تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

أقلام فكرية

مدني صالح ولحظته الزمكانية .. محاولة لاكتشاف فعله التواصلي

raed jabarkhadomما يعرف عن الفلسفة عند عامة الناس، انها نظام من الافكار المجردة، والتأمل في عوالم ميتافيزيقية، لا تقترب ولا تعبر عن الواقع ولا عن الحياة اليومية بشيء. والفيلسوف كما هو معروف ايضاً عند العامة، بأنه شخص متعالٍ لا يعرف التحايث ابداً، وانه يسبح في الخيال ويصل حد الغرق والاختناق في حاله هذا، وانه يدور في متاهات وافكار لولبية وحلزونية لا تسمن ولا تغني من جوع. ليس هذا فحسب بل ان التفكير الفلسفي كله من الامور التي لا فائدة منها في حياتنا اليومية والاجتماعية والحياتية، لانها ليست من العلم ولا من الدين ولا من الفن في شيء، وانها ترف فكري توجع الرؤوس، لا تنتج ولا تصنع خبزاً ولا طعاماً ولا دواءاً، فما الداعي لها اذن؟؟؟؟

هذه هي نظرة عامة الناس الى الفلسفة والفيلسوف والفكر الفلسفي، والموقف السلبي من الفلسفة والفلاسفة معروف على مر التاريخ قديماً وحديثاً، سواء من قبل العوام او من قبل بعض المنغلقين الذين ينتمون للمؤسستين الدينية والسياسية، ممن يخافون على مناصبهم او مصالحهم الشخصية من التفكير الحر، ومن النقد والاصلاح والتغيير والتنوير.

والنظرة العلمية والموضوعية لا ترى في الفلسفة والفلاسفة ما يراه هؤلاء من نظرة سيئة وموقف حاد ولا جدوى وجودها، بل ان من الفلاسفة من استطاع ان يحرك الامم ويصنع التاريخ ويبني المجتمعات والدول، ويربي الاجيال ويرسخ الاخلاق، ويدعو للحق والخير والجمال، وهذا ما دعا الفيلسوف الفرنسي ريني ديكارت الى القول بـأن: (الفلسفة وحدها هي التي تميزنا عن الأقوام المتوحشين والهمجيين، وإنما تقاس حضارة الأمة وثقافتها بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها، ولذلك فان اجل نعمة ينعم الله بها على بلدٍ من البلاد هو أن يمنحه فلاسفة حقيقيين).

فلذلك على البعض ان يعيد النظر في موقفه السلبي من الفلسفة، ومن المؤكد ان هناك دوافع شخصية او ايديولوجية ضيقة تدفع البعض لمحاربة ومعاداة الفكر والفلسفة والتنوير، لان الفلسفة الحقة هي من تصنع الحياة وتحارب الموت، وتنتصر للمعرفة وتعادي الجهل، وتنقد الباطل وتدعو للحق، انها الحقيقة والحكمة والنظام في ابهى صوره، ولذلك علينا ان ننتصر لها ونؤيد دعاتها ونواجه من يحاربها ويرفضها، بالكلمة والبرهان والقول الحسن.

ومدني صالح ( ت 20/7/2007) احد الاسماء المهمة في الفكر الفلسفي والوسط الثقافي العراقي المعاصر، الذي استطاع ان يغير النظرة السلبية تجاه الفلسفة لدى عامة الناس، بأن جعل منها مادة ثقافية وحياتية واجتماعية، تعبر عن معاناة الناس وهمومهم وتناقش قضاياهم اليومية من افراح واتراح، ومن لذة وألم، ومن فقر وغنى.

مدني صالح، استاذ الفلسفة في جامعة بغداد، المفكر والاكاديمي، استطاع بفكره النير وبأسلوبه الادبي الجميل والمميز ان يقترب من الناس اكثر فأكثر، مثلما يقترب من وسطه الجامعي، استطاع ان يكون اقرب للمجتمع والواقع والحياة والناس من خلال مقالاته الصحفية اليومية، في الجرائد والمجلات العراقية والعربية، التي عرض فيها وناقش وعالج للكثير من هموم الانسان ومشكلاته الاجتماعية والسياسية والتعليمية والاقتصادية والثقافية، بأسلوب ادبي ناقد جذاب استهوى الكثير من الناس والمتلقين.

ارى ان مدني صالح كان ينتمي للحظته الزمكانية، ومعبراً عنها خير تعبير في كتاباته الصحفية اليومية، وانشغاله بهموم الناس والفكر والثقافة والادب والفن والحياة، على المستوى المحلي والعربي والعالمي، ومقالاته وكتاباته تشهد على ذلك، ويشهد له ايضاً رواد الوعي والفكر والثقافة بذلك.

كتب عنه عبد الزهرة زكي مقالاً في جريد الصباح بتاريخ 1/8/2013 بعد ان اوضح فيه علاقته بمدني صالح قال فيه : ( ليس من العمل اليسير الكتابة عن مدني صالح، لانه مفكر غارق في الرمزية، ومن خلال متابعتي، كان لدي تصوّر واضح عما اختطه مدني صالح لمقالاته من أسلوب امتاز بجزالة التعبير اللغوي وحريته مع سعي للمزج بين ما هو أدبي وفلسفي وبما جعل من الفلسفة موضوعاً مقروءاً في الصحافة اليومية، وهذا وحده إنجاز ليس باليسير على أي كاتب ينشغل بالفلسفة ويدرّسها. وعبر تلك الأسلوبية ومن خلال تلك الموضوعات نجح مدني في تمرير الكثير من آرائه النقدية، سواء في حقل الثقافة أو في مختلف مجالات الحياة، وذلك برشاقة وخفة دم تخفف جانباً من أية غلواء قرائية متوقعة في تلك الأيام... كان مدني قد أتى على تغير واضح في موضوعاته وحتى في أسلوبه. كانت الحياة تحت الحصار قد حطمت كل شيء، وقبلها كانت حرب 1991 الخاطفة قد فعلت في البلاد والعباد ما لم تفعله حرب الثماني السنوات، ولم تكن كتابة مدني صالح بمنأى عن التغيير. كان حقيقةً هذا هو ما أثار إعجابي في قدرته في الكتابة على الاستجابة لعواصف الأيام، زادت ثقتي بحرية مدني وشجاعته، وهو ينزل بالفلسفة إلى السوق والبقالين والشحاذين والجوع والألم ومرارة العيش وتغير الطباع وتردي القيم اليومية.)

ارى ان مدني صالح قد شعر بمسؤوليته الفكرية والثقافية والعلمية وبثقل رسالته التي يحملها للاخرين، فلذلك وقف وقفةً جادة وصلبة ليعطي رأيه الناقد الصريح والجريء من كل خلل او خطأ شاهده او قرأه او سمعه، على مستوى الواقع التاريخي او الثقافي او السياسي او التربوي او الاجتماعي، ولذلك اعده مفكراً تواصلياً اتصل مع مجتمعه وناسه ولحظته الزمكانية بقوة، كما يمارس درسه الاكاديمي الجامعي وبحثه العلمي بقوة ايضاً. في حين غرق غيره من الاساتذة والباحثين بالبحث العلمي، دون ان يلتفتوا للواقع وللحياة وللناس وان يعطوا للمجتمع مثلما يعطون للجامعة من دروس وحكمة ومعرفة، فلا نهضة بجامعة دون نهوض بمجتمع، ولا تقدم ولا رقي دون الالتفات للناس والمجتمع، ومعرفة همومهم وحاجاتهم الفكرية والثقافية والحياتية. كي لا نكون نحن في وادٍ والمجتمع في وادٍ آخر. وحري بنا ان نقترب اكثر فأكثر من الآخرين وان نقدم كل ما نستطيع فعله من اجل انارة الطريق واصلاح الواقع وبناء المجتمع على افضل حال.      

 

د. رائد جبار كاظم

 

في المثقف اليوم