أقلام فكرية

فلسفة تاريخ المستقبل خطوة لاستشراف مراحل (ما بعد التاريخ)

raheem alsaidiوحده القران الكريم من يقدم النصوص التي تختصر المسافات والأمكنة، ومن ذلك فلسفة تاريخ بنمطين او صورتين او منهجين، تتعلق الأولى بالماضي والثانية بالاتي او المقبل او المستقبل .

وإذا أوجبت الأسئلة نفسها، فهل يصح التحقق من هذا التوليف، اقصد ان يكون للمستقبل تاريخا ما؟. وجواب التساؤل مفيد ان لم يكن بتساؤل آخر، ولكن الاحتكام الى النص القرآني ذاته سيوفر علينا جدلا مطولا .

ولابد أولا من إقرار ان الأزمنة في القران مختلفة باختلاف الموضوع فالإنسان البسيط يخضع لزمن ما، والسوبر إنسان يتعامل مع زمن آخر كما في إمكانيات عمر نوح او عروج النبي الأكرم او صورة العزير الذي أماته وأحياه الله وهذا يشمل المسيح والخضر (عليهم السلام جميعا)، وكلها إمكانات تتجاوز الزمن الكلاسيكي، بالقياس الى نثار كبير ومختلف ومتعدد من الأناس على مر التاريخ الذين خضعوا أمما وأفرادا الى زمن اعتيادي نمطي، ولكن حتى أصحاب السوبر زمن سايروا وعايشوا أصحاب النمط الزمني التقليدي، وعلى كل حال فما يعنينا هنا ان نقول ان الزمن الماضي وهو مادة كبيرة ومهمة زخرت بأفكار فلسفة التاريخ المهمة في القران، وقد تطرق لها الكثير من الباحثين وعلى راسهم المفكر محمد باقر الصدر في سنن التاريخ وعماد الدين خليل ومحمد تقي المدرسي والمهدي المنجرة ومطهري ومالك بن نبي وآخرون حول هذه المسالة

ان المصطلح الذي أحاول تنضيجه لا صلة له بمصطلح إبراهيم عيسى بكتابه تاريخ المستقبل،لان كتابه لا يعدو كونه مجموعة من المقالات والتي يحلل فيها عيسى الوضع الراهن والإجابة على تساؤل ما نحن فيه من انحدار وتدهور، كما انه يبتعد عن تنظيرات ا.ج هوبزباوم المؤرخ والمنظر للتاريخ، بكتابه دراسات في التاريخ الذي قدمه بشكل تحليلي البروفيسور متعب مناف في تفكيك جميل وفق تصور (صناعة الغد)  وبسؤال ملح وهو هل للتاريخ من مستقبل؟ والدكتور متعب مناف وضح كيف استطاع هوبزباوم ان يغطي الإجابة من خلال فصول الكتاب الستة التي تطرح فهم ( خارج وداخل التاريخ، معنى الماضي، وما الذي يمكن ان يقوله التاريخ لنا عن المجتمع المعاصر و التطلع الى الأمام بين التاريخ والمستقبل  وأيضا موضوعة هل تقدم التاريخ؟ ومن كل هذا لم أرد من تقديم مصطلح مغاير في فلسفة التاريخ، إلا للإشارة الى الزمن الزئبقي في القران الكريم والذي يقدم ديناميكة تناول الحدث بتصور يختلف عن تصورات الآخرين، فالإشارة الى يوم القيامة المستقبلي بصيغة الماضي، مثلما توثقه الآيات: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ) [الشعراء: 90-94]. والكلمات (وَأُزْلِفَتِ، وَبُرِّزَتِ، وَقِيلَ، فَكُبْكِبُوا) جميعها جاءت بصيغة الماضي.

هي إذا تقنية اختص بها القران، وعند الاطلاع على نصوص قرآنية مستقبلية موثقة بنص تاريخي مثل القران سوف نفهم تصور الزمن في هذا الكتاب فنحن هنا أمام تنوعات منها :

• متحدث قديم جدا، هو الأقدم انزل كتابا بكلمات قديمة .

• يمكنك ان تتحدث في فلسفة تاريخ القران (متعلقاته) اما فلسفة تاريخ الله وكلامه فلا يمكن الحديث فيها لأنها من المحالات .

• الزمن في القران دائري (وأنا هنا أتعامل مع نصوص تصور لنا هذه الدائرية )، فالماضي يمكننا رؤيته بالتوافق مع المستقبل والحاضر معا، ولا فائدة أو شاهد اكبر من قصة الإسراء والمعراج  يمكننا إدراجه لتوضيح هذه القضية، فالحاضر (النبي) اجتاز المستقبل البعيد بسنوات ضوئية مهولة وشاهد الماضي والمستقبل معا هناك .وأظن بان التطور العلمي اليوم يتحدث عن هذه القفزات العلمية ولكن بصورة بطيئة .

• في القران هناك تداخل الزمن القريب والبعيد والبعيد البعيد وأيضا أزمنة يمكن ان نقراها في كل وقت وهي توحي بالقدم أو بالمستقبل بمعنى انها لم تتحقق بعد .

وبالعود الى المصطلح الذي يتلخص بفلسفة تاريخ المستقبل في القران سيكون علينا تأكيد ان المصطلح سيعني :

1. وجود السؤال الفكري الخاص بتاريخ المستقبل وهو : مثلا أ- كيف يمكن التعامل (راهنيا)  ب - مع نص قراني تاريخي ج- يشير الى مستقبل قريب وبعيد د- وكلما نظرنا إليه مازال يتمتع بالمستقبلية، خذ مثلا قوله تعالى ( قال أنظرتي إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين )الأعراف 14. والعديد من الأسئلة التي يمكنها تقديم تصور مهم عن مستقبل التاريخ أو تاريخ المستقبل مثل هل يمكن الاستفادة من النص القرآني المستقبلي بتحسين المنظومة الإنسانية وما مدى الحرية الإنسانية التي نلمسها بذلك النص وما هو ارتباطها بمصائر الأمم وهل نحن داخل كينونة الحتمية وجزء منها أم نحن شركاء ببعض الحتميات وهل تختلف الحتميات ...الخ .

2. وجود الحدث المستقبلي الدائم، من قصص وحوارات قرآنية وبيانات المصير وصور العذاب الحتمي، والية التذكير بالماضي في السرد القرآني المستقبلي .

3. وجود الأسس والسنن التاريخية المستقبلية الثابتة التي تعني انها أسس عقلية تتسم بالثبات ولهذا فهي قواعد أخروية في العالم المستقبلي الأخروي الثاني، مع ان منطق العالم الآخر يختلف عن منطقنا الأرضي .

4. هنا سيكون الحديث عن منطقين مستقبليين وجدا في القران يمكن استعراضهما بفلسفة تاريخ المستقبل الأول هو فلسفة تاريخ المستقبل الدنيوي الذي يوجد بحوادث قرآنية مختلفة والثاني تاريخ المستقبل الأخروي وهو محض بناء ينتمي الى العالم الآخر وفيه تفاصيل تحتاج الى انتباه وجهد لإعادة تركيبها .

5. قد يتعين قراءة الحدث الذي أورده القران في مرحلة (ما بعد التاريخ) على أساس فهمنا لمنطق استباقي والتحضير له فكل شيء محدد وجاد وقواعد البيانات لا تترك شيء ومجالات الحرية معدومة تقريبا، واختلاف المنطق هناك يرسم آلية من اختلاف الزمان والمكان وقد تكون بعض القواعد متبعة مثل ان تكون المقدمة الصحيحة تعطي نتائج صحيحة وبالعكس ولكن اجتماع النقيضين يمكن ان يرد في المنطق الأخروي وإذا ورد قانون الهوية، فقد لا توجد قوانين معينة أو العكس، وبشكل عام فان موضوعة المنطق الأخروي المختلف تحتاج الى وقفة أخرى، ولكن الأساس الذي يمكن إتباعه هو ذلك الجانب المعكوس أو العكسي والذي يمكن لنا تطبيقه من عالمنا الراهني لغرض تجريبه على التاريخ المستقبلي باعتباره يشكل نوعا من تجريب الاستشراف أو محاولة فهم النص المستقبلي القرآني ومعالجته بأسس فلسفة التاريخ، فيبدو هنا وكأنه حالة معاشه وحدث مر وليس مستقبلا فقط ولم يحدث بعد .

6. هذه الصورة ترتبط بضرورة فهم اننا أمام حالة من التوافق بين الحتميات الموجودة المرتبطة بالمابعد بين والرغبات الراهنية التي يطمح لها الإنسان اليوم، وإذا اجلنا الإجابة عن هذه القضية الملحة بالتفصيل، فان هذه العملية أو هذه الآلية هي في صلب قضية فلسفة تاريخ المستقبل، لان نقاش مصير الإنسان مثلا يمكننا مداولته بالاستناد الى الرؤية التي تتحدث عن الغيب المقبل والمستقبل المسرودة (أصلا ) في الكتاب التاريخي (القران )، إذا فهو حقا كتاب فيه نبأ ما قبلكم وما بعدكم .

7. أيضا من لوازم قراءة فلسفة تاريخ المستقبل ان بإمكاننا معايشة ذلك الوجود المختلف بعدد من الزوايا منها الصوفي والعرفاني والاشراقي والروحاني بشكل عام واعتقد بان المرور على هذه الفئة سيجعلنا أمام منفذ لا تنتهي منعطفاته، فهؤلاء يهربون من الجانب الراهن الى المستقبل البعيد اللذيذ بطرق مختلفة، هم يلتهمون المعارف والعوالم بنهم ولذة، وهو المستقبل الذي يرونه وحدهم، مما جعل بعضهم حالة شاذة لا يستوعبها الغير وقد استأصلهم المجتمع أو بعضهم بطريقة غبية .  وكان أكبرهم هو ذلك الذي اجتاز المسافات المهولة للوصل الى سدرة المنتهى وهو النبي الاكرم، وهناك تصور آخر ربما لا ينتمي بشكل مباشر الى الجانب العرفاني وهو طريقة معايشة الماضي والمستقبل على حد سواء، ولكن هذه اللوازم هي من تصورات الحاضر للمستقبل على أي حال .

اعتقد بأنها إشارات لفكرة مهمة تحرك الجانب التاريخي والمستقبلي على حد سواء، وتثير الأذهان لضرورة تصور التاريخ المكتوب حول المستقبل في القران واليات ومنطق ذلك التاريخ، وتتعلق بدراسة المنطقين الأخروي والراهني، وقد بدأ هذه الأخير بالتصدع نتيجة للتطور العلمي والتكنولوجي ودمج المختلفات والمتغيرات العديدة ، وفيه ما يمثل إعادة توجيه الإرادات وتقويتها وربطها بالغيب الذي لا مجال لمحوه أو إهماله بتصورات الخدر اللاواقعي، وأيضا سبر أغوار المستقبل، وهي محاولة تتبعها أخر إن شاء الله .

 

د. رحيم الساعدي

 

في المثقف اليوم