أقلام فكرية

الانسنة المتطرفة والانسنة الواقعية

raheem alsaidiلا شك ان محمد اركون يمثل مفصلا مهما في الفكر العربي المعاصر، ليس لانه صاحب مشروع فحسب، بل لان لديه خاصيتا المغامرة والخيال اللتان تعدان الاساس الصحيح لاخراج وانتاج النجم المفكر (او صناعة المفكر) بالاضافة الى الاعلام الذي عوضه باتقانه اللغة الفرنسية والاتكاء على النشر في اللغة الفرنسية ومع هذا فهو لم يحقق تقدما بمشروعه في الانسنيات على الارض الاوربية ويسير بصعوبة في الارض العربية والاسلامية بالرغم من شمولية المنهج او المشروع بحيث تختلط على المتتبع الامور فيسال هل هو مشروع اسلامي ام علماني ام فلسفي ام هو مجرد تنظير اجتماعي ...الخ .

ومع ان قضية الانسنة لا تختصر بعجالة، الا انها ببساطة مشروع يعتمد على مناهج الفكر الغربي المعاصرة ومنها اللغوية واللسانية والتاريخية في نظرته الى التراث الاسلامي ويتعامل مع النص بمعزل عن القدسية ويخضعه للبحث والمنهج العلمي، ويحاول تطبيق العلوم الانسانية على الوحي واعتماد طريقة (الاسلاميات التطبيقية) والمناهج الانثروية والسيميائية والاركلوجية والتفكيكية والهرمنيوطيقية، وبالتالي التعامل بجزئية ونسبية مع كل شيء الا مع المنهج الذي يستخدمه فهو المطلق بالقياس الى النصوص (كل النصوص)، مع انها مناهج نسبية لا توصف بكونها مطلقة لانها تتعامل مع النسبي ايضا ولان مديات العلم لا توصف بالمحدودية وبالتالي يصعب الاطلاق هنا، وهو يفصل بين الدين والنص وبين الانسان والدين والانسان وارتباطاته الروحية، وهذا هو المعيار الاساسي الذي جعل اركون يعتمد على مجموعة من المفكرين الاسلاميين بعدهم من موسسي الانسنة العربية ومنهم مسكويه وابي حيان التوحيدي والعامري وغيرهم . فكان اركون الذي تاثر بالمتاثرين بنيتشة واولهم فوكو، اراد التاصيل للسوبرمان الجمعي (المجتمع الانسان)، وهو المتاثر بالافكار النثربولوجية والسسيولوجية، واراد رفع المجتمع الانساني بتحميله اطار السوبرمان بازاء الشخوص والرموز والذوات المقدسة بما فيها الله والنص الالهي.

ويبدو ان لمشروع الانسنة مديات ومراحل للتطور فهو يبدا من طرح انساني لينتهي بطرح اقصائي لكل ما عدى الانسان، وتتشكل على اساس غائي لا يختلف عن فكرة اليوتوبيا التي تسعى الى تاكيد ذاتها بغاية نهائية لا تشاركها غاية اخرى او لا تختلف عن الافكار الاشتراكية التي تجعل من الوصول الى النظام او المنهج الشيوعي هو الهدف الاساس فلا تكتفي بالاشتركية بعدها نظاما للعيش والتعامل والتطور، فهدفها الاول والمتصل بالغاية يشير الى تطبيق كامل يعالج النظام الاجتماعي قبل ان يكون السياسي وما السياسي الا الهدف الثانوي لتشكيل الدول او لتاسيس منهج صمم ليستاصل كل ما يهدد الفكرة المطروحة او يتصور صاحبها بانه يعارضه وفق قراءته للتاريخ، واقصد استئصال الدين وملحقاته لفسح المجال للتحدث عن كل ما هو متقاطع مع الدين، وبعدها يتم تطبيق ذلك الهدف النهائي.

وهذا ما اراه في الانسنة والفكر الانسني الاركوني فهناك حدية متطرفة لا تهتم بقراءة التنوع اكثر من اتجاهها بنظرة احادية ذاتية تعطي للفرد (الانسان) المساحة الكلية من منهج يعمل على تمجيد ذلك الانسان وتوفير بيئة فهمية وثقافية وفكرية له، ومن الغريب ان هذا المنهج هو الفتات الذي يصلنا بواسطة اركون (المفكر والمغامر) من الفكر الاوربي (الفرنسي حصرا) بوساطة جيل من المفكرين الفرنسيين فوكو، دريدا، التوسير، دولوز، والذي تحول الى مرحلة ما بعد (الانسان) ان امكننا القول، في الوقت الذي ياطر اركون الى مشروع يعتمد على الانسنة باعتبرها الحل الناجع لازمة الفكر والحضارة العربية .

ان القول بعدم نجاح مشروع اركون بالرغم من العناصر المهمة التي يحملها يمكن ان يدرج ضمن عدد من العوامل التي قد لا تسرد هنا بشكل مباشر وبصورة تقريرية، ففي المشروع مقاربة كما اسلفت من قضية طمر الغرائز والتنظير غير الواقعي الذي الحت على تطبيقه الاشتراكية في سيرها لاكمال مشروع الشيوعية في طوره النهائي، وواقع الحال انه ارتطم بالواقع (سيما السياسي والاجتماعي بل والنفسي منه) ففشل التخطيط الذي نظر له ماركس بقلب المعادلة الهيجلية راسا على عقب وقدم ديالكتيكا استطاع المسير ولو برجل عرجاء الى فترة معينة انتهى خلالها من مهمة القضاء على الحكم الذاتي الذي تمثل بالملوك ذوي نظرة البعد الواحد لا الابعاد المختلفة .ولكن البديل لتك النظرة ايضا كان قاصرا بالرغم من تحقيقة الانجاز الذي حول المجتمع الروسي مثلا الى مجتمع اخر يختلف كما وكيفا ....ومع هذا فقد التفت الى مسالة مهمة تعتمد التخلص من القيود العديدة التي صممتها له الاشتراكية .

ان تلك الصورة التي لن تستمر قد نجدها في منهج اركون الذي يستبعد عناصر تتصل بالانسان، مما يجعل مشروعه الانسني يمثل تطرفا لا ينسجم والنظرة الموضوعية التي يتوجب ان يراعي بها المفكر التاثيرات التي لا يمكن استثنائها في حياته الواقعية ومنها الدين والتاريخ فيتحتم التعامل او التفكير بنظرة انسنة معتدلة لا تقصي ولا تستثني مختلف المؤثرات ولا تقنن النصوص السماوية وفق نظرة انسنة اقصائية لان ذلك يعني حرمان شريحة اخرى توصف بالانسنية ايضا ولكنها تعطي للنص المقدس قيمة روحية،فدريدا الفيلسوف الفرنسي الذي يرخم لفظة الهدم الى التفكيك في منهجه وغيره هم الملهمين لاركون في منهج يبحث عن غاية مقصودة هدفها الهدم، وليس الحل او النمو الفلسفي، فكانت الغاية الموضوعة لهذا المنهج تلقف وتستبعد وتزيل كل ما في طريقها من الحلول الاخرى التي يمكنها التوفيق بين النص المقدس وقراءة ذلك النص وفق منهج يوفق ولا يستبعد ويركب حتى وان فكك، ترشيدا للافكار وتمهيدا للتنمية الممكنة في النص واستعادة منهجية تكرير النص وليس اطفاء النص لغرض اشعاله مرة اخرى وللحديث تتمة .

 

في المثقف اليوم