أقلام فكرية

جان لومبار: كانط والنّسيان

بقلم: جان لومبار

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

".. يمكننا أن نترك جانبا تنوّع التعريفات لعبارة (النسيان)، والمجال واسع: نقول بأنّنا نسينا مفاتيحنا، أو نسينا تاريخ حدث ما؛ يمكننا نسيان وعودنا أو محاولة نسيان همومنا بالسفر . إن فعل نسى هو دائما  فعل مبني للمعلوم، بينما لا نملك بالمرّة الانطباع بنسياننا أنّنا نفعل ولا ندرك النسيان إلا متى تدخّل، لا حينما يجري . فإذا نسيت ما عرفت أو ما عشت، فإنّه يحدث لي أو على أيّ حال يحصل لي انطباع بأنه قد حدث لي سلبيا شيء ينتج دوني. إنّ الفعل اللاتيني oblivisci، الذي اشتق منه الفعل الفرنسي oublier يؤكّد هذا الأمر: هو ما نسمّيه فعل متعدّي المعنى، صنف نحوي في اللاتينية حيث تجمع الأفعال المبنية للمعلوم والمبنية للمجهول (9) . وبالفعل، فليس النسيان، لا فعالية ولا انفعالية: فهو يتجاوز ويطمس هذا التنازع وسنجد صعوبة في القول بدقّة ما يجب فعله حينما نتلقّى أمرا من هذا النوع" لا تنسى أن تفعل هذا أو ذاك" وأن نريد الاستجابة لهذا الأمر.  يمكننا على الأكثر أن نقول لشخص آخر "اجعلني اذكر كذا" أو" ذكّرني بـ"، وهو ما يعني تفويض سلطة لسنا على يقين بقدرتنا على ممارستها. هذا اللايقين قائم في صلب النسيان بل هو حتى جوهره : يظهر النسيان منذ البداية مثل شكل فريد من الغياب.فالحديث عن النسيان حديث ضرب من الغياب.

يذكّرنا هذا خاصة بمرحلة متأخرة من حياة كانط. نحن نعرف الاهتمام الشديد الذي أثاره القسم الثاني من حياة الفيلسوف كانط، ربّما لأنّه قدّم لنا مشهدا محيّرا لفوضى تدريجية لفكر كان بشكل مخصوص مبهرا. منذ 1804، سنة موت كانط نشر تلاميذه ثلاث سير ذاتية؛ وخلال القرن 19م، سيروي كتاب وفلاسفة أوروبيون، "الأيام الأخيرة لأمانويل كانط"، أمثال طوماس دي كوينسي , Thomas de Quincey وفيكتور كوزان Victor Cousin.  نحن نعرف أنّ كانط، الذي كان جدول أوقاته اليومي مقسما تقسيما صارما بالثانية، وكان له طيلة حياته خادم، يدعى لامب Lampe،الذي كان يقوم على تنفيذ برنامجه الثابت والذي، بحسب الوصف الذي قدمته هان Heine، كان يتبعه أثناء جولته اليومية المشهورة " بصورة متيقظة ومنشغلة، يتأبط مطريّته، في صورة حقيقية عن العناية الشديدة ".  وفي عام 1802، بينما كان عمره 78 سنة، انفصل كانط، وهو الذي ظهرت عليه معالم شيخوخة، عن خادمه الوفيّ. روى فاسينسكي Wasianski، تلميذ كانط الذي سيصير مؤرخ سيرته الذاتية، بطريقة مفصلة هذه المرحلة من حياة كانط، دون أن يعطي مع ذلك السبب الحقيقيّ لطرد الخادم لامب. نحن نعرف فحسب أن كانط يؤاخذ خادمه القديم على سوء تصرّفه و" أنه يخجل من الحديث عن ذلك". وليس من اليقينيّ أنّ فاسينسكي قد لعب دورا أساسيا في طرد الخادم- ربما لاعتباره قريبا جدا من المعلّم- ولا في تعويضه بعسكري غليظ الطباع يدعى كوفمان. ولم يتعوّد كانط بالمرّة، مثلما هو متوقع، بهذا التغيير . وكان يجد كثيرا من العناء في الاستغناء عن خدمات لامب فضلا عن إزاحته من ذاكرته. وبما أنّ كانط كان شديد العناية، بحكم وهن ذاكرته، في تسجيل ملاحظات على بطاقات صغيرة الحجم عن كلّ ما لا يريد نسيانه، كان يكتب لنفسه ملاحظة تقول :" يجب على اسم لامب من هنا فصاعدا أن يمحى من ذاكرتي". وقد وجد فاسينسكي الذي لم يكن ربما محايدا في هذا المسألة، في هذه الملاحظة دليلا جديدا على شيخوخة كانط. ومع ذلك، فليس من اليقينيّ أن يكون هذا التأويل سليما، إذ أن التماس الذاكرة للتسبّب في النسيان ليس بالضرورة تمشّ متناقض أو تافه. فلقد علّمنا فرويد منذئذ الكثير عن تأويل زلات اللسان و الهفوات في الأفعال وعن نظرية النسيان بوجه عام. لقد زعم كانط  على أيّ حال، بهذا الحلّ فعل شيء قد يبدو غير قابل للتصديق : رسم النسيان.

إنّ لهذه الملاحظة التي دونها كانط على الورقة تأويلات عديدة . فقد تحيل إلى فكرة أن كلّ ما كتب يريح الذاكرة:" كلّ ما أكتبه على الورق أرفعه من ذاكرتي وبالتالي أنساه"، على حدّ قول برناندان دي سان بيار Bernardin de Saint-Pierre . ويمكن أن نضيف : بهذا النسيان المعلن، وعلى نحو ما، أحتفظ به أخيرا، أي بما كتبت، على العكس،  إلاّ إذا أضعت الورقة، وهو ما يحدث أيضا. يوجد هنا انزياح إلى خطر الكتابة التي يتهمها بعدُ أفلاطون في الفيدروس Phèdre :" لا نتج الكتابة سوى النسيان بإهمالها الذاكرة."

إلا أنّه علينا ربّما أن نولي اهتمامنا بالمصرّح به ذاته أكثر من اهتمامنا بالبطاقة المدون عليها . كان لكانط ثقافة واسعة وذاكرة مدهشة. وهو مقتنع بأنّ الحفظ الجيد ضروري لكلّ تكوين معرفي :   نحن لا نعرف إلاّ ما احتفظنا به في الذاكرة".، مثلما يقول في فصل " الذاكرة" في كتابه " الانتروبولوجيا " وفي " أقوال في البيداغوجيا". يميّز كانط في المقابل، ثلاث أشكال من الذاكرة، آلية وبارعة وحكيمة . لم يكن كانط يهتم كثيرا بالشكل الأول (الآلية)، والتي يراها جديرة بالببغاء، وكان يفضّل الثالثة (حكيمة ذات صلة بالحكم)، لأنها تتوافق مع استعمال العقل. (17). هل أراد كانط، حتى ننتهي من هذا، أن يعهد لذاكرته الآلية ذكرى سلبية عن لامب، وفي هذه الحالة تكون البطاقة بالمعنى الدقيق للكلمة تذكيرا، أي ملاحظة تذكّر بالمهام التي عليه تأديتها، وهو ما ليس تسرعا في الحكم على نجاح المناورة، أو على العكس، هل يكون، على نحو ما، قد أمّن انتشار هذه الذكرى السيئة برفعها إلى مستوى الذاكرة الحكيمة لضمان نفيه الذكيّ في نهاية مسار نقدي؟ ومهما يكن، فهذا ضرب من النسيان الإرادي نسب إليه القدرة على تخليصه من هوس بالماضي . وبواسطة هذه الملاحظة التي كتبها لنفسه يقول في الجملة " علي أن أتذكر النسيان" أو، كما نريد، " عليّ أن لا أنسي أن لا أذكّر نفسي"،وهو ما سبيّن بانّ النسيان والذاكرة ليسا سوى الوجه الآخر لكل منهما، لكنهما يتداخلان ويأخذان معنى في علاقة متبادلة. أن يكون قد تصرّف تحت تأثير مرض النسيان الكبير (مثلما نسميه أحيانا الزهايمر)، فقد يكون كانط، في هذه المذكّرة، قد ساهم بشكل مفارقي، في جعل ذكرى لامب غير قابلة للتلف وقد يكون قد أكد ما يعني أن نكون أوفياء. لقد وضع أيضا أو أيقظ بهذه البطاقة عدّة جوانب من التساؤل حول النسيان ".

***

....................

* جان لومبار، فلسفة النسيان، الوجود والعلاقة مع الماضي (محاضرة لأصدقاء الجامعة  2014)

 

في المثقف اليوم