أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: هل يمكن منطقيا إثبات عدم وجود الزمن؟

ترى الفيزياء الحديثة ان الزمن ليس أكثر من وهم. النظرية النسبية لآينشتاين، مثلا، ترى ان الكون كتلة رباعية الأبعاد ثابتة تحتوي على كل من الزمان والمكان معاً و لا يوجد فيها "الآن" كشيء خاص. المستقبل بالنسبة للمراقب هو ماضي لمراقب آخر. ذلك يعني ان الزمن لا يسير من الماضي الى المستقبل كما نشعر به نحن.

هذا يتصادم مع الكيفية التي يُفهم بها الزمن في فروع اخرى للفيزياء مثل ميكانيكا الكوانتم. لذا، هل ان الزمن وهم ام لا؟ احدى الطرق لمعرفة ذلك هي في محاولة اثبات ان الزمن غير واقعي وذلك باستعمال المنطق وحده.

في عام 1908 نشر الفيلسوف البريطاني ماك تاغارت J.M.E.McTaggart ورقة جادل فيها باننا قادرين على معرفة عدم واقعية الزمن فقط باستعمال التفكير المنطقي وحده.

 لنتصور ان شخص ما أعطاك صندوق من البطاقات، كل بطاقة تمثل حدثا. احدى البطاقات تصف سنة 2024، اخرى تصف وفاة الملكة فكتوريا، وثالثة تصف الكسوف الشمسي في عام 2026. البطاقات جرى مزجها مع بعضها. انت طُلب اليك ان تقوم بترتيب البطاقات بطريقة تمثّل الزمن. كيف ستقوم بهذا؟

أول طريقة هي استخدام ما يسميه تاغارت بـ "سلسلة B". فيها تلتقط بطاقة واحدة وتضعها على الارض. بعد ذلك تأخذ بطاقة اخرى من الصندوق وتقارنها مع تلك التي سلفا على الارض. اذا كانت أقدم، تضعها الى يسارها، واذا كانت لاحقة لها، تضعها الى اليمين.

فمثلا، موت الملكة فكتوريا يذهب الى يسار الكسوف الشمسي لعام 2026. اما سنة 2024 تذهب الى يسار الكسوف الشمسي لعام 2026، لكن الى يمين وفاة الملكة فكتوريا. انت تستمر تكرر هذا حتى تنتهي بخط من البطاقات، كل اثنين منها يُربطان باستخدام علاقة المتقدم – المتأخر.

عندما تقف وتنظر في الترتيبات المكتملة، ستدرك هناك شيء مفقود. خط البطاقات هو ثابت. حالما وُضعت البطاقات في مكان، لا تغيير يحصل في ترتيبها. لكن كما يصر تاغارت، انت لا تستطيع امتلاك زمن بدون تغيير. الزمن بالنهاية قياس للتغيير، حتى وفق الفيزياء. عادة يوصف الزمن كزيادة في اضطراب – انتروبيا نظام مغلق. لو اخذنا فنجانا من القهوة الساخنة، عندما تبرد، يظهر الاضطراب. وانت تستطيع القول تقريبا كم من الوقت بقي فنجان القهوة ثابتا من خلال حرارته. أي وسيلة لقياس الزمن، مثل الساعة، تعتمد على التغيير.

لنتذكّر، ان مهمتك الأصلية كانت ان ترتّب البطاقات بطريقة تمثّل الزمن. لكنك انتهى بك الأمر بشيء لا يتغير. سيكون من الغرابة القول ان الزمن لا يتغير. لذا فان سلسلة B لا يمكنها تفسير الزمن.

هناك خيار آخر. انت تستطيع البدء مرة اخرى وتحاول ترتيب البطاقات باستعمال ما يسميه تاغارت "سلسلة A". هنا انت تخلق ثلاث مجموعات: تلك التي على اليسار تصف أحداثا حدثت في الماضي، مثل موت الملكة فكتوريا. في الوسط تتجسد تلك التي تحدث في الحاضر، مثل سنة 2024. وفي اليمين، تلك التي سوف تحدث في المستقبل، مثل كسوف عام 2026.

خلافا لـ سلسلة B ، هذا الترتيب هو غير ثابت. مع تدفق الزمن،عليك تحريك البطاقات من مجموعة اليمين (المستقبل) الى مجموعة الوسط (الحاضر)، وتلك البطاقات من مجموعة الوسط (الحاضر) الى مجموعة اليسار (الماضي)، وحيث تبقى الى الأبد. لذا هناك تغيير واضح يحدث هنا. هل هذا يعني ان سلسلة A تصف الزمن؟

طبقا لتاغارت، سلسلة A هي دائرية. يدك تنقل البطاقات من المجموعة على الجهة اليسرى الى مجموعة الوسط ومن ثم الى المجموعة على جهة اليمين وهي العملية التي تحدث سلفا في الزمن.

انت تحتاج ان تكون في الزمن، ان تكون قادرا على عمل هذا الترتيب. لكن الزمن هو بالضبط ما تريد  فهمه. بكلمة اخرى، انت سلفا تحتاج  زمن لكي تصف زمن. وهذا دائري، والدائرية خلاف المنطق.

لكي نلخّص. ترتيب سلسلة B لا يستطيع وصف الزمن لأن لا شيء يتغير فيه. والتغيير مطلوب للزمن. لذا فان سلسلة B لا تعمل. سلسلة A تتغير فعلا لكن لسوء الحظ انها دائرية. لذا فهي لا تعمل ايضا. بما ان كلاهما لا يعملان يستنتج تاغارت ان الزمن لا يمكن ان يكون واقعيا.

بعد مائة عام

بعد مائة سنة، لازال الفلاسفة يبحثون عن حل. البعض يُطلق عليهم "منظّرو A" يحاولون تعريف سلسلة A بطريقة غير دائرية. آخرون، ويُطلق عليهم "منظّروا B"، يوافقون على ان سلسلة B تصف الواقع ويقولون بان تاغارت كان مخطئا في طلب التغيير في السلسلة. كل ما في الامر بالنسبة للزمن هو مجرد سلسلة من الأحداث

هناك ايضا "منظّرو C" الذين يذهبون أبعد ويقولون ان خط البطاقات ليس فيه أي اتجاه من الأقدم الى اللاحق. سنة 2024 تذهب بين موت الملكة فكتوريا وكسوف عام 2026. لكن الحقيقة هي اننا اعتدنا التفكير بموت الملكة فكتوريا يأتي قبل كسوف عام 2026 بدلا من العكس، هو ربما فقط مسألة عادة. انه يشبه ترقيم الألواح على سياج الحديقة: تستطيع البدء من أي نهاية تريد. السياج ذاته ليس فيه اتجاه.

ربما هناك طرق اخرى مختلفة للتفكير حول الزمن. وبصرف النظر عن منْ هو الصائب منها، المهم هو ان تاغارت كان قادرا لجعل الترتيب يسير بدون أي استخدام للعلم، وانما فقط عبر التفكير المنطقي وحده.

***

حاتم حميد محسن

..........................

* للمراجعة:

The conversation, April 15,2024

 

في المثقف اليوم