أقلام ثقافية

حلم أخضر

يا لها من حركةٍ دائبة في ذات الوقت من كلّ عام. ترتدي الدمي ملابس مدرسية في واجهات المحلات حيث تقلّبها أكفّ الأمهات والآباء، فهم لن يشتروا صدرية غير متأكدين من جودة قماشها أو قميصا غير واثقين من جماله على أجساد بناتهم وأبنائهم.. يتفحصون البنطلونات والأحذية والحقائب والدفاتر والعلب المخصصة للماء والطعام.

في كل عام من أيلول ومع جموح الشجر وهو ينفض أوراقه الصفر على الأرصفة المثقلة بالخطوات، حيث السُحب المسافرة بين أشعة الشمس التي تعبت من صخب الصيف الطويل سيراً إلى تشرين. هكذا في كلّ عام تحتشد الخطى ومعها الرغبات. احيانا ينطفئ شعاع الرغبة في العيون، بعض العيون، تلك التي يرهقها العوز ربما، فتعيد تدوير ما لديها من العام السابق. لا بأس بحقيبة رونقها أتلفه مسمار الرحلة المدرسية، أو حذاء لم يحتمل عبء الأوحال في الطرقات المتعرجة، لا بأس بقميص تحول من الأبيض إلى الأصفر، أو صدرية قصرت بضعة سنتيمترات، من يبالي كم يكبر الأولاد، كم تغيروا، كم فقدوا آباء في أزمات هذا البلد التي لا تنتهي، وكم تنوء أمهاتهم تحت ثقل الأحمال.

غدا ستفتح المدارس أبوابها، تشرعها للقلوب الصغيرة الدافئة مثل شمس كانون، والأقدام الخفيفة، بعضها بأحذية جديدة لامعة، وأخرى بأحذية متهرئة، والأذرع الممدودة للأيام القادمة، أذرع ممتدة بخجل، وثانية بعنفوان لكنها كلها نقية وتطمح في المضي، المضي قدما، حيث الضحكات تعلو فوق الثراء والعوز، تُزهر تحت ظلال شجر البرتقال والنخل، والجوز، والنارنج، والرمان. هم هناك، يتامى وحزانى وسعداء، ذبلوا كالخريف، شحبوا قليلاً، نفضوا حزنهم في الساحات، لتورق بعدها خلايا الروح، تخضر من جديد. غريب أمرهم، كيف وكل ما ارتدوه قديم وشاحب لازالوا يكركرون، ويركضون حتى الإعياء كأنهم شجيرات دفلى في شارعٍ قصي، كأنهم كانوا هناك مع أهليهم في سوق المدينة الكبير، حيث عاد أبوهم من غيابه الطويل، وابتسمت جدتهم من جديد.. ذهبوا معا ليشتروا كل شيء، لم تكن هنالك (لا)، ليس سوى الحب والدفء وعطر الأشياء الجديدة المشتهاة، يقول لها ذوقي هذه الممحاة، انها بطعم التفاح، فتضحك ساخرة (لا تأكلها أيها الغبي إنها مضرة). ينتشيان، أذرعهم متشابكة، ليس كما حصل. الآن سيذهبان برائحتهم الزكية، لن يخشيا من عناق المعلمة، ولا من حصة التلوين، لديهم هنا كل شيء، لامعان مثل نجمتين. قرب الوسادة كانت الملابس المطوية بعناية تنتظر عناق أجسادهم الهشة، مثل كعك العيد..

تررن.. ترررن، الجرس يداعب أفئدة جذلى، ها هما مع كومة أحلام. يهرعان للدرس الأول، ماما.. بابا.. دار.. دور..، لكن بالأمس لم تتحمل شجيرات الدفلى هذا الطقس الوحشي، بابا ليس هنا.. ماما في المنزل حيرى، وأقلام التلوين، آه.. بقايا من الأسود والأبيض، فاض من بقايا السنين، يرسمان ربيعاً، حلما أخضر.. هل يوجد لون أخضر؟

***

تماضر كريم عبد الرزاق

في المثقف اليوم