أقلام فكرية

سامي عبد العال: سلطة الحقيقة (5)

تظل معالم الحقيقة باقيةً مهما كانت التحديات والظروف المحيطة بها، ونحن ندرك أنَّ السلطة تقدم لها تأويلاً بحسب مآربها الخاصة. وترى فيها خطراً داهماً يجب التخلص منه. ولكن نظراً لكون الحقيقة لا تتلاشى (كما سنعرف بعد قليلٍّ)، فلا تملك أيةُ سلطةٍ سوى حجبها. إنَّ فعل الحجب، الحظْر، المنع، يلائم الحقائق الإنسانية لا فعل النهاية ولا الموت. أبداً لا تموت الحقيقة، فلا أحد بإمكانة قتل الحقائق كأنها ضحية لعملية اغتيال أو دهس بالطريق العام. وهي خطر على السلطة، لأنَّ الأخيرة ترى فيها ما كانت تود أنْ تراه في نفسها، أي ترى السلطة فيها الأصل الذي لا تستطيع أنْ تكونه.

بقاء

تقف الحقيقة عصيةً على التلاشي، ليس لها حدٌ يمكن اعتباره حدَ الفناء. هي ممتنعة أيا كانت محاولات النيل منها. وعندما تتراكم السنون والأيام فوق حقيقة إنسانية معينةٍ، يتخيل الناس أنها قد دُفنت دون رجعةٍ. ولكن هذا محض وهم لا أساس له من الصحة، لأَّن الحقيقة لم يحدث أنْ دفنت، ولن يُفعل بها ذلك. لقد تحولت -حال غيابها لأي سبب من الأسباب- إلى طبيعة رمزية أخرى من التواجد المكثف.

البقاء هو نتاج لعمل الثقافة والذاكرة ضد كل نسيان، وليس هو النسيان الوارد عادةً لدى آحاد البشر، لكن أقصد أنَّ البقاء يصمدُ مع ذاكرة المجتمعات. فالمجتمعات انشئت لتتلافى آليات وقوانين النسيان. ضمن التاريخ الفعلي لا يوجد ما يُسمى بالنسيان. لأنه عبارة عن ذاكرة بنيتها الجمعية على اتساع الأزمنة وتحولاتها، إنه ذاكرة لا يعنيها فرداً بذاته، لكنها ترصدُ موقعه بكافة التفاصيل مثل تفاصيل الآخرين في حركة المجتمع الدائرةِ عن كثبٍ.

كل أدوات التذكُّر متوافرة وتعمل بقوة فائقة التقدير: الأرشيف، التسجيلات، الوثائق، التدوينات، القصص الشعبي، الأمثال العامية، الآداب، الأشعار، النصوص، الخطابات العامة، المحاضر الرسمية للمؤسسات والهيئات، ذاكرة الأجيال، سجلات القضاء، المناسبات والطقوس. أشياء تصب بطريقة أو أخرى في زاوية رصد الحقائق. وإذا كان العقل البشري ممتزجاً بقوى الضعف والوهن، فليست ذاكرة المجتمعات كذلك. المجتمعات لا تنسى، وهي تفعل هذا بملء الكلمةِ لا غير.

هكذا تبقى الحقيقة كامنة هنا أو هناك، وهي كذلك بالنسبة لجوانب التاريخ. والتاريخ من زاوية الحقائق عدة أنواع تحتفظ بآثارها وحفرياتها.

أولاً: التاريخ العام: ذلك الذي يحمل تفاصيل الأحداث الكبرى، أي بما يخص المجتمع ككل مثل الثورات والتحولات السياسية والظواهر الاجتماعية والحروب والتطورات الاقتصادية. ولا يعبأ كثيراً بالأحداث الصغيرة التي قد تقع بين ردهات الحياة اليومية. وهذا التاريخ عادةً تاريخ متجمدٌ إلى حين، لأنه ينتظر عقوداً من السنين حتى يرصد ما يقع، كما أنه يمتلك عيوناً واسعة الحدقات لا تلتقط إلاَّ الحركة الزمانية والمكانية بعيدة الخطى.

ثانياً: التاريخ الخاص: تاريخ يهتم بالأحداث الخاصة مثل مسار بعض الشخصيات الشهيرة وتاريخ المدن والقصور والتجمعات البشرية وتطورات السياسات النوعية في قطاعات المجتمع والإقتصاد. وهذا التاريخ يهتم بتلك الأشياء بقدر ما تؤثر في المجتمعات، وبقدر ما تصب في مجرى الأحداث الكبرى. إن تاريخاً كهذا يضرب موعداً مع الأحداث الخاصة (ظواهر– شخصيات– وقائع) على فترات متباعدة، لانه ليس يظهر مثلها على نحو متقارب زمنياً.

ثالثاً: التاريخ اليومي: تاريخ يرصد تفاصيل الحياة اليومية، الممارسات والعلاقات والحركة اليومية للمجتمعات. وفي الواقع يقوم الإعلام بهذا الدور مع إيقاع المجتمع وجوانب الحياة اليومية واسعة الانتشار. التاريخ اليومي تاريخ متناثر ومترامي الاطراف. كان يمثله قديماً تاريخ الجماعات والكتل البشرية والأفراد على الصعيد اليومي وطرق الحياة والعلاقات وأخبار الملوك والوزراء وتراجم الأخبار لما يحدث طوال الوقت مثل كتاب عبد الرحمن الجبرتي (عجائب الآثار في التراجم والأخبار). وراهنا غدت مواقع الانترنت وصفحات التواصل الاجتماعي فضاءً فسيحاً لتسجيل اليوميات، والأشياء التي لا يلتفت إليها أحد، وتسجيل أدق التفاصيل التي تسقط من غربال الأحداث الكبرى.

رابعاً: تاريخ المهمشين: تاريخ ينقب في جوانب وصور التهميش الإجتماعي والإقتصادي والسياسي، راصداً حيوات المهمشين والآثار الواقعة عليهم ضمن تفاصيل الواقع المعيش. وهذا التهميش لصيق الصلة بتكوين المجتمعات البشرية. وليس التهميش مكاناً ولا زماناً ولا نمطاً، ولكنه وظيفة لنمط العلاقات والسلطة الغالبة في المجتمعات. أي لو لم تكن السلطة مستحوذة على الاهتمام فارضةً كل ما يتعلق بها، ما كانت لتوجد هناك جماعاتٌ مهمشةٌ وحرف مهمشةٌ وعلاقات مهمشةٌ. وأن التهميش هو المعادل الموضوعي لهيمنة السلطة موضوعياً بالمثل. والحقيقة في هذا التاريخ غير الحقيقة في أنماط التاريخ الأخرى.

خامساً: تاريخ المسكوت عنه: هو تاريخ الأسرار والقصص الضمنية والخلفيات والصور الخفية من الحيوات والمهن والوظائف والسياسات والمواقف والعلاقات المسكوت عنها، ولم تجرؤ السلطة وضعها في دائرة الضوء. وهو تاريخ الصمت والممارسات غير المعلنة التي لو ظهرت لتغيرة صورة فاعلي المجتمعات في نظر الجماهير ولألقت الضوء على الصور المعتمة من الواقع والحياة. وهو تاريخ ضمني يفهم من خلال مظاهر المجتمع، ويمتد في نواح متعددة بقدر عجز الواقع عن أن يقول كل شيء.

سادساً: التاريخ المتخيل: وهو تتبع مسارات وصور وأبنية الخيال وتوظيفه في المجتمعات البشرية. ولاسيما أنَّ الخيال هو العالم المتصوّر الذي يوازن حركة الواقع ويمثل الجزء الأكبر من جبل الثلج الذي تدسه السلطة في حياة الناس لرسم معالم الحياة وتسويق السياسات والأعمال العمومية بصرف النظر عن حقيقيته من عدمه. وتدخل في هذا الجانب عمليات التقديس والسرد وبناء الصور المتضخمة للحكام والأعمال في آفاق الناس. فإذا كان الواقع لا تبلعه الجماهير بسهوله، فلا مانع من تغليفه بالخيال والسرد لتسهيل ابتلاعه.

سابعاً: التاريخ الافتراضي: وهو التاريخ الذي يفترضه الناس والقوى في المجتمعات وينتظرون تحقيقة. وكل المجتمعات تمتلك أرصدة ضخمة من الافتراض التي تفسح مجال الواقع وتضعه في إهاب المستقبل. أما الجانب الآخر، فهو التاريخ الذي يؤرشف للعوالم الموازية إفتراضياً مثل الحيوات الافتراضية ووسائط التواصل الافتراضي في مجال الذكاء الإصطناعي وما تمارسه من تأثيرات على العقول والرغبات، لأن الوسائط عوالم وبيئات وعمليات سرد تسقط دلالتها على الواقع والحياة والتاريخ وتعكس نظام الحقائق.

ثامناً: التاريخ الرمزي: وهو التاريخ المعني بتدوين الجوانب الرمزية لحيوات الإنسان وأنشطته وأسسها العملية وكيفية ممارستها وأهم الرموز المؤثرة، سواء أكانت في الأديان أم في السياسة أم في حركة المجتمع أم في الاقتصاد أم في الانثربولوجيات واسعة الانتشار أم في الثقافة. لأن العيش مع المقدسات والطقوس والعلاقات القائمة عليها والرمزية الناجمة عن كل ذلك يضرب بجذوره في تاريخ طويل وراء الرموز وبدائلها واستعاراتها. وبخاصة أن ذلكم التاريخ جزء لا يتجزأ من النظام الرمزي الذي تستند إليه السلطة، فهناك حقائق رمزية توفر لها أرصدة من الفاعلية والقدرة على التأثير والاستمرارية بين الأفراد والجماعات.

اختصاراً، فإن جميع هذه التأريخات لا تترك الحقائق تمرُ مروراً عابراً، فهي تحمل تفاصيل الحقائق بشكل أو بآخر. وأتصورها لو وضعت بجوار بعضها البعض، فستوضح أي مجال إنساني ولن تفلت جوانبه دون كشف وتدقيق. لأن التاريخ يضع بين أيدينا الحقيقة في المقام الأول ويحيي الذاكرة الجمعية التي ترى الأحداث والأفعال العامة كما هي. والمجتمعات التي تعيش تاريخها وتعي منعطفاته هي المجتمعات الحية على الأصالة.

تأثير

الحقيقة تتميز بقدرتها على التأثير، وهو تأثير في تقييم الأشياء والحياة ورؤى الناس حول ما يحدث بالضبط. وتؤثر في نمط التفاعل بينهم، وكيف يتعاملون مع مفردات الواقع، لأن الحقائق أساس التوازن والتواصل. فمن المهم عندما يستند الناس إلى تصورات وأفكار ووقائع حقيقية ومتداولة بهذا المنطق، أنْ يخلي هؤلاء الناس بينهم وبين الصور المزيفة للواقع، وأنْ يكفوا عن إعادة انتاج الكذب في الممارسات العامة.

لنتذكر قليلاً، أن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بيل كلينتون كان تحت نيران النقد المتواصل وجرت مناقشات في الكونجرس وغيره لإمكانية إقالته وتوبيخه أو استقالته من منصبه الرئاسي نظراً لملابسات علاقته اللاأخلاقية بموظفة البيت الأبيض مونيكا لوينسكي. ولم تكن الوقائع في القضية آنذاك هي السبب المباشر، ولكن كان السبب الأقرب هو تزييف الحقائق والكذب على الشعب الأمريكي. أي هو لم يقدّر تأثير الحقيقة على الناس وإن كان يعرف ماذا حدث بالضبط؟! وكانت السلطات الأمريكية تريد أن يقول الرئيس كلينتون الحقيقة ولا شيء غيرها.

ولكن الرئيس كذب على الرأي العام وقام بتضليل العدالة حين أنكر في البداية. إن تأثير الحقيقة أكبر من الوقائع في ممارسات السياسة، فقد تكون الوقائع خاصة ولكن التأثير عمومي بالضرورة عندما تتحول المواقف إلى جانب آخر. وكذب بيل كلينتون وقع في هذا الجانب وبدا كما لو كان حجباً لحقائق مصيرية على الشعب بمجمله. في حين يعد الرئيس مسئولاً وكان يجب أن يبذل التمسك بالحقائق إلى أخر نفس، فهي الكفيلة بتجديد الثقة في وجوده. ولذلك تعالت الأصوات وقتها بضرورة خضوعه لتحقيقات ولجلسات توبيخ أمام السلطة الشعبية المتمثلة في الكونجرس الأمريكي.

هذه الخطوة تقول إن رد الفعل (التحقيق والتوبيخ) من جنس العمل (الكذب العام) بصرف النظر عن الممارسات اللاأخلاقية، لأن الحقائق تصعد الأثر إلى مرتبة التعميم الذي يمس كيان المجتمعات، كما أنه تأثير مهم من جانب السلطة الواقع على رأسها كلينتون حتى تحقق وجودها أمام الشعب. فبالرغم من كون السلطة تقدم تأويلاً للحقيقة، إلاَّ أنه يهمها في المقام الأول (غلق الدائرة) عليهما، حتى يُخيل للمتلقي أنهما (السلطة والحقيقة) شيء واحد. فلو بدا أن الاثنين شيئان مختلفان، فهنا تكون التهديدات خطيرة، وقد تلفظ السلطة أحد عناصرها كما حدث مع كلينتون على قارعة الحياة، وقد تعرضه للتوبيخ أمام العيون، حتى يتم استعادة صورتها المهتزة.

إن تأثير الحقيقة يأخذ مكانتها في اللاوعي الجمعي بالفعل، لأنها تستند إلى خلفية استراتيجية من الفاعلية غير المرئية، وتساوي عملية إخفائها مساحة القوة التي كان يأخذها التأثير. ولذلك قد يرى كلينتون أن أمر كذبه على الشعب الأمريكي أمراً بسيطاً، لكنه كان كذباً يزداد في نواحٍ أخرى من المجتمع، ويترقبه الناس انطلاقاً من حجم السلطة المفترضة له.

وعلى نطاق أكبر دولياً، سنجد تأثير الحقيقة معقداً ولا يخلو من نتائج مدمرة. تقرير مبعوثي الأمم المتحدة للتفتيش عن أسلحة الدمار الشامل لدى نظام صدام حسين في بداية القرن الواحد والعشرين، كان تقريراً يتعامل مع قضية الحقائق وجهاً لوجه. وبدا سؤاله كالتالي: هل توجد حقيقة لأسلحة الدمار الشامل لدى النظام العراقي؟! أو هل الأسلحة من هذا الصنف المجرّم دولياً حقيقة أم لا في الدولة العراقية؟ طبعاً مع رحلات ومهمام المفتشين الدوليين إلى العراق، بدت الحقيقة، ملابساتها، وما إذا كانت هناك قوى تؤثر في هذا الاتجاه أم لا، هي مصدر التأثير ذاته على المشهد العالمي.

ليست للحقيقة قيمةٌ ما لم يكن تأثيرها أكبر مما نتوقع، وهذا المعني مؤداه أن السلطة هي الكائن الخفي في الموضوع. لأن التأثير يأتي عادة من المنع أو من التلاعب بالحقائق، وعندما يكون ثمة تأثير، فهو آتٍ من ضخامة المنع أوالتلاعب. ولذلك كانت قضية أسلحة الدمار الشامل هي الستارة التي نضجت تحتها مآرب وأغراض أخرى، وتباعاً طرحت حوارات ومخاوف حول احتلال العراق، ووراؤها أيضاً تحركت القوى الدولية لمزيد من الضغط في هذا الاتجاه.

الوضع الغريب أن جرت هناك مناقشات في هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن حول مهمة الجيش الأمريكي لنزع أسلحة الدمار الشامل. وكأن الموضوع مسلم به وأخذ يقفز إلى الأمام، وهو نزع لسؤال الحقيقة وتحويله إلى حركة عسكرية على الأرض، سرعان ما نتج عنها تدمير المجتمع العراقي وتدمير إمكانياته ومساندة الكيان الإسرائيلي وتوغل أمريكا وأصابعها الدولية في المنطقة العربية، وتم نهب ثروات البلاد وحدث مزيدٌ من الانقسام وفشلت الدول العربية في إقامة دول ذات مصداقية وذات وجود حقيقي هي الأخرى.

إن سؤال الحقيقة بهذا المعنى الدولي شكل سياسات ورسم خرائط النفوذ والقوى بقدر ما كان سؤالا ملتفاً مع طبيعة تكوين الدول القوية، وكذلك حين كان ملتفاً حول إدارة القوانين الدولية والمنظمات ذات الصلة. إنه سؤال حول كيفية إدارة التأثير واستغلاله على نطاق واسع. وبعد هذا السنوات التي مرت على غزو أمريكا للعراق، قد اتضح أن الدولة العراقية لم تكن تمتلك أسلحة الدمار الشامل وأن المجتمع العراقي كان مجتمعاً ككل المجتمعات العربية يعاني من فكي عنف النظام الحاكم والإرهاب، ولم تكن دولته تساند إرهاباً عالمياً بصيغة اسلاموية كما زعم نظام جورج بوش الابن. وبعد الحرب الأمريكية على العراق واحتلال دولته، غدت القضية هي: كيفية كتابة سؤال الحقيقة بهذه الإشكالية المركبة؟

لأن تأثير الحقيقة كانت له عدة خيوط:

1- طرح الفكرة المراوغة (أن هناك أسلحة دمار شامل) في العراق.

2- تجنيد الهيئات الدولية للقيام بالدور المنوط بها وفقاً لطرح أمريكا والتظاهر بكونه لصالح العالم.

3- استنفاد المهام الدولية لمفتشي الأمم المتحدة واستنزاف مصداقيتها بناء على نوايا مسبقةٍ.

4- تحريك القوى الغربية المساندة لأغراض الاحتلال والتواجد في المنطقة العربية.

5- التلاعب بالقوانين الدولية وعدم احترام سيادة الدول بحسب المواثيق والاعراف السياسية.

6- تفعيل تراث اللاهوت السياسي وفقاً للأصولية المسيحية المتمثلة آنذاك في أدبيات نظام بوش الابن وترسانته التأويلية والتكنولوجية حول لاهوت المنطقة الذي تشكل اسرائل مركزه داخل دائرة بشرية مسيحية وإسلامية.

7- إدارة الصراع العسكري مع القوى الإقليمية من دول عربية ودول متوسطية ودول أفريقية لصالح أمريكا.

8- تغطية المآرب بكم مهول من الضخ الإعلامي لأخبار الحرب ونتائجها طوال الوقت (الأيام والشهور والسنوات).

9- غسيل أيدي أمريكا مما حدث للعراق والمنطقة على طريقة الكاوبوي، وبث دراما وأفلام سينمائية لحلب التعاطف مع جنود الاحتلال على حساب الشعب الوطني.

10-   تمييع القضايا وقتل الحقائق القائلة بعدم وجود أسلحة دمار شامل وتدمير المجتمع العراقي.

11- توظيف المصطلحات السياسية وبلاغة السياسة لردم الهوة بين الواقع والمتخيل عن طريق الزعم بأن أمريكا كانت تريد نشر الديمقراطية مقابل الارهاب ونقل المجتمعات العربية إلى خانة الدول الحرة.

عودة

حقيقة بلا عودة ليست حقيقة على الاطلاق. لو أردنا تعريفاً ثانوياً للحقيقة، لقلت إنها نظام إدراك لا يمل من العودات المتواصلة دون توقف. كثيراً ما نفكر بكون الحقيقة تظهر وتنتهي إلى الأبد. وهذا تصور غير صحيح، لأنَّ الحقيقة تعود بشكل قوى، وتثبت أن هناك شيئاً معيناً قد حدث، فلا يجب أن نتناساه. وكأنها في كل مرة توقظ ذاكرتنا الجمعية كنوع من توازن الردع إزاء الأوهام، وإثبات مبدأ الواقع أمام الناس.

والعودة تأخذ أشكالاً كثيرة، منها خطاب الحقيقة الذي يوجد منتشراً في السرد والتاريخ والعبارات المتداولة. ليؤكد أن الحقيقة هي الأساس، وأن هناك من يحاول التلاعب بها أو جعلها نوعاً من الشحن المتواصل لوجوده. والأهم كون هذا الخطاب مصدراً لمعرفة كيف توجد السلطة، وكيف تُورد الحقائق لصالحها. وقد تكون العودة نوع من التواصل الذي يمتد إلى طبيعة المجتمعات. فالتواصل يظل قريناً للحقائق، لأنها أسهل الطرق للإلتقاء والتفاهم. كما أنها في لحظة واحدة تنزع عن مختلف الناس السلطة تاركة إياهم والجوانب الإنسانية.

ومن أحد أشكال العودة أيضاً، هناك عملية الالحاح على الحقائق، وتلك عملية متناثرة في مناهج التعليم وكتب المعارف والأدبيات والقصص المتداولة وبرامج الإعلام، وكأن هناك قوى تريد تثبيت الصورة على هيئة معينة وتشكل اللاوعي الجمعي الذي يوفر لها غطاءً تلقائياً في حالة غياب الحقيقة.

والالحاح لسان حال نيابة عن المُمسك بصورة الحقيقة ليقول ها هي الحقيقة كما أصورها، وإنها بمثابة الأساس الذي يجب أن نسير عليه إلى منتهاه. وهذا المُمسك بخيوط الصورة يهمه دفع الجماهير في اتجاه معين، حتى يلتقي مع أهدافه في الواقع. وليس شرطاً أن يكون الإلحاح ظاهراً، لكنه غير مباشر في غالب الأحيان.

العودة من جهة أخرى بواسطة التأويل، والتأويل إزاء الحقيقة بدل لوجودها بصورة فجة وخشنة، فالتأويل للحقائق لا يحاول تقديم تفسير لها ولا يطرح إشكاليتها، بل بإيعاز من السلطة يصوغ من نفسه بديلاً عنها. كأنه يقول إذا لم نكن نحن البشر بقادرين على تحمل عُري الحقيقة ولا مواجهتها، فليكن هناك تأويل يعطيها شكلاً مقبولاً. وليس يمنع من وجود إطار مبرر جمعياً، حتى تمر الحقيقة دون حساسية ثقافية. ولذلك ياتي كل تأويل للحقيقة من جانب ما نرغب في معرفته ورؤيته، وليس من جانب ما نكره ولا ما نريد مواجهته.

وبما أن الحقيقة لا تخلو من صدمة ودهشة، فهي أقل ما تكون من خلال العودة المؤولة لها، مع كونها لا تفتأ تذكرنا بالأصل، أصل وجودها بالأساس. وأحد وجوه التأويل كون صورة الحقائق تأتي ملحقة بصور ثقافية واجتماعية أخرى. فلو كانت هناك أحداث معينة لها مكانتها إجتماعياً مثل الانتصار في حروب أو الأعياد القومية، فبالإمكان أنْ تخلع دلالتها على مناسبات أخرى وتتبادل الأدوار معها مثل المناسبات الدينية أو الاجتماعية المختلفة.

أخيراً تشكل عودة الحقائق ذاكرة حيويةً للناس، وتمثل مصدر إلهام في جوانب أخرى من الحياة، لأنَّ الذاكرة نوع من السرد الذي يتسق مع أنماط العيش ويعطي الإنسان صيغة إشباع وتكيف مع ظروف المجتمعات، وقد تنحي الذاكرة كل ممارسات السلطة جانباً، لتلتقي إزاء الحقائق الإنسانية بما هو أصيل. والأصيل في حياة المجتمعات كثير جداً، قد نسميه روح الشعوب وطريقة ممارساتها المبدعة للثقافة وكيفية التغلب على المشكلات.

***

د. سامي عبد العال

في المثقف اليوم