أقلام فكرية

نيتشه يضع الفكر الغربي تحت مطرقة النقد الجذري

علي رسول الربيعيفي نقد الحاجة الى النقد يعني في أحد أوجهه لثقافتنا العربية المعاصرة التأمل في نقد الآخرين من المتقدمين لثقافتهم وذاتهم والفيلسوف الالماني فردريك نيتشه من أبرز هؤلاء الآخرين الذين عبروا عن نقد الذات المنعكسة على ذاتها. ومن هنا راهنية تقليب النظر في هذا النقد الذي لايعني تتبعه النعل بالنعل حكماً ولكن درساً.

قد وجه نيتشه نقدا صارما لمشروع الحداثة الغربية مستهدفا في مطرقته النقدية أسس اليقين المعرفي وقيمه الكبري متمثلة في مفهوم العقل، وفلسفة الذاتية أو فلسفة الوعي، وايديولوجيا التقدم، وغائية التاريخ. لم يتوقف النقد النتشوي عند زعزعة القيم وخلخلة أسسها، بل تجاوزها الى كل بديهيات العقلانية الغربية. فقد رفض نيتشة القول بمنطقية الوجود أو أعتبار الحقيقة مطابقة بين الفكر والوجود استنادا الي منهجية الاستدلال المنطقي التي تعد تقليدا راسخا في الفكر الفلسفي الغربي. انه بهذا يروم الى اقتلاع الشجرة التي نما وتطور بها الفكر الغربي في كل فروعه، أي تدمير البناء الذي تأسس أصلا على مايطلق عليه القابلية للأنحلال و قيم الضعف والهشاشة.

كذلك قام نيتشه بقلب نسقية الفلسفة الافلاطونية بوصفها البنية الاساسية للفكر الميتافيزيقي والديني المسيحي القائم علي ثنائيات اخلاقية ومعرفية، وعلى اساس نظام القيم السائد. فلم يتردد من تفكيك مجمل الثنائيات الأخلاقية، وعلى رأسها قيمتي الخير والشر بوصفها من أساس الفكر الديني، بل والعمود الفقري للميتافيزيقا الغربية مقابل اعطاء الاولوية لشروط الحيوية في انتاج المعرفة متمثلة في "ارادة الحقيقة".

لقد خصص نيتشة لموضوعة "ارادة القوة" مؤلفا مستقلا بهذا الاسم مع عنوان فرعي هو " بحث في التجاوز القيمي لجميع القيم" رفض فيه كل مؤسسات القيم القائمة متمثلة في انظمة الاخلاق والفلسفة الميتافيزيقية والدين المسيحي، ودعى الى تأسيس قيم لم تؤسس بعد، قيم ارادة القوة بوصفها المبدأ الذي به يكون الكائن!

قامت مطرقة النقد النتشوي بتوجيه ضربات قوية وصارمة لدعامات الثنائيات الوجودية والفكرية التي تظهر في مقابلات مفهومية مثل: الحقيقة والخطأ، الحسي والعقلي، الجسد والروح، الظاهر والباطن، والفكر والوجود. لقد أتخذ نيتشة من الفلسفة الافلاطونية موضوعا مركزا للنقد والهدم بوصفها المرتكز والبنية الاساسية للفكر الميتافيزيقي برمته، كما عد المسيحية رمزا للعقيدة الدينية عامة، وذلك من خلال الكشف عن جذورهما الخلقية والنفسية. فــ"المنهج الجينالوجي" الذي ابتكره نيتشة تقوم مهمته الأساس في تتبع نشأة الميتافيزيقا الغربية كذلك أشكال تمثلها، والكشف عن منظومة القيم الخلقية الملازمة لها بالاحالة دائما الى الشروط الوجودية والنفعية المتأصلة في صميمها، أي الكشف عما يسكنها من رهانات ومصالح تكوًن الاسباب الفعلية المتجة لها. وأن المسيحية ليست الا افلاطونية كتبت بلغة مبسطة لاغير؛ وماهو مشترك بين الميتافيزيقا الافلاطونية واللاهوت المسيحي هو إقامة المتقابلات الثنائية الصارمة عن نظام الوجود والمعرفة، بالإضافة الى نظرة سلبية بل احتقارية لكل ماهو مادي ومتغير لصالح عالم أخروي ثابت وأزلي.

تتويجا لهذا المشروع النقدي، ينتهي نيتشة الي تأسيس نظرية جديدة في الحقيقة والمعنى استنادا الى مايسميه بـ"المنظورية المعرفية" التي يفقد معها الوجود كل مرتكزاته الماهوية والجوهرية، ويتحول الى ضرب من المجازات والأعراض، وأن فكرة التعالي لاتعد الاً هامشية وعديمة الفائدة ولابد من التخلص منها؛ فهي تشطر الوجود الي "عالم فوقي كامل وثابت" و"عالم دنيوي ناقص ومتغير"، وما يستتبع ذلك من مقابلات اخلاقية بين الخير والشر، والجميل والقبيح، والصدق والكذب.

إن هذه المقابلات الاخلاقية، من وجهة نظره، ليست تحديدات وجودية ثابتة بقدر ماهي رموز تاويلية لها مسار وتاريخ. ولذلك عمل في مؤلفه "أصل الاخلاق وفصلها" على البحث عن الاصول التكوينية لمثالي الخير والشر كاشفا عن مسار تطورهما وتحولاتهما استنادا الى معادلة العلاقة بين الضعفاء والاقوياء.

الوجود الدلالة والغاية

مع تفكيك فكرة التعالي التي قام بها نيتشه يصبح العالم فاقدا لكل اساس اخلاقي ميتافيزيقي، والي كل مستند وجودي ضامن ويحال الامر مشهدا تأويليا منظوريا لاغير. إن عمل نيتشه هذا في تغييب فكرة التعالي يفقد الوجود الدلالة والغاية كما يقذف بالانسان في دوامة الفراغ العدمي. ففي مؤلفه الشهير "إرادة القوة" يصف نيتشه هذه العدمية بانها حركة الانسان من" المركز" باتجاه "المجهول" بما يشبه حركة التيه والضياع، فبغياب المركز المجهول تتداخل الاتجاهات والمسارات الى الحد الذي لم يعد من الممكن التمييز بين اتجاه فوقي وآخر سفلي، وما اذا كان تقدما أم تراجعا؟ يشبهه نيتشة هذا الامر بالاكتشاف الكوبرنيكي الذي افقد الانسان كبرياءه النرجسي عندما زعزعة نظرية "مركزيةالارض".

يري نيتشه ان كل معرفة بالوجود والحقيقة هي تاويلية من موقع العلاقة المنظورية. وخلاصة ذلك ان فلسفة نيتشة لم تبق من الوجود الا طابعه العرضي الزائل، نافية في الوقت نفسه، المقابلة بين العرضي والجوهري، ولم تستبق من المعرفة غير طابعها التأويلي النسبي، فالذات المؤولة ليست لها من معرفة الوجودغير ذاتها وشروطها الحيوية، ذلك أن الانسان لا يجد في الاشياء، في نهاية المطاف، غير ماصنعه هو بنفسه.

بناء على ذلك لا توجد ذات قصدية واعية تكون مرتكزا لعملية التاول، ولا توجد موضوعات خارجية مستقلة عن هذه الذات، فكل ماهنالك منظورات متباينة ومتزاحمة، أي عملية من التاويلات المستمرة والمتناسلة التي لانهاية لها، فما من تاويل الا ويؤدي الي تاويل آخر، وما من قراءة الا وسبقتها قراءات أخرى وهكذا؛ ذلك لان الوجود في نهاية المطاف ليس الا أعراضا وسطوحا لاماهية لهما. تمثل دعوة الغاء كل ماهو متعال التي اطلقها نيتشه تعبير عن تصدع جميع الضمانات التي كانت تسمح بتعقل العالم، وتطويحا بكل المرتكزات وجميع الماهيات، بما في ذلك الانسان نفسه الذي أصبح مجرد كائن يمزقه التشتت والاختلافات في وجود عرضي لاماهية له اصلا. بل ان القول بالغاء فكرة الكائن المتعالي سيفسح المجال أمام القول بموت الانسان نفسه، أي نهاية النزعة الانسانية التي كانت تعد الذات القصدية والواعية مصدرا ومرتكزا لإنتاج القيم والمعاني.

لقد اصبحت الذات في فلسفة نيتشة مفعولاً للعملية التاولية، وهي بهذا ليس الاً مجرد لحظة متلاشية وسط عالم لامرتكز له. وبذلك تنتهي الفلسفة النيتشوية بنزعتها الجامحة المتمردة على مواريث الفلسفة الميتافيزيقية الغربية الى إفراغ الوجود من كل اعماقه ودواخله؛ فلا بقي منه الا حركة اعتباطية لابداية لها ولانهاية، حركة يسميها نيتشه ب"العود الأبدي"ولاتبقي من معني الحياة والعالم الاارادة القوة المحضة، وقد صرح نيتشه بذلك في قوله: " هل تريدون أسماء لهذا العالم وحلا لجميع أسراره والغازه؟ إنها إرادة القوة ولاشي غيرها". وبذلك ينتهي المشروع النقدي لنيتشه، على ضخامته، الى فسح المجال أمام أخلاق العدمية واللامعني في عالم "كله بشاعة وفوضي وعبث" على حد تعبيره.

 

الدّكتور عليّ رسول الرّبيعيّ

 

 

في المثقف اليوم