أقلام فكرية

على حرب.. العودة التأويلية للأصول

علي رسول الربيعييناقش علي حرب قضية التراث العربى الإسلامى من منظور للأصول بداية من السؤال: كيف ننظر إلى التراث، ونقرأ النصوص ونتعاطى مع الأصول؟ فيقدم قراءة تأويلية للأصول بوصفها إمكاناً للفهم وحقلاً للدرس ومجالا للكشف فيما يتجاوز تماسكها الشكلي ومنطقها الصارم وبنيانها المحكم؛ أًيً فيما يتعدى القضايا التى تبرهن عليها والأنساق التى تنظمها والمذاهب التى تحيل اليها بصرف النظر عن العوامل التى تسهم فى تكوينها أو العناصر التى تتشكل منها والمصادر التى تنهل من معانيها؛ وتعد هذه الأصول بمثابة التأسيس الفكرى الذي يفلت من الحصر والتقييد ويحض الفكر على التنقيب والكشف، بحيث تبدو مجالاً لما لم يقال أو يُعقل بعد (حرب: التأويل والحقيقة،دار التنوير، بيروت،1985).

وتتم العودة للتراث عن طريق القراءة التى هى فى حقيقتها نشاط فكرى / لغوى مولد للتباين منتج للاختلاف سواء أكان تفسيرا أم تأويلاً، حيث يجرى القارئ فيها على النص لغته ويشغل مخياله، أنه يعيد إنتاج المقروء بمعنى ما من المعانى، والقراءة تتباين بطبيعتها عما تريد بيانه، وتختلف بذاتها عما تريد قراءته، ومن شروطها، بل وعلًة وجودها أن تكون كذلك، ولا تطابق فى الأصل بين القارئ والمقروء، إذ يحتمل النص أكثر من قراءة، وكل قراءة هى حرف لألفاظه وإزاحة لمعانيه؛ أنه يشكل كونا من العلامات والإشارات ويقبل دائماً صراع التفسيرات وأختلاف التأويلات، ويستدعى أبداً قراءة ما لم يقرأ فيه من قبل، ومن هنا تختلف قراءة النص الواحد باختلاف العصور والعوالم الثقافية، بل تتعارض بتعارض الأيديولوجيات والاستراتيجيات. تهتم هذه القراءة فى محاورة واستنطاق النصوص التى تشكل دوما عند قراءتها مجالا لانتظام التناص وتأويل المعنى وفى استثمار الأفكار وتطبيقها (كذلك) .

ومن هذا المنظور يستهدف التفسير شرح المعطى بإيضاح بنيته دون اللجوء إلى مبدأ خارج عنه، فتكون وظيفة التفسير هى الكشف عما يحتجب بذاته ويراهن عليه بتبيان أشكال ظهور وإيضاح معناه، فمثل هذه القراءة لا توصف إلا باختلافها عن النص لاهتمامها بما تظهره قراءة النص من التعدد والتنوع، والاختلاف والتعارض؛ فالنص حيز مقالي تتعدد معانيه وتتفاضل دلالاته، فيبقى مجالاً مفتوحاً لما فيه من اشتراك فى اللفظ وفائض فى المعنى (كذلك). إننا، مثلاُ، إذا نقرأ فلسفة المعلم الثانى، الفارابي ليس للكشف عن أوجه التشابه والتباين بينه وبين المعلم الأول لأن فى ذلك تجريد لهذا الفيلسوف الإسلامى من أصالته الفكرية، فما يهمنا من تلك القراءة الوقوف على نظرته إلى (الوحى) وكيفية فهمه له وعما إذا كان هذا الفهم يتيح لنا إعادة فهم الصلة بين العقل والوحى، بل إعادة فهم العقل نفسه، وما يثير الأهتمام في نصوص الفارابى هو ما يحث الذهن على البحث والتنقيب لإعادة تأمل الثقافة الإسلامية برمتها؛ وكذلك لو قرأنا للفقيه الماوردى فما يجذبنا ليس آراءه السياسية إنما الأقوال التى يسوقها فى تضاعيف نصائحه للملوك حول التأويل وحقيقته وصلته بالاختلاف، وهو كلام يفتح الباب لإعادة عقل مسألة الاختلاف فى الإسلام؛ وعندما ننظر فى أعمال ابن رشد الفلسفية لا يهمنا أن نعرف أين مواطن الصواب والخطأ فى جدالاته ومعرض توفيقه بين الحكمة والشريعة، وإنما نهتم بكيفية تأويله للمسألة التى تظهر فيها، وبالكشف عن القواعد التى يستخدمها فى تأويلاته (كذلك) .

لا ينظر المنهج التأويلى إلى تاريخ الفكر الفلسفى والديني خاصة من منظار الخطأ والصواب، فليس الفكر الفلسفى تصحيحا ًمتواصلاً للأخطاء وإنما هو منظومات تأويليًة متصلة ومتلاحقة خلالفا للمنهج التاريخانى الذى يقرأ تاريخ الفلسفة كأنه تدرج نحو الحقيقة من الأدنى إلى الأعلى ومن الأبسط إلى الأعقد .

تكشف القراءة وفق المنظور التأويلى عن شروط إنتاج الحقيقة والمعنى؛ والقواعد التى بموجبها يتشكًل الخطاب؛ فلا تبحث عن معنى أصلى أو أجلاء لمعنى خفى لأن المعنى هو تأول ينصب الإنسان بواسطة ذاته مصدراً للمعرفة ومولداً للدلالة، فيتسلل إلى فجوات الخطاب ويقرأ فى لا معناه وفراغاته. إنه يؤوله ليكتشف دلالات ما اكتشفت من قبل، ويقرأ فى الأصل ما لم يقرأ سلفه، فيعقل ما لم يعقل ويولد المعنى من حيث يظن اللامعنى ويستنبط المجهول من المعلوم، أنه أنبجاس فى صميم الأصل الذى يعد إمكاناً عقليا مفتوحا؛ وعلى هذا النحو ينبغى قراءة الأصول ومساءلتها فهى لا تستنفذ وتحتاج دوما إلى أن تٌكشف من جديد، وإعادة تأويل التراث لا تكرر التأسيس ولا تشكل ملحقاً على النص يكشف عن أشكال التماثل معه، بل هى عودة لا تتوقف عن اكتشاف النص للعثور على إمكانات بكر للمعرفة وتكوين ميادين علمية جديدة (كذلك). فالأصل كالمعنى، هو محصلة ونتاج، أى أنه يتحدد بتاريخه وصيرورته، وبنسبه وصلاته، فلا وجود لأصل نقى، والأصل من دون تاريخ ولذا فانه لا يتكرر بل يضاعف ويستعاد، أنه أساس يقاس عليه، وقد يستعاد لكى يحتج به وينصر الرأى بواسطته لأنه مرجع وكل مرجع سلطة (حرب: الفارابى بين الانحياز للفلسفة والانحياز للحقيقة، الفكر العربى المعاصر، العدد 68 ـ 69، 1989م).

ينحو التأويل إلى تحرير التصورات بالكشف عن أسسها اللغوية كما ينحو إلى تجاوز مقولات المنطق الشكلية بالنظر إلى المنطق نفسه كلغة لها نحوها ووظيفتها ، لذلك اعتبر هايدجر المعرفة الحقة هى معرفة تأويلية، ومن هذا المنظور فإن تأمل ثنائية العقل والنقل فى الفكر العربى الإسلامى يقود إلى استكشاف معقولية النقل ولا معقولية العقل، إذ لا وجود لعقل خالص كما لا وجود لنقل خالص، بل ثمة انماط المعقولية، وإذا كان الفكر الإسلامى قد انطلق من أصل نبوى فإن لهذا الأصل معقوليًته الخاصة وهو ما ينبغى البحث عنها واستكشافها، كما أن الأصل العقلى يبطن بالمقابل لا معقولية ما، حيث إن الصراع والتوتر بين النزعة الأسطورية والمعرفة العقلانية البرهانية اخترق تاريخ الفكر الفلسفى والفكر الدينى كله وهو لايقف عند الانقسام الظاهرى للمعارف إلى عقلية / ونقلية فقط بل يموضع بشكل أعمق على مستوى العلاقات بين والفكر والتاريخ.

إن النظر عمل العقل والتأويل نهجه واستطلاعه، ولا يحصر التأويل كى لا تنعدم الدلالة، فالنظر يحتاج دائما إلى معاودة ما يعقله وكان الأشياء تفلت من المعقولية باستمرار والتباين لا حدود له لأن كل تأويل مظهر من مظاهر الحقيقة ووجهه من أوجه الحق .

إن التأويل يعنى أن الحقيقة لم تقل مرة واحدة، وأن الأصول لا يستنفدها تفسير واحد شامل ولا يمكن حصر معرفتها عن طريق واحد بعينه أو يتوقف النظر إليها على مذهب مخصوص، وإذا كانت النصوص تشكل قيوداً على العقل وحدوداً له فلكل عقل قيوده ولكل فكر مسلًماته ومصادراته، وما عمل العقل فى النهاية سوى التحرر من قيوده، وإذا كان العقل العربى تقيًد بالنص فإنه كان يرتد عليه وينظر فيه، ويتدبر أقاويله ويتأمل معانيه ويقلب دلالاته فيتأول ما شاء له أن يتأول (حرب: الحقيقة والمجاز، نظرية عربية فى العقل والدولة، دراسات عربية، 1983م، ص 53).

لقد مثل التأويل نافذة العقل العربى إلى الحقيقة وهو يعنى أولاً: أن الدلالة أغنى وأوسع من أن تحصر وتضبط، وثانياً: النفاذ إلى الباطن والعمق من خلال الظاهر والسطحى، وثالثا: استكشف الأصل من جديد على نحو جذرى، إن النص أو (المنقول) الذى شكل منطق العقل العربى تجسد أصلاً من خلال دور التأويل فى سرورة هذا العقل الذى كان يستبعد النقد والنقض؛ ولذلك يتبين لمن يستقرئ تاريخ العقل العربى أنه بدأ كضرب من التأويل وإعادة التأويل، فإذا كان الوحى مصب المعقولية العربية فالمجال المتاح أمام العقل هو التفسير والتأويل.

أن نقدنا لعلي حرب يأتي من الصعوبات التي تثيرها الفقرة أعلاه، فهناك الكثير من النقد والجدل بين مختلف المدارس والمذاهب فى الفكر العربى الإسلامى؛ فنساءله ألم تختلف المذاهب الفقهية وينقد بعضها البعض، ألم يحصل نقد بل ونقض بين الأشاعرة وأهل الاعتزال، ثم ألم يحصل صراع تفسيرات بين أهل الظاهر وأهل الباطن فى التفسير والتأويل؟ إن حرب إذ يستبعد النقد والنقض من ساحة الثقافة العربية الإسلامية، فإنه يبدو منزلقاً إلى تكريس الرؤية الاستشراقية منذ رينان وكذلك تاثره اللاحق بطروحات غارودي حيث مثلت له هو ذات جاذبية في في تصنيفها، التصنيف الذي طرحه غارودي في كتابه " وعود الإسلام" من   أن العقل الغربى هو عقل نقدي بينما العربى الإسلامى هو عقل نبوى.

يعتبر حرب مصطلح التأويل ليس بجديد على الفكر العربى الإسلامى، بل من المصطلحات الرئيسة فى الفهم والتفسير، فقد قام علم الكلام على التأويل ونهجت الفلسفة خاصة مع ابن رشد منهجا تأويلياً فى تفسير النص وإعادة قراءتها لذا كان نشاط العقل الإسلامى عبارة عن رحلة تأويلية فى مجازات اللغة ودلالاتها.

ونقول هنا مع حرب ابتداءً نعم إن الحالة التأويلية ظاهرة موجودة فى الفكر العربى الإسلامى لكن ليس من أمثلتها البارزة مناظرة ابن رشد و الغزالى، فقد كانت هذه المناظرة ذات منحى تحليلي تفسيري أكثر مماهو تأويلي حيث قام الأول بتفنيد طروحات الغزالى بخصوص موضوع قيمة المعرفة المكتسبة عن طريق العقل الفلسفى، وأن القول يكشف تفحص الحجج التى أثارها الطرفان (حجج الفلاسفة العقلانيين وحجج الفقهاء والثيولوجين) يبقى مقبولا من ناحية أنه يمكننا من القبض على رهانات آفاق وأسس تشكل المعنى داخل الوعى الإسلامى، وهذا هو الموضوع الضخم المتعلق بمسألة التفسير والتأويل.

ما من فكر إلا وينطلق من الأسس ويعود إلى البدايات، أن العقل لا يغفل عن ماضيه والتأويل رجوع إلى الأول، لكنه رجوع يقصد من وراءه اجتراح المعنى وإعادة التعرف بالأشياء وبالعقل ذاته لكن هذا الرجوع لا يعنى اصطناع تاريخ لتراثنا بما يتلائم ومقتضيات الحاضر (أيديولوجى) ولا هو محاولة للكشف عن أفكارنا فى مقالات الأسلاف، لأننا بهذا لا نقوم إلا بأدلجة التراث بدلاً من تعقله (علي حرب: الماركسية ودراسة التراث العربى الإسلامى، في: ياسين، أبو على (وآخرون): الماركسية والتراث)

إن الأهمية التى ترتديها مسألة التجديد والتأويل فى الثقافة العربية الإسلامية تنبع من نوع العلاقة التى تقيمها المجتمعات العربية الإسلامية مع ماضيها الذى شكل شرع ومثل رؤية، فهو المكون لجذور الوعى العربى لأن الماضى جزء من صيرورتها وبالتالى لا سبيل إلى تحديث العقل دون استيعاب تاريخه وتمثله، وإذا كان الفكر أى فكر ينزع دوما إلى التجديد، فإن التجديد يقتضى إعادة النظر بالأسس التى يقوم عليها القديم والموروث، وعلى هذا فإن علاقة الفكر العربى بماضيه تحتل أهمية استثنائية، حيث كان هذا الفكر يبحث على الدوام فى ماضيه عما يبرز تطلعه إلى الإصلاح والتحديث أو نزوعه إلى التجديد والتغيير فما من معيار تستلهمه المجتمعات العربية فى تنظيم شؤونها إلا ويثير مسألة الموقف من التراث .

ومن هذا المنظور لا ينبغى أن نفهم الدعوة إلى التجًديد بوصفها عودة إلى صفاء أصلي أو محاكاة للغرب، بل ضرورة يفرضها التطور الداخلى للمجتمع العربى، ومحاولة تصقل تجربتة، وهى لن تتم دون استلهام قيم جديدة (جمعيط، هشام: أوربا الإسلام)، تمكننا من إعادة القول فى الأشياء التى قيلت من قبل بكل ما تنطوى عليه الإعادة من إعادة اكتشاف وبناء وتجديد للتأويل .

 

د. علي رسول الربيعي

 

في المثقف اليوم