أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: الشعور بالضآلة امام كون مترامي الأطراف؟

ما الذي يتبادر الى الذهن عندما ننظر الى السماء في ليلة صافية؟ هل النجوم المتلألئة على بعد عدة ترليونات من الأميال، والتي يسافر ضوئها بسرعة 186 ألف ميل بالثانية ويأخذ عدة سنوات ليصلنا، يجعلنا نشعر بالرهبة؟ ام بالفضول ام بالإلهام ؟ ام ان هذا الحجم الهائل والغامض للكون يجعلنا نشعر بالضآلة وعدم القيمة وان حياتنا بلا معنى؟

الفيلسوف الامريكي روبرت نوزك Robert Nozick (1938-2002) يرى ان عظمة الطبيعة الهائلة هي التي تجعلنا نشعر بالارتباط الهادف. في عمله لعام 1989 (الحياة المختبرة) يذكر: " من المريح للروح ان نرى أنفسنا جزءاً من عمليات الطبيعة الواسعة والمستمرة. (لنتذكر، على سبيل المثال، ان الوقوف بجانب المحيط، ونحن نشاهد ونستمع لهدير الأمواج الواحدة بعد الاخرى واللامتناهية، يجعلنا ندرك ضخامة المحيط). حين نرى أنفسنا جزءا صغيرا من عملية واسعة، ذلك يجعل موتنا ليس مهما جدا، بل وغير باعث للقلق. عندما تندمج هويتنا ضمن شمولية العمليات الهائلة واللامتناهية للوجود الممتدة عبر الزمن، سنجد ان أهميتنا هي في كوننا جزءاً من تلك الشمولية الكبيرة، وان موتنا ليس الاّ شيئا عابراً ليست له أهمية كبيرة".

عندما نوسّع رؤيتنا ونفكر بحياتنا من منظور الأبدية، فان قلقنا اليومي وهمومنا الكثيرة تفقد الكثير من زخمها، وستتعمق أهمية الوجود. ان التقلبات اليومية في المزاج هي مجرد قطرة، وان موجات محيطات الوجود كانت ولاتزال تتدافع منذ بلايين السنين. نحن جزء من شيء ما أكبر – شيء سيستمر طويلا بعد موتنا.

لكن هل الدور الذي نلعبه مهم؟

ان اضافة هذا النوع من المنظور الى حياتنا، مع انه يزيل القلق من حياتنا اليومية لكنه ايضا يجعلنا نشعر بالضآلة. لكن في النهاية، سواء معنا او بدوننا، سوف تستمر المحيطات بأمواجها، والكواكب ستستمر في دورانها، والنجوم ستتشكل وتشع بضوئها. السؤال هو كيف نشعر بالإرتياح من العمليات المحيرة والهائلة التي تحكم وجودنا، اذا كانت الأدوار التي نلعبها في ذلك الوجود باهتة ولا لزوم لها؟ لكن الفيلسوف نوزك يريد الدفاع في هذا الموقف. "لو انت سلبت من ضخامة الوجود كل شيء غير ضروري وقابل للاستبدال، فان الوجود الناقص المتبقي لن يكون باعثا للدهشة". ويستمر بالقول "كلية الوجود وعملياته المستمرة هي مدهشة جزئيا بسبب ضخامتها وفائضها الكبير، وكذلك بالنسبة لوجودنا، حيث ان وجود اشياء مثل نوعنا، هو جزء مميّز وثمين للوجود. وجودنا هذا يخضع لنفس القوانين العلمية والمادة الفيزيائية النهائية التي تشكل كل بقية الطبيعة، وبذلك نحن جزء ممثل للطبيعة".

يقول نوزك، من خلال رؤية أنفسنا جزءا من الطبيعة، عبر توصيف أنفسنا ككون، وعدم رؤيتنا للكون كوجود منفصل، باعتبار نحن صُنعنا بالضبط من نفس اللبنات الاساسية التي صُنعت منها النجوم، نحن في نفس الوقت نخفف من القلق المؤقت للإيغو (الأنا) ونعمّق أهمية وجودنا. نحن لسنا منفصلين عن الطبيعة وانما تعبير عنها، نحن الكلية.

الكون ليس منفصلا عنا، الكون هو نحن

موقف نوزك يذكّر بالفيلسوف الكبير باروخ سبينوزا . في عمله (الأخلاق)، 1677، يجادل سبينوزا ليس دفاعا عن إله مجسّم وانما هو يقترح ان الطبيعة ذاتها هي الله. وكتعبير عن الطبيعة، نحن نشترك بهذه الإلوهية. هذا المنظور له مضامين عميقة كما تشير الفيلسوفة البلجيكية المعاصرة هيلين كروز Helen De Cruz في مقال أخير لها عن فلسفة سبينوزا: "حالما تدرك انك تعبير عن كل الطبيعة، سوف تدرك رغم انك تموت، فانت ايضا أبدي بالمعنى الهادف".

يستمر نوزك بالقول، ان الإستيعاب الحقيقي لحقيقة اننا جزء من العملية، يجب ان يجعلنا نشعر بالقرابة من كل ما موجود:

"انا أرى الناس ينحدرون من سلسلة طويلة من أسلاف الانسان والحيوان بقطار لا نهائي من الأحداث العشوائية واللقاءات العرضية وعمليات الإستيلاء الوحشية والهروب الناجح والجهود المتواصلة والهجرة والنجاة من الحروب والأوبئة. سلسلة معقدة وغير محتملة من الأحداث كانت مطلوبة لخلق كل واحد منا، تاريخ هائل يعطي كل شخص قدسية الخشب الأحمر(المقدس لدى سكان امريكا الاصليين) ، يعطي لكل طفل عفوية السر. انه امتياز لنا لنكون جزءا من العالم المستمر للعمليات و الاشياء.

عندما نرى ونتصور أنفسنا جزءا من تلك العمليات المستمرة، نحن نتماهى مع الكلية، وفي الهدوء الذي يجلبه هذا الموقف، نشعر بالتضامن مع كل رفاقنا في الوجود. وجودنا القصير قد يبدو عشوائيا او معزولا او غير هام، لكن فرادته تساهم نحو الكلية العظيمة للطبيعة. عبر عيشنا بأحسن ما نستطيع، طبقا لنوزك "نضيف سمتنا الخاصة للعمليات الأبدية للواقع".

عندما ننظر لاحقا في سماء ليلة صافية نتأمل بمكاننا في الكلية من خلال إدراكنا الحقيقي باننا نستمر ونرتبط بكل ما موجود – فان أي مشاعر سابقة لعدم الارتباط او اللامعنى ستزول وتتبدد في المحيط الهائل للهواء الذي فوقنا.

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم