أقلام فكرية
جدلية المكان بين نفي زينون الايلي واثبات أرسطو
يرتبط مفهوم المكان بالحركة ذات المفاهيم المتعددة، من قبيل: الكثرة، الواحد، الثابت، الفراغ، التغير، اللامتناهي، الصيرورة. وقد توضَّحَت هذه المفاهيم وانتظمَت مع أرسطو؛ إذ لم تكن كذلك في العصر الإغريقي ما قبل سقراط؛ فنجد زينون الايلي- بحسب ما يذكره أفلاطون في محاورة بارمنيدس- يستخدم الجدل في إثبات أو نفي هذه المفاهيم من خلال برهان الخُلْف؛ فبَعْدَ أنْ استخرَجَ بارمنيدس خصائص الوجود من ماهية الوجود نفسه، حاول زينون أنْ يثبت تناقض المذاهب المضادّة لدعوى بارمنيدس بوجود الواحد الثابت: "إذا كان من المستحيل أنْ تكون غير المتشابهات متشابهات، والمتشابهات غير متشابهات؛ فلابد أنْ يكون وجود الكثرة مستحيلة؛ لأنَّ الكثرة لا يمكنها تجنُّب هذه المستحيلات". وعليه يبرهن زينون: إذا كان مبدأ الواحد باطلاً فلابد أنْ يكون مبدأ الكثرة صحيحاً، وما دام مبدأ الكثرة يؤدّي إلى متناقضات فهو باطل، وبالتالي فإنَّ مبدأ الواحد الثابت صحيحاً.
والحقيقة أننا وبحسب هيجل في مؤلفه المنهج الجدلي، لا يمكن أنْ نجزم بأنَّ زينون استخدَمَ لفظة الجدل، وإنْ كان قد مارَسَ الطريقة الجدلية، لكنَّ أفلاطون أول من ذكَرَ هذه الكلمة في محاوراته.
ويبدو أنَّ زينون يقصد بهذا البرهان أنَّ مبدأ الفيثاغوريين الذي يؤلِّف العالَم من أعداد منفصلة غير متصلة، يناقض اتّصالية كرة بارمنيدس الواحدة. ويقدِّم زينون حجّتان يبطل بهما الكثرة: الأُولى، إذا كانت الكثرة مقادير ممتدَّة، فالمقدار يكون قابل للقسمة أبداً، وهكذا دون أنْ تنتهي القسمة إلى آحاد غير متجزِّئة، وحينها يكون المقدار المحدود المتناهي حاوياً أجزاء حقيقية غير متناهية العدد، وهذا خُلْف، والثانية، إذا كانت الكثرة آحاد غير متجزّئة، فهي متناهية العدد؛ لانَّ الكثرة الحقيقية معيَّنة، وهذه الآحاد منفصلة حتّى لا تختلط ببعض، لكنّها مفصولة حتماً بأوساط، وهذه الأوساط بأوساط، وهكذا إلى ما لا نهاية، وهذا خُلْف.
إنَّ إبطال الكثرة عند زينون يدفع به إلى إثبات استحالة تَصوُّر أي حد للمكان: "إذا كان كل شيء يُوجَد في مكان، فهذا المكان يجب أنْ يكون نفسه يُوجَد في مكان أيضاً، وهكذا إلى ما لا نهاية"، فيكون الكل جزءً واحداً متّصلاً يستغرق جميع الكون، بحيث يصبح فيه الجزء الصغير بقدر الكون كلّه، وهذا باطل عقلاً، وعليه فالكثرة حسب دليل الخُلْف باطلة، إذن تكون الموجودات شيء واحد متّصل.
هذه الاتصالية تستتبع عند زينون نفي الحركة، ويقدَّمَ على ذلك حججاً أربعة: الأُولى حجّة القسمة: لكي نقطع مسافة محدَّدة يجب أنْ نقطع نصفها، وحتّى نقطع نصفها يجب أنْ نقطع نصف هذا النصف، وهكذا إلى ما لا نهاية، ولَمّا كانت القسمة لا متناهية فحينها تستحيل الحركة في زمن متناه. الثانية حجّة أخيل والسلحفاة: إذا فرضنا أنَّ السلحفاة تسابقَت بوقت واحد من الحركة مع أخيل، فتقدَّمَت عليه مسافة قصيرة، فإنَّ أخيل لنْ يدرك السلحفاة إلاّ إذا تجاوز المسافة الأُولى الفاصلة بينهما، وحينها ستكون السلحفاة قد تقدَّمَتْهُ إلى مسافة أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية. الثالثة حجّة السهم: إذا قَطَع السهم مسافة ما في وقت محدَّد، فإنّه سيقف في كل جزء من أجزائها بمقدار معيّن، وهو حاصل قسمة المُدّة على المسافة، فالحركة إذن هي مجموعة وقفات وسكون، وهذا غير ممكن عقلاً؛ لأنّه جَمع للنقائض، فالحركة إذن باطلة. الرابعة حجّة الملعب: لنفرض أنَّ أ ساكن، وانَّ ب و ج يتحرَّكان بحركة واحدة باتجاهَين متضادَين، ومع الوقت سيكون أ، و ب، و ج، متوازنة كُلّها في مكان واحد، وأنَّ ب سيكون قد اجتاز أ و ج، فحينها يحتاج أ لكي يقطع ج ضعف الزمن الذي يقطع فيه أ، ولكنَّ الزمن الذي يستغرقه ب و ج ليصِلا ويوازيا موضع أ هو نصف الوقت السابق وليس ضعفه، فيكون نصف الوقت مساوٍ لضعفه، وهذا خُلْف، فتمتنع الحركة.
وبالنتيجة نرى أنَّ اتصالية الكرة الايلية الواحدة تنفي وجود الفراغ (الخلاء)، فلا يوجد شيء آخر خارج هذه الكرة، وعلى ما يبدو أنّ زينون لم يكن يفرِّق بين المكان والخلاء، فراح يرفض وجود المكان تبعا لعدم وجود الخلاء.
إذا كان زينون يبحث هذه المفاهيم جدلياً من خلال مفهوم الوجود الواحد الثابت، فإنَّ أرسطو ينطلق في بحثه لهذه المفاهيم منطقياً من خلال الحركة التي تُعد موضوعاً أساسياً في فلسفته الطبيعية؛ لأنَّ الحركة تعني التغيّر في الوضع، فتكون شرطاً لازماً في تضمّنها لكل عمليات الطبيعة، فهي تشمل جميع أشكال الصيرورة، وتُعبِّر عن معانٍ واسعة تَضُم كل العمليات التي تصبح بها الأشياء على ما هي عليه، فيميِّز أرسطو في كتاب الطبيعة بين أربعة أنواع من الحركة تتَّفق مع مقولات أربعة: الكون والفساد، أي ظهور شيء جزئي إلى الوجود ونهاية وجوده، فما هو إنسان بالقوة يصير إنساناً بالفعل، والاستحالة، أي حدوث تَحوّل في كيفية الشيء، فما هو عالماً بالقوة يصير عالماً بالفعل، والنمو والنقصان، أي حدوث تَغيّر في كم الشيء، فما هو طوله عشرة أقدام بالقوة يصير عشرة أقدام بالفعل، والنقلة في المكان- وتُعَد أهم أنواع الحركة لأنّها تتكرَّر في الأنواع الأخرى- أي الانتقال على خط مستقيم أو الدوران في محيط دائري، فما هو بالقوة في مكان فهو نقلة في ذلك المكان.
إذن يرتبط الجسم الطبيعي بمقولَتَي الفعل والانفعال بوقت واحد، فهو يُسمّى فعلاً لأنّه صادر عن المحرِّك، ويُسمّى انفعالاً لأنّه حاصل في المتحرّك، وقد يُسمّى الانفعال فعلاً والفعل انفعالاً حسب الموضوع؛ فالإنسان الذي ينجب إنساناً، كان قَبْلَ إنجابه أباً بالقوة، وبَعْدَ إنجابه صار أباً بالفعل، كذلك قبل أنْ تتغير النطفة إلى طفل، كانت طفلاً بالقوة وصارت طفلاً بالفعل في الوقت الذي صار فيه الرجل أباً بالفعل. وعليه يكون المحرِّك والمتحرِّك سبب كمال أحدها الآخر.
تَشترك أنواع الحركة في خاصية واحدة هي الصيرورة من حال إلى حال، بينما موضوع الحركة يبقى على حاله؛ فالموضوع أو الحامل لا يتحرَّك وإنّما تتغيَّر محمولاته، ومن طبيعة الحركة أنها تفترض علّة للحركة تَستمد حركتها من مُحرِّك آخر، وهكذا تنتهي سلسلة المحرِّكات إلى مُحرِّك أوَّل لا يتحرَّك يكون عِلَّة الحركة الأصلية في الكون ومبدؤها الأول. ويميِّز أرسطو بين التغيُّر الذي ينطوي على تحوُّل في الجوهر، وبين التغيُّر الذي لا ينطوي على تَحوُّل في الجوهر؛ الأول يتمثّل في الكون والفساد الزوجان غير المنفصلان، فإذا تَحقَّق شيء ما في الوجود فهو نتاج مادة شيء آخر تلاشى، فقوام الطبيعة وجوهرها يبقى ثابتاً، أمّا الثاني فهو التغيُّر في الكمية والكيفية والوضع: الكمية هي تَغيُّر مُتَعلِّق بالحركة في المكان من حيث الامتداد، والوضع هو حركة موضعية متغيِّرة تُحقِّق إمكانية الوجود في مكان آخر، لذلك يتطلَّب تَحقُّقها سبباً موجوداً أصلاً بالعقل؛ لأنَّ الشيء لا يمكنه تحريك نفسه، ولا يفترض حركة ذاتية ليس لها سبباً، أمّا الكيفية فلم يكتفِ أرسطو مثل أفلاطون بمعرفة كيفية وقوع الشيء، بل معرفة عِلِّة وقوعه.
فالصيرورة عند أرسطو ليس لها بداية ولا نهاية، فهي تمضي دوماً من الوجود إلى اللاوجود وبالعكس، وتجد في ذاتها منابع تَجدّدها الدائم، لذلك كان تمييز أرسطو بين القوة والفعل وسيلة لحل مشكلة التغيُّر التي أنكَرَها الايليون على أساس إنكار الكثرة، في حين أنَّ التغيُّر هو انتقال من تَحقُّق بالقوة إلى تَحقُّق بالفعل، كما أخَذَ أرسطو على الطبيعيين في أنهم لَم يدركوا سوى العلة المادية دون العلل الثلاثة الأُخرى الصورية والغائية والمحرِّكة؛إذ إنَّ الحركة تقتضي الصورة بعللها المختلفة، والمادة المتغيِّرة، ولَمّا كانت الصورة والمادة أزليتان وأبديتان، فلا بد أنْ تكون الحركة الناتجة عن اجتماعهما أزلية أبدية هي الأُخرى؛ فلا وجود للأشياء إلاّ بافتراض الحركة: "إن كمال ما يستحيل هو الاستحالة، وكمال النامي وعكسه هو الزيادة والنقصان، وكمال المتكوِّن والفاسد هو الكون والفساد، وكمال المنتقل هو النقلة".
من ناحية الأزلية، فكل حركة تقتضي وجود محرِّك ومتحرِّك حادثَين أو قديمَين، فإنْ كانا حادثين فهذا يعني وجود حركة حدوث قَبْلَ أوَّل حركة، وهذا تناقض،، وإنْ كانا قديمَين فمعنى ذلك قد سبَقَت الحركة أوَّل حركة بسكون، والسكون هو عدم الحركة، وإنَّ إحداثه يقتضي ثَمّة حركة تكون قَبْل أوَّل حركة، وهذا تناقض؛ فإذا كان المُحرِّك والمُتحرِّك أزليَّين، فكيف يتسنّى وجود الاثنين معاً ولا تَحدث الحركة منذ وجودهما في الأزل ما دام في طبيعة الواحد أنْ يُحرِّك والآخر يتحرَّك؟ وإذا قُلْنا ليس في طبيعتهما ذلك فهذا يعني لا بد من وجود شيء يَحدث فيهما الحركة قبل أول حركة، وهذا تناقض. وإذا نَظرْنا من ناحية أخرى إلى الحركة من جانب المحرِّك، وجدنا أنَّ المحرِّك لكي ينتج الحركة فلابد أنْ يكون موجوداً في حالة تماس مع المتحرِّك، أمّا إذا كانا بعيدان عن بعضهما، فلا بد من تقريبهما لكي تَحدث أول حركة، وستكون هذه الحركة سابقة على أول حركة، وهذا تناقض، فمهما نَظَرْنا إلى الحركة من جانب المحرِّك والمتحرِّك معاً فلا بد من القول بأزلية الحركة. ومن الناحية الأبدية، فيمكن البرهنة عليها بالطريقة ذاتها: إنَّ انتهاء الحركة يعني ابتعاد المحرِّك عن المتحرِّك، ولا يتم ذلك إلاّ بحركة تأتي فتحدّه، وهذه تحتاج لإحداثها إلى حركة، وهكذا إلى ما لا نهاية، لذلك فالحركة لابد أنْ تكون أبدية.
يبحث أرسطو حجج زينون ضد الحركة من خلال مفهوم اللامتناهي؛ إذ يرى أنَّ اللامتناهي لا وجود له بالفعل: "لا يمكن أنْ يكون اللامتناهي شيئاً قائماً بنفسه بلا نهاية، ومفارقاً للمحسوسات، بل هو نفسه جوهراً لا عرض"، وإنما اللامتناهي موجود بالقوة، لكنّه لا يخرج إلى الفعل من حيث أنّه كل؛ وإنّما يخرج إلى الوجود جزءاً بعد آخر: "يجب أنْ يكون اللامتناهي غير منقسم؛ لأنَّ المنقسم مقدار أو عدد لا يمكن أنْ يكون بلا نهاية إلاّ على الوجه الذي يقال أنَّ الصوت غير مرئي". ويرى بدوي أنَّ القوة التي يوجَد فيها اللامتناهي ليس من الضروري أنْ تصبح بالفعل، فهو كانتفاء الحركة التي هي بالقوة حين تتحقَّق الصورة، لذلك فاللامتناهي أقل درجة في الوجود من المتناهي الذي وَجَدَ فيه أرسطو الكمال التام.
اللامتناهي إذن ليس هو ما يشار إليه بـ"هذا" مثل الإنسان والحصان، بل أنَّ وجوده يقوم في عملية كون وفساد مستمر، فهو يختلف عن وجود الجوهر في الكون الذي يحتاج دائماً إلى شيء لا نهاية له، فحركة اللامتناهي دائرية، فيها تفسد الأشياء وتكون، وهكذا باستمرار، وعليه فلا حاجة إلى تَصوُّر شيء لا متناهِ يَستمد منه الكون اللامتناهي للجواهر. هكذا يُحرِّر أرسطو الفلسفة من التصور الذي يَعُد اللامتناهي مصدر متجدِّد للأكوان والعوالِم، إلى تَصَوُّر يَعُد اللامتناهي حد مضاف إلى المتناهي والمكتمل، ويجد مادَّته فيهما؛ لأنَّ من المستحيل أنْ يكون ما لا يُعرَف وما لا حدود له هو الذي يحوي ويُعرَف.
إذا كان اللامتناهي موجود بالقوة، فتكون حجج زينون ضد الحركة باطلة؛ لأنّها قائمة على أنَّ المكان شيء لا متناهي يمكن تقسيمه إلى وحدات منفصلة بالفعل، والحال أنَّه متَّصل ومتناهي لكنّه قابل للقسمة إلى أجزاء لا متناهية بالقوة، كما أنَّ الايليين صَوَّروا الكون على أنّه كرة، وهو تَصوُّر مكاني للوجود يجعل المكان قابل للانقسام: "لا يمتنع أنْ يُوجَد المكان في شيء غيره، وإنّما كما تكون الصحة شرطاً في الأشياء الحارة؛ لأنَّ الحرارة في الجسم تكون على أثر انفعال أو عَرض، فلا يلزم حينها الاستمرار إلى ما لا نهاية".
وبالتالي يرى أرسطو إنَّ وجود المكان أمراً بديهياً تدل عليه ظواهر الحركة، ويبرهن على وجوده كالآتي:
أولاً- ظاهرة حلول أجسام وتعاقبها على محل واحد؛ إذ إنَّ المكان شيئاً قائماً بذاته تُوجَد فيه الأشياء المختلفة، وإلاّ لَما استطعنا أنْ نتصوَّر حلول أشياء مختلفة في مكان واحد.
ثانياً- ظاهرة الحركة في المكان؛ إذ لا يمكن للنقلة أنْ تتم إلاّ إذا تَصوَّرنا هناك مكاناً ينتقل فيه المتحرِّك من جهة إلى أخرى باتّجاه معلوم.
ثالثاً- المكان تقتضيه حركة الاستحالة؛ إذ تَرجع هذه الحركة بالنهاية إلى حركة التخلخل والتكاثف، وهما بدورهما حركتان في المكان، وهذا يدل على أنَّ المكان شيئاً موجوداً.
رابعاً- وجود الجهة؛ إذ إنَّ لكل عنصر مكانه الخاص: مكان النار والهواء فوق، ومكان التراب والماء تحت، فإنَّ الفوق والتحت هما المكان الذي تطلبه الأجسام الثقيلة والخفيفة، وهذا يجعلنا قطعاً أنْ نقول بالمكان وصفاته الخاصة، وأنْ نضعه كائناً إلى جانب بقيّة الكائنات، بل وحتّى جوهراً ما دمنا نجعل النقلة أُولى الحركات؛ فإذا كان المكان شرطاً لهذه الحركة، وإنَّ ما يتوقَّف على شرط يتوقَّف على الشيء نفسه، إذن يمكن القول أنَّ المكان هو الموجود الأصلي.
المكان متميِّز عن الجسم الذي يحل فيه أو العناصر التي تدخل في تركيبه؛ فهو ليس عين الجسم، لكنّه كالجسم يمتلك طولاً وعرضاً وعمقاً، وهو ليس عنصراً، لكنَّ له حجماً؛ فلو كان المكان جسماً لتوجَّب أنْ يكون له مكان يقوم فيه، ولهذا المكان مكاناً آخر، فيتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية، ولو لَم يكن المكان غير الجسم لتوجَّب أنْ ينقص مكان الجسم أو يزيد تبعاً للجسم الذي يحتويه، وهذا تناقض؛ لأنَّ لكل جسم مكاناً خاصاً به، وفي كل مكان جسماً ما.
لا يمكن أنْ نُطبِّق مفهوم الصورة والمادة على مفهوم المكان؛ لأنّه لَم يتّخذ صفة أو حالة من قِبَل شيء ما، لكنّنا حين نتحدَّث عن المكان نقول باستمرار إنَّ شيئاً في شيء، فكأنَّ طبيعة المكان تتلخَّص في أنَّ "الوجود في": يُوجَد المحمول في الموضوع لأنّه داخل فيه، فكما نقول عن الموضوع إنّه داخل في ما صدق المحمول، كذلك نقول عن الشيء إنّه يوجَد في الوعاء. وكلمة "في" تَرجَع إلى معنيين: الأول عام ننظر فيه إلى الشيء ككل دون أجزاء، والثاني خاص ننظر فيه إلى الشيء ككل وفيه أجزاء، والخاص هو المعنى الأدق للمكان؛ فإذا نظرنا إلى وعاء كبير من الماء، فيمكننا القول أنَّ الماء في هذا الوعاء، أو أنَّ الشيء في نفسه مجزّئ إلى جزأين أحدهما في الآخر، ولكنْ إذا نَظرْنا إليه ككل فلا يمكننا القول عن الشيء أنّه في نفسه، بل نقول أنّه موجود في شيء آخر، أي هناك شيئاً حاوياً للشيء، وأنَّ الآخر وعاءً له: "المكان هو الحد اللامتحرك المماس للحاوي، أو هو حدود جسم الشيء أو السطح الداخلي له".
ومن هنا يرى أرسطو أنَّ الفراغ ليس مكاناً لا متمكّن فيه، فهو قول يثبت أنَّ الأشياء تتحرَّك بسرعة واحدة على نظام واحد، في حين أنَّ الأشياء تتحرَّك حركة طبيعية إلى مَحلّها الطبيعي. وأمّا المكان المُطْلَق فهو السطح القائم بالفعل خارج السماوات التي تحوي بداخلها كل شيء ولا يحويها جسم أبعد منها؛ وعليه فالأشياء جميعاً تقع في هذه السماء، بينما هي ذاتها لا تقع في شيء غيرها، فنجد أرسطو يماشي اتجاه اليونانيين نحو التوحيد بين الخاصية المميّزة للمكان المُطْلق وبين الحد؛ فيرى أنَّ السماء القصوى تقع على مسافة محدودة منّا لا نهائية؛ وعليه فالمكان الفعلي محدود مكانياً؛ فمهما تعدَّدت قِسْمتك، فإنّك لن تستطع الوصول إلى نقاط أو مواضع من دون كتلة قابلة للانقسام، أمّا الكون فليس له مكان؛ لأنَّ كل حيِّز حقيقي إنّما هو من الكون، وهذا يلزم أنَّ الكون متناه؛ لأنَّ غير المتناهي مجال بالفعل ولا يحيطه خلاء أو ملاء.
يستتبع تعريف المكان عند أرسطو عدم وجود الخلاء؛ إذ لا يمكن أنْ يكون هناك مكان ليس فيه شيء أصلاً، ولَمّا كانت الحركة ليست مكانية لأنَّ الأجسام تتحرَّك باحتلال بعضها مكان بعض، فليس ثَمّة حاجة لافتراض وجود الخلاء، كما أنَّ لكل عنصر نقلة طبيعية خاصّة، فلا يمكن أنْ يكون الخلاء المتشابه والمتجانس شرطاً للنقلة، ولَمّا كانت الحركة الطبيعية مختلفة، فالأشياء الموجودة بالطبيعة تكون مختلفة، لذلك: "إمّا أنْ تنعدم الحركة الطبيعية، وإمّا ينعدم الخلاء، وبما أنَّ النقلة موجودة، إذن فالخلاء معدوم".
ولذلك ينقد أرسطو القول بضرورة وجود الخلاء؛ إذ إنَّ البناء المادي للأشياء يتنافى مع وجوده، فنحن لا نعرف سوى حركات الأجسام الطبيعية نحو محلّها الخاص، والحال أنَّ لا شيء من ذلك في الخلاء، فالمتحرِّك لا يتوقَّف عن الحركة في الخلاء عند أي نقطة كانت، ولا يواصل الحركة إلى ما لا نهاية؛ لأنَّ الإقرار بصحّة ذلك يلزم عنه أنَّ الجسم المتحرِّك ليس له خواص مادية، في حين أنَّ الحركة نتيجة لهذه الخواص، كما أنَّ جوهر القوة هو الظهور على مقاومة، فإنَّ قوة القطار الذي يسحب مَرْكباً، لا تتناسب سرعته مع القوة؛ لأنَّ المَرْكب الثابت لا يبدأ بالتحرُّك إلاّ مقابل مقدار معيَّن من الجهد، وحينما يتوقَّف الجهد يتوقَّف المَرْكب، والسرعة منوطة بالمقاومة؛ فإنْ قَلَّت المقاومة، زادت السرعة، وإنْ انعدَمَت، صارت السرعة لا متناهية، وما يقال عن السحب يقال على الدفع، وهذا هو حال الخلاء تماماً.
وبالنتيجة ذهب أرسطو إلى اعتقاد آخر عن المكان يختلف عن زينون؛ إذ يبدو أنَّ ما دفع أرسطو إلى نفي الفراغ أو الخلاء هو حتّى يثبت وجود المكان أو الملاء ، وبالتالي تفنيد مزاعم زينون وحججه الجدلية.
د. صباح الحاج مفتن