أقلام فكرية

علي محمد اليوسف: ازمة الفلسفة المزمنة

تصدير: الحقيقة التي لا يمكن للعقل الفلسفي تصديقها ولا حتى ادراكها ادراكا سليما هو ان تاريخ الفلسفة اصبح اليوم عبر عصورها الطويلة بضوء تسارع منجزات علم الفيزياء والنظرية النسبية ونظرية الكوانتم سلسلة من الثرثرات اللغوية التي لاقيمة لها بالحياة العملانية.

كما اصبح الاقرار الفلسفي اليوم الذي لايحتاج كبير عناء تجريبي التاكد منه هو ان الفلسفة توازي العلم ولا قدرة لها ان تقاطعه وتتعايش معه الا جثة هامدة الى جانبه بالقياس الى تسارع منجزات علوم الطبيعة والفيزياء بتسارع مطرد لا تفهمه الفلسفة ولا تستطيع تفسيره بادواتها الكلاسيكية القديمة. لقد كان كانط اسطورة الفلسفة في احتياله على معطيات العلم حينما قال في كتابه نقد العقل المحض انه كتاب يحتوي آراءا فلسفية خارج تجريبية العلم وقفل الموضوع بالدرس الذي لم يستوعبه من جاء بعده ان الفلسفة لا يسعها لا التقاطع مع العلم ولا السير بموازاته بتكافؤ معه. ومن يأمل اليوم وضع الفلسفة في خدمة الدين يخون الدين ولا يفهم الفلسفة. لقد حاول ذلك فلاسفة كبار في تاريخ الفلسفة امثال ديكارت وباسكال ولايبنتيز وفشلوا فشلا كبيرا. فمن يسقط بالحياة لا يسنده من هو آيل للسقوط من بعده.

المتن

كما قضى الدين على الاسطورة والسحر نحّى العلم الدين عن طريقه في محاولة الاجهاز النهائي على مستقبل الفلسفة والسرديات الكبرى في مقدمتها السرديتان الدينية والماركسية التي اكتشف العالم انتهاء تاثير هذه السرديات كما تنبأ به عالم الفيزياء ستيفن هوكنج وروّجت له مرحلة ما بعد الحداثة ان السردية الفلسفية في طريقها الانزياح امام هيمنة علوم فيزياء الكون المطلقة الكاسحة. وتعلل بعض الفلاسفة أن رأي ستيفن هوكنج هو رأي عالم فيزياء وليس رأي فيلسوف تعاطى التفلسف والفلسفة باقية بقاء الفلاسفة لا بقاء علماء الفيزياء.

في مقال أعجبني للاستاذ حاتم محسن حميد نشره على موقع المثقف تاريخ 11/4/2023 تحت عنوان (ماذا يعني الان باديو بمعارضته الفلسفة؟ ) اشار الى ان الفيلسوف الفرنسي المعاصر الان باديو ومعه اتباعه هاجم الفلسفة بضراوة متهما اياها انها في مباحثها اليوم اصبحت زائدة دودية في جسد المعرفة الانسانية. وعليهم التفكير بشيء آخر غير الفلسفة يحل محلها. هذا تلميح لما عرضه استاذ حاتم في مقالته عن كتاب الان باديو حول وجوب دفن الفلسفة والخلاص منها.

هذا التوجه في معاداة الفلسفة ليس جديدا بالنسبة لعامة القراء والمثقفين على نطاق عالمي لكن جدّته أن يصدر اليوم عن فيلسوف فرنسي يدين الفلسفة من داخلها وهو احد متعاطيها ومعه ثلة من فلاسفة فرنسيين واوربيين يؤيدون مثل هذا الطرح. الان باديو اراد محاولة استبدال الفلسفة بما يعوّض حاجتنا الزائفة المكابرة لها على حد اعتياشه على مثل هذه الصرعة القديمة الجديدة انتهاء عصر الفلسفة..

على مدار تاريخ الفلسفة نعثر على عشرات الفلاسفة عبر العصور ادانوا عدم جدوى الفلسفة في استنفاد طاقتها الفكرية الحيّة الموصولة بالحياة بدلا من التحديق الماخوذ بميتافيزيقا الوجود الانساني.. وكانت الفلسفة في كل كبوة تكاد تقصم ظهرها تستعيد مسيرتها بتقليعات استهلاكية فلسفية لا تلبث ان يخبو بريقها وتموت في بطء لا تحسد عليه. عثورنا على مباحث فلسفية هابطة عبر تاريخ الفلسفة هو عيب الفلاسفة وليس عيب الفلسفة.

المقولة الفلسفية التي لم يصدقها ويعمل بها الفلاسفة منذ قرون طويلة ان الفلسفة في كل مباحثها هي ميتافيزيقا قائمة على منطقية لغوية لامعنى واقعي لها في الغالب ولا فائدة تطبيقية منها بالحياة اليومية. لتواجههم حقيقة فلسفية بلا مكابرة تلفيقية أن الانسان كائن ميتافيزيقي بالفطرة وحده فقط وليس مباحث الفلسفة ميتافيزيقا لا جدوى منها.

طبعا كان المقصود بميتافيزيقا الانسان بالفطرة معناه انه كائن متديّن بالفطرة كما هي خاصيته كائن اجتماعي ناطق. الفلسفة على حد تبريرهم وهم ان مباحث الفلسفة بقيت عصورا طويلة تقوم على الوجود بماهو موجود في مركزية الانسان فيه، والمبحث الثاني هو ان مبحث الابستمولوجيا يتداخل مع المبحث الاول في مركزية الانسان ايضا هي مركزية معرفة مفهومية بالفلسفة وليس معرفة علمية. والمبحث الثالث والاخير هو مبحث القيم والاخلاق والسلوك النفسي العاطفي الوجداني في مركزية الانسان ايضا.

إذن بلاغة وصدق بروتوغوراس في مقولته (الانسان مقياس كل شيء) خالدة خلود ولادة براجماتية الفلسفة الامريكية التي وصفها بحنق شديد بيراتراند راسل انها فلسفة نذلة وخسيسة لكن واقع الحال لم يكن كذلك للاميركان.

في تاريخ الفلسفة المعاصرة نجد فلاسفة سبقوا الان باديو في دعوته تجديد الفلسفة جذريا من مباحثها الكلاسيكية الثلاث مثل فينجشتين وجورج مور اقطاب الوضعية المنطقية التحليلية الانجليزية اللذان هاجما الفلسفة على انها اصبحت عبئا لغويا في تشتيتها مباحث الفلسفة التقليدية. ودعا الاثنان فينجشتين ومور ضرورة التخلي عن لغة الفلسفة العصيّة على الفهم الاستقبالي واستبدالها بلغة الوضوح القريب من اللغة الدارجة مجتمعيا والا كان الصمت اجدى حين يكون عجز التعبير اللغوي عن افكارنا بوضوح يفهمه العامة على حد تعبير فينجشتين وجورج مور لا يقاطع لغة الفلسفة العصيّة على الاستقبال والتلقي بما يستقي من ينابيع الحياة الواقعية..

كما لا نعدم وجود فلاسفة منذ القرن السادس عشر مثل فرانسيس بيكون الذي هاجم الفلسفة في اسلوب تهكمي ساخر فريد من نوعه سبقه فيه الفيلسوف الارستقراطي هولباخ وكتابات نيتشة التهكمية الساخرة عن لا جدوى الفلسفة. كما اعلن بيراتراند رسل بعد اخفاقه في جعل فلسفة اللغة تقوم على ركيزتي المنطق والرياضيات حسب توصية جاتلوب فريجة وبعد تفكك ماسمي حلقة اكسفورد التحليلية المنطقية التجريبية اعلن راسل صراحة على الملأ انه يفهم بالعلم ويجهل الفلسفة في نبرة تنم عن رغبته الهروب من مسؤولية الاخفاق بدل مواجهة نتائج معركته الخاسرة في تحويل الفلسفة الى منطق رياضي.. وبعد انجاز ما يقرب من خمسين مؤلفا لراسل بالفلسفة اتجه نحو تاليف مثل عددها من كتبه في مباحث ليست فلسفية صرفة حتى وفاته موّثقا تقلباته الفكرية المعهودة عنه في مؤلفاته المتأخرة بعيدا عن مباحث الفلسفة التي استنفدها ولم يعد لديه ماهو جديد يقوله فيها. .

ولو استذكرنا تجربة كارل ماركس وهو قمّة راس هرم الفلسفة المعاصرة في هجره ومعاداته الفلسفة وهجومه عليها بعبارته الشهيرة وجدت الفلاسفة والمفكرين يفسرون التاريخ البشري بدلا من العمل على تغييره. حين وجد ماركس مباحث الفلسفة عقيمة التطويع الايديولوجي الثوري بما ينفعه في طموحه تاليف كتاب راس المال في الاقتصاد السياسي القائم على ايديولوجيا صراع مصالح الطبقات الغنية والطبقات او الشرائح الفقيرة ترك الفلسفة جانبا بعد ان وجدها (مبحثا في ميتافيزيقيا البحث عن الحقيقة) على حد تعبير الباحث حاتم حسن حميد المقتبسة عن الان باديو في مقالته المشار لها.

اجد في ادانة الان باديو وقبله عالم النفس السلوكي الفيلسوف الفرنسي ايضا جان لاكان وعديدين من فلاسفة البنيوية مثل ليفي شتراوس وفوكو والتوسير ودي سوسير انهم بدأوا متحمسين لانقاذ الفلسفة من وهدة سقوطها العقيم في اجترار من تدوير الافكار الفلسفية مع تبنيهم فلسفة اللغة ونظرية المعنى والتحول اللغوي والتوجه نحو علوم اللسانيات اللغوية مطلع القرن العشرين وسرعان ما تخّلوا عنها لامثال بول ريكور في التاويلية وجاك دريدا في التفكيكية وفانتيميو في العدمية يصولون ويجولون في اللعب على مبحث فلسفة اللغة التي اصبحت الفلسفة الاولى في منتصف القرن العشرين على حساب إزاحة مباحث الفلسفة الاخرى خاصة مبحث الابستمولوجيا الذي شن عليها الفلاسفة الاميركان أمثال ريتشارد رورتي وجون سيرل وسيلارز وسانتيانا وغيرهم هجومهم الكاسح علىيها معتبرينها مبحثا فلسفيا استغفاليا سرق من تاريخ الفلسفة قرونا طويلة. وكان هذا النقد الشديد لمبحث الابستمولوجيا جاء قبل تفكير فلاسفة فرنسا والمانيا به. ليواجه فلاسفة البنيوية اللغويين الفشل الذريع امام الفلاسفة الاميركان الذين نصحوهم بعد انتهاء فترة استقدامهم التدريس بالجامعات الاميريكية العودة الى بلدانهم فرنسا ودول اوربا اذ لم يبق لديهم ما يستحق الاهتمام به في فلسفة اللغة والعقل واللسانيات بعد استلامهم اي الفلاسفة الاميركان زمام المبادأة منهم في تطوير مباحث فلسفة اللغة واللسانيات ونظرية المعنى..

لماذا يدين الفلاسفة الاوربيين الفلسفة اليوم؟

ازمة الفلسفة اليوم عالميا هي ازمة الثقافة المكتوبة التي تلازم هيمنة موسوعية الانترنيت الهائلة التي لاحدود لها في طموحاتها العلمية المتحققة والمستقبلية سواء في اروقة الجامعات او على صعيد القراء في ضروب الاجناس الادبية من شعر وقصة ورواية ونقد. كما هو الحال ايضا في مختلف مباحث السرديات الكبرى في التاريخ والدين والانثروبولوجيا والاقتصاد والسياسة وعلم الاجتماع وغيرها.

عالم اليوم ليس عالم النخب الثقافية كما بالامس ولا عالم النخب الفلسفية التي تقود بل عالم النخب التي تنقاد في عزلتها المجدبة الثرثارة القائمة على تدوير الافكار باختلاف لغة التعبير لا في اختلاف لغة المعنى الهادف. عالم اليوم مع الظهور الاستهلاكي الصناعي المبرمج لافاق استخدامات الانترنيت الترياق الاستهلاكي البيولوجي بامتياز ليس الكفيل باشباع الحاجات البيولوجية الغرائزية وحسب بل الساحر العجيب في قتل الوقت استهلاكا كسولا، وترسيخ الاغتراب الانعزالي عن المجتمع، وتعاطي الاباحية الجنسية، وإدمان المخدرات والكحوليات، ودخول نفق كآبة الحياة في انتشار الفقر والبطالة وغير ذلك.

وسط هذا التيه العدمي المعاصر اصبح كل ماهو بعيد عن اشباع حاجات الاستهلاك البيولوجي والغرائزي اليومي السريع لا قيمة له في مقدمتها تاتي الفلسفة النخبوية التي تتطلب مطاولة وجلد قاس في فهم مباحثها بالقراءة الورقية والالكترونية.

لامجال بعد اليوم لكل فعالية معرفية جادة تجدها تحتضر وسط مجتمعات تمور بشتى انواع الاستهلاك اليومي البوهيمي المتسارع جدا. مجتمعاتنا العربية لا تهتم بالفلسفة لانها تتقدمها اولويات اهم اخرى بالحياة التي يبحث الانسان العربي فيها عن لقمة العيش وسلطة حكام يفهمون معنى الوطنية اكثر من المواطن البسيط..

الشيء الملفت للنظر ان بداية تخلّي الفلاسفة الغربيين عن اغناء الفلسفة بمباحث جديدة جاءت علي ايدي فلاسفة البنيوية حين وجدوا في فلسفة اللغة وماسمّي التحول اللغوي طريقا مسدودا بعد ان كانوا هم البادئين به اولا مطلع القرن العشرين، وجدوه لا يوصل لتجديد تصحيحي لمباحث تبدو منطقية لا معنى لها في تاريخ الفلسفة فانصرفوا الى معالجة مباحث قريبة جدا من علم الاجتماع وعلم النفس والاجناس الادبية خاصة في مجال النقد الادبي كما في توظيف التفكيكية في النقد الادبي العربي (كمال ديب). كما دخلوا عوالم علم النفس الفرويدي والسلوكي وربطه بفلسفة اللغة ومنهم من اتجه نحو الانثروبولوجيا مثل شتراوس كما اتجه فوكو نحو الجنسانية والسلطة والجنون.

هذه التنويعة المهمة من مباحث متعالقة فلسفيا مع العلم وغيرها فتحت ابواب الاجتهاد الفلسفي خارج فرنسا والمانيا وفّينا امام الفلاسفة الاميركان الذين استغلوا فلسفة اللغة والعقل واللسانيات افضل استثمار فلسفي حيث ازدهرت الفلسفات الاميريكية ازدهارا لا يزال قائما ولم تفقد الفلسفة لديهم حضورها ومباحثها من الاقبال عليها والاهتمام بها لا في التدريس الجامعي ولا في التاليف الورقي والنشر الرائج على صفحات المواقع الالكترونية..على خلاف انحدار متوالية احتضار الفلسفة في البلدان الاوربية ومعقلها الاول المعاصر فرنسا. رغم ان وباء النزعة الاستهلاكية المجتمعية فاعلة بالاوساط المجتمعية الامريكية اكثر تنوعا مشاعيا مما هو سائد اوربيا في حرية يلجمها القانون احيانا. وهي مفارقة لم يستوعبها فلاسفة اوربا ولكن هضمها الفلاسفة الاميركان دونما جعل الظاهرة الاستهلاكية عندهم تتداخل في حضور الاعاقة الفلسفية النخبوية..

كما اجد ما سبق لي ذكره في اكثر من مقال أن في ادخال فلاسفة اللغة واللسانيات واصحاب نظرية التحول اللغوي الاوربيين الفلسفة في متاهة الغوص باللغة بما هي لغة نحوية هي من اختصاص علماء اللغة واللسانيات في انفاق مقطوعة الاوصال والصلات عن دفق الحياة وتغريب لغة الخطاب الفلسفي من فهم العامة كانت منحدرا خطيرا في تاريخ الفلسفة بدلا من انتشالها من الترهل والانحراف ومراكمة التكرارالكمّي في القائهم التهمة الجاهزة على اللغة انها تضليل العقل في تعبيرها القاصرعن الايفاء باعطاء المعنى الدقيق لمباحث الفلسفة..

كان من المتوقع للفلسفة الاوربية بتنوعها البسيط ان تصل مصيرها البائس المرتقب في الاصطدام بمجاهرة بول ريكور وجاك دريدا وفانتيميو ابو العدمية وغيرهم ممن تلاعبوا بفلسفة اللغة براديكالية ما جعل منها هامشا يوازي الحياة ولا يقاطعها ولا يحتدم بصراع معها يخدمها بل كانت في مجمل كتابات امثال دريدا وبول ريكور الفلسفية وغيرهما لا تخرج عن ثرثرة تداول اللامعنى اللغوي العقيم المتناسل باسم جديد هو فلسفة اللغة بعيدا عن كل صلة ترابطية لها بقضايا الحياة كما هو حال العلم توفيره كل انماط الاستهلاك الترفيهي الجاذب للعامة.

من المسائل التي ازدرتها الفلسفة عامة تفاقم الوعي العنصري العرقي والديني بحدة في بلدان اوربا وامريكا نهايات القرن العشرين مع ازدياد الهجرة الافريقية ومن جميع بلدان العالم الثالث إليها. فدبت المشاعر العدائية العنصرية ونوازع التفرقة وتثوير الحقد تحت مسميات وسلوكيات في معظمها كان يخفي هاجس اشباع نزعة الاستهلاك المتأصلة في الذهنية السلوكية الاوربية - الامريكية الذي يمولها ويغذّيها المبدأ الاجتماعي العام بضرورة ترحيل من يشاطرون السكان الاصليين تقاسم الغنيمة الحضارية الاستهلاكية في وقف مزاحمتهم لهم استنفاد مستهلكات حياة السعادة والرفاهية القائمة على اشباع حاجات وغرائز بيولوجيا بوهيمية..

في مثل هذه الاجواء المعيشة لا تكون نخبوية الفلسفة تهم حتى نخب التدريس بالجامعات الا بمقدار ما تكون الافكار الفلسفية مطيّة الانفراد الامريكي العولمي بالعالم ولعل خير مثال على ذلك خروج اثنان من اساتذة ومفكري امريكا من جامعة هارفارد التي تبنت طروحات كلا من فرانسيس فوكوياما حين نشر عام 1989 مقالة اثارت جدلا حول ما اطلق عليه نهاية التاريخ وعصر الانسان الاخير في العولمة الاحادية الامريكية وافول عصر احتراب الايديولوجيات ابان الحرب الباردة. بعده باربع سنوات نشر صوموئيل هنتكتون مقالة تحت عنوان حتمية صدام الحضارات مرشحا كلا من الاسلام كايديولوجيا دينية ترافقها الصين كقطبي صدام بالضد من العولمة الامريكية. طبعا كلا الطرحين يحملان بذور استحالة تحققهما تاريخيا واقعيا كما اثبتت الاحداث اليوم عالميا. وقد كتبت اكثر من مقالتين منشورتين لي على موقعي المثقف والحوار المتمدن اوضحت خطل ولا واقعية الطروحات العولمية وهي موجودة بكتابي (العولمة بضوء نهاية التاريخ وصدام الحضارات صدر عام 2015). وليس هذا موضوعنا بهذه المقالة.

ومن الاسباب التي جعلت الفلسفة تركن نفسها بالعزلة اليائسة هو هيمنة ايديولوجيا السياسة على منجزات العلم الربحية التجارية المتطورة الهائلة العابرة للقارات لذا لم يعد هناك مجال لتضييع الوقت والجهد فيما تتناوله الفلسفة من مباحث لا صلة حقيقية لها بالحياة الاستهلاكية المتغوّلة وراء اشباع الحاجات الغريزية البيولوجية الصرف التي هي منبع مصنع الحيوية البشرية العلمية في تحقيق الرفاهية والسعادة في جميع اشكالها الابتذالية المتحررة من كل قيد..

في تاكيد مركزية كتاب الان باديو كما عرض التعريف به استاذ حاتم على اهمية مخطوطة اوراق فلسفية او ما اطلق عليه التراكتوس لفينجشتين في زعم كسبه قصب السبق كما يبشّر به الان باديو بمعاداته الفلسفة وفي وجوب تبديل الفلسفة باشياء اخرى جاءت في وثيقته لا صحة لبطلها فينجشتين ولا صحة الافكار الفلسفية المقتضبة المتناثرة التي طرحها فينجشتين بها. آراء فينجشتاين في رسالته الفلسفية وحتى في كتيّبه الصغير الاخر (تحقيقات فلسفية) الذي اقدم فيه على التراجع عن كل الاخطاء التي تضمنتها مخطوطته الاولى حول فلسفة اللغة ولم يجد طريقا ينقذه من فوضى الافكار والاختلافات التي استعرت بينه وبين بيرتراند رسل وبين جورج مور ونورث وايتهيد عالم الرياضيات والمنطق وكارناب احد اقطاب الفلسفة الوضعية التحليلية النمساوية التي انفرط عقدها والانفصال عن مؤسسها فورتيز شليك.

لم يجد فينجشتين امام هذه الفوضى الفلسفية بعد مجيئه لندن وانتمائه تحت حلقة اكسفورد بزعامة راسل سوى صب كامل غضبه الشديد اليائس امام اصطدامه بعجز الايفاء بما اعلن عنه حول مهمة فلسفة اللغة تصحيح تاريخ الفلسفة في تصحيح مسار معنى اللغة.

كان الاجماع الفلسفي بلندن من ضمنهم فينجشتين وحلقة اكسفورد متاثرين بما طرحته الفلسفة البنيوية الفرنسية ان تصحيح تاريخ الفلسفة من الترهل الزائد جدا مرتهن بما ستقوله فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات ونظرية المعنى قبل التشرذم الاختلافي الفلسفي في كيف يكون التصحيح العملاني التجريبي بضوء فلسفة اللغة؟. وهذا لم يكن له من التاثير القوي في تقويض تاريخ الفلسفة بعد وصول فلسفة اللغة الطريق المسدود اوربيا وليس امريكيا ما جعل الفلسفة تتجه نحو طروحات بحثية ودراسات في مواضيع تحاول مهادنة العلم من جهة والدين وعلم الاجتماع من جهة اخرى.

وبعد الاجهاز التام على مبحث الابستمولوجيا من قبل الفلاسفة الاميركان ما جعل الفلسفة تعيش في عراء الوقوف المتجمد في اعتياشها على هامش التداخل مع علم النفس والاجتماع وغيرهما من مباحث استطاع بها الفلاسفة الاميركان المباهاة انهم موجودون قبل وبعد انهيار الفلسفة الاوربية على صعيد مباحث فلسفة العقل واللغة واللسانيات.. اذن لم تمت الفلسفة عالميا عقب جنازة وفاة الفلسفة فرنسيا واوربيا. ومحاولات الان باديو وغيره دفن الارث الفلسفي الفرنسي تحت لعبة استحقاق تاريخ الفلسفة الموت والاندثار بعد ثبوت عجز الفلاسفة استحداثهم مباحث تثري الحياة دعوة يائسة لا تقدم ولا تؤخر.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

 

 

في المثقف اليوم