أقلام ثقافية

المثقفون العرب والجهل المزدوج

إذا كنت تجهل ثقافة مجتمعك فكيف تثقفه؟!

من خبرتي المتواضعة في القراءة والكتابة قبل الإنترنت وبعده وعبر المجتمعات العربية من الجنوب إلى الشمال ومن المغرب إلى المشرق لاحظت أن المثقفين العرب في مدن بلدانهم يجهلون الثقافات المحلية وفنونها الشعبية في مجتمعاتهم الأصلية فضلا عن جهلهم المستديم بثقافات المجتمعات العربية الشقيقة وربما يعود سبب الجهل الأخير إلى الحدود السياسية التي تعزل بين البلدان الشقيقة لكن ماذا عن الجهل الأول! ففي اليمن على سبيل المثال: قلما تجد مثقفا في تعز أو صنعاء يفهم اللهجة الحضرمية الحية لغة الحياة اليوم حتى وهو يعيش في المكلا. فحينما يأتي زائرًا غريب الشكل والسحنة على جماعة من الحضارم وهم في مقهى المدينة يتبادلوا الحديث في الشأن العام يكفي أن يهمس أحدهم بعبارة (سالمين كل تمر) ويصمت الجميع وكأن على رؤوسهم الطير. وقد يعيش المثقف القادم من قرية من القرى اليمنية في مدينة عدن نصف عمره ويخرج منها كما دخلها خالي الوفاض من ثقافتها ولا يفهم معاني كلمات أهلها وحساسيتها وهكذا شاهدت الحال في بغداد والجزائر والقاهرة والخرطوم ودمشق والدار البيضاء وفي مختلف العواصم العربية التي زرتها. ثمة جهل مزدوج يسبح فيه المثقف العربي؛ جهل بثقافة مجتمعه المحلي وجهل بثقافة المجتمعات العربية الشقيقة، بل والأدهى أن تجهد من ادعياء الثقافة الذين ينتمون إلى بيئات أجتماعية ريفية قبلية وقروية يحاولون بحرص شديد اخفاء ثقافة مجتمعاتهم المحلية الأصلية والظهور بصورة مدنية كاريكاتيرية حفاظا منهم على البرستيج?وقد شهدت بنفسي بعض الحالات المحرجة للأكاديميين يعدون ذاتهم من كبار المثقفين حينما كان عليهم البحث في قضايا بالغة الخطورة والحيوية موجودة في ثقافات مجتمعاتهم المحلي. ففي أحد الأيام كان زميلا لنا مدعوا للحديث عن البنية الاجتماعية للحركة الحوثية في شمال اليمن فإذا به يقسمها إلى قسمين القبائل القحطانية والقبائل الهاشمية؛ الإشراف! فرد عليه مدير الحلقة باستغراب قائلا له : أول مرة في حياتي اسمع عن القبائل الهاشمية هذه تسمية متناقضة في جوهرها السادة الأشرف ليسوا قبائلا بالمعنى المنهجي الاجتماعي للبحث السوسيوجي. وقد وجدت أن الباحثين الأجانب في انثروبولوجيا المجتمعات العربية لديهم معرفة دقيقة جدا عن البنية الاجتماعية والثقافية لمجتمعاتنا المحلية التي نجهلها جهلًا يكاد يكون مطبقا للأسف الشديد. وهناك دراسات عديدة أنجزها الباحثون الغربيون عن مشكلة التقابل بين  الشفاهية والكتابية في الثقافات المحلية العربية الإسلامية في بلدان عربية عديدة منها اليمن، أهمها : دراسة الانتربولوجي الأمريكي (ستيفن كيتون) لقصيدة " الدعوى والجواب " في قبيلة خولان بين عامي 1979/ 1980م، ودراسته عن (صيغ السلام والتحية في المرتفعات الشمالية والتي نشرت بالعربية ضمن كتاب (اليمن كما يراه الآخر) بعنوان (سلام تحية: دلالات صيغ التحية في مرتفعات اليمن)، وهي أول دراسة اثنوغرافية لموضوع التقابل بين الشفاهية والكتابية في الثقافة اليمنية.أما الدراسة الأخرى فهي التي أنجزها الانثربولوجي الأمريكي (برنكلي ميسك) Messick Brinkley  بعنوان: (الكتابة العدلية : التناقض والاقتصاد السياسي في الوثائق الشرعية اليمنية) (ميسك، 1997: 225).هاتان الدراستان،على الرغم من اختلاف موضوعهما وأهدافهما، تسيران في الاتجاه الجديد للدراسات الانثروبولوجية التأويلية، والتي تعتمد المنهج المعروف (بأثنوجرافيا التواصل)، وهذا هو الاتجاه الذي سار عليه  فلاج ميلر  الذي درس التقابل بين الشفاهية والكتابية في قصيدة البدع والجواب اليافعية. ودراسة فلاج ميلر هي التواصل والاستمرار لدراسة أستاذه ومشرفه العلمي (ستيفن كيتون) عن قصيدة الدعوى والجواب في خولان، ومن ثم فإننا كي نفهم فلاج ميلر لابد لنا من فهم فحوى دراسة كيتون بالإشارة إلى أهم عناصرها. كتب ستيفن " بوصفي انثروبولوجيا مهتما بدراسة التخاطب في اليمن، فقد صرت مفتونا بثراء وتعقد الحدث الكلامي المتعلق بالتحية في اللغة العربية .... لقد أدركت تدريجياً أن عدداً كبيراً من الإشارات اللفظية، وغير اللفظية، في الحدث الكلامي تفصح عن قيم أساسية المفهوم الشخصي عند اليمني، ولكن الأكثر الأهمية من ذلك هو إدراكي بأن الحدث الكلامي (لا يعكس) أو يعبر عن الشخص فحسب بل (يخلقه)_الهلالين للباحث_ أثناء التفاعل الاجتماعي . أما كيف يتم هذا، فذلك موضوع هذا المقال" كيتون،1997: 161).

وفي دراسته لصيغ التحية عند السادة والقبائل توصل كيتون إلى ذلك التقابل بين الشفاهية والكتابية من خلال دراسة معنى التحية المنصوص عليها في القرآن الكريم،  في سورة الإنعام، آية 53 وسورة إبراهيم، آية 23 وسورة النساء، أية 86 . وكيف جرى استخدامها بمعناها الديني والدنيوي عند كل من السادة والقبائل، بما تنطوي عليه من صيغ وتعابير جاهزة متعارف عليها. كما لاحظ (فيرجسون) Ferguson 1976م، أن اللغة العربية تزخر  بمثل هذه التعابير الصيغية التي يستخدمها الناطقون بها للكياسة اللغوية والأخلاقية في التفاعل الاجتماعي من ذلك يمكن الاشارة إلى بعضها:

السلام عليكم                وعليكم السلام

لا باس عليك                لا باس عليك 

أهلا وسهلاُ                  اهلاً بك: حيا الله من جاء

كيف حالك                    والله في نعمة

مالك شي                     الحمدالله

صبحتوا                       صبحكم الله بالخير والعافية

عيد مبارك                    الجميع

القائم عزيز                        والجالس لا يهان  أو الجالس أفضل

قويت                              نجيت

صحيت                           عيّشك

حي اللحية                       حي لحيتك

السلام تحية                       أبلغت

كيف أحوالكم يا رجال           كفيت

 هذه الصيغ الايقونية للتحية وغيرها التي درسها كيتون في المرتفعات الشمالية هي تعبير عن أنماط التفاعل الاجتماعي في مجتمعين مختلفين : مجتمع السادة المنتمي إلى السلالة الهاشمية التي تنسب إلى الرسول الكريم (صلعم)، ومجتمع القبيلة المنتمي  إلى سلالة قحطان، رأس الإسلاف الذي يتناسل عنه العرب الجنوبيين. وهي تكشف عن قيمتين أساسيتين لكل من السادة والقبائل، قيمة الورع والتقوى عند السادة وقيمة الشرف والنخوة عند القبائل . إن تحية السيد  تشكل صورة للشخصية يكون فيها الورع مهيمناً إيديولوجياً على الشرف، والطريقة التي يستخدمها السيد في خلق صورة الورع وخلق صورته الاجتماعية هي محاكاة لنموذج التحية القرآني، أما تحية القبيلي التي يخلق بها صورة الشرف ويخلق بها صورته فهي التحيات المتكافئة . فالتكافؤ في التواصل هو أيقونة التكافؤ في العلاقات الاجتماعية القلبية، إذ أن رجال القبائل الراشدين غالباً ما يلفظون التحية بصوت ذي صرير صادح، وغالباً ما يكون متكلفاً، وتأويل ذلك انه يمثل دلالة على الرجولة والفحولة . فعلو الصوت أو قوته سمة هامة من سمات الأداء، وعلى العكس  فإن صوت السيد يبدو طبيعياً وأكثر ليونة، وقد ينخفض أحيانا إلى همس لايكاد يسمع . هذه الاختلافات في نوعية الصوت تؤشر أيقونياً إلى الشخص المغامر والمولع بالحرب مقارنة برجل التأمل الهادئ أو السكينة والتقوى والورع، أي القبيلي والسيد.وخلاصة دراسة كيتون أن أحد الأسباب التي تمنح الحدث الكلامي للتحية في المجتمع اليمني يكمن في إشارته إلى مفاهيم الشرف والتقوى، وهي قيم جوهرية في المنظومة الثقافية للسادة والقبائل .. وأن نمطاً محدداً من أنماط الشخص العام يتم خلقه في الحدث الكلامي للتحية؛ إذ أن الشرف يقتضي أظهار الاحترام للآخر والمطالبة باحترام الذات، ويتحقق هذا في شكل التحية المتكافئة وصيغتها، كما أن التقوى تستلزم التصرف وفق ما أوصى به الإسلام، ومنها التحية . ويترتب على ذلك أن التحية خلال تأديتها تخلق صورة الشخص الشريف والورع، والقبيلي والسيد. (كيتون، 1997: 166). وفي سياق متصل تأتي دراسة (برنكلي ميسك) التي أشرنا إليها أعلاه، كأصدق تعبير عن دراسة التقابل بين الشفاهية والكتابية في الثقافة العربية الإسلامية؛  إذ أشار إلى " أن الفكر الإسلامي قد شهد علاقة إشكالية ما بين الكلمة المنطوقة والنص المكتوب، وكما هو الحال في الغرب، تموضعت الإشكالية بشكل متناقض ظاهرياً  داخل غطاء من التقليد الكتابي. والحديث ذو شجون.

 

قاسم المحبشي

 

في المثقف اليوم