أقلام فكرية

محمـــد سيـــف: المشكلات.. ومثلّث الإدراك!

يبدو لي أن تساؤل الشاعر الفيلسوف إيليا أبو ماضي: "وكيف يشعر بالجمال مَن لا جمال في روحه؟!"(١) يَمْتح من مَعين أن الواقع امتداد لما تتردّد أصداؤه في دهاليز مداركنا، هذا الامتداد لا تتمايز فيه مفردات الواقع خيرِها وشرها - مع استحضار نسبية كلٍّ منهما - سِلمها وحربها، رخائها وبؤسها، نعيمها وجحيمها، فالأشياء كما يعبّر عنها الفيلسوف والإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس في تأمّلاته قبل زُهاء ألفي عام: "لا يمكنها أن تمس العقل: إنها خارجية وخاملة، والاضطرابات لا تأتي إلا من رأيك الداخلي"(٢) ويسهب في موضع آخر عن اللفتة نفسها: "لا شيء من هذه الأشياء يصدر حكما عن نفسه أو يفرض نفسه علينا، فالأشياء ذاتها خاملة، وإنما نحن الذين ننتج الأحكام ونطبعها في عقولنا، وإنّ بوسعنا ألّا نطبعها على الإطلاق، وأن نمحو في الحال أي حكم تصادَف انطباعُه"(٣).

ولعل المشكلات نظرةً وتعاطيًا مثال واضح لمدى تأثر الأحداث التي نواجهها بمفاهيمنا التي ننسجها حولها وموقفنا إزاءها، خصوصا أن المشكلات أبرز مكوّنات واقعنا، سالكين عند نشوئها - الكَرّة بعد الكرة - مناحي شتّى.

من العبث بمكان تطويق طرائق الناس في كيفية نظرتهم للمشكلات، والتي تاليا تُملي عليهم كيفية التعاطي معها؛ الأمر الذي يعني أن العلاج الناجع لأي مشكلة ينطلق من مدى وجاهة نظرتنا لها، ولكن دعونا نطرح ثلاثة اتجاهات رئيسة تمثل جمهورا واسعا، ويندرج تحت كنفها تفرّعات عدة.

الاتجاه الأول: يرى في المشكلة نهاية أفق وفاجعة محتومة لا مناص منها، وأن العجز عن تغيير الأقدار هو حتمي لا محالة، يتفاوت بين انكسار ينهش حيوية صاحبه إلى جحيم يمزّقه كل ممزّق.

هذه النظرة السوداوية فضلا عن أنها لا تخدم طريق التعاطي مع المشكلات في شيء فهي تسدُّ أي كُوّة عساها ينفذ منها ولو بصيص نور على استحياء، كما أن يديها ملطّخة بتضخيم توافه المشكلات وتمطيط قصيرها ليمكث أكثر من عمرها الافتراضي بكثير، ومع تتابع نزيف جراحات صاحبها مع تقادم الأيام، جرّاء ما طوّحت به طوائحُ الزمن، ينهار لاحقا من قشة واحدة تذروها الريح، لكنها كانت كفيلة بقصم ظهر البعير؛ بمقتضى قانون التراكم.

ومن المفارقات أننا نَصِمُ غيرنا بضيق الأفق وعدم نضوج الوعي حين يمارس هذه السوداوية، لكننا نركن بالكليّة إليها حين نخلو مع مشكلاتنا نحن، وكأنّ سوداويتنا نحن طاهرة مبرّأة، وسوداوية غيرنا خطيئة منكرة.

الاتجاه الثاني: يعمد إلى صبغ نظرته عن المشكلات بروح اغتسلت في (المدينة الفاضلة) لأفلاطون - وهي ليست كذلك، ولهذه المسألة مبحث آخر ليس محلّه هنا - حيث عالم المثالية والأحلام والسلام، وإضفاء طابعِ الوردية، لكنها لا تربطها بالواقع المعيش آصرة، فيتعامل وكأنّ شيئا لم يكن، ويمكن القول إنها محاولة لتخدير الإدراك؛ خشية استفزاز عش الدبابير واجتراح مناطق من شأنها أن تسحبنا إلى دوّامة من الصداع الذي لا يُطاق.

هذه الحالة من غيبوبة الإدراك المتعمّدة تتوسّل نبيذ التصور الوردي لمشكلاتنا لدرجة أن تكون المشكلة وأي حدث سارّ آخر في كفة واحدة من حيث الماهيّة، والتنكّر لما تثيره من مشاعر الأسى والخيبة، مع استحضار مكثّف لمفاهيم مبتورة ورُؤى مشوّهة عن الرضا والقناعة والخيريّة.

هروبٌ مُقنَّعٌ وطبطبةٌ باهتة بمُثُل عليا، ولم يكن الهروب عن مواجهة مخاوفنا يوما ما مستأصلًا جذور ما نشكوه بل رافد يغذّيه وينميه، تماما كخطورة الانسياق التام لهيمنة المشكلات.

إذن قلب الحقائق لا يبدّل سماتِها، فادّعاء أن جذع شجرة مقطوع ما هو إلا عمود من المرمر لن يحيله كذلك، ولو تسالمت عليه الناس قاطبة، فالمشكلات تبقى مشكلات، وما يصاحبها من مشاعر وخسائر هي كذلك على الحقيقة، وما التصورات التي تعيش حالةً من النكران أو تتغافل عن ذلك إلا زوايا نستروِح إليها، ونرجو - عبثًا - أن نظل في غفوة الأحلام، ولا نفتح أعيننا على وجع الواقع.

الاتجاه الثالث: يقرّ بالمشكلة من حيث حقيقة ماهيتها المؤلمة والشاقة، وما يصاحبها من اصطدام مع تطلّعاتنا، غير أن ما يميز هذا الاتجاه عن الاتجاه الأول هو عدم الرضوخ لما تمليه المشكلة علينا، وإنما محاولة جادة لاستثمارها وَلَيّ عنقها خدمةً لمآربنا، وتفتيشًا عمّا يحمل رحِمها من أجنّة فرص؛ ومن هنا تتحوّل المحنة إلى منحة، والعرَجُ العقيم إلى معراج قويم، الذي ما كان ليكون لولا ما سبقه من اختلال، فالفرَج وليدُ القَرْح، يذكرنا ذلك بمقولة جلال الدين الرومي: "إن الجراح هي النافذة التي يدخل منها النور إليك" فهذا الاتجاه إذْ يرى المشكلة جَعبةً من الفرص لا يعني بحال إلغاء أحاسيس الغضب والألم، ولجم عويل القنوط والخيبة، بل غاية ما يبغيه هو ألا تحُول تلك المشاعر بينه وبين أن يجعل المشكلة درجا يرتقي عليه لينال الهبات التي ترشح عنها.

فإذا كان ذلك كذلك، فإنه قمينٌ بنا لنا ألّا نفهم الجعلية الإلهية في قوله سبحانه: "فَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡـٔٗا وَيَجۡعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيۡرٗا كَثِيرٗا" [النساء:١٩] بصورة منبتّة عن إرادتنا البشرية، بل لا بد أن يكون فهمها متساوقا وقوله عز شأنه: "إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ" [الرعد:١١] فهذه الجعلية الإلهية يمكن تعقّلها عبر إنفاذ تصورّنا الذاتي بتوجيه ما يقع علينا مما نكرهه، وهنا يكون تصوّرنا الذاتي فاعلا في دَور استخراج الخيرية من المكاره لا مجرّد ذات منفعلة منزوع عنها هذا الدور المحوري.

وفي هذا السياق يطرح (Ryan Holiday) في كتابه: (The Obstacle is The Way) سؤالا عميقا (بترجمتي): "هل يمكن أن نرى كيف بإمكان المشكلة أن تكون فرصة لحلٍ كنّا بانتظاره زمنا طويلا؟"(٤).

ليس ثمّة أحد بمنأى عن المشكلات، لكن تصوّرنا عن كيفية مواجهتها، وتصرّفنا وفق ذلك هو ما يحدد ما تؤول إليه، ففريق يغصّ بها، وآخر ينكرها حتى يصل إلى نقطة الانهيار، وأما غيرهم فتمنحه فرصة لا تُقدّر بثمن.

فمن الوعي - والحال هكذا - أن نتحمّل مسؤوليتنا في ذلك، ونفتش في أقبائها عن الفرص المخبوءة، ونتصالح مع قابلية الخسارة، ونترك مساحة معقولة للمشاعر السلبية المصاحبة للمشكلات؛ حتى لا تتراكم فتنفجر في الزمان والمكان الخطأ، وما يفوق قدرتنا فنحن في حِلٍ من لوم أنفسنا عليه.

ونحن إذ نعرّج على ذلك لا يفوتنا أن نشير إلى فن ياباني يعكس ثقافة واعية في هذا الخصوص، وهو (Wabi-sabi Art) حيث يتم إعادة ترميم القطع المتكسرة من الإناء الخزفي بصمغ الذهب، لتذكرنا بأن تلك الندوب التي أحدثتها المشكلات إنما هي مسارات مكتظة بالنور أضاءت لنا جوانب ما كانت لترى النور لولاها.

***

محمـــد سيـــف - كاتب عُماني

....................

الهوامش:

(١) يوميات إيليا أبو ماضي، جمع د. عفيف نايف حاطوم، ص٥١، دار صادر/بيروت، ط١/ ٢٠١٢م.

(٢) ماركوس أوريليوس، التأملات، ص٧١، رؤية للنشر والتوزيع، ط١/ ٢٠١٠

(٣) م.ن، ص٢٢٧

(٤)Ryan Holiday, The Obstacle Is The Way, Profile Books LTD, 2015, P: 120

في المثقف اليوم