أقلام فكرية

محمد يونس محمد: صورة مختلفة للفلسفة.. ما بعد الحداثة وانعدام الاجابة

نبدأ من سؤال نوعي ونستفسر، فأليس الوضع البشري محاطا بالحياة من كل جانب، ونحن في هذا السؤال لا نسعى إلى إجابة، وإذا كانت الحياة معنى وجودنا، من خلال المعنى الحرفي لكلمة – حياة-، فهي الإطار العام لوجودنا البشري، ونحن نمثل الموجود فيما هي تمثل الوجود، ولكن لا نملك غير محور تكهنات فقط للحياة ووجهات نظر فلسفية، وأما الإطار العلمي فغير راجح تماما، حيث اعتمد المنهج العلمي على أطر فيزيائية، ومؤشرات بداية التكون والكيفية التي أشرها خلق الحياة والعالم المشترك، ومؤكد العالم سبق الحياة، وفي التفسير الموضوعي العالم لا يقترن بنا تماما ولكن الحياة تقترن بنا بشكل مؤكد، فوجود العالم كان وجودا بلا حياة، يعني لا فائدة منه، لكن الحياة هي ذلك النفس المتعدد الإيقاعات والتردد، وإذا كانت الحياة قد وجدت قبل أكثر من ثلاثة مليارات سنة، فالعالم أقدم من ذلك، والعالم هو كوكب الأرض أما الحياة فهي الأنفاس التي شهقت داخله، وهنا تداخل ما بين العالم والحياة والوضع البشري، فالحياة من خلال البشرية تؤكد العالم، فالعالم هو الكينونة ونحن واقعها والحياة هي معنى الوجود ونحن فيها الموجود، والكينونة ساكنة حسب التفسير العملي فيما الوجود متبدل، وأما الموجود متحرك، وذلك المثلث في التفسير يختلف كل مكون منه، فيما في التفسير المعنوي هناك تقارب بنسب غير معينة، وعدم تعيين النسب يعود إلى تغير الوحدات الزمنية، والتي تتبدل بشكل مستمر، والاختلاف والتبدل يشمل كل ركن من أركان المثلث، وهذا هو من نبحث عنه، فسكون العالم وتبدل أفق الحياة من نهار إلى ليل وحركة الوضع البشري أمور مدركة في الإدراك المباشر.

تفسير علاقة الحياة باعتبارها تتبدل وتتغير سجنتها، ونحن نحيل الأجواء والطقس والجغرافيا إلى الحياة وليس للعالم، فالعالم تكون والحياة صيرورة تتبعها سيرورة، وقد بلغت من الأنطولوجيا حدا هائلا، في التفسير له يحيل الحياة إلى المعنى السرمدي، فالحياة التي يلغيها البعض ويسميها الأرض اختصارا، على اعتبار إن للأرض صيرورة تلتها مباشرة سيرورة سرمدية، وإلغاء السماء يعني إلغاء جزء أساس ومهم من أفق الحياة، وذلك غير ممكن فالسماء هي التي هي تقابل أختها الأرض من الجهة العليا، وتلعب الدور الأساس في التغير المناخي، والعقل الذي يقصي أسسا من أسس الحياة هو عقل سياقي في اتجاه وسبيل واحد ولا يمر بمنعرجات، ونحن لا تهتم بالتفاصيل بل نهتم بمعنى الحياة وعلاقته بالوضع البشري، ونوع التأثير الذي من الممكن أن يمر به الوضع البشري، وفي المتعارف العام الوضع البشري هو من ينتج للحياة معناها، وهذا ممكنا في الشكليات الكبرى من مثل الحرب التي مر بها الوضع البشري في أربعينيات القرن الماضي وفقد الملايين من الأبناء من أمم عدة، وهذا لا تتحمل الحياة الذنب المباشر فيه، وكما هي ليست تمتلك فؤادا لتحتج ضد الحرب، وفي ذلك أنا من ننوب عنها، لكن مدى تأثير الحياة على الوضع البشري يكمن في الجو العام، فالجو العام للحرب مثلا هو متلبد وبشع وليس فيها نور أو ضياء، وكما الليلة الظلماء لا تسر النفس أو تبهجها، والحياة تتلبس ذلك الجو الكئيب، وبذلك يكون انعكاس الحرب شاملا، وليس فقط في البقعة التي قامت عليها الحرب.

الحياة أنثى العالم الساكن والوضع البشري هو الابن إذا جازت التوصيفات، وعلي وجه الخصوص ما تقره الميثولوجيا الدينية، فتشكل أسطورة خلق آدم صورة جانبية وليست مباشرة في خلقه من تراب الأرض، وإذا خلق من تراب الأرض فما الذي كان يفعله في السماء، وترى أكانت تلك ذاته المعنوية التي خضعت للتمحيص والتفسير والتعيين، ولكن لسنا إزاء فكرة خلق آدم وملابساتها، ونحن نحصر أفكارنا في البعد الآني للوضع البشري والمشكلة الكبرى التي تعيشها البشرية، ولا نريد التفريط بالهدف السامي الذي نسعى إليها، ونحن نشعر أننا إزاء مسؤولية عميقة، وتحتاج إلى حد كبير الاهتمام من أكثر من وجه بها وهذا هو ما نسعى إليه، والعالم الرحب المعنى تقابله الحياة برحابة شكلية وسطحية، فالخيانة هي في الدور بالحياة أكثر ما هي في صمت العالم على ما يجري، وإذا افترضنا بأن مفهوم الإنسان الخلاق قد استهلكته الحداثة، وفكرنا بما بعد الإنسان، وتركنا خيانة الحياة جانبا، وفكرنا بمقومات إعادة إنتاج الذات بما يلائم المعنى الخلاق، وإعادة التعويل على الوضع البشري في امتلاك الشعور بالأمل والتفكير بالمستقبل بجدية، وتلك العوامل التي تحطمت إلى أقصى حد ممكن، تحتاج منا السبيل المناسب إلى إعادتها إلى جوهر الحياة العام ونشعر بها من خلاله، وإذا كان الماضي حافلا بالمثل والمعاني السامية، وكانت النفس البشرية بمؤشر استقرار مدهش، فالسرعة التي تخلينا فيها عن ذلك تكاد تكون أكثر دهشة.

لنا وجهة نظر إزاء التغيرات التي مرت بها السينما، وعلي وجه الخصوص في تغيير الرؤيا ووجهة النظر والبؤرة السينمائية من أمثلة حية إلى أخرى جامدة، والمعنى الإنساني الذي كان يرتبط ارتباطا وثيقا بالمثل الحية، ومن خلال وعي ومشاعر الشخوص، وانتقل إلى المثل الجامدة في ظروف ما بعد الحداثة، وبدلا من البشر صارت الآلة البديل النوعي، وأتاحت لها ميتافيزيقا ما بعد الحداثة بتلبس المشاعر البشرية، وما هو شعورك وأنت ترى قطعة حديد تبكي بعد هزيمتها وخذلان الناس، ونقر هنا بوجود متعة جديدة تتناسب مع روح العصر، لكن مديات ذلك الأنطولوجيا العميقة تاريخيا، قد أزالتها ما بعد الحداثة السينما في لحظة إدهاش وغرابة، وربما تقصد ما بعد الحداثة أن تجاهنا لمعنى ما بعد الإنسان، على اعتبار إن الإنسان في حضوره وتاريخه ومعناه قد استهلك تماما، وصراحة (يعادل اهتمامي بما بعد الإنسان شعوري بالإحباط حول الموارد والقيود الإنسانية المفرطة في إنسانيتها التي تحدد قدراتنا المكثفة والإبداعية شخصا وجماعة)1، وإذا نفر بوضعنا البشري من قيود زائفة نجد أمامنا القيود الأخرى بطريقة ملتوية تواجهنا، ويقدر ما خططنا لحفظ ماء وجه الإنسان نواجه أيضا ذلك التخطيط الماكر في عالم ما بعد الإنسان لا يسعى إلا إلى استغلالنا، وكما كانت السياسة تستغل الناس بالمبادئ صارت اليوم تستغلهم بالاقتصاد، وتتفنن في خلق قطيع يتوجه إلى السبيل الذي تريده السياسة وتسعى إليه.

نحن لا نهدف أبدا السعي إلى قولبة الحياة، لكن نحن أيضا ضد عدم التوازن، وإذا فقدنا بشكل واضح توازن القوى، والذي كان يجعل العالم يتمثل في كتلتي الناتو ووارسو، وصرنا في عالم يسمى عالما أحادي القطب، وصرحت النظرية الأحادية قد سبق التحول السياسي إلى القطب الواحد، فقبل أن تكون روسيا زعيمة حلف وأمريكا زعيمة الخلف المعاكس، انتقل الفن من تعدد الأبعاد إلى البعد الواحد، وثورة كاندنسكي الروحية للفن غيرت المعنى العام إلى معنى خاص، وكان سابقا يشعر الوضع البشري بأنه القرين إذا لم يكن هو المثل الأساس للفن، وصراحة انخفضت طاقة الذوق الفني كثيرا، وابتعد الفن عن المجتمع مثلما ابتعدت السينما عن الإنسان ومفهومه، وذلك التغير ليس بالهين، بل له تأثيرات مباشرة، وهذا ما جعل الحياة العامة تتأثر بتلك الصيغ الفنية البديلة، حارت في إيجاد تفسير مقبول، وبالتدريج انخفض مؤشر الحس الاجتماعي بالفن، وارتفعت قيمة الفن لتنحصر في الوعي الموازي أو وعي النخب، ونظرية الحداثة للفن ترى بأن وجود الضفة ملزم، ولا يمكن للفن التخلي عن البعد الأول، فيما ما بعد الحداثة نحت إلى إدخال أفكر حرة في تحليقها، وعلى الرغم من عدم جدارتها، لكنها صارت توازي ذوق النخب والتلقي المشترك معنويا، وطبعا البعض يرى ذلك لا تأثير مباشر له على حياته، فيما تجد في بيته لوحة لا يجد لها أي معنى مقبول.

نسب خيانة الحياة ليست بتلك التي يمكن تقديرها، والحياة التي شهدت منا البشر خيانة لأنفسنا أكثر من تلك الخيانة، فنحن نمتلك مسؤولية كبرى في تنمية روح الشر والخيانة، وصراحة قد تأصل الشر في نفوسنا، وصارت الكراهية شعار أساس لحياتنا بدل من المحبة، ونحن نتحمل أعلى المسؤوليات في ذلك، فبداية لا بد من أن نقر بأننا تحولات من اعتقاد مؤكد إلى حال تجاوز أهمية الاعتقاد، وصرنا نتصور وجودنا من جديد بصورة مختلفة عما كان في الماضي، وبعدما ضاق ذلك العالم الواسع المترامي وأصبح قرية عصرية كما يوصف، تغيرت أحوالنا النفسانية، فبدلا من تأكيد ذواتنا صرنا نفتش عنها ونبحث بلا استدلال، وصراحة ذلك البحث اللامجدي أحيانا يمكن تفسيره كمتاهة بروح معاصرة، وستتسع تلك المتاهة في المستقبل القريب أكثر، وكما سيتغير المعنى الاجتماعي أو ما تبقى منه ذلك الذي كان في ظروف وعهد الحداثة، وفي الحقيقة صعب على الوضع البشري بعد نبذه مؤشر الواقعية والتاريخ العيش في مواجهة متاهة اجتماعية من جهة ومتاهة شخصية من جهة أخرى، وسيكون الوضع البشري أصعب بكثير مما مر به بظروف الماضي، فحسنة الحرب في إيقاظ الضمير العام والخاص على السواء، كم نحن بحاجة لها الآن، وإذا كانت الحرب وجها للشر، فإن أثرها على البشرية فيه إعادة للصحوة الإنسانية المفقودة، وهنا لا بد من أن نقف بأن نقر نحن أبناء البشرية فينا وجوه عديدة للحرب ومعناها، مثلما فينا وجوه لتلك الصحوة التي قد تجدين في ظرفا معينا فقط وبعده تنتهي صلاحيتها.

إذا قد انتقلت الفلسفة الحديثة من الموضوعة إلى الذات في عهد المثالية وما بعدها من مفاهيم الوجودية التي سادت من خلال مقولة – أنا أفكر إذن أنا موجود – لديكارت، فهناك سبب وجيه استوجب ذلك الانتقال، فبعد تطور مفهوم الإنتاج العضوي، والتماس الحاصل ما بين البشر والآلة، تبلورت فكرة مهمة جدا للمعنى الإنساني على الرغم من عظم الشقة، فلقد أصبح الإنسان مركز الوجود وهرمه، وصار فعليا يسعى الوضع البشري إلى إيجاد حل ذاتي، وعلي وجه الخصوص للتضاد القائم تاريخيا ما بين الذات والموضوعة، وإذا صار العقل هو الفيصل في هو أعلى من النفس البشرية التي فيها نسب للشر ربما أكثر من النسب التي للخير، ولكن العقل ليس منزها بالشكل التام، فهو ما بين ذاكرة ولا وعي ومبادئ يكمن أو في دائرة تلك المقومات يدور، ومن الطبيعي أيضا أحيانا أن تجبره النفس البشرية أن يتنازل عن قمته وينحدر نحوها، وذلك جائز خصوصا في المسائل المتعلقة بوضع نفسي، ولكن رجاحة العقل هي التي جعلت الحياة بهذه الامتيازات من التطور، لكن العقل لم يصمد طويلا، وخصوصا بعد عصر ما بعد الحداثة، والذي فيه استبدلت الذات بالشخصية، وصار الأفق التاريخي للتدرج من الموضوعة نحو مثال الواقعي وهو الذات، وهذا الأمر طبيعي جدا، لكن التحول من الذات إلى الشخصية حدد على أنه انتقال للمسؤولية من الاعتقاد إلى الالتزام، لكن تحولت المسؤولية في صيغة الالتزام والغاية المرافقة له، ومن ثم دفعتها السياسة نحو المصلحة وهناك استقرت في عصرنا الحالي دون رجوع.

الرجوع إلى القاعدة المثلى صار مستحيلا، فلم يعد من الممكن رجوع البشرية إلى عالم المثال والمثال والمبدأ، فقد تغيرت الصيغ وتحول العالم البشري من صيغة العطاء إلى صيغة الاستحواذ، وفي صيغة الاستحواذ هناك نفس بشع الرائحة جدا، حيث لم تفسد القيم فقط وتتشوه بل انحدرت بها البشرية نحو الحضيض، وخسر العالم رهانه الرأسمالي بنسب كبيرة، وإذا كان سابقا نستطيع تحديد الأمور، فاليوم لم نعد نمتلك طاقة لمواجهة أي أمر، وخصوصا بعدما صرنا أمام كم هائل من الأمور المختلفة، والاختلاف في سرعة إيقاع العصر قد غير ملامح العصر عن الظرف السابق، والحياة لم تعد تلك المرجوة للتأمل والنظر من خلالها للمستقبل، فلم يعد اليوم يمكننا من النظر خلالها إلى الغد، وحتى ذواتنا التي كانت ذوات عينية أصبحت اليوم ذوات وصفية ليس إلا، وتقدير الأمور لم يعد كما كان، ولا بعد هناك تفكير جدي لخلق نتائج، وإذا نقر بوجود استثناء لخلق النتائج فهو نادر جدا، فمثلا تجد طالبا متفوقا جدا ويطمح إلى نيل شهادة عليا، لكن التميز الذي نهدف إليه هو ليس عبر الشهادة بل عبر العطاء، والعطاء إذا لم يكن يمتلك الرخاء الاقتصادي وقوم المال للتحويل إلى فعل وتكريس الجهود عمليا، سيكون ليس سوى برواز لتلك الشهادة اليوم، وسيكون لتلك الذات البشرية أما أن تستعبدها أيديولوجيا أو تتحول إلى سلعة مصيرها الاندحار والاستهلاك.

العالم إذا كان هو هوية الوضع البشري وكانت الحياة هي الانعكاس الإجمالي له، فما الذي يمثله الوضع البشري لنفسه؟، وهذا السؤال ليس بغاية أو بهدف نفسي أو أيديولوجي، بل بطموح فكري للبلوغ إلى نتيجة مقبولة من قبل العقل نفسه، ومن حق العقل أن يقوم بتوجيه السؤال لنفسه، وإذا كانت حرية العقل أوسع من حرية الذات والبديل لها الشخصي، فإن العقل في حريته لا يمثل هنا الخطاب المرجو، والذي يجد قبالته جهة تلقي، وذلك ممكن عندما يتحول العقل إلى خطاب، لكن العقل بنفسه يختلف تفسيره، وهناك من يرى على أنه مجموعة الأفكار المتجانسة، وآخر يطور الفكرة خصوصا حسب ما أتاحته ما بعد الحداثة، فيكون العقل أوسع، وأصبح إضافة إلى الأفكار المتجانسة أفكارا مختلفة، وهنا وجه الأشكال فالعقل المعاصر قد يختلف مع نفسه، وذلك بالنسبة له يحتمل حصوله بيسر في أفق ما بعد الحداثة أو ما بعدها، وإذا اتاحت ما بعد الحداثة للعقل بلوغ ذلك الحد العصيب، فلا بد من اسباب ترجوها الجهة التي روجت لمفهوم ما بعد الحداثة وما بعدها، واختلاف العقل مع نفسه يعني اختلاف العالم مع نفس، فالعقل هو الوحدة الجوهرية التي يعتمد عليها النشاط الروحي للعالم، والاختلاف يعني التغير في كينونة العقل، وبالتالي لا بد من وجود مظاهر عقلية جديدة يواجهان العقل نفسه، وتفسير العقل النشيط في مجال يختلف عن تفسير العقل الكامن، والذي يستجيب مباشرة للمظاهر العقلية الجديدة.

اليوم نواجه ذلك النوع الجديد من الجهل، فبعدما واجهنا الجهل بصفته الأساس في الحدود المتاحة له نواجه ذلك النوع الجديد الذي نطلق عليه الجهل المتعلم، حيث هناك كم هائل من الشهادات التي يقف خلفها ناس جهلة بالمعنى الحياتي، ولا يمكن درجهم بأية صورة حتى كأنصاف متعلمين، وهذا ما نقصده بمواجهة العقل لنفسه، فهؤلاء وجودهم ليس منعزلا تماما عن الوجود العام، ولا يمكن أن نصف المدنية قد تخلت عنهم وأبعدتهم عن أفقها، بل هو جزء من النسيج الاجتماعي في إي بلد من بلدان العالم المعاصر، والعالم المعاصر نقصد به عالما ما بعد الحداثة والذي يختلف جزم عن عالم الحداثة الواسع والعميق تاريخيا، ففي الحداثة انعدمت مواجهة العقل نفسه بشكل كبير ولم نشهد وجود صراع بين الجهل والمعرفة، بل كانت ناصية الجهل تتوسم بناصية المعرفة أن تمدها بالمعلومات وتحقق لها تواصل التعلم، والغريب أن وسائل التعلم وتطوير العقل متاحة بشكل أوسع بكثير مما مضى، فاليوم الفضاء الإلكتروني ينقلك إلى أي معلومة بسرعة كبيرة ويختصر لك الزمن لبلوغها، والنجاح النوعي صارت اليوم سبله يسيرة، لكن تجد كما كبيرا يترك فائدة المعلومات التي من الممكن أن يملأ بها خانة فارغة من خانات العقل، لكن الجهل وجه البشرية إلى اللهو، بل تمادى أكثر فتحولت البشرية إلى الألعاب غير المسلية، والتي منها ما يحول الإنسان إلى قاتل متوحش، ولا بد ذلك العمل غير تام البراءة في تقديمه بتلك الميزة الدموية.

لابد من فصل شعورنا البشري عن معنى الحياة، واذا لا نقوم بالفصل فسنقف على فكرة أن الموجود البس الوجود قناعه وبالتالي راح يتهم الوجود على بشاعة ذلك القناع، والصراحة النفسية مفقودة وكذلك الصراحة الموضوعية بنسب اقل، ولم يعد هناك مورد عقلي نعول عليه (لم تلق الفلسفة بعد ضوء كاف على المضمون الاجتماعي للمعرفة ومن الروابط العقلية التي تربط بين الناس وتجعل التفاهم بينهم ممكنا)2، واذا انعدم سبيل الاتصال ما بين المعرفة والناس وانعدمت الدرجات المؤهلة، وتصاعد انطواء الفرد البشري على شخصه وليس ذاته النشطة عقليا، وازدادت نسب انفصاله عن النسيج الاجتماعي الاصغر وهو الاسرة، وهذا بدوره سيوسع مساحة الانفصال عن النسيج الاجتماعي الاكبر، وهذا الضياع الملموس لا ندري ما الذي سيأتي بعده، والفرد منا نحن جميعا لو حرك الساكن من حياته بعزم إزاء بشاعة ذلك القناع، وامتلكنا إرادة فاعلة إزاء علة ومشكلة ذلك التشويه وبحثنا في وقعنا وفي أنفسنا عن السبب المقنع، وبالتالي نحصل على نتيجة تستوجب علينا التفكير والتخطيط للمعالجة وحل المشكلة، لكن اعتقد جازم أن أحدنا لا يقف أمام المرآة طويلا ويبحث في نفسه عن السبب المباشر لتشويه حياتنا، بعدما تمكنت من أن تتنفس برضا بعد حرب عالمية أزهقت أرواح ملايين الأبناء، والحرب التي كانت تهرول بالموت تجاه أرواح الجند إذا همدت في أفق واقعها ومظهرها البشع، فهي قد عادت من جديد داخل نفوسنا البشرية.

إذا أردنا أن نفسر النزعات النفسية فمن الطبيعي لا نجلب ذلك الطبيب النفسي إلى الحياة ليكشف عنها، ومن المعتقد التاريخي بمقدرة علم النفس هناك مؤشرات عامة ليست لصالحه، وأقول صراحة علم النفس إذا عالج أحد المرضى فسينتج لنا مريض آخر، وتلك إحدى مشاكل الحياة البشرية، ولا أفصل البشرية عن الحياة ولا الحياة عنهم، ففي التفسير الموضوعي للفلسفة، إن الحياة هي الكيان العام للبشرية وحيواتنا هي الكيان الخص، ووفق هذا المعنى ننطلق لدراسة العلاقة بين الحياة والوضع البشري، والمفاهيم الأخرى الضيقة التفسير العام تجاوزنه جميعا، في مفاهيم ذاتية ونحن نسعى إلى مفهوم مشترك ما بين الفلسفة والمجتمع، لكن ليس على طريقة فلسفة ما بعد الحداثة، والتي لم تختلف عن مسعى علم النفس الإجرائي إلا بالمسميات، فدراسة التفاهة اجتماعيا لا تنتج نتائج ولا هي بفائدة ولا يمكنها تحسين حال المجتمع، ونحن لا نعيب على العقل الفلسفي الجديد، لكن لا نجد في مساعيه ما يفيد البشرية، وليدرك ذلك العقل أن مستويات اليأس الإنساني داخل الوضع البشري بلغت أقصى حدودها، فما الذي يضيفه الفكر الفلسفي من خلال مفهوم التفاهة للوضع البشري، ونحن ندرك تمام انحدار الحياة البشرية نحو التفاهات الموضوعية، ونفصل صراحة بينها وبين التفاهات غير الموضوعية، فالتفاهة الموضوعية تدخل في خضم الحياة فيمما غير الموضوعية لا تبلغ ذلك الحد إلا عند العقل البسيطة والساذجة، ولا تبلغ العقل العملي ولا العقل العلمي.

إذا قمنا بترجيح العقل النشيط كمتمكن من خلق جدوى للوضع البشري المنهار حضاريا وأخلاقيا ونفسيا، وتصاعد مؤشر انحسار الإنسان داخل وجودنا البشري، وإذا فصلنا البعد المفاهيمي للحياة وأبقينا على المقومات الواقعية فيها، فتلك المقومات هي نتاجنا وليست أنتجتها الحياة بمعزل عنا، ومن ثم هي ترد إلى مرجعيات بشرية، فكل فعل بشري له فاعل، فلم نقل ذلك من مقومات الحياة، وصراحة نحن نحتاج إلى فصل لساني وعضوي بين أفق وآخر، فأي أفق لأفعالنا تقع مسؤوليته مباشرة علينا، وإذا قبلنا أن تكون الحياة هي ذلك الانعكاس الذي يشعرنا بما فعلنا، أو هي تلك المرآة غير البيانية، وصراحة يا ليتها كانت بيانية ونشاهد أفعالنا كما نشاهد المشاهد إلا إنسانية في فيلم ونقوم بنقدها، وقيامنا بنقدنا بشكل عير مباشر هو إحدى المهمات المطلوبة منا، والتي تخلينا عنها بعدما كانت إحدى الطبائع الأسرية المثلى، وصراحة صرنا نقوم حتى بخيانة أنفسنا، ولسنا فقط اجتحنا الغير وصرنا ننقده بلا حق إنساني، وتجاوزنا الحدود صار أوسع بكثير ما كنا عليه، فاليوم تشهد المواقع الاجتماعية ليس بيان رأي إزاء فكرة معينة، بل تجاوز الحدود الشخصية بالشكل المستمر، ونحن لسنا نقصد تشخيص الأمور والأفكار هنا بالقدر الذي نسعى فيه إلى دعم الأفكار، وصراحة أجد اليأس بلغ أقصى حدوده من إمكان العودة إلى العقلانية، ولم نعد نملك الحلول المقبولة، وإذا لم نعد نمتلك الحلول المثلى لأنفسنا، فمن الطبيعي أن نتخلى عن مشاركة الغير.

ما هي السبل إلى السير؟ طبعا السؤال لا يحتاج إلى إجابة، فالصبر ينبع من داخلنا نحن البشر، ولن تجد في إي صيدلية وصفة مناسبة للصبر، إذن نحن أمام معضلة وعلى وجه الخصوص في وضعنا البشري المعاصر، وتلك المشكلة لا حلول واقعية لها تماما، وكذلك من الندرة أن تجد لها الحلول الجوهرية، وطبيعة الحياة حياتنا تلك الأم البائسة هي لا تهتم لعوامل الصبر إلا ما ندر، فمن الصدفة أن نعثر على إنسان صبور دون اكتراث، فتلك العصامية النادرة هي وجه رجعي في الأفق العام، والذي لم يعد يعرف معنى للصبر، حيث لقد اعتاد الوضع البشري في ما بعد الحداثة وربما ما بعد بعدها أيضا، أن يضع الصبر على الطاولة ويخرج، فالحياة في نمطها الجديد هي بلا أي معنى للصبر، وهناك في نمط الحياة الجديد هذا صرحت صيغة الزمن ونمط سرعتها أبعد الحياة بعيدا عن الصبر، ومن ثم تطبع الفرد البشري على صيغ الحياة الجديدة وتداولها جعله ميالا لعدم الاكتراث إلا بما تطبع عليه، ومن أكثر الأمور التي اعتاد عليها الفرد وتطبع هي استهلاك الأشياء، ودون إحراج نجد الفرد لا يصبر حين تنفد سجائره ويقوم على الفور بشراء السجاير بعد استهلاكه ما سبق، وليقوم باستهلاك تلك ويستبدلها بغيرها، وإذا قيل في الأمثال بأن الصبر مفتاح الفرج، فالفرد يصبر على سياسة بلد رعناء، لكن لا يصبر إذا نفدت شكائره .

***

محمد يونس محمد

..........................

1- ما بعد الإنسان – روزي بريدوتي – ترجمة حنان عبد المحسن مظفر – عالم المعرفة – ص 25

1- العزلة والمجتمع – نيقولاي برديائف – ترجمة فؤاد كامل – دار الشؤون الثقافية – ص 83

في المثقف اليوم