أقلام فكرية

محمد يونس محمد: العقل في السيرورة

يشكل النشاط العقلي الرديف الموضوعي للنشاط الحي، ومن الطبيعي الفرد البشري هو يمتلك قاعدة تفكير تناسب حيثياته، والعقل في الجانب الأساس هو عقل الإدراك المباشر الفطري، وإذا فشل الأمر هنا يتحول العقل إلى مرحلة أخرى من مراحله، والعقل هو وحده من يمتلك أقصى حرية، حيث أحيانا يسقط العقل حتى القانون الأخلاقي، وذلك لوجود ضرورات، ولكن القانون الأخلاقي ليس سلطة على العقل إلا إذا احتكم العقل لذلك، وحرية العقل ليست فقط ضامنة للخلق كما يرى برديائف، بل مهام الحرية من الممكن أن تكون في إعادة الإنتاج، وليس كل خلق يتوافق مع حرية العقل، وهناك ربوة الشر في العقل كما هناك وجود لربوة الخير، ونحن لا نتفق كليا مع الفكرة التي ترى بأن البشر شرير بطبيعته، على اعتبار بأن البشرية الأولى بدأت بحادث شرير، وقتل ابن آدم لأخيه ليس معيارا، وكما إخراج آدم من الفردوس ليس بحادث شرير، حتى في المعنى الذي تحول فيه آدم من صيغة عليا إلى صيغة أدنى، فحرية العقل هي الفيصل، والتميز والمفاضلة دفعت أبن ادم الى رفض الامر، واما القتل المزعوم فكان امر يرتبط بالغضب، والذي يأتي نفسيا بعد رفض حرية التمييز، وصراحة الكليات لا تفسر الا نفسها، وما بعدها هو ما يحتاج منا التفسير والتأويل، وهذا ما يزيد الامر تعقيدا، ووفق شوبنهور لا نبلغ الا التصورات المقبولة.

لقد طرح جيل دولوز أحد الأسئلة المعرفية الهامة، إزاء تعريف الفلسفة، ونكرر السؤال بسؤال آخر، فهل تحتاج الفلسفة إلى تعريف؟، نجد من الأفضل الإجابة بالنفي، فالفلسفة ذلك العالم الواسع المتجدد أوسع بكثير وأعمق من أي إجابة، والفلسفة ليست حقل مفاهيم فقط، بل هي تمتلك طاقة معرفية خلاقة، وليست أفقا أو فضاء تعليم بالصياغة التقليدية للفكرة، وإنما هي حطاب عميق بسيرورة تمتد في عمق التاريخ، وأيضا نعتقد بوجود فلاسفة قد سبقوا فلاسفة أفق التاريخ والحضارة، وحضارة ما بين النهرين والرقم الطينية تخفي الكثير من الأفكار الخلاقة، ونحن نرى الفلسفة تنمو في وجود مجتمع لغوي متكامل، ومن جهة أخرى علينا التفهم بأن هناك مفاهيم مبذولة وأخرى تحتاج اكتشافا، ولسنا هنا إزاء أعراف فلسفية في الفصل بين المبذول والذي يحتاج إلى اكتشاف، لكن ذلك ما شعر به العقل من ارسطو الى هيدغر، والفلسفة ذلك الفضاء الواسع، وقد ربطه العقل الاخلاقي بالحكمة من جهته، فيما فضاء الفلسفة واسع جدا، وفي كل مرحلة من مراحل الحداثة امتازت بتوصيف، وتخلت عنه في مرحلة لاحقة تغير فيها المجال الزمني، والتفسيرات للفلسفة تتبع المواقف العقلية، ولا ترتبط بالفلسفة ذاتها، وكذلك الحس والمشاعر تشترك بنسب معينة في خلق تفسير لصالحها، وهناك سياقات عامة للتفسير واخرى هي مستحدثة تفصل ما بين السالف والاني واللاحق، وذلك الفصل سيزيح نسبا من الافكار ويعيد تنظيم ما تبقى منها.

لكل عصر صورة، وتلك الصورة مرتبطة بوحدة زمن، تمثل السيرورة الزمنية، وهذا يعني هناك تبدلا عاما يصيب الحياة، فالوحدات البشرية ستكون بشعور مختلف عما كان سابقا، فرجل تحول من زمن العربة والخيول إلى زمن السيارة، من الطبيعي انفصلت وحدة الزمن الجديد عن الماضي، وصارت تدور في أفق الحاضر المدهش، والعقل الفلسفي من الطبيعي سيتأثر إذا مر بتلك الظروف، ففيلسوف القرن الثامن عشر لو قدر له الاستمرار حتى القرن العشرين، ربما يصاب بمس، أو تأخذه الدهشة إلى أقصى حدودها، حتى تصبح الدهشة عالم خاص، لكن هذا المثال إذا كان في افتراض عالي الموقع، ولا يمكن تناوله بصيغ واقعية بين عقل وآخر، لكن أيضا لسنا إزاء التبرير بل إزاء المقارنة الموضوعية، والتي تفضي إلى نتائج تفيد في مواقف أخرى يستقبلها العقل، والعقل في الفلسفة صراحة في دائرة زمنية، متعددة النشاط والحركة والوقوف عن الحركة، لذلك تبقى الفلسفة بفائض كبير للتفسير المباشر، وبما أن العقل الفلسفي غير مستقر تماما بين جانب أفقي وجانب عامودي، فها هو هيدغر مرة يكون أمام الوجود، وأخرى يكون أمام الميتافيزيقا، وتلك الحالة من الحالة العامة للعقل الجديد، أما العقل الحديث فنموذج نتشه متعدد الأقنعة الفلسفية، إلى حد وصل به لا يرج له قناع، حيث تحول من مخلوق الى خالق، وفي احساسه من بشر الى رب متجسد بشريا.

يشكل حقل المفهوم الفلسفي العام في تفسيرنا الموضوعي دائرة متعدد الوجوه دون لوحات إشارة، وهنا ينعدم التحديد، لكن هو كما طرح جيل دولوز، بأن ذلك المفهوم هو يتجه لمفهوم آخر، وعندما يتبلور المفهوم الآخر، سيكون هناك إزاحة لمفهوم الفلسفة العام، وهذا من جهة صيغة التداول، وأما من صيغة ركن الأخلاق الفلسفية، سيكون هناك نقطة تاريخية كبرى يتكئ عليها المفهوم، ومفردة الحكمة تعود إلى تاريخها القديم، أيام كان البشر المتميز يبحث عن البلاغة والحكم، وإلا ليس هناك روابط عقلية تامة لتلك الفكرة، وعلى الخصوص بعد ما أصبح الخطاب الفلسفي لا تقف أمامهم مواقف الكنيسة التي كانت تحرق البشر أحياء، وتمكن هوبز من النجاة من تلك العقوبة لبث خطاب التجديد الحر الذي عارض فكر الكنيسة، وصراحة الدور الأكبر قدما الفلاسفة بمعارضة من خلال العقل لسلطة الكنيسة الاستبدادي، والخطاب وليس الفكر الاجتماعي من جعل العقل يبرهن السلطة الدينية ليست بشرية، بل هي فوق هذا المستوى، والرب دعا إلى تحرير البشر من البشر، والعقل الفلسفي في سيرورته ما تجاهل عنف الكنيسة، لكن يسعى أن يرجح الخطاب المناسب لردعها، وفي شدة الأزمات كانت الصفة العامة للخطاب المجابهة من خلال المستوى المعرفي لتفسير المعايير بالطريقة التي تتمكن من الهبوط بخطاب الكنيسة إلى أسفل، لكي يدخل في خانة الإدانة، وتلك الصيغة لم تكن مناورة عقلية، بل حتى الإدانة تدخل في المنطق العقلي.

تشكل التحولات التي مر بها العقل الفلسفي التغير أولا في ملامح الخطاب، وثانيا ترجيح مرحلة عقلية بديلة لمرحلة أخرى، وثالثا وضع الاعتبار الفلسفي بالدرجة الأولى، وذلك المثلث يتدرج في المفهوم الفلسفي من أولى العتبات إلى آخر ما يتشكل في المفهوم من خطاب، و (هذا أمر لا محيد عنه لأن كل مفهوم بتقطيع جديد، ورسم محيطات جديدة، مما يتطلب إعادة تفعيله وتفصيله ثانية)1، وفي تفسير أدق نرى بأن الكينونة تستبدل بماهية، وهذا ليس إحلال محل بدلا من محل آخر، بل يمكن توصيف الأمر على وجود تطور حسي في الخطاب، والعقل يختلف في تفسيره بالتاريخ وبين العقل بذاته، والعقل في الجانب الشخصي حي ولكن لا يتجاوز الموت عضويا، وإذا قنا العقل يموت ولا يموت، فالمسألة هي في وجوه، فالعقل يموت في موت الشخص، لكن العقل كخطاب لا يموت حتى لو تجاوز ذلك العمر المعين، فنتشه المتوفي على عتبة بداية القرن العشرين لا يزال حيا، وهذا مقصد فكرتنا العقل يموت ولا يموت، والعقل في الجانب الشخصي له صيرورة ومن ثم هناك سيرورة تقف عند حد الموت، وهذا في الجانب العضوي للعقل، أو ما نسميه الجانب العملي للعقل، حيث هو عدة أحداث وتفاصيل وسرد واقعي، والانفصال التام عن لحظة الحياة المستمرة، يبقى الخطاب يمثل استمرارية العقل، والعقل بأي صورة لا يقف عن النشأة أو الصيرورة، واختيار سقراط الموت بالسم بدأ من الحياة، يحتاج تفسيرا مقلوبا، فهو رفض العبودية واحتارت حريته.

لا يمكن الوقوف التام على سيرورة العقل، فوحدة الزمن ليست بركن ثبات الاتصال، بل ينقطع الزمن ويتواصل، الموت الذي يحل في نهاية عقل بشري، ويمتلك خطابا فلسفيا، في تفسير الأمر من جهة الوضع البشري تقف وحدة الزمن، فيما تتعدى ذلك في الخطاب، والزمن الفلسفي لا يقاس على حياة الشخوص الفلاسفة، بل يكون في سيرورة الخطابات، وهنا نقف على فكرة حساسة ترى بأن افلاطون وارسطو على وجه التخصيص لا زالوا احياء، وتلك الفكرة لازالت واقعية الى حدما، ومن هنا تنتفي فكرة عن الخطاب، واذا كنا نحاور افلاطون وارسطو وتفصلنا عنهما الفين سنة، فذلك امر في غاية الدهشة، وتلك ميزة من ميزات الفلسفة، والتي تعتبر هي الصيرورة الاساس للوعي والعقل والخطاب، واذا امتلك الشعر ذات النفس التاريخي، فإن جل اهتمامه ينصب على اللحظة الانية للشعر، والتي محط اهتمام التلقي المعاصر لتلك اللحظة الشعرية، والتي يتوقف التقابل ما بين الخطاب والقراءة، واذا كانت هناك اخوة ما بين الشعر والفلسفة، فقد تدنى مستواها، ومن ثم عاد بصيغة مختلفة تماما، اذا تغير موقع الأنسان وتلك الهرمية المهمة، وفعلا الفلسفة اتجهت الى موازاة ذلك الشعور في الشعر، فتوجه الان دونو لدراسة نظام التفاهة المزمع، لكن الشعر بالقدر الذي يشعر به بضياع الإنسان، لكن الشعر بدعم جوهر الشاعر وليس واقعه، لكن الفلسفة ليست خطاب دونو او بوردو، بل الفلسفة تلك السيرورة طويلة الامد .

***

محمد يونس محمد

..................

1- ما هي الفلسفة، جيل دولوز، فيلكس غتاري، ترجمة مطاع صفدي، المركز الثقافي العربي، ص 41

في المثقف اليوم