أقلام ثقافية

مينا راضي: الجانب المُظلِم من الوَرَقة

كانت لديَّ صَديقةٌ هنا في كنَدا، وكانت عِراقيةَ الأصلِ وتَهوى الكِتابةَ باللُغةِ العَرَبية، حيثُ كانت تَكتُبُ الخَواطِرَ والنُصوصَ الأدَبيةَ وتَنشرُها على بعضِ مِنَصّاتِ التَواصُلِ الاجتِماعي. كنتُ أحبُّ قراءةَ جَديدِها دائِمًا، بيدَ أنَّها في يومٍ من الأيامِ قَرَّرَت اعتِزالَ الكِتابة، وعندما سألتُها عن السَبَبِ قالَت جُملةً ما زالَت عالِقةً في ثَنايا عَقلي حتى اليوم. " إنَّ الكِتابةَ أصابَتني بالتَفكيرِ الزائِد. " أو كما أطلقَت عليه باللُغة الانجليزية:  “over-thinking”

فتَساءلتُ في نَفسي: " هل منَ المُمكِنِ أن نُصابَ بما أسَمّيهِ مُتَلازِمةَ العُمقِ بسببِ كَثرةِ مُمارَسةِ الكِتابة؟ " وهكذا ظَلَّ هذا التَساؤُلُ مُعَشِّشًا يُرَدِّدُ نفسَهُ في عَقلي الصَغير، لم أعرِف سَبيلًا للخَلاصِ منه، كنتُ دائِمةَ الخوفِ والقَلَقِ من أن يُصيبَني ما أصابَ صَديقَتي ويؤَدّي ذلك إلى أن أترُكَ شَغَفي الدائِم! لكنني بعد مُدّةٍ تَوَصَّلتُ إلى قَناعةٍ مُهِمّةٍ جدًا، العِلّةُ ليسَت في الكِتابة، وليسَت هي المُتَسَبِّبةَ في مُتَلازِمةِ العُمقِ أو كَثرةِ التَفكير سَمِّها ما شِئت، ولكنَّ الخَلَلَ يَكمُنُ في سَعينا الدائِمِ إلى المِثالية. وبعد رِحلةٍ دامَت سنوات في عالَمِ الكِتابةِ أقولُ أنهُ لا توجَدُ مِثاليةٌ في الكلِمات، مهما حاوَلنا حَفرَ عُقولِنا فلم نَبلُغَ ذُروةَ العُمق، لن نَصِلَ إلى كتابةٍ مِثالية! فلا وُجودَ لنُواةِ الكِتابةِ أو التَعبير.

من المُهِمِّ أن تُدرِكَ أيها الكاتِبُ أنَّ المواصَلةِ أهَمُّ منَ المِثالية، أن تَستَمِرَّ في خَوضِ رحلةِ الكتابةِ وشَقِّ طَريقِكَ بالحُروفِ هو السَعادةُ بعينِها، فلا داعي أن تُنهِكَ قلَمَكَ بأعباءٍ فوقَ طاقَتِه، عندَها سَتَغدو الوَرَقةُ سِجنًا وبَحرًا مُدلَهِمًّا بَهيمًا تَغرَقُ بهِ دون تَوَقُّف. منَ المُستَحيلِ على أي كاتِبٍ أن يَبلُغَ ذاتَ درَجةِ العُمقِ في كلِّ مَقالٍ أو كلِّ خاطِرةٍ أو كلِّ قصةٍ أوكلِّ روايةٍ يكتُبُها، لا بأسَ في الكِتابةِ بعَشوائيةٍ وسَطحيةٍ أحيانًا، أو تَوظيفُ كَلِماتٍ بَسيطةٍ بدَلَ التَوَغُّلِ الشَديد، هكذا يَقي الكاتِبُ الواعي نفسَهُ من مُتَلازِمةِ العُمقِ والبَحثِ عن الكَمالِ في كَتاباتِه.

حُروفي ليسَت دائِمًا مُتَشابِهة، أحيانًا أكتبُ بعُمقٍ شَديد، وأحيانًا يَطفو طارِفُ قلَمي على أسطُحِ الحَقائِق، كلُّ ما يُهِمُّني هو أن أبقى كاتِبة.

 

مينا راضي

في المثقف اليوم