أقلام ثقافية

محمد الورداشي: النفسُ بين الحنينِ والرغبةِ

تغازلني الذكريات المتراكمة بلطف، وتغمرني الرغبة الأكيدة في الإنصات إلى أصداء الذكريات التي تتراقص في ذاكرتي، ويحملني الحنين الدفين بين جوانحي على أجنحته المشرعة نحو عوالم مجهولة، فأغدو كالسفينة التي اخترقت الرياح العاتية شراعها، ففقدت بوصلتها ووجد ركابها أنفسهم فريسة أمواج متلاطمة يقارع بعضها بعضا بعنف وصخب. أحاول الإنصات إلى نداء نفسي المتبلج من أعماقها، فترق مشاعري وتنفلت دمعة متلألئة من بين الجفنين، وتقف الكلمات متداخلة على عتبة الشفتين، تنتظر دورها للانفلات من ربقة الكتمان، من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، من الغياب إلى الحضور، بيد أن ثمة حاجزا يصدها عن الانفلات والوجود، ويدفعني إلى الحيرة والتردد بين البوح بما تتلظى به نفسي، والكتمان المحرق الذي يتملك النفس الهائمة بين أشباح بلا أرواح.

يحضرني الماضي مثقلا بأحداثه، ويتبدى لي المستقبل غيمة حبلى بأحداث سديمية، يصعب تكهن شكلها والقبض عليها في لحظة زمنية محددة، فتولد حالة ضياع وجودية، واغترابا متعدد التجليات. تسعى النفس جهدها إلى الإحساس بالحاضر، واتخاذه نقطة ارتكاز تخول لها استعادة ماضيها واستشراف مستقبلها. إلا أن هذه النفس تتلاشى في رحلتها بين ماض ولى وأدبر، ومستقبل غائم ومجهول، بين الحنين إلى ذكريات ظلت وشما على الذاكرة والوجدان، وبين التشوف إلى لحظة متمنعة كلما حاول الخيال القبض عليها تاه في دروبها الغائمة.

تساءلت يوما إن كان بإمكان النفس أن تخلف ماضيا مثقلا وراءها، وتخوض رحلتها نحو الغد بكل ثبات وإصرار، وعن الصيغة التي يمكن أن تتجلى فيها حياة النفس وقد تخففت من عبء يجثم عليها. فهل النفس مجبرة على حمل ماضيها من البداية إلى النهاية؟ أم أن الماضي هو الأساس الذي تبني عليه حاضرها ومستقبلها؟ ألا يمكن أن تحقق النفس وجودها وكينوتها في الهنا والآن بعيدا عن الذكريات التي يعلو بعضها بعضا، ويتراكم بعضها على بعض مشكلا طبقات سميكة تثقل كاهل النفس، وتحجب عنها الرؤية الوضاءة الواضحة؟

يفرض ترميم الذاكرة نفسه بقوة، ويبقى السبيل الأمثل لملء الثغرات التي تجعل الماضي مؤلما يدفع النفس إلى الاغتراب عن حاضرها ومستقبلها، أو مبهجا يحملها على تناسي اللحظة الآنية والمستقبلية، والرغبة الشديدة في العودة إلى أحضان ذكريات لا وجود لها إلا في ذاكرة تتأبى عن النسيان. وهذا حال النفس التي يتجاذبها الماضي؛ إذ تحاول جاهدة تجاوزه تارة، غير أنها ترغب في تكراره طورا آخر.

تعيش النفس على البقايا، وتبني كينونتها على الحطام، وتتغذى على المنى الهاربة، وتختبر وجودها بالعزلة والرهبة، وتؤثت عالمها الجواني بما يتراءى من أصداء العالم البراني، بيد أنها تكتشف حجم نقصها، فتتوسل بالأنفس الأخرى بحثا عن كمالها، ورغبة في تفردها وتميزها؛ لتدخل تجربة جديدة تقوم على الأخذ والعطاء، والتحلي والتخلي، لتتجلى وقد صارت نفسا أخرى.

تعد التجربة الوجودية رحلة بين التشكل والتغير المستمرين؛ إذ تتحلى النفس بمقومات وجودية متولدة عن تجربة الاحتكاك، وتتخلى عن مقومات سابقة منبثقة عن العزلة والرهبنة. تدفع هذه التجربة الوجودية النفس إلى التمظهر المتعدد، والوجود في زمان ومكان مختلفين، ومن ثم، تصير نفسا قادرة على تبصر ماضيها ومستقبلها، والوقوف على ما تملكته قديما وحديثا، وما فقدته في غمرة تجاذبات وجودية مستمرة.

يحمل هذا التجاذب النفس على الحنين الدائم إلى ما كانت عليه، والرغبة في تحصين ما اكتسبته في حاضرها، لذلك ترى في الماضي وجها مضيئا يشكله الحنين، وفي الحاضر نقصا مخيفا يصوره الخوف من الفقد والتشوه، من فقد الكينونة في رحلة التجاذب والاحتكاك، ومن تشوهها بفعل ما تفقده من مقومات قديمة، وتتملكه من مقومات جديدة.

تبدو النفس شفافة في بدايتها، وتتلون بظروفها المتغيرة أثناء رحلتها، والآتي تجليها المتعدد بتعدد تجاربها وظروفها، وتغيرها بتغير الأنفس الأخرى التي تتفاعل معها. ومن ثم، لا تحقق كينونتها وتوازنها إلا في رحلة الذهاب والإياب بين لحظة مدبرة وأخرى مقبلة. وفي هذه الرحلة، لا مناص من الفقد والأخذ، والحنين والرغبة.

يظل الماضي عزاء للنفس البشرية في ظل حاضر لا ترضاه، ولا يحقق طموحها وآمالها، والمستقبل نورا تهتدي به في ظلمة رحلتها الوجودية؛ لذلك، لا تهدأ حركتها في المراوحة بين الماضي والمستقبل، بين الحاضر الغائب، والغائب الحاضر، بين ما كان واقعا معاشا فلم يبق إلا أثره، وما سيكون غيمة حبلى بالمجهول، ليغدو واقعا معيشا.

***

محمد الورداشي

 

في المثقف اليوم