قراءة في كتاب

عدنان حسين أحمد: الوهم والمعلومات.. دراسة في علاقة وهم المعرفة بتجنّب المعلومات

صدر عن دار "لندن للطباعة والنشر" في المملكة المتحدة كتاب جديد للشاعر والباحث الدكتور عبدالحميد الصائح يحمل عنوان "الوهم والمعلومات.. دراسة في علاقة وهم المعرفة بتجنّب المعلومات" وهو في الأصل رسالة جامعية تقدّم بها لنيل درجة دبلوم عالٍ؛ معادل للماجستير، في قسم عِلم النفس بكلية الآداب، جامعة بغداد عام 2022- 2024. يتألف الكتاب من تمهيد وأربعة فصول إضافة إلى ثبت بالمصادر والمراجع والإحالات، وخمسة ملاحق، ومُلخّص للكتاب باللغة الإنگليزية.

يتضمّن الفصل الأول أربعة موضوعات رئيسة وهي: "مشكلة البحث، وأهميته، وأهدافه وحدوده" ثم يخوض الباحث بشكلٍ مفصّل في كل موضوع على انفراد حيث يستعين بتعريف سيفَر Schäfer لـ"وهم المعرفة" بأنهُ "مَيل الفرد أو الجماعة إلى تعظيم مقدار معرفتهم بالأشياء بناءً على معلومات ناقصة أو مُضلِّلة". ويرى الباحث بأنّ هذا النوع من الوهم يُعدّ أحد أبرز الظواهر السلوكية التي يعاني منها المجتمع العراقي على وجه التحديد، إضافة إلى مجتمعات أخرى. فقد سبّب وهم المعرفة للعراقيين كوارث محلية وإنسانية حينما شنّ الدكتاتور حروبًا داخلية وخارجية بناءً على الوهم أو حينما أوّلت جماعات متطرِفة النصوص الدينية على هواها ويقينها الوهمي وارتكبت جرائم إرهابية في العراق أو في مختلف أرجاء العالم. فواهم المعرفة يعتقد بأنه يعرف كل شيء، ويظنُ بأنه يرى أشياء لا يراها غيره. ويشير الباحث إلى آية قرآنية يقول فيها فرعون لقومه﴿ . . . مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ [غافر: 29]. ثم يعرّج على بيت المتنبي الذي يقول فيه:" إِذا ساءَ فِعلُ المَرءِ ساءَت ظُنونُهُ / وَصَدَّقَ ما يَعتادُهُ مِن تَوَهُّمِ". ويقتبس الباحث فكرة مهمة من مقالة "وهم المعرفة" للكاتب عامر عيون متولي مفادها أنّ "عدوّ العلم ليس الجهل بل هو وهم المعرفة". وكما يذهب الكاتب حاتم أحمد أنَّ "وهم المعرفة لا ينشأ من الجهل بل هو وليد مشوّه للمعرفة سواء في القضايا الكبرى أو الأمور اليومية المعتادة". ثمة أكثر من مقولة للفيلسوف اليوناني سقراط الذي قال:"لا أعرف شيئًا سوى حقيقة جهلي" وأضاف:"أنَّ الأشخاص الأكثر حكمة يعرفون جيدًا أنهم لا يعرفون شيئًا".

تشير الدراسات إلى أنّ أبرز مصادر الوهم ثلاثة وهي:"الحواس"، "العقل أو الذهن" و "النفس". أمّا الرغبة فهي أحد أسباب الوهم وأنّ الوهم يرينا العالم كما نرغب. ويقول فرويد في هذا الصدد أنّ "الوهم هو انتصار الرغبة على الواقع"ص23 فيما يذهب الفيلسوف الفرنسي غوستاف تيبون إلى أنّ "الوهم منسوج من الرغبة والجهل" (ص.ن). وفي ختام هذا الفصل يُحدد الباحث مشكلة البحث بالسؤال الآتي:"ما هي طبيعة العلاقة بين وهم المعرفة وتجنّب المعلومات الدفاعي لعيّنة البحث التي اختارها من العاملين في مجال الصحافة والإعلام في العراق.

يقدِّم لنا الباحث في نهاية هذا الفصل معنى الوهم لغويًا ويقول بأنه يعني "سبْق الذهن والخيال لشيء لم يحصل فعلًا" كما توقف عند الكائن الجاهل الذي حاول قتل الروائي نجيب محفوظ المتوّج بجائزة نوبل للآداب سنة 1988م، وقد اعترف المُعتدي بأنه لم يقرأ أي كتاب لنجيب محفوظ ولم يرَ صورته سابقًا. ويتساءل الباحث مستغربًا:"هل وقع هذا الجاهل ضحية للصورة النمطية التي وضعوا نجيب محفوظ فيها؟" (ص، 31). أمّا أهداف البحث فهي أربعة أهمها: مستوى "وهم المعرفة" و "تجنّب المعلومات" لدى العاملين في حقليّ الإعلام والصحافة. وقد اعتمد الباحث على تعريف تيلمان نيبين لشموليته.

وهم الفهم العميق

يتألف الفصل الثاني من مبحثين رئيسين وهما "وهم المعرفة" و "تجنّب المعلومات الدفاعي" واللذين يشكِّلان بالأساس مادة الكتاب الجوهرية. يؤكد الباحث بأنّ مفهوم "وهم المعرفة" لم يظهر قبل تجارب العالِميَن فرانك كيل وليونيد روزنبليت عام 2002 حيث انشغل كيل بأسئلة عديدة من بينها: هل أنّ البشر يغالون في تقدير فهمهم ومعرفتهم بالأشياء المحيطة بهم؟ وسرعان ما اكتشف العالِمان طريقة يقيسان بها وهم المعرفة بواسطة ما يُطلق عليه "وهم الفهم العميق" أو "وهم العمق التفسيري" لقياس مستويات المعرفة ودرجات الجهل. وقد وجدا أنّ "وهم المعرفة" ينشأ من شيئين وهما الحقائق المختلفة والبديهيات المُتداولة وفائض القدرة المعرفية التي يتمتع بها الخبراء والثقة المُفرطة التي تجعلهم يرون الأفراد الآخرين عديمي الذكاء.

يخطأ الكثير من الناس حينما يتصورون أنّ الجهل هو الأخطر على الوعي الإنساني ذلك أنّ "وهم المعرفة" لدى قليلي العلم من الذين يُوهمون أنفسهم بأنهم خبراء في الحياة هو أخطر من الجهل نفسه. والجهل الطبيعي هو أن يجهل الإنسان في مجال ما ويعرف أنه جاهل فيه خاصة وأنّ الإية الكريمة تقول: و" . . . مَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا"[الإسراء.85].

يؤكد الباحث بأنّ الأفراد يقعون تحت تأثير ثمانية مُحرّكات عديدة لإنتاج "وهم المعرفة" بسبب أخطاء في التفسير وتشوّه المعلومات وهي على التوالي:"الانحياز المعرفي، لعنة المعرفة، وهم الشفّافية، التفكير الرغبوي، انحياز التفاؤل، الارتباطات الوهمية، الانحياز الأناني ووهم التفكير السببي".

على الرغم من وجود عدة نظريات تفسّر وهم المعرفة من بينها "النظرية العقلانية المقيّدة" و "نظرية التفكير السببي" إلّا أننا سنتوقف عند "نظرية وهم التفوق" التي تعني عدم رؤية الناس قليلي الذكاء والقدرات مدى ضعفهم. فالإنسان الجيد في الرياضيات يعتقد أنّ لديه موهبة في كل مفاصل الحياة والعلوم الأخرى. يرى دانيننغ كروگر أنّ أسباب وهم التفوق ثلاثة وهي:مبالغة الأفراد في تقدير مهاراتهم الشخصية، والفشل في التعرّف على مستويات المهارات والخبرات الحقيقية، والاخفاق في التعرّف على أخطائهم ونقص المهارة لديهم. يخلص الباحث في المبحث الأول إلى أنّ "وهم المعرفة" يتبلور في مجالين وهما: "وهم العمق التفسيري" الذي يركِّز على اعتقاد الأفراد بأنهم يفهمون العالم من حولهم أكثر مما هو عليه في الواقع. والمجال الثاني هو "الثقة المفرطة" التي تعد سمة شخصية تقود المرء إلى رؤية نفسه متفوقًا على الآخرين والنظر إلى ذاته نظرة إيجابية مبالغ فيها. وكلما كان الفرد مفرطًا في الثقة زاد وهم العمق التفسيري لديه.

تجنّب المعلومات الدفاعي

يتمحور المبحث الثاني على موضوع "تجنّب المعلومات الدفاعي" حيث يؤكد تيلمان بنين على أنّ المعلومات التي لا تتوافق مع معتقدات الفرد تُشعرهُ بالتهديد مما يؤدي إلى استعمال استراتيجيات نفسية مختلفة لتجنّب المعلومات المسببة للتهديد. تقسِّم كيت سويني "تجنّب المعلومات" إلى قسمين وهما "التجنّب النشط" و "التجنّب السلبي"؛ الأول عن طريق تغيير اتجاه النظر عمّا يشاهدون بإيقاف بث برنامج على التلفاز أو إغلاق صوت راديو. أمّا التجنّب السلبي فيعتمد على عدم كشف المعلومات أو عدم بذل جهد لمعرفتها. وهناك ثلاثة أسباب لتجنّب المعلومات، فالأول لأنها تدعو إلى التغيير في المعتقدات، والثاني لأنها تدعو للقيام بفعل غير مرغوب، والثالث لأنها تُسبب مشاعر غير مريحة. أمّا الأفراد فهم من وجة نظر الباحث يتجنبون ثلاثة أنواع من المعتقدات وهي المعتقدات التي تتمحور حول الذات، وحول الآخرين وحول عالمهم الخاص. ويشير الباحث إلى أنّ معالجة المعلومات تمرّ عبر ثلاث مراحل وهي: مرحلة التعرّض والاستيعاب والاستعمال. ويؤكد في الوقت ذاته على وجود قوتين محفزتين تحْضران عند مواجهة الأفراد لأية معلومات وهما: الأسلوب الدافعي والمحفزات الدفاعية. وثمة عوامل أساسية لتجنب المعلومات يوجزها الباحث بأربع نقاط وهي: الشخصية، والتأثير، ومصدر المعلومات، ونموذج آنا غوينبيّسكا. وهناك خمس استراتيجيات تجنّب محددة وهي: الحدّ من السلوك، والإنكار، والقدرية، والقمع المعرفي، والتفكير السحري. أمّا أساليب معالجة المعلومات فيقتصران على الأسلوب التجريبي والأسلوب العقلاني.

منهجية البحث وإجراءاته

يتناول الباحث عبد الحميد الصائح في الفصل الثالث "منهجية البحث وإجراءاته" التي تتضمّن أربعة محاور رئيسة وهي "منهجية البحث، ومجتمعه، وعيّنته، وأدواته" حيث تُعبِّر منهجية البحث الوصفي عن الظواهر المبحوثة تعبيرًا كيفيًا وكميًا بجمع المعلومات المتعلقة بالظاهرة لاستقصاء مظاهرها وعلاقاتها المختلفة. أمّا مجتمع البحث فقد حدّده الباحث بشريحة من الإعلاميين والصحفيين العاملين في وسائل الإعلام العراقية المقروءة، والمرئية، والمسموعة، والصحف الإليكترونية من المسجّلين رسميًا في نقابة الصحفيين العراقيين. ويتكوّن مجتمع البحث من (32677) إعلامي وصحفي حتى يوم 6 / 6 / 2024م. وفي السياق ذاته فقد اختار عيّنة البحث من (400) إعلامي وصحفي من المسجّلين رسميًا في نقابة الصحفيين العراقيين. أمّا أدوات القياس فقد شملت أداتين فقط لقياس المتغيرَين وهما "مقياس وهم المعرفة" و "مقياس تجنّب المعلومات". وفيما يتعلق بمجالات "وهم المعرفة" فقد اقتصرت، كما أشار الباحث سابقًا، على "وهم العمق التفسيري" و "الثقة المُفرطة" أمّا بدائل الإجابة على كل فِقرة على المقياس فجاءت على الشكل الآتي:"دائمًا، غالبًا، أحيانًا، لا أبدًا". وقد تحقق الباحث من الصدق في مقياس "وهم المعرفة" عبر مُؤشرَين وهما: الصدق الظاهري ومؤشرات صدق البناء. كما اعتمد الباحث على خمسة مقاييس تجنّب المعلومات لكل من هاويل شيپرد وكولن فكتوريا أديسون، وشانون فوگليا، وگودوِن وآخرين ومقياس داي.

نتائج البحث وتوصيات الباحث

يتوصل الباحث عبدالحميد الصائح في الفصل الرابع والأخير إلى نتائج البحث ويناقشها بالتفصيل حيث يستوي "وهم المعرفة" لدى العاملين في حقليّ الصحافة والإعلام. وعلى وفق العيّنة التي بلغت (400) صحفي تبيّن أنّ متوسط درجاتهم على المقياس قد بلغ 57.51 درجة وبانحراف معياري مقداره 8.22 درجة. كما اتضح أيضًا بأنه ليس هناك فرق في "وهم المعرفة" تبعًا لمتغير الجنس. وليس هناك فرق دال إحصائيًا في "وهم المعرفة" تبعًا لسنوات العمل. بينما هناك فرق دال إحصائيًا في "تجنّب المعلومات" تبعًا لمتغيّر التحصيل الدراسي. وتبيّن على وفق مقياس پيرسون أنّ هناك علاقة ارتباط طردية دالة إحصائيًا بين "وهم المعرفة" و "تجنّب المعلومات". ويرى بعض الباحثين أنّ تجنّب المعلومات سلوك يتأثر كثيرًا بالشخصية.

يُقدّم الباحث عبدالحميد الصائح في نهاية بحثه خمس نصائح لافتة للانتباه إضافة مُقترحين مهمين جدًا نوردها على التوالي: أن يُولي الإعلاميون والصحفيون "وهم المعرفة" و "تجنّب المعلومات" الأهمية قبل وفي أثناء ممارسة عملهم وأن تُقام مؤتمرات وورش عمل لهذا الموضوع المهم. إجراء دراسات تاريخية نفسية عن الدوافع والأهام التي تقف خلف أحداث كبرى في العالم ولا سيما "وهم المعرفة" الذي دعا الكثير من الجماعات التكفيرية لتأويل النصوص الدينية وارتكاب جرائم في العراق وإشاعة ثقافة الكراهية. عدم اتخاذ أي قرار أو ترويج أي معلومة أو خبر قبل التحقّق من أي مصدر وعدم الحكم بناءً على المعلومات الناقصة أو الإشاعة العابرة. وأوصى الباحث باعتماد مبادئ علم النفس في العمل الإعلامي وتأسيس خليّة للعمليات النفسية في وزارة الثقافة ونقابة الصحفيين العراقيين. وفي الختام حذّر إعلاميًا من إجراء تقييمات بناءً على معلومات متراكمة لأنها تُربك في إجراء التقييم أو اتخاذ القرار.

أمّا مقترحات الباحث فقد اشتملت على مُقترحين أساسين وهما: إجراء دراسة موسّعة تبحث العلاقة بين الوهم والإرهاب، وإجراء دراسة أخرى عن "تجنّب المعلومات" لعيّنات أخرى ممن يعملون في المجال القضائي والعسكري والطبي والديني لأهمية هذه المؤسسات الحسّاسة ودورها في المجتمع العراقي متعدد الأعراق والديانات والمذاهب.

***

عدنان حسين أحمد - لندن

في المثقف اليوم