أقلام فكرية

سامي عبد العال: الرحمة كمفهوم بلا عنف (4)

يبدو السؤالُ وارداً إزاء جوهر الرحمة، بعدما عرفنا بأية درجةٍ تطرحها النصوص الأساسية في الاسلام. وليس الجوهر ماهيةً قابلة للتراجع بحسب مركزية المعنى، لكنه حركة وتفضية spacing، أي خلق فضاءات متواصلة ومفتوحة على الدوام. لو تخيلنا الأمرُ أشكالا هندسيةً، فهندسة الرحمة ممتدة، وتتوالد منها صور لا نهائية كما الأشكال دخل مساحات حرةٍ، لا تُعرف بدايتها ولا نهايتها. لأنَّ الغاية هي تغطية كل مشاهد الرؤية وجميع عناصر الوجود. فالإسلام كونياً نوع من المسئولية عن الحياة، والفكر الذي لا يهب الحياة بإطلاق لا يستحق الحياة بأدناها.

الرحمة: وسعٌ بلا حدود

منطقياً، لا توجد هناك مفاهيم من غير حدود، فلكل مفهوم حدودٌ بعينها، تقنن دلالته وتبرز حقله التداولي. غير أنَّ الرحمة في الإسلام تصرُ على كسر منطق المفاهيم. بلغة الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز: إذا كان لكل مفهوم فضاء يتحرك فيه، فالرحمة ذات فضاءات متباينة ومختلفة، ولا تنسجم مع أُطر الاعتقاد الديني بمعناه المعروف. ومن ثمّ، ليس أقل من هدم المنطق التقليدي (دينياً وفكرياً) للتعامل مع المفاهيم التي انتجتها البشرية.

يتدرج مفهوم الرحمة على متصل لا نهائي، يوفر (أبعاداً تأويلية) تتجاوز حدود المفاهيم:

1- قد تبدأ الرحمةُ بحدود التخصيص:" يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ" (البقرة/ 105). ولكن الأمر برمته متروكٌ لله كمنبع ومرجعية للرحمة الخالصة، وفوق ذلك لا يُترك الأمر إطلاقاً في الإسلام لبشر. لأنَّ (التخصيص) طالما كان مجهُولاً، فهو يفيد التعميم والشمول والإحاطة. وطالما أنَّ الله هو الخالق المطلق، فإطلاق المعنى كونياً يتجاوز التخصيص بمدلول الحد أو الحرمان. إن الرحمة معطّاة لكل الناس من واقع كون الإله رحمة لجميع الكائنات فما بالنا بالإنسان!! وهذا يعنى أن (النّفسْ الإلهي) في كل رحمة لا يجعلها حكراً على أُناسٍ بعينهم.

قد تأخذ الرحمة حدَّ التخفيف والعفو:" تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ" (البقرة :/178). ولئن ظن الإنسان أنها مرهونة بغرض تقليل الخطايا والذنوب، فليس المعنى هو المقصود حصراً، ولكن ذلك التخفيف إنما يعني بذل الرحمة بوصفها قادرة على القليل والكثير معاً بصرف النظر عمن يكون متلقيها. وهي علاج يستطيع إنزال الإريحية بمن رأي في نفسه ثقلاً ينوء بوجوده.

3- تأتي الرحمة بحد المغفرة: " كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ " (الأنعام/ 54). وهذا المعنى يهدم حدّ المفهوم وأي حدود أخرى بالضرورة، لكن الكتابة كما مرَّ سابقاً تخص كل فعل صادر عن الله، وأنَّ رحمته من جنس الوجود الإلهي لا مجرد حال ولا مآل. وطالما أنَّ الله قد خطَّ وحدّد لذاته، فجميع الأسوار قابلة للهدم من فورها كما يتصورها البشر.

4-   ترتبط الرحمة بحد الإيمان:" " وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ" (هود / 28). ويبدو المعنى هنا إيماناً بلا موضوعاتٍ معينةٍ، فمن المعروف أن الإيمان العقدي يخضع لقوالب دينية صارمة، ومن المعروف أيضاً أن الإيمان الإيديولوجي تدخل فيه الكراهيات وعوامل التعصب والشحن النفسي. بيد أنَّ الإيمان كرحمةٍ في الآية يفُوق حتى الإيمان الديني الشائع، لقد غدا ايماناً من جنس الرحمة، هو الإيمان الحر free faith وقد اكده الارتباط بمعنى الإله الذي لا ينحاز لبشر ولا يتواطأ مع أية قوة خاصة ولا يقبل استعباداً لأحد.

تتحقق الرحمة بحد الوحي القرآني (الرسالة): " قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ" (يونس: 58). لكن الحد لم يقل شيئاً معيناً، كأنَّه يحُول دون الرحمة، بل وسع الوحي هو الرحمة نفسها. وتدل الكلمة على الفضل الكبير الذي يعم كافة البشر وينتظرهم دون شقاءٍ. والوحي مصدر الغبطة والمسرة بلغة المسيحية لكل ذي مخلوق، والآية تقرر المصدر (الإله) والرحمة (الوحي) والفرح (المتلقي)، إنه الخط الذي يصل القرآن بالإنسانية. إن القرآن بما هو موجّه إلى الإنسان يحتاج إلى ثقافة الرحمة والتعامل بمنطقها مع الآخر، كل آخر.

ترد الرحمة بحد العطاء: " آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً" (الكهف/10). والعطاء ممنون ومتواصل، أي لاممنوع ولا مقطوع، أي العطاء الرحماني بعبارة ابن عربي[1]. ونظراً لأن الرحمة مجهولة الصيغة في الآية، فلتكن كما هي تفيد الكثرة والتعدد والنجاعة والقوة. والعطاء بحكم تعريفة لا مقابل له، وعادة لا ينتظر منْ يعطي أن يأخذ، ولاسيما إذا كان العطاء رحمةً. وذلك لا يعترف بخطوط العطاء والاستمرارية فيه. وهو بذلك يحدو البشر للتشبه بالعطاء من لدن الإله الذي يعطي بلا حسابٍ. والعطاء هو القاعدة التي تستحدث الناس على البذل، لا لأنَّ الآخر يستحق فقط، بل لأنَّ المُعطي هو أهل لذلك بحكم إنسانيته.

تتبلور الرحمة في حدود النعم والهبات: "آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا" (الكهف/ 65). أي تأخذ شكل النعم التي تفتح آفاقاً للإنسان، فيكون ذا قدرات خاصة، والقصد لا يفيد الحصر لكنه أحد اشكال النعمة عندما تتجسد في الواقع. وليس ثمة مجال أوسع من ذلك، لأنَّ مطلق الرحمة تحتاج أنْ تتشكل في صورة بالغة العمق والتنوع بالمثل. وكأن الآية تقول: فلينظر القارئ إلى ماذا تعمل رحمة الله في الإنسان (العبد الصالح في سورة الكهف)؟

تعبر الرحمة عن حد المنّة: " وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ" (القصص: 46). والاشارة لطيفة في كون الحديث عن الرحمة آتياً من مصدرها (الرب)، وهي التي تجعل الأفضلية فيها لذات المصدر، ولذلك يتجاوز المعنى أية حدود بالدرجة التي تفوق إمكانيتها. لأن البشر هم من يضيقون الحدود في كل زمان ومكان، فالأنظمة السياسية والدينية ترسم تقاليد الاعتراف بالآخر. ثم يقوم المجتمع بنسخ الرحمة من نظام مفتوح إلى طريقة للضبط الإجتماعي السياسي.

تعبر الرحمة عن حد الرأفة والرقة والعطف: " رَأْفَةً وَرَحْمَةً" (الحديد/ 27). والرأفة هي بلوغ مرحلة التفهم للوضع والأخذ بيد المرءوف به، لدرجة تجاوز الحدود الموضوعة أمام ذلك. وقرنت الآية الرحمة مع الرأفة، حتى تظل الرأفة مفتوحة ولا تُوضع لها نهاية متوقعة. لأن قوة احتمال المفهوم الخاص بالرأفة تتوقف على القائم بها، بينما طاقة الرحمة هي الوسع والعلم اللانهائيان. فليس الوسع حجماً ولا افتراضاً، لكنه علم وهذا يجعل الرحمة عجيبة التكوين والاستمراراية بقدر وجود المجهول والمعرفة.

تمثل الرحمة الوفرة والفائض غير المحدود: "قُلْلَوْأَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ" (الإسراء:/100). والقرآن يؤكد لانهائية الرحمة إزاء محدودية البشر، وكأنَّ المقارنة لا تعترف بأية حدود. والإفتراض في الأية يفيد الشرط والانفتاح بأثر رجعي وفقاً لكون الرحمة لا تُمتلّك. والإشارة لا تخطئها العين في التعبير عن الرحمة بمصطلح (خزائن رحمة الرب)، فهي أصيلة أصالة المطلق والخلوص التامين، وأن الخزائن جمع يعبر عن الوفرة والنماء والفائض والزيادة. وأنَّ خزائن الرحمة لايمتلكها غير الله، ونسبة الخزائن إلى الرب توضح كونها موهوبةً للبشر.

وسواء أخذت أشكالا مادية أم إنسانية، فالرحمة نوع من الإغداق الإلهي دون حساب. والحث الضمني على إطلاق العنان للرحمة يكسر قيود الشح النفسي والإنساني. فلو كانت الرحمة مطلقة، فأحرى بنا الانفاق بكل تبذير دلالي ومفهومي ممكن. إنَّ إقتصاد الرحمة اقتصاد مفتوح لا ينضب ويفيض بما يكونه باستمرار. ويقر القرآن بهذه اللاحدود: " مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا " (فاطر/ 2). فلا تجدي أية سدود أمام الناس، شريطة أنْ يكونوا جميع الناس.

حد المودّة والرفق والتراحم: " رُحَمَاء بَيْنَهُمْ" (الفتح/ 29). وهذه آثار الرحمة التماساً لمضمونها الأوسع، لأنَّ الأية تقرر كون المؤمنين رحماء، أي يتصفون بالرحمة التي تتسع للجميع وتفيض أيضاً. و (البينية) الواردة ليست على المقاس، كما يُقال في هذه الحالات التي تقبل توزيعاً حيادياً. فالرحمة غير قابلة للتقنين، كما أن الجانب الخفي الرمزي منها أكبر من المادي. وبهذا تعد الرحمة ممارسةً جمعية في صورة نظام للعيش معاً. وتلك هي قضية القضايا السياسية والاجتماعية في المجتمعات متنوعة الأديان والأعراق والثقافات. واطلق القرآن الرحماء على الناس وإنْ كانوا داخل دين معين، لأن الرحمة لا تتجزأ حتى أزاء المخالفين أو أصحاب المواقف النقيضة.

وترجمت الرحمة في الدولة المعاصرة كأطر وآليات للحفاظ على حالة الثراء الثقافي والسياسي. وهو ما تسميه لندا ماير"الدولة الرحيمة " Merciful State، وهي الدولة التي ترى أن سياسات العفو والصفح موقف عقلاني حر، وهي سياسات يمكن تعميمها في إطار الولاء والمسئولية وكذلك تتماشى مع العملية الديمقراطية في المجتمعات[2].

تتجاوز الرحمة حدود الزمن، فقد تكون بمعنى الجنة والفردوس في الآخرة، من ذلك قول القرآن: "أولئك يرجُون رحمةَ الله" (البقرة/: 218). والرجاء قرين الأمل فيما هو قادم، والرجاء يفتح الزمن الإنساني نحو المستقبل. وكلُّ ايمان حُر ينتعش وحده مع الرجاء ومع كل إيمان آخر، وليس بإمكانه أنْ يغلق النوافذ حول نفسه فقط. والرجاء قوة إنسانية لا تُميّز غير الآدميين. ولنلاحظ أنَّ الرجاء نُسِبَ إلى المجموع (أولئك)، لأن كلَّ رجاء يفيدُ- من واقع الرحمة المنتظرة- الآخرين، لا رحمة مع الذات فيما هو آتٍ. ولكن الرحمة خاصة بالآخر، وتلك الفكرة تعلِّق (إن لم تقضِ على) الصراع والتنابذ. وكأنَّ المصير يتشكل بواو الجمع.

ولعلّنا ندقق القول بأن الرحمة بالمعاني السالفة هي المتجاوزة للحدود أصلاً، فلن تكون كذلك من الأهمية سوى بانتهاك كل قاعدة تُوضع للتقليل من الآخرين سواء أكانوا مخالفين أم أغياراً. وربما الحد الذي تستهدفة الرحمة يتماس مع موضوع الحدود في الإسلام. فتطبيق الحدود الشرعية يحمل معاني العقاب وإيقاع أثر المخيف من المصير ذاته بالنسبة لأفراد المجتمع.

بينما تتفلت الرحمةُ من الحدود العقابية، لأنها تشكل عملاً بلا عقابٍ، كما أنها ليست مطروحة من الأساس بهذا القصد. فهي رحمة خالصة وكفى. بل وتبدو منطلقةً للقضاء على الأثر الحاصل من أي خوف ومن أي توجُس. وحتى الأثر الشعوري الحاصل لهاـ فهو أثر حياتي بالوقت عينه. فالعقاب يأتي في المجتمعات من إيقاع الضرر بالآخرين، من إضمار النوايا الخبيثة، ومن استئثار الأنا الجمعي بكل ما يجلب الصراع والكراهية.

ومن هنا تكون (الحدود العقابية) هي الأسوار الخطيرة التي لا يعلوها إنسان دون إيقاع العقاب به، وكذلك إيقاع الخوف بالآخرين. لكن الرحمة تستأصل تلك النوايا المسئولة عن الجرائم وانتهاك الحقوق. ولذلك، فإنَّ وسْع القصاص في الإسلام يعود بالرحمة على المجتمع من جهة السكينة والهدوء والإطمئنان[3]. وهي (الوضعية الرأسية) التي تمكثُ فيها الرحمة من السماء إلى الأرض ويتطلع إليها الناس، وكذلك الرحمة بـ (الوضعية الأفقية) التي تتحدى حدوداً مصطنعة بين البشر باختلاف الأديان والمعتقدات.

كيف تكون الرحمة بلا عنف؟

يضمر المفهوم عنفاً عندما يرتبط بمرجعيةٍ صارمةٍ تمارسُ إكراهاً على الآخر مثل المرجعيات الأيديولوجية والسياسية والدينية. وهي تتميز أول ما تتميز بالقمع، لأن كل مرجعية تمثل (نواة صلبةً) غير قابلة للتفاوض حول نفاذها التام، فما بالنا بآثارها على الآخر؟! والدين في ممارساته التقليدية هو الأقرب إلى تحديد مساحة المفاهيم، من جهة كونها معبرةً عن الأوامر والنواهي الخاصة ليس أكثر.

ومفهوم الرحمة كتعاطف ورأفة وعفو وغفران كان مفهوماً حذراً تجاه المرجعيات الدينية. لماذا لا نقول إن خروجه على كافة المرجعيات والأعراف والتقاليد هو سبب إبطال العنف من الجذور؟ لأنَّ المعنى دالٌّ على كون الرحمة لو وُهبت للإنسان، فشرطها الأول أنْ تصبح بلا إكراهٍ ولا قسْر. هو شرط تأسيسي بوصفها رأفة وعفواً دون مقدمات. ولذلك كانت مفاهيم الرحمة في عالمنا المعاصر اشكالية مع وجود الأنظمة الرأسمالية الديمقراطية حول سؤال القانون والعدالة[4].

وذلك هو ما يجعل (مفهوم الرحمة) بين قوسين على الدوام، لأنَّ الفكرة الخطيرة أنه مفهوم يشتبك مع أنظمة الحكم وتراث الدين السياسي وتراث الفرق والطوائف والمذاهب. وليس هذا وحسب، لكنه مفهوم يكشف كمْ هي تراثات قمعية في صلب الأديان ذاتها، وأنها لم تكن لتؤدِ إلى التنوع والحرية الدينية التي نصَّ عليها الاسلام نصاً صريحاً، طالما هي بعيدة عن جوهر الرحمة بمعناها الإنساني.

الرحمة كما رأينا تتدرج مع الخلْق الذي هو جزء منها مروراً بمعاني الإيمان والنعمة والحياة والإقتصاد (الرزق) وانتهاء بالجنان والثواب في الآخرة. وكل ذلك ليس متوقفاً على شيءٍ قدر توقفه على إرادة إلهية لا تساوم بشراً في منطلقات الرحمة، وهي تبلغ في هذا مرتبة الأسرار الكونية المخبأة في كافة تفاصيل الإسلام.

تمثل الرحمةُ أبلغ درجةٍ من اللاعنف non- violence، فهي حتى تبطل ذاتها وباسمها لو كان ثمة من يراها منّةً أو استحواذاً. والقرآن واضح في هذا الفهم للمسألة: "وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا" (الأسراء/ 28). فهناك مخاطبة حاسمة للنبوة في شخص النبي: أنه لو اعرض عن الآخرين والمخالفين ابتغاء الرحمة (أي باسمها)، فلن تكون غاية الرحمة متاحة من أول وهلة وكأن الله يخضع (في أفعاله) لما يشعر به البشر. وسلوك النبي حين أخذَ شكل الاعراض والأزورار عن الآخرين فإنما يتخذ موقفاً بشرياً خالصاً. ولكن النظرة الإلهية الواسعة انطلاقاً من الرحمة كذات وفكرة كونية أشار بالأية إلى أن ذلك الإعراض بملابساته النفسية والحياتية لا يجب أن يخرج عن الرحمة المتمثلة في القول الميسور اللين (والرحيم).

وتبلغ الرحمة مبلغاً متعالياً، إذ يشكل القول الميسور أمراً إلهياً، والقول نوع من العودة إليها مرة ثانيةً كلما أراد النبي بوضعية البشر الخروج عليها. والأمر موجّه إلى بشرية الإنسان المرتبطة بالجوانب النفسية والغرائز والتفضيلات والأهواء. وهو التمييز الذي تعول عليه كلُّ رحمة خالصة لذاتها دون عنف.

والمعنى ثري إنسانياً، لأن الرحمة حتى في تجسدها العيني تميز بين البشري (الغرائزي) والجانب الإلهي فيها، ولكن الأهم أنَّ الجانب الإلهي يلتقي في النهاية مع الجوانب الإنسانية لدرجة التطابق. والرسالة الإلهية (الوحي) التي هي رحمة لا تتعارض مع الإنسان نفسه كرسالة أنطولوجية لكل الكائنات. ولذلك تبدو التفرقة القرآنية الضمنية فيما بين الكلمات بالغة التأثير في منع القمع باسم الرحمة.

ويتضح التواضع الثقافي أكثر على المكانة الإنسانية للآخر من سواه. فالثقافة تنطوي على عناصر الهيمنة والتسلط والإقصاء، وعندما يقول القرآن إذا كانت ثمة نوازع ثقافية للاعراض عن الآخر، فهذا لا يحول إطلاقاً من إبالغهم مضمون الرحمة التي هي أوسع من الطرفين. وبالتالي سيظل مفهومها نقياً من ترسبات الثقافة الشائعة.

ولتأكيد معنى اللاعنف فأنَّ الإنسان داخل كيان النبوة (أي الإنسان النبي) قد يقول بأن المجتمع يمارس اقصاءً بدوره مع النبي تجاه إنسانه (أي النبي الإنسان)، وبالتالي قد يبرر ذلك بموقف النبي المتجنب لهؤلاء المعارضين لدعوته، غير أنَّ الله لم يعتب على النبي ولا يتحدث بخطاب التبرير انحيازاً لموقفه غير المريح من هؤلاء. لكن ذروة الحياد اللاعنيف: أن يُذَكِّر (هؤلاء وأولئك) بأن ربهم الذي هو أكبر من المجتمع ومن صاحب الدعوة هو صاحب الرحمة الواسعة. "فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ" (الأنعام/ 147). وتلك الغاية ستنقي من فورها أي عنف محتمل سواء من النبي أو من المجتمع.

إذن المبدأ وراء الرحمة كل لا يتجزأ، فما هو ذلك المبدأ؟ أنّ الرحمة معيار وجود إلهي لا يخضع لمقاييس البشر ولا لحدود المجتمعات. وهذا هو السر وراء كونها (الرحمة) لا تتواطئ مع بقايا القمع والإقصاء ولا مع رغبات البشر. وتصل هذه المعيارية أن الله لا يسمح بقانونه الكوني على لّي عنق الرحمة حتى ولو كانت في إطار رسالاته (الأديان).

ومعنى الرحمة الكلية ثري فلسفياً بالمثل، من حيث أنَّ مفهومها يشكل مفارقة دينية religious paradox عصية على الحل إلاَّ بوجود معانٍ عليا ترفع الاحراج المنطقي. دوماً البشر يبررون أفعالهم بشكل تجزيئي برجماتي. وقد لا يمتثلون للمنطق الكوني cosmoc logic وراء المفاهيم الذي هو شرط لكل رحمة وصفح. كما يقول الفيلسوف الفرنسي فلاديمير جانكلفيتش Jankélévitchإنَّ العفو أو الصفح forgiveness يتم بضربة واحدةٍ غير قابلة للتجزئة indivisible ويجري بشكل قاطعٍ، في حركة واحدةٍ غير قابلة للفهم incomprehensible، فالصفح يمحو كل شيء، يكتسح كل شيء، وينسى كل شيء في غمضة عينٍ، الصفح يصنع صفحةً بيضاء من الماضي tabula rasa of the past [5].

ولذلك ستمثل الرحمة نقطة قلقة لدرجة الخلخلة في جميع خطابات الإسلام السياسي والهوس الأيديولوجي لدى التنظيمات الإرهابية. وليس مفهوم الرحمة من تلك الزاوية معترفاً بالإرهاب من الأساس، بل يقف حائلاً دون تكوين الأيديولوجيات الدينية العنيفة. الرحمة بهذه المفارقة تقف كتحصين (كلقاحٍ إنسانيhuman vaccine) ضد الإنغلاق باسم الإله وبأي عنوان آخر. فالفكرة أنَّ المفارقة لا تُحل عقدتُها من أول وهلة، لأن المطلق واللاحدود فيها أعقد من أن تتحملهما الخطابات المؤدلَّجة. فالإنسان والإله أكبر شفرتين في أفق الحياة والتاريخ مع هذه المساحة الشاسعة من الرأفة والعفو.

وإذا كان الفيلسوف المعاصر إيمانويل ليفيناس يرى في الخطابات الميتافيزيقية بذوراً للعنف، نظراً للقمع الحاصل بإسم مفاهيم الوجود والمقدس والإله ونتيجة المصطلحات الأنطولوجية التي تترك ظلالاً من الإقصاء، فإنه يحبذ نوعاً من التعالي نحو المطلق لتذويب العنف ومحو آثاره. هو يؤكد أنَّ عنف المحدود لا ينتهي إلاَّ بالانفتاح على اللامحدود. بلغة القرآن، فإن الاعراض عن الرسالة يتم تذويبه بعملية الوسع التي هي قاعدة الرحمة. يشير القرآنُ بصريح المعنى غير العنيف: "قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً" (هود/ 63)، أي لا داع لنشوب الصراع على شيء لا نملكه ، شيء أعظم من الانهماك في مواقف جزئيةٍ، لأن الله هو الإنفتاح الخاص بالرحمة لدرجة أن إتيانها منه كفيلة بالرجوع إليها في مستواها الكلي دون التمسك بتلابيب الحالات الجزئية حيث تبرز النزاعات والمبررات الواهية التي لا تبلغ تلك المرامي الكبرى.

كل رحمة لون من الانفتاح على وجه الكل لا الجزء. فالانفتاح لا يمكن أن يكون خاصاً وإلاَّ لسقط مرة أخرى في دورة الاستقطاب والعنف. ولذلك كانت الرحمة كاشفة لطبيعة الإنسان الجزئي الذي لا يعيش انفتاحاً بملء الكلمة. يقول القرآن موضحاً: "وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ" (هود / 9). وكأن الرحمة نوع من (تذوق الانفتاح) على الحياة والعالم والتاريخ، وهو ما لخصه القرآن بالاريحية كمعنى كامن وراء التشبع بمذاق الرحمة. ولكن الآية أرادت أن تثبت ذلك بالنقيض (منطق قياس الخُلف)، أي اثبات صحة الحالة المراد تأكيدها باثبات صحة العكس. فالإنسان (وهو المستحق للرحمة) لا يعدو أن يكون دون الإنسان إذا ما سُلبت منه الرحمة ولم يكن على مقدارها. بل قد يتحول فجأة إلى يئوس كفور، في حين إن الرحمة لا تعطي الإنسان مساحة لليأس ولا الكفر والقنوط بلغة الإسلام. والكفر هنا ليس شرطاً بمعناه الميتافيزيقي تجاه الله. أي إعلان إنكار الاله، بل إنكار التسامح والعفو والرأفة بالآخر.

وإذا قلبنا الموضوع على وجهته الصريحة، ستكون الرحمة هي مصدر الفرحة التي يتلقاها الإنسان كما لو لم يتلقاها من قبل: "وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً، فَرِحُوا بِهَا" (الروم/36). ولأنَّ الرحمة حرّةُ الإنفاق والعفو والإحسان، فهي مصدر سعادة بلا ريب. ويا حبذا لو كانت تلك الفرحة لها عمق يواكب مضمون الرحمة. أما لو كانت فرحة نتيجة الشكل العيني للرحمة (مثل النعمة والرزق) ، فهذا أمر دال على كيفية التعامل معها. إن ردود الأفعال على الرحمة قد لا تواكب ثراء فعلها وزخمه المصدري باعتباره من الله. لكن المنّة والإحسان ليسا منطويين على تبذير، حتى تكون الفرحة ظاهرية ولا على إغداق فارغ من محتواه. ولذلك فالرحمة استحضار لمعاني الجُود الإلهي الذي يبرر ذاته بذاته.. رعم إنكار البشر له بين يأس وفرحٍ.

***

د. سامي عبد العال

..............

[1]- محي الدين بن عربي، فصوص الحكم، شرح عبد الرازق الكاشاني، (القاهرة: دار آفاق للنشر والتوزيع، 2016)، ص 64.

[2] - Linda Ross Meyer, The Merciful State, In: Austin Sarat and Nasser Hussain (Editors), Forgiveness, Mercy, and Clemency (Stanford, California: Stanford University Press 2007), PP 85-86.

[3] - إن أمر القصاص نوع من الزجر الذي تحل به الرحمة على المجني عليه وزجر ورادع للجاني عن القسوة ودفع الناس الآخرين لاختيار طريق الرحمة بدلاً من الجرائم والعقاب. راجع: محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق محمد الطاهر الميساوي، (عمان: دار النفائس، الطبعة الثانية 2001)، ص ص 516- 518. وكذلك: علي بن محمد الماوردي الأحكام السلطانية، (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2004)، ص 443.

[4] - Stephen P. Garvey, As the Gentle Rain from Heaven: Mercy in Capital Sentencing, In: Cornell Law Review- 989, Volume 81, Issue 5 ,Jule 1996, P 995. See also: Bryan Stevenson, Just Mercy: A Story of Justice and Redemption, (New York: Random House, LLC, 2014), P86.

[5]- Vladimir Jankélévitch, Forgiveness, Translated by Andrew Kelley, (Chicago and London: University of Chicago Press, 2005), P 153.

في المثقف اليوم