قضايا

غالب المسعودي: السرديات التاريخية اعادة انتاج للفيودالية

تميزت الفيودالية بوجود هرم اجتماعي حيث كان الملك أو الأمير في القمة، يليه النبلاء، ثم الفلاحون. وقد لعبت الكنيسة دورًا مهمًا في نظام الفيودالية، حيث كان للكهنة نفوذ كبير في المجتمع. وكانت هناك روابط شخصية قوية بين السيد والتابع، تحكمها الالتزامات والواجبات المتبادلة، قد ساد هذا النظام حتى القرن الثامن عشر، بعدها بدأت الفيودالية في الانحسار مع ظهور الرأسمالية والتجارة الحرة وظهور مجتمعات الحضرية.

حراس الطقوس

هم الأفراد أو الجماعات المسؤولة عن الحفاظ على الطقوس والتقاليد المرتبطة بالنظام الإقطاعي. يشمل ذلك القادة المحليين، النبلاء، ورجال الدين الذين كانوا يشرفون على تنظيم الاحتفالات، الطقوس الدينية، وتوزيع الموارد، كما كانوا يلعبون دورًا في تعزيز السلطة والنظام الاجتماعي، ساهمت هذه الطقوس في تعزيز الولاء بين الأفراد والنبلاء، مما ساعد على استقرار النظام الإقطاعي، في فترات معينة كان حراس الطقوس يتحكمون في السرديات التاريخية من خلال تحديد ما يُروى وما يُخفى، مما أثر على كيفية إدراك المجتمعات لتاريخها، وعززت السرديات التي تُروى من مكانة الحراس واضفت الشرعية على سلطاتهم.

الأدوات والوسائل

لترسيخ فعالية السرديات التاريخية استخدمت مجموعة متنوعة من الأدوات والوسائل للتحكم، حيث استخدم الشعر لنقل الأحداث التاريخية وتعزيز القيم الثقافية، كذلك الخطابات التي تُستخدم في المناسبات العامة لنشر الأفكار وتعزيز الولاء، التاريخ المنقول شفاهيا وتشكيل الأحداث التاريخية بطريقة تعزز السلطة وتبرر الأفعال، والطقوس الدينية، كما كانت الكتب المقدسة والنصوص الدينية تتمجد وتؤكد قوة الحراس في المناسبات العامة نقل السرديات عبر الأجيال في شكل حكايات الشفوية وسن قوانين تعكس القيم الثقافية تعززها السرديات المعتمدة، كما ان بناء تحالفات مع قوى دينية أو سياسية مناظرة لتعزيز السيطرة على الجماهير باستخدام الرسائل الرسمية ونشر المعلومات حول السرديات، كما استخدمت الية نشر الإشاعات لتعزيز أو تقويض شخصيات معينة أو أحداث من خلال تغيير في الروايات او تعديل الروايات التاريخية حسب الحاجة لتناسب الأغراض السياسية أو الاجتماعية، كما ان إعادة تفسير الأحداث وتقديم تفسيرات جديدة للأحداث لتعزيز السلطة قد استخدمت كآلية فعالة، كل هذه الأدوات عملت بشكل متكامل لتمكين حراس الطقوس من تشكيل الوعي الجماعي والتحكم في السرديات التاريخية بشكل فعال.

السرديات التاريخية الشرق اوسطية

التغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي شهدها العالم، بما في ذلك الشرق الاوسط، كان لها تأثير كبير على السرديات التاريخية. مع تشكل الدول القومية في القرن العشرين، بدأت السرديات التاريخية تركز على الهوية الوطنية، مما أدى إلى إعادة تفسير الأحداث التاريخية لتتوافق مع الهوية القومية، أدت فترة الاستعمار إلى تغييرات جذرية في سرديات التاريخ الشرق اوسطي، حيث تم تصوير الاستعمار كفترة من النضال والمقاومة الدينية، وقد أثر ذلك على كيفية فهم تشكيل المجتمعات الشرق أوسطية لهويتها، وأدى إلى إهمال تقييم دور الفئات الاجتماعية التقليدية (العمال والفلاحين). عند مراجعة نظام الفيودالية وما تلاه من نظام رأسمالي نرى ان هناك نوعًا من البيروقراطية التي تميزت بالفساد والاستغلال والنفوذ قد ورثتها سرديات الشرق اوسطية، حيث كانت هناك طبقة من الإقطاعيين والنبلاء المتنفذين الذين استأثروا بالسلطة والامتيازات على حساب الفئات الأخرى في المجتمع، وكان لهؤلاء النبلاء نفوذ كبير على مؤسسات الدولة والحكم. لكن نمو المدن الكبرى ساهم في تطوير سرديات جديدة حول الحياة الحضرية والتغيرات الاجتماعية، وبالتالي شهدت المجتمعات الشرق أوسطية نهضة ثقافية أدت إلى إعادة تقييم التراث، مما ساهم في تشكيل سرديات جديدة تركز على الفخر بالتراث والهوية، كما ان المثقفين تفاعلوا مع الأفكار الغربية التي أدت إلى تطوير سرديات حول الحداثة والتقدم، مما أثر على كيفية فهمهم لتاريخ حركات التحرر، الثورات مثل ثورة 1919 في مصر وثورة الجزائر أثرت على السرديات التاريخية من خلال إبراز أهمية المقاومة والنضال ضد الاستعمار، حركات حقوق الإنسان، أدت هذه إلى تطوير سرديات حول حقوق الأفراد والمساواة، مع ظهور وسائل الإعلام الحديثة، أصبحت السرديات التاريخية تُنشر بشكل أسرع وأوسع، مما ساهم في تشكيل الوعي الجماعي، ساعد الإنترنت في تعزيز النقاش حول التاريخ، مما أدى إلى تباين في السرديات وتعدد الأصوات كما ان العولمة ادت الى تداخل الثقافات، مما أثر على السرديات التاريخية الشرق اوسطية من خلال دمج عناصر من ثقافات أخرى وإعادة النظر في الرموز كما تم إعادة تقييم شخصيات تاريخية، سواء كانت إيجابية أو سلبية، مما أثر على كيفية فهم الناس لتاريخهم من خلال هذه التغيرات، مما يعكس التعقيدات والتحديات التي تواجهها المجتمعات الشرق اوسطية في العصر الحديث.

التنافس بين القوى الكبرى

السرديات التاريخية لعبت دورًا محوريًا في التنافس بين القوى الكبرى والنزاعات الإقليمية في الشرق الأوسط، وأثرت بشكل كبير على تأجيج المشاعر الثورية. كما انها أدت الى إعادة صياغة الهوية الوطنية والقومية والطائفية، حيث استخدمت الدول القومية في الشرق الأوسط روايات تاريخية لتعزيز الهوية الوطنية، مما زاد من وعي الهوية والانتماء وتسليط الضوء على الظلم التاريخي في بعض الهويات الطائفية، تناولت السرديات التاريخية قضايا مثل المظلومية التاريخية، ساهم في تأجيج مشاعر الغضب ضد القوى الكبرى، وتم إعادة تفسير الأحداث التاريخية مثل الحروب والنزاعات لتبرير الصراعات الحالية وتعزيز الشعور بالعدالة، على العكس من ذلك استخدمت القوى الاستعمارية السرديات التاريخية لتبرير تدخلاتها في المنطقة، مما أدى إلى خلق مشاعر معارضة وصراعات الجيوسياسية، لعبت السرديات التاريخية(الاستشراق الكلاسيكي) دورًا في تشكيل السياسات الخارجية للقوى الكبرى تجاه الشرق الأوسط، مما أدى إلى تدخلات عسكرية وسياسية وتأجيج الصراعات كما ساهمت السرديات في تأجيج الصراعات الإقليمية من خلال تقديم الدعم لأطراف معينة بناءً على سرديات تاريخية منحازة، ومن خلال استحضار أحداث تاريخية مؤلمة لتزيد من مشاعر الإحباط والغضب، ساهم في اندلاع خطابات سياسية متشنجة، على الرغم من استخدام القوى الثورية السرديات التاريخية التقدمية في خطاباتها، والذي ساعد في تحفيز الجماهير وإثارة الحماس لكن وسائل الإعلام الحديثة ساهمت في نشر سرديات تاريخية منحازة بشكل أوسع، مما أثر على وعي الجماهير وساهم في تأجيج المشاعر المتطرفة، واستخدمت منصات التواصل الاجتماعي لتبادل الروايات التاريخية الدوغماتية، الذي ساعد في تظليل الوعي في القضايا التاريخية، لذا كانت السرديات التاريخية أداة قوية في التنافس بين القوى الكبرى واثارة النزاعات الإقليمية في الشرق الأوسط، حيث أسهمت في تشكيل الهويات المحلية وتأجيج المشاعر الطائفية والدينية. من خلال إعادة تفسير الأحداث التاريخية واستحضار التجارب المأساوية والتلاعب بالوعي الاجتماعي والسياسي، أدى إلى ظهور حركات متطرفة طائفيا وأشكال رجعية من المقاومة والحكم المبنية على أسس فيودالية بامتياز، تتوزع فيها السلطة بشكل هرمي، على الطبقات حيث يتواجد الحاكم في القمة يليه رجال والذين يجمعون الموارد، ثم مريديهم ثم بقية الجمهور الذي يغذي الموارد، كما في نظام الفيودالية، حيث كانت العلاقات بين الطبقات تعتمد على الوعود والولاء، وكان النبلاء يتعهدون بحماية الفلاحين، في حين كان الفلاحون يقدمون خدماتهم وعائدات الأرض.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

في المثقف اليوم