أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: حديث في الأخلاق والتحدّيات الأخلاقية

في عام 2018 وجّهت ادارة المجلة الاكاديمية The conversation سؤالا الى عدد من الفلاسفة حول ماهية التحديات الاخلاقية الحالية وكيفية مواجهتها، كان الجواب على شكل سلسلة من المقالات (خمس مقالات) تراوحت من محاولة تشخيص التحدي الاخلاقي، الى الحديث عن الحاجة الى مواطن عالمي وإعادة بناء الثقة في عالم معولم،الى البحث عن الحقيقة في عصر الفيسبوك، وصولاً الى ضرورة تطوير "حكمة تكنلوجية" لمنع التكنلوجيا من استهلاك الانسان. سنحاول التطرق الى هذه الموضوعات تباعا. 

 من الواضح ان هناك عجزا أخلاقيا في عالم اليوم، ذلك لأن العالم سيكون أفضل لو كان الناس يتصرفون بدوافع أخلاقية ويعطون الأخلاق أولوية في تفكيرهم. لكن عندما نأتي لتحديد أكبر تحدّي أخلاقي في زماننا الحالي فاننا لا نجد نقصا في الاخلاق وانما هناك الكثير منها.

في الحقيقة، نرى ان التحدي الأخلاقي الأكبر يكمن في تصوّرنا المعيب للأخلاق ذاتها. الطريقة التي نميل للتفكير والتحدث بها عن الاخلاق تكبح قدرتنا على الانخراط في رؤى غير الرؤى الخاصة بنا، انها تجعل ادارة التنوع والاختلاف أصعب بكثير، وتميل لحشرنا في نماذج معينة تخلق من المعاناة والإضطراب أكثر منه الى الحل .

الصحيح والخطأ، الأسود والابيض

اذا كان القتل شيئا خاطئا، فهذه ليست مسألة تفضيل شخصي، هي حقيقة موضوعية. تعني اذا كانت صحيحة لي، فهي صحيحة لكل شخص آخر ايضا. واذا كان هناك شخص ما يدّعي ان القتل جيد فهو مخطئ. هذه هي الطريقة التي يفكر بها العديد من الناس حول العديد من المسائل الأخلاقية، وليست فقط في موضوع الجريمة. نحن نشير هنا الى الحقائق الأخلاقية، و نسعى الى إثبات صحة موقفنا الاخلاقي من خلال الرجوع الى هذه الحقائق. البعض منا يبرر هذه الحقائق عبر اللجوء الى الوصايا المستمدة من مصدر ديني. آخرون يبررونها عبر اللجوء الى الحقوق الطبيعية او حقائق أساسية حول طبيعة الانسان، مثل ان المعاناة هي سيئة بذاتها لذا يجب منعها قدر الإمكان.

العديد من الناس يرون الأخلاق تشبه العلوم، حيث يمكن ان نتعلم حقائق أخلاقية جديدة حول العالم، مثل عندما اكتشفنا ان العبودية عمل خاطئ او ان المرأة يجب ان تنال نفس حقوق الرجل، ولذلك لابد من تعديل الموقف الاخلاقي تبعا لذلك.

ثلاث مشاكل

هناك ثلاث مشاكل كبرى في هذه النظرة الشائعة للأخلاق.

1- انها خاطئة: لا توجد قناعة بان هناك أي مصدر موضوعي للأخلاق. لقد أمضى البعض وقتا طويلا في البحث عن هذا المصدر لكن لم يجدوا أي شي مقنع، وحتى عندما يعتقد المرء ان هناك مصدرا دينيا يملي الصواب من الخطأ، فلايزال الامر متروكا للناس لمعرفة التفسير الصحيح لتلك الأوامر. والتاريخ كشف ان الاختلاف في التفسيرات المتضادة للخير الديني يمكن ان تسبب معاناة لا توصف، ولازالت حتى اليوم عندما يحاول الدوغمائيون فرض رؤيتهم الاخلاقية على غير الراغبين بها.

2- المشكلة الثانية تكمن في فكرة وجود اخلاق واحدة صحيحة والتي هي في الأساس في تضاد مع عدد واسع من التنوع الأخلاقي الذي نراه حول العالم. فمثلا، هناك خلاف واسع حول ما اذا كانت الدولة يجب ان تكون قادرة على إعدام المجرمين، او ما اذا كان للناس المصابين بأمراض مزمنة الحق في الموت .

اذا كنا نعتقد ان الاخلاق هي مسألة حقيقة موضوعية، عندئذ فان هذا التنوع يعني ان معظم ان لم يكن جميع الناس في العالم هم مخطئون حول معتقداتهم الاخلاقية التي يؤمنون بها بعمق. اذا كان الامر كذلك، فهذا يعني ان الناس ليست لديهم القدرة الجماعية على فهم ماهية الأخلاق.

3- المشكلة الثالثة هي ان هذه الرؤية للاخلاق تدفعنا للتفكير في لغة الابيض والاسود. انها توجّه الخطاب الاخلاقي نحو إثبات ان الآخرين مخطئون، او إجبارهم لتبنّي رؤيتنا الأخلاقية. هذا يجعل الامر أصعب ان لم يكن مستحيلا للناس التعامل الجاد مع رؤية الاخرين والانخراط معهم في مفاوضات وتسويات أخلاقية.

هذا هو أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل الميديا الاجتماعية والمحادثات التي تجري حول الطاولة هي في حالة مفزعة حتى الآن. اولئك الذين في جانب واحد يشطبون خصومهم باعتبارهم منحرفين أخلاقيا، وهو الأمر الذي من شأنه ان يغلق أي إمكانية للانخراط الايجابي او التعاون الثنائي.

إصلاح أخلاقي

لهذا، لكي نستجيب للتحدي الأخلاقي الكبير، سنحتاج لإعادة التفكير الجاد بالأخلاق ذاتها.

أحسن طريقة للتفكير حول الاخلاق هي كوسيلة ثقافية اخترعها البشر لمساعدتهم كي يعيشوا ويعملوا مع بعضهم في المواقف الاجتماعية. كل واحد  من الناس له اهتماماته ومصالحه التي يريد إنجازها. هي تتغير من فرد الى آخر لكن عموما هي تتضمن أشياءً مثل كوننا قادرين على توفيرها لأنفسنا ولمنْ نحب، وتجنّب المعاناة والصعوبات وممارسة التجارب الممتعة والمقنعة.

ان أفضل طريقة لإشباع هذه الإهتمامات هي ان نعيش اجتماعيا ونتفاعل ونتعاون مع الآخرين. ولكن مصالحنا او وسائل إشباعها عادة ما تتضارب مع الاخرين. وان هذا الصراع يمكن ان ينتهي بما هو أسوأ للجميع. لذا فان الأخلاق هي مجموعة من القواعد التي نعيش بها بهدف تقليل الأذى ومساعدتنا لنعيش مع بعضنا بفاعلية. نحن لم نكتشفها وهي لم تنزل علينا من الأعلى. كان علينا معرفة ذلك بأنفسنا و لأنفسنا.

بالطبع، الناس لا يفكرون دائما في هذه الطريقة، لذا هم يبررون أخلاقهم بمختلف الطرق، عادة عبر اللجوء الى الدين او التقاليد. لكن الناس لم يجروا تحديثا على تفكيرهم  حول الاخلاق لكي يمكن تنقيتها من القيود التي جاءت مع الدين ومن الامتثال الثقافي الصارم للماضي. نحن الان نعرف ان هناك عدة طرق لمتابعة وانجاز العيش، وان القواعد التي تعزز نسخة واحدة للاخلاق قد تتصادم مع طرق الآخرين. لذا فان القواعد الأخلاقية التي تكرس بناء روابط طائفية قوية هي ربما تتصادم مع القواعد التي تمكّن الناس من اختيار مسار حياتهم الخاص بهم. ايضا، المشاكل التي تحاول الاخلاق حلّها تتغير من مكان الى آخر. الناس الذين يعيشون في جماعات صغيرة وفي أماكن قليلة الموارد مثل مناطق التندرا في القطب الشمالي لديهم مشاكل تختلف عن الناس الذين يعيشون في عواصم حديثة مثل سدني وملبورن المحاطة بوفرة الموارد. عندما نطبق أخلاق الجماعة الاولى على البيئة الأخيرة،سوف نفاقم الصراع بدلا من حله.

كل هذا يعني ان الأخلاق يجب ان لا تركز كثيرا على "إثبات" صحة الرؤية الاخلاقية  وانما على التسامح والمفاوضات. نحتاج ان نتعلم ونفهم ان مختلف الشعوب ومختلف الجماعات والثقافات لها تصورات مختلفة عن الحياة الجيدة. و نحتاج ايضا ان نفهم ان مشاكل الحياة الاجتماعية وحلولها، لا تنطبق بالتساوي على كل جماعة. انها تعني اننا يجب ان نتعلم لنصبح أقل دوغمائية أخلاقية وأكثر تكيفا أخلاقيا. وفوق كل ذلك، نحن نحتاج للتخلي عن فكرة ان الأخلاق هي حول حقائق موضوعية تنطبق على كل الناس وفي كل الأزمان.

هذا لا يعني ان تصبح الاخلاق "قبول أي شكل" من النسبية. هناك طرق للحكم على فائدة عقيدة أخلاقية معينة، بمعنى: هل هي تساعد حقا في حل مشاكل الحياة الاجتماعية للناس الذين يستعملونها؟ الكثير منها لا يقوم بذلك، لذلك يجب ان يتم تحدّيها او إصلاحها. في عالم يزداد فيه التنوع الثقافي  المتعدد والمترابط، يصبح من المهم أكثر من أي وقت مضى ان نصلح الطريقة التي يفكر ويتحدث بها الناس عن الاخلاق ذاتها. اذا لم نقم بذلك،ومهما كان التحدي الأخلاقي الذي نواجهه،فسيكون الحل أكثر صعوبة.

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم