أقلام فكرية

تكريما لذكرى مطاع صفدي.. محاورة التراث في مواقعيته

علي رسول الربيعيينطلق صفدي في تصوره للحداثة من مقارباتها لكينونة التراث ومحاورة ثقافته، فيري أن الحداثة في تعاطيها مع الماضي بوصفه تراثاً تضعه داخل موضوعه وخارجه في آن واحد، ذلك عندما تتجول بداوة الحداثة بين تحف التراث تلمس بعضه وتكتشف فيه راهنية ما وتأصيلاً لمقومات العقلانية الحديثة. فيتحرك جينالوجيا، أي من الحداثة إلي التراث، أبتدأٌ من مواجهة السؤال العربي للفلسفة بوصفه سؤال الكينونة والوجود وهو يدخل المجتمعات العربية من خلال هذه الكينونة (صفدي: من تأويل القراءة إلي تمعين التأويل، الفكر العربي المعاصر، العدد 54) أو من خلال العلاقة بين فكر الاختلاف والحداثة التي ترتبط في لفظتها العربية بما يحدث ويثبت بمواقعيته. تقام علاقة السؤال بالتراث من توجهه إلى استنطاق خطاب الماضي بوصفه لا يزال قادراً علي الكلام، فهو تراث وليس ميراثا، أنه ليس العودة للأصول ولكنه استنهاض لكل تلك القوة الخالقة للأصول؛ وهنا يحضر التأويل كمثاقفة حيث يتوجه السؤال إلى الأصل ليكتشف عن الفعل والقوة الخارقة التي عملت على خلق ذلك الشيء الذي صار اسمه الأصل؛ فالمثاقفة هي مساءلة التراث عن فعل الكينونة التي صيرته تراثاً من خلال استحضار القوة الخالفة له (صفدي : استراتيجية التسمية في نظام الأنظمة المعرفية، مركز الإنماء القومي، بيروت 1986)، والتساؤل، أيضاً،ً عن معنى هذا الاستحضار لحدث انقضى وينتمي إلي الماضي والتاريخ، وعن مكانته على خارطة المعرفة، و ماذا يعني القول بأنه كان بالنسبة لحدث لا تزال نستمر في الحديث عنه؛ أن موضوع الرهان هنا هو المكانة الانطولوجية للماضي بصفته ماضياً علي حد تعبير ريكور.

جاهزية الفكر

أن أهم ما في التاريخ هي مواقعيًته وليس مجرد ماضية، "علم المواقعيًة " هذا يقدم للتاريخ أرضا لم تكن لها من قبل؛ وجاهزية للفكر هي ذلك الجسر الذي انشغلت فيه الفكرة وتم أشتغالها فيه؛ وقراءة التراث من هذه المواقعًية تعني إعادة تاريخيتة وجعله يأتي للحاضر ويلج العصر، فيجد التراث نفسه حيث انت، فالتراث لا يستطيع أن يعيد نفسه إلا مختلفاً ( صفدي: مدخل إلي علم مواقعية التراث، الفكر العربي المعاصر، العددان 68 ـ 69 ) والعودة إلي الأصول لا تعني الا تأتي بها إلى مكانك فهي تعود ولا تتكرر، وبهذا يكون للتراث جوهره الخاص ويشغل موقعاً خاصا به، وبالتالي فالسؤال عنه يتطلب الكشف عن تاريخ إقامة التراث في موقعه ذاك، واشتغاله كهاجزية في ذلك الموقع بالذات .

مواقعية التراث

يتطلب " علم مواقعًية التراث " التعامل مع الشيء حضوريا حتى يكتشف عن موقعه. أيً يتوجه السؤال العملياتي لعلم مواقعية التراث إلى حضور الشيء بالذات وكيفية تمثيل هذا الحضور الذي بدونه يسقط كل القول عن الموضوع في الأيديولوجيا ؛ فدور السؤال العملياتي الجاهز للتراث يأتي في إثبات أن موضوعه يظل عصيا علي كل تأويل مهما حول هذا التأويل أن يكون تراثاً أو يكتشف الأسئلة التراثية المناسبة لأجوبتها الكامنة في الجسد التراثي ذاته لأن التعامل مع التراث سواء كان تأويلاً أو قراءة ظاهرية فإنه تعامل يقع على روايات (صفدي : م .ن).

إذن ما معني هذا التراث ؟ هل هو الماضي كله أو بعضه ؟ أو أنه ذلك التاريخ الذي تحدده الوقائع أو تلفظه الثقافة، طبعا لا هذا ولا ذاك ليس لأن التراث نبع من المعاني لا ينضب، أو أنه قابل لتعدد الرؤي فيه، أولا يزال ما لم نفكر فيه بعد، فقد يكون كل ذلك من ممكنات معني التراث لكن يظل سؤاله يناظر أو يأتي ظلالأ لعودة ذات النفس (صفدي : م . ن). إن دور التأويل أن يعيد مساءلة التراث عما يمكن أن يعنيه من داخل الزمان الكينوني للمشروع الثقافي للأمة، فبدون هذه العلاقة لا يمكن استحضار التراث، وحتى يصير الماضي تراثا والحاضر وطنا للتراث لابد أن يأتي الماضي في الحاضر ويكون قادراً على النطق بما يعده الحاضر قابلا لسؤال الفهم ( صفدي: استراتيجية التسمية)

وهنا نصل إلى علاقة السؤال بالتأويل، فالسؤال هو المنهج والتأويل هو الرؤية التي تستخدم السؤال لاستعادة موضوعها، وباختلاف السؤال يتعدد الجواب وتقام التأويلات ويستعان بالمقاربات لتتجدد القراءة، بل تتناقض وتتصارع لتأسيس خطابها، وعلى هذا يكون موقف صفدي، هو أن سؤال المؤول عن تراثه موضوعا كينونيا لا يقتصر على جانب معرفي أو إجرائي؛ فالمؤول لا يرث ميراثاً ولكنه يستحضر تراثاً والاستحضار لا يأتي إلا نتيجة كون السؤال هو التفكير، أي تجاوز حدود الميراث وأطره نحو آفاق التراث الذي صنعه وجعل الطريق مفتوحا في الوقت ذاته نحو تجاوزه، أن الميراث يطلب الاقتداء به والانتماء إلى الاستراتيجية التي صنعته وسمًت عناوينه، فالميراث يأمرك أن تكون متقبلا له كما هو، وكمثال على الاستلهام التراثي لا الميراث هو موقف عمر بن الخطاب عندما أوقف فعالية بعض التعاليم القرآنية في قانون العقوبات الإسلامية خلال عام المجاعة، عندما منع قطع يد السارق، كان يستعد مشروعيته من التراث ولا يطبق ميراثا، كان يقيم حكومة المجتمع وشئونه، لم يكن يفرض سلطاناً للأسماء خارج استراتيجية التراث.

وعلى صعيد آخر من توظيف المفاهيم يطرح صفدي مفهوم "جدلية الانبناء" في أحد جوانب نظرته للتراث، فهناك " الانبناء للمغيوب" و" الانبناء للمجهول" كانت العلاقة مع الأول، في الفكر الإسلامي، عائقاً أمام نمو العلاقة مع الثاني، باعتبار أن الانبناء للمجهول يستفز العقل ليتحول إلي معلوم، وهذه العلاقة هي أسس البحث عن المعرفة الإيجابية في حين أن الانبناء للمغيوب يضعك خارج المعرفي، فهناك اختلاف أساسي في استراتيجية التسمية حيث صار الغيب في الفكر الإسلامي هو الذي يسمي الأشياء، ويقيم العلاقات ( م . ن)

مشروع ثقافي

ومن هنا لم تكن العلاقتان متتابعين فيما بينهما، فالانبناء للمجهول ليست مرحلة تؤدي إلي مرحلة الانبناء للمغيوب إذ هناك فارقا في الطبيعة وليس في الدرجة بين العلاقتين، فلا تندرج أحداها في الأخرى، كما أن المغيوب لا يستوعب المجهول لذلك تقف الأولي حائلة دون بلوغ الأخرى، وحين يوضع المشروع الثقافي لأمة على طريق هذا النوع المعرفة فإنها تقصي من زمن التاريخ كما حكمت علي وعيًها بالخروج من زمن المعرفة، فليس عجبا أذن انتصار التصوف في المشروع التفافي العربي الذي كان يعني إيذانا باستقالة الوعي من دوره في تكوين الثقافة ( م . ن).

وإذا كان لنا أن نضع أيدينا حقاً على مدخل أبستيمولوجي، وفقا لصفدي، لفهم الأسس العقلية للمشروع الثقافي العربي فلابد من البحث عما يكوًن علاقة الصراع بين المجهول والمغيوب؛ تبدو هذه العلاقة واضحة في محاولة الإسلام الأولى لإعادة أنسنة المغيوب عن طريق تشريع استراتيجية متكاملة في تسمية ظواهره وأفعاله؛ فالقرآن بهذا المعني إلغاء للمغيوب وتشخيص حيً أخلاقي للمجهول، أنه طريق لإعادة الحوار مع الأسم المجهول القادر على مكالمة الوعيً عبر رموزه الإنسانية، فإن شخصية الإله المطلق،عن طريق تسمية ميزاته وأفعاله تجعل له حضوراً حيا فاعلاً بين الناس، أنه حضور لكل لحظة ودورها المرسوم من المشروع الثقافي، لكن مشكلة المغيوب يبقي لها حضورها داخل استراتيجية التسمية في القرآن واتجاهها إلى قلب المجهول إلى معلوم، ومنع المغيوب في الوقت ذاته، يبقي من خلال التحول الخطير في المشروع الثقافي العربي من الانبناء في صيغة المجهولـ المعلوم إلي صيغة الحاضر الغائب مع الصوفية.

لقد أنشدًت أواصر المشًروع الثقافي العربي في لحظة وعي لإنتاج التجربة الإسلامية على مدي خمسة قرون بين قطبين، بين منطق الكليات والاتجاه العلمي الذي ساقها فيه ابن رشد بعد أرسطو أو بين قانون العصبية على صعيد نظرية تكًون المجتمعات وانحلالها، كما وعاها ابن خلدون، وفسر بها التاريخ الذاتي للمجتمع العربي.

المشرًع والتشريع

لم يعد من الممكن، وفقاً لصفدي، فهم التاريخ العربي ومشكلة السلطة في سياقه إلا عبر جدلية (العصبية) (الأيدلوجية) كقطب، والرسالة (المشروع الثقافي) كقطب مقابل، وهي الجدلية التي راح بجسدها الصراع الداخلي في شخصية التجربة العربية الإسلامية، بين ما يصطلح عليه الصراع بين سلطة المشرًع والتشريع، بين التاريخ كتحقيق للمشروع الثقافي العربي، وبين "علم العمرن" الخلدوني بوصفه العلم الذي يعترف بقوانين العصبية كحاكمة لهذا العمران البشري وأحواله مع إمكانية قيادة هذه القوانين بما يجعلها تدنو أو تبعد عن هيمنة الرسالة وِمشروعها الثقافي للعرب والعالم في آن معاً.

تكشف هذه القراءة الجذور النسبية التكوينية بين السلف والخلف حيث يلعب فيها حد الماضي دور المنتج والمرجع والمكون( صفدي : السلف / الخلف . الفكر العربي المعاصر . العدد 47، 1987) مما ندفع بالتراث إلى تجاوز تطابقه مع نفسه، أو تقوقع فكره على ذاته، أو تماثل مقولات وعيًه مع بعضها؛ أنه السؤال الذي يفجر الاختلاف في التراث (بن عرفه، عبد العزيز : التفكك والاختلاف المرجاء، الفكر العربي المعاصر العدد 48 ـ 49 )، الذي يمكن اعتباره أحد مصادر التاريخية التي تستخلص العناصر المتكررة في شروط تحقق التاريخ وإمكاناته الحقيقية حتى تصلح مادة لصياغة قوانين مشروعنا الثقافي (صفدي: استراتيجية التسمية).

تبقي منهجية مطاع صفدي مختلطة في رؤيته وموقفه من التراث من جهة، ومن جهة أخري ظل اشتغال المفاهيم التي يوظفها ضعيفا. وعندما يتناول مسألة قراءة التراث وتاويله يشير اليه بشكل شذرات بدون القيام بجهد منهجي لتحليل النص التراثي؛ يتحدث عن مواقعيته ولكن بدون الكشف عن سياقات ومجريات هذه المواقعية ؛ ولانجد جهدا لتمييز هذه " المواقعية" عن التاريخية أو التاريخانية، ولا كيف تنظر في التراث. كلامه عن العلاقة بين التراث والمنهج من جهة تاويله تبقي عمومية وفضفاضة لانه لايطبق المفهوم علي نصوص تراثية مشخصة. يريد ان يقرأ التراث بطريقة تستفيد من الانجاز المنهجي المعاصر ومختلفة عن القراءات السالفة ولكنه لاينتج هذه القراءة حيث يظل في حدود رسم المفهوم وشكلانيته ولا يختبره في مدي قدرته الاجرائية وفاعليته المنهجية .

 

الدّكتور عليّ رسول الرّبيعيّ

................

المصادر

بن عرفه، عبد العزيز : التفكك والاختلاف المرجاء، الفكر العربي المعاصر،1989. العدد 48 ـ 49

صفدي، مطاع: الفكر العربي ومعركة المنهج، العدد 8-980-1981.

المشروع الثقافي العربي بين المشاكلة والمثاقفة، مجلة الفكر العربي المعاصرة، العدد 8-9-80-1981.

كلام الكتابة بين الميراث والتراث، مجلة الفكر العربي المعاصر، العددن 3-1984، هامش، (19).

استراتيجية التسمية في نظام الأنظمة المعرفية، مركز الإنماء االقومي، ط1 بيروت1986،.

الذاتي، التاريخي، مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 39-1986.

النمذجة بين التأويل والتغيير، مجلة الفكرة العربي المعاصر العدد، 40-1986          

السلف، الخلف، مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 47-1987.

القوة القوية، التاريخ المختلف، مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 3، 1987.

مدخل على علم واقعية التراث ن مجلة لافكر العربي المعاصر العدد 68-69-1989.

خطاب التناهي، مجلة الفكر العربي المعاصر العدد 60-61-1989.

 

 

في المثقف اليوم