا لها زاوية 380درجة. كذلك المخرج العبقري (كابولا ) من أكثرهم تجربة في إقناع المشاهد بان فليمه معقول على الرغم من عدم معقولية الواقع، ولأنني أتأمل منك أن تقرأني كنت أؤكد ما قاله رينيه ديكارت (1650-1596) بشكل لا يمكننا تغيره (أنا أفكر إذن أنا موجود)، فالفكرة نتاج عقل ووليدة وجود، فلا يمكن أن توجد فكرة خالدة ما لم تولد من فكرة مدونة استند عليها العقل وتطورت، حيث أفكار الإنسان وحدها التي صارت المدونة هي التي تتواصل بالعطاء وتنير للإنسانية الكيفية للاستدلال إلى الفكرة الحية، والفكرة وليدة الفكرة، فهذا التراث الإنساني وهذه الكتب التي تحوطنا من كل اتجاه ما هي إلا نتاج عقول وليس عقل واحد، والفكرة الراسخة تدحض الفكرة الهشة، وتحل محلها، تفرض ثقلها على متلقيها وتدخل في مناهج الدراسة لتكون ملكة بشرية تولد منها الأفكار الأخرى أو هي تقوم الأفكار الجديدة، والفكرة الميتة تنسى، و تهمل لأنها مبتعدة عن فعاليتها في الثبات، وهي لا تجد من يؤمن بها، وقد ارتبط التفكير المنطقي بالوجود الإنساني وما يخلفه العقل البشري هو ثباته الراسخ، وأثره العميق، ولم نكن يومها نعرف بان الإنسان يصرع الإنسان من اجل فرض المنهج، كما مرّ من سابق الأزمان فكان علي أن أعود إلى موطننا (بعقوبة) لأشاهد بقية ما بقي من المدينة التي احتضنت نهرها (ديالى) العظيم، وبقيت بحيرة أشباح يعلوها الآسن، فأين خطوتك معي يا بن أكثر من أب وأم، واقرب من صديق.. جعلونا مفترقين عند مشارف الأربعين، وجها لوجه، وقلبا لقلب، ولكن في ذاكرة واحدة؛ أمر بجدول (خريسان)، وسطور كتابتي عنك تدوي في ذهني، تضرب كقرع طبول مجنونة، أما يكفي من خراب كنت اشعر به، ومعك أراه، أما يكفي من حزن بغيض جعلنا نخاف من هويتنا على هويتنا، (يحتل مساحات الأبيض.. جمر شرس، وعواصف سود، ورماد.. لكن الشجر الهارب من اسر اللون يعود إلى الأرض، ويزهر في طرقات الليل- فوضى في غير أوانها) فالعراقي الكائن الوحيد في هذا العالم صار يخاف من بطاقة هويته، ويخاف من كينونته، آو انتمائه، فما عاد الفخر عراقيا ولكن عاد الفخر كيف ينجو من الموت بأعجوبة، رأيت عمرانها المحدودة قد تهدمت، وشوارعها قد تحفرت، حيث يمشي فيها الذعر والفزع، كأساطير المقابر، ويصفر صفير الموت مدويا إذ داستها سنابك خيول الأوباش، كما رأيت عربات نقل تعتمد الحمار بدلا من الماكينة، والحمار بصوت كريه يسود الأمكنة، ويوزع روثه في الأمكنة على الرغم من سياط سائسه. كنت اغني لك ما كنت تحب، وأسألك عن أول فليم (ملون) وأول كليب غنائي، بينما انا امسك هاتفي النقال لا أريد أن امسح رقم هاتفك النقال، لأني واثق كل الثقة باني لو طلبتك فانك تحدثني بما أتمنى أن تحدثني به، (رهائن تشرى وتباع في سوق الخرافات.. سبايا في حريم الشرق.. موتى غيرُ أموات.. يعشن، يمتنّ في جوف الزجاجات صديقاتي.. طيور في مغائرها تموتُ بغير أصوات- قباني) اليوم أمر في مدينتنا (بعقوبة) الجريحة بعراقيتها، وأنا احمل كتابا إليك، أعود به بطيته حيث تجدني أقول لك؛ لا احد غيرك يريده مني، وما عاد (الفليم) الذي كنا نراه سويا يشدني لأني أتذكرك تسرد لي سيرة هذا المخرج واهم أفلامه، وتعرفني بالممثل الأفضل منه، وما عاد الهم هما في اللغة، لأني ما كنت اسمع المفردة، كما أنت تسمعها فأنت تعرف الله وتعرف لهجات أهل خليقته، وما كنت إلا سماعا جيدا لتنهدة الهدهد، وكنت بضحكتك تلفتني إلى ما رمى إليه (غابريال ماركيز) عندما ربط رائحة المني برائحة اللوز، وخيبة الغراميات الفاشلة، فالزمان اليوم غير زماننا، والنهار اليوم غير نهارنا، لان أطفال البارحة يحكمون قبضتهم على المسدسات الفارهة ويصطادون بها الهوية العراقية كيفما تكون، (ليست الهوية الوعي وحده، وإنما كذلك اللاوعي. وليست المعلن وحده، وإنما هي أيضاً المكبوت المسكوتُ عنه وليست المتحقق وحده، وإنما هي كذلك المشروع الآخذ في التحقق، وليس المتواصل وحده، بل المتقطع أيضاً، وليس الواضح وحده، بل الغامض أيضاً- أدونيس).. صار اليوم يطول بالخوف، وبالفقدان، وما عبس إلا لأجل أن يتولى وتضحك لان اليوم الجميل لا يطول، فتلك الرصاصات الثلاثة التي خرقت صدرك ومعدتك، فإنها ما كانت لتقصد فيك انك تجيد اللغة الانكليزية، وأنك تعلمت جيدا الإخراج (من أكاديمية الفنون الجميلة)، وقرأت جيدا من مكتبتي مئات الكتب، واستوعبت درس التذوق والتطور، إلا كونك بعضا من العراق، فكان علي أن ابكي كل بكائي، فارشاً نهري على هذه الأمكنة التي وقفنا إليها، صديقان حميمان، يتجادلان في الأفلام، والأحلام، والأوهام.. فالفرق يا (عباس الأموي) باني كتمت البكاء، وانشغلت بالفقدان، فكيف سأحتوي مساحته؟، وكيف امضي وحيدا بين أكوام تلك الكتب التي قراناها، أو قرأتنا.. فقد مضى عام على أن يكون العمر أكثر ضيقا، وعلى الجملة أكثر انحسارا، فأمسيت على قصتي التي تحدث معك، أكثر قلقا، يومها لم اصدق، حيث مشيت كفارس لا يعرف أين يمضي به الفرس الجريح، والطعنات غير المكتشفة من تحت الدرع الحصين، وكنت كمن يرى فليماً مقبس عن كابوس، سوف تتغير نهايته في النهاية. فهذه المدينة التي أخذتك مني، او أخذتك من ابنتيك الحلوتين، وسافرت بك إلى ما لا تريد. بعمق ما يعكسه من إيمان بفكرة انك توفيت، وما كانت (فرجينا وولف) ترجوني أن اكتب لها عن امرأة هي تراها رجلا، وكنت أنا أراك تبوح بسرّ تكتمه الأيام، فما من وقت يكشف الرداءة إلا كتابة راقية تفضح تناقض التناقض، وما كنا يوما لنقرا صمتنا فإننا نقرا سويا جرحنا، ونقرا نواقيس الذكريات لغيرنا. وأعجبتنا رواية السفينة (تيتانيك) التي أبحرت في الأستوديو عميقا، من ان تلامس مياه المحيط، كما أعجبتنا وجوه ملائكية لأغلب الفنانات، وصار عندنا مقياس الجمال الواقعي، فالفيلم يتكامل لبنة فوق الأخرى، وكل اختيار فيه محسوب مدروس من بعد أن اخذ من رأس المؤسسة التي تدعمه كامل الدعم، وكم كان حملك على حلم بقي ثقيلا بأن تخرج فليما كل رأس ماله كاميرا (ديجتال)، لكن ذلك كان يتطلب القبض على فكرة قصة قوية، تسحب المشاهد إلى البعد عن مواطن ضعف الأداة، وكم كنت تحب حبي للموسيقى كونك تساندني الرأي بان أية مقطوعة موسيقية، سوف يتغير اسمها الحقيقي إلى اسم الفيلم الذي يستخدمها، وكان مقطوعة (رميو وجوليت) التي نعشق قد تحولت إلى اسم فليم (العراب)، كنت تقول بان الأفلام (الاكشن)، تبقى خالدة لانها تاريخ استيديوهات، وكنت أقول بان الأفلام الروائية طرقاً جديدة للقراءة، لذلك نجحت سيناريوهات (نجيب محفوظ) نجاحا منقطع النظير، فالرجل (كالدويل) قال سمها تجربة، مبتعدا عن صورة الموت الذي كان يراه الفنان في شبابه، فالموت الذي تحدث عنه (ستيفن ديدالوس) بصوت (جويس) كانت حكاية أخرى لم تكشفها الكتب العربية، لأنها اعتمدت ترجمة رديئة سريعة خسرت المعنى وربحت التجارة، كنا نحس بأننا سقطنا بين أيدي المترجمين، وكان علينا أن نفك أسرنا بالتعلم، فالمثقف هو من يفرض الفكرة ويدافع عنها بموضوعية حاجة الإنسانية إليها جمعاء، ويثبت وجودها بين كم الأفكار الإنسانية الهائلة، المدونة عبر تاريخ البشرية جمعاء إذ تراكمت الأفكار واحتدمت النزاعات حول المصالح، لأنها وليدة رؤية عميقة مستنتجة تعبر عن وجود إنسان ابتكر وطور من جيل إلى جيل أفكاره وأحلامه، وقد تواصل العطاء بالعطاء عندما تطورت الفكرة بالفكرة وتواصلت، وصقلتها التجارب الإنسانية، (سبق للكنيسة الكاثوليكية أن ارتكبت خطأ جسيماً بحق غاليلو عندما وضعت قانونا علميا أعلنت فيه إن الشمس تدور حول الأرض- ستيفن هوكنغ )، ومضت الأيام بالأيام تسألني ماذا ستكتب عن صديقك الحميم (عباس الأموي 1965-2005م)، وكل يوم بألف تذكر، وأنا أسألك: كنت تحب القصة يا بن خالتي، ودائما تحدثني عن قصص لا تنجز، وتدفعني لأكتب قصصا تنجز، فكان الفرق بين قصصي وقصصك بان لا أجد وقتا لقراءتها وأنت لا تجد وقتا لكتابتها، الموت بين السطور، وبين الأيام، وما من يوم تنشر رائحة الموت فيه إلا لتلك الجثث التي تناثرت في أكثر الشوارع نتانة. فـ(لكل شكل من أشكال المادة جسيم يشابهه مضادا له، وعند تصادم جسيم مع ضده يفني بعضهما بعضا، ويخلفا طاقة). كان ذلك اليوم الذي مات فيه صديق طفولتي، غائما الى حدّ اللعنة، نقله شقيقه (احمد) إلى مشفى المدينة العام، كأنه يختار بعناية فائقة المقطع الأخير من سيرة حياته غير الحافلة بالسعادة، وهو غارق في نزيف لم ينقطع بعد، إذ بقي يوصي العم ببنتيه الحلوتين.

 

محمد الأحمد

 

 

في المثقف اليوم