أقلام فكرية

أبيقور.. قيمة العائلة والزواج والصداقة؟

كان أبيقور (341-270ق.م) فيلسوفا يونانيا قديما. هو مؤسس الفلسفة الايبيقورية، الفلسفة الاخلاقية التي دعت الى ترسيخ مفاهيم مثل الصداقة والسعي لمُتع الحياة البسيطة. بنى ابيقور مدرسته الفلسفية الخاصة في اثينا والتي استمرت حتى القرن الرابع الميلادي.

تماما مثل العديد من الفلاسفة القدماء، من المؤسف لم يتبقى حاليا الاّ القليل من أعماله. التقديرات تقول ان ابيقور كتب اكثر من 300 عملا اثناء حياته لكن لسوء الحظ معظم هذه الأعمال قد ضاعت. بدلا من ذلك، نحن نعرف عن معتقداته من عدد محدود من المقاطع والرسائل بالاضافة الى الكتب المطولة والمقاطع حول ابيقور من أتباعه ومعاصريه.

تميزت الايبيقورية برغبتها في مساعدة الناس للحصول على السعادة (eudaemonia) عبر عيش حياة هادئة خالية من الألم. ابيقور شجع أتباعه لممارسة هذه الفلسفة وهم محاطين بأصدقاء ضمن جماعة متماسكة لأنه اعتقد ان هذه هي أحسن طريقة لإستكشاف الابيقورية. في ضوء ما تقدم، ماذا يخبرنا ابيقورعن العائلة والزواج وتربية الأبناء؟ احيانا الأجوبة ليست بذلك الوضوح الذي نتصوره.

ابيقور: عائلته وحياته المبكرة

وُلد أبيقور في ساموس وهي جزيرة في شرق بحر ايجه والتي صادف ايضا ان تكون فيها ولادة فيثاغوروس. والداه كانا من اثينا وسافرا الى ساموس كمستوطنين عسكريين. ابوه، نيوكليس كان معلما في مدرسة بينما امه شيرسرت كانت على الارجح ربة منزل.

ابيقور ذاته قال مرة انه بدأ دراسته الفلسفية في عمر 14 عام، عندما كان معلمه غير قادر على توضيح مفهوم الفوضى في عمل هسيود، الشاعر اليوناني القديم. طبقا لأحد المصادر، استمر ابيقور في الدراسة في مدينة تيوس الأيونية لمدة ثلاث سنوات، وان معلمه كان نوسفان Nausiphanes. هذا كان هاما لأن نوسفان كان تلميذا للفيلسوف الذري الشهير ديموقريطس. ابيقور طور لاحقا نظريته الذرية الخاصة به لذا من المحتمل انه اطلّع على هذه الافكار لأول مرة في تيوس.

وحالما اصبح بسن الـ 18عاما، سافر ابيقور الى اثينا لكي يكمل تدريبا عسكريا الزاميا مدته سنتين ليصبح مواطنا اثنيا. بعد هذه الاقامة المؤقتة التحق مرة اخرى بأبويه في كولفون، المدينة الايونية القديمة. الوالدان كانا قد نُفيا بعد حرب لاميان التي خسرت بها اثينا السيطرة على سوموس لمصلحة مقدونيا. بعد هذا ولمدة عشر سنوات لم تتوفر أي معلومات عن تحركات ونشاطات ابيقور. الجزء المتبقي الوحيد في هذا الوقت هو رسالة كُتبت الى امه سبق وان احتفظ بها أحد اتباعه.

تأسيس الجماعة الابيقورية في اثينا

كما ذكرنا أعلاه، الصداقة والجماعة هما خاصية مركزية للايبيقورية. في سنة 306 ق.م، عاد ابيقور الى اثينا مع مجموعة من أتباعه واسس مدرسة عُرفت بـ "الحديقة" Hokepos. كان هذا لدرجة ما شيئا جديدا في اثينا القديمة. بعد ذلك، سيطر على الحلقات الفلسفية في المدينة كل من اكاديمية افلاطون من جهة، ومدرسة الليسيوم الارسطية من جهة اخرى.

المدرستان الافلاطونية والارسطية مالتا الى جذب اكثر الاتباع موهبة. المدرستان ايضا وجّهتا اهتماما كبيرا لتطبيق الفلسفة على الحياة العامة. اذا اراد ابيقور منافسة سمعة هاتين المدرستين ويطور فلسفة جادة وطويلة الأمد في اليونان، كان عليه ان يؤسس دكانا في اثينا وان يقوم بالأشياء بشكل مختلف قليلا.

ابيقور واجه هذا التحدي بتفاني وإخلاص. وخلافا للفلسفتين الافلاطونية والارسطية، هو طلب باصرار من اتباعه عدم الانخراط في الحياة السياسية او العامة. الحديقة كانت ايضا غير عادية في كونها اعترفت بالمرأة والعبيد . عاشت الجماعة حياة بسيطة تعتمد على الماء المقنن وخبز الشعير(ابيقورآمن بقوة بفضائل عدم الإسراف واعتماد اسلوب الحياة غير المكلفة). مرة اخرى، خلافا للمدارس الاخرى لا توجد هناك ملكية مشتركة بين الأتباع ولم يحدث أي نوع من الانحراف في الحديقة عدا بعض الإساءات المضادة من جانب الرواقيين.

توفي ابيقور بعمر 72 عاما بمرض البروستاتا بعد ان شكّل تحديا قويا للمدارس الفلسفية الاخرى في اثينا. في وصيته، ترك بيتا وحديقة وشيء من النقود من الحديقة ليذهب الى القيّمين على المدرسة. هو ايضا ذكر في وصيته ان تذهب بعض النقود لتكريم أبويه الميتين، بالاضافة الى انه طلب ان يشرف شخص ما على زواج بنت أحد اتباعه (مترودور) من فيلسوف اثني.

حول أهمية العائلة والصداقة في التاريخ الانساني

لماذا فضّل أبيقور الصداقة والروابط الاجتماعية على السياسة والحياة العامة. اكاديميون يعتقدون اننا يمكن ان نجد بعض الأجوبة لهذا السؤال في الملحمة الشعرية للمناصر له لوكريتين Lucretin "حول طبيعة الاشياء". يعتقد الباحثون ان لوكريتين كان يكرر الكثير مما كتبه ابيقور في الأصل في عمله الخاص "حول الطبيعة"، لذا ستكون بداية جيدة لمحاولة فهم افكار ابيقور.

اعتقد ابيقور ان الانسان الاول كان منعزلا لايمتلك أي بناء اجتماعي وكان فقط يتناسل عشوائيا. على هذا الاساس، لم يكن هناك حظا للكائن البشري في البقاء لفترة طويلة. ابيقور يشير الى أهمية العائلة كعامل رئيسي في ضمان ان يصبح العرق الانساني رقيقا ويبني روابط قوية بين افراده لتساعده في البقاء.

الناس بدأوا الزواج والتخطيط للعائلة مما جعل الزواج يوفر الحماية لكل واحد منهم ويمنحهم فرصة أفضل في تكوين جماعات اصبحت خطا دفاعيا او تحذيرا للآخرين من الأخطار الطبيعية مثل النيران او الحيوانات المفترسة. من هذه الهياكل الاجتماعية المبكرة، تعلّم البشر بالنهاية تطوير أسماء للاخرين ولما يحيط بهم. هم ايضا خلقوا مدنا وامما ودول والتي بدورها رسخت الى مدى أبعد روابط الصداقة والتحالفات ضمنت بقاءً طويل الأمد للانسان.

وكما نرى، طبقا لابيقور، ان ظهور العائلة لعب دورا هاما جدا في تطوير المجتمع المعاصر. العوائل والاصدقاء حولوا الانسان من كائن حيواني يصارع للبقاء بمفرده ولا يستطيع الاتصال الجيد، الى نوع منظّم ومدافع قادرعلى الوجود في جماعات كبيرة الحجم.

آراء ابيقورفي الزواج

كان للزواج والفلسفة علاقة قوية في اليونان القديمة وفي عصور الرومان. سقراط عُرف بزواجه من زنتيب (ذات المزاج الحاد)،وكان لهما ثلاثة اولاد ذكور. بعض الفلاسفة مثل افلاطون فضّل المشاركة بالزوجات، بينما آخرون عارضوا مؤسسة الزواج كليا. اثناء فترة ابيقور، لم يكن للزواج أي صلة بالحب الحقيقي. بدلا من ذلك، كان الزواج مرتبط مباشرة بتربية الاطفال. هذا لم يكن غريبا في اليونان القديمة، حيث أشار سلفا فلاسفة آخرون للارتباط بين استعمال العشيقات للمتعة الجنسية مقابل الزوجات لانتاج الاطفال.

يعتقد جيرت روسكام Geert Roskam ان ابيقور كان معارضا للزواج. في الحقيقة منذ عصر النهضة كان هناك الكثير من الخلاف حول ترجمة ديوجين لارتيوس Diogens Laertius لسيرة ابيقور،التي تقول انه اعتقد "ان الحكيم سوف يقوم بالاثنين معا يتزوج ويربي اطفالا". هذا بسبب ان الجملة اللاحقة تبدو تخالف هذا التصريح وتقترح ان الحكماء يتزوجون فقط في الظروف الاستثنائية. وعلى الرغم من ان ديوجين استُعمل عادة كمصدر رئيسي عند النظر لحياة الفلاسفة، لكن ابيقور كان بشكل عام معارضا للزواج وهذا تأكد ايضا من مصادر اخرى لأبيقوريين معروفين.

مثلا، فيلوديمس(من جادارا) كان فيلسوفا ابيقوريا يعرض مراجع مثيرة للاهتمام للزواج. يكتب حول حفلات الزفاف، و يجادل ان الشعر هو افضل شكل للترفيه من الموسيقى، قبل ان يقترح ان الزواج ليس الشيء الذي يمكن ان يُقال عنه "جيدا". وفي نص آخر، هو يرى انه حتى الشاعر اليوناني القديم هسيود Hesiod له تحفظاته على مؤسسة الزواج، ويستعمل هذه الحجة لدعم شكّه في فائدة الزواج. غير ان باحثين اخرين يشيرون الى ان لوكريتوس المخلص جدا لابيقور يعرض رؤية لابيقور مختلفة جدا حول الزواج. كما لاحظنا سلفا، هو يكتب ان الاطفال هم الرابط الذي يشد المجتمع الى بعضه . في "حول طبيعة الاشياء" لم يكن ابيقور معارضا للابوة، طالما لا يضع الناس توقعات غير معقولة حول ما تتطلبه الابوة. جزء مهم من تقرير امتلاك او عدم امتلاك اطفال يستلزم الصدق حول الرغبة ومدى قوة رغبة الفرد في امتلاك عائلة.

رغم هذا، ابقور نفسه لم يتزوج ابدا، والذي يشير انه كان يتبع نصيحته الخاصة حول المسألة. محاولة اثبات بالضبط ما اعتقده ابيقور بشأ الزواج التقليدي كانت مهمة صعبة جدا في ضوء مقدار ما ضاع من كتاباته، وحتى الان لم يتفق الباحثون على جواب محدد.

وصية أبيقور والإعتناء بأصدقاءه وأتباعه

أراد ابيقور ان يتأكد قبل ان يموت بانه أجرى ترتيبا لجميع شؤونه العملية. وصيته الأخيرة كانت هامة لأنها تكشف اهتمامه بأصدقائه في الحديقة. انها ايضا تضع مثالا هاما لتلاميذه حول اهمية استخدام الوصية للاعتناء برفاهية محبيه. المثال هو التزامه القانوني ببنت مترودورس والذي يبيّن ان ابيقور كان مهتما بالعناية بالأقرباء الأحياء ذوي الصلة بأتباعه.

من المثير للاهتمام، انه يكرر عدة مرات في الوصية ان التزامه القانوني يجب تنفيذه فقط عندما تتصرف بنت ميترودوس بطريقة ملائمة وصحيحة. بعض الباحثين جادلوا بان هذا يبيّن قلق ابيقور الكبير حول التماسك الاجتماعي، وخاصة التماسك الداخلي للجماعة الأبيقورية التي تركها خلفه.

***

حاتم حميد محسن

...................

Thecollector.com, March1, 2023

في المثقف اليوم