قراءة في كتاب

زهيرياسين شليبه.. قراءة أولية في مسرحية "حادثة إعدام الموتى" للراحل فائز الزبيدي

في الذكرى الرابعة لرحيله

فائز الزبيدي: "كي لا يجد الأنذال المعاصرون أداةً لتبرير القتل!"

قد يتصور بعضُهم العنوانَ غريباً، لكنه يذكّرنا بنبش القبور والتمثيل ببقايا رفات الموتى وإعدامهم في الصراع بين الأمويين والعباسيين!

فنحن إذن أمام عمل يحاكي التاريخ ويقدم أليغوريا الصراع بين الخير والشر وسيمفونيا انتقام يعاني منها بالذات المتعصبون حتى وقتنا الحاضر، لا سيما وأنه كُتبَ في زمن سقوط الأيديولوجيا وصعود الانقسامات الطائفية والسجالات الدينية والاتهامات بين الماضويين من ذوي الولاءات المذهبية.

تكمن أهمية كتاب "حادثة إعدام الموتى" للكاتب العراقي الراحل فائز الزبيدي1935-2019 في كونه يحمل وجهة نظر أدبية جديدة حول تناول واقعة الطف من عدة زوايا. ولأن مؤلفه معروف كفنان تشكيلي نظّمَ معرضه الشخصي الأول في الخمسينات، وساهم في تطوير الصحافة العراقية من خلال اتحاد الشعب وطريق الشعب، وحصل على الدكتوراه وأصدر نتاجات في الرواية والقصة والشعر، وهو إضافة إلى كل هذا وذاك، معروف كشخصية اجتماعية بين العراقيين في الخارج.

هذا الكتاب مكرسٌ لأسرار قَتْلِ الإمام الحسين ابن علي ابن أبي طالب سبط الرسول محمد هو وأسرته. ومن المعلوم أنه كُتب عنه العديد من الإبداعات لمبدعين من مختلف الخلفيات الثقافية و"الدينية"، ففي الشعر يكفي أن نذكر قصيدة "آمنتُ بالحسين" للجواهري في العهد الملكي 1947.  مطلعها:

فِدَاءً لمثواكَ من مَضْــجَعِ

تَنَـوَّرَ بالأبلَـجِ الأروَع

*

بأعبقَ من نَفحاتِ الجِنـانِ

رُوْحَاً ومن مِسْكِها أَضْـوَعِ

وقصيدة عبد الرزاق عبد الواحد التي كتبها ونشرها في زمن الحصار على العراق إبّان حكم صدام حسين 1995. لم تكن مثل هذه الأفكار محرمة رغم خطر انتشار الأحزاب المذهبية والطائفية على الدكتاتوريات "القومية والوطنية".

وقال عنه عبد الرزاق عبد الواحد في قصيدته (في رحاب الحسين)

قَدِمتُ .. وَعَفْوَكَ عن مَقدَمي

حَسيراً، أسيراً ، كسيراً، ظَمي

*

قدِمتُ لأ ُحرِمَ في رَحْبَتَيْ

سَلامٌ لِمَثواكَ من مَحرَم ِ

*

فَمُذْ كنتُ طفلاً رأيتُ الحسين

مَناراً إلى ضوئِهِ أنتَمي

ونقتبس هنا بعض النماذج الشعرية عن الحسين من مقال: "الحسين في الأدب العربي" الرائع للأستاذ محمد فايز جاد:

قال الشاعر الراحل أمل دنقل عن الحسين:

كنت في كربلاء

قال لي الشيخ إن الحسين

مات من أجل شربة ماء

وكذلك الراحل نزار قباني، حيث قال في "آخر جندي يخرج من غرناطة":

ظلي معي فلربما يأتي الحسين

وفي عباءته الحمائم والمباخر والطيوب

ووراءه تمشي المآذن والربا

وجميع ثوار الجنوب

وقال السياب في قصيدته "انتصر الحسين" التي يخاطب فيها يزيدًا بن معاوية:

وأسدر بغيك يا يزيد فقد ثوى

عنك الحسين ممزق الأشلاء

ولكنه، مع هذه الظلمة يرى أن الحسين انتصر، فيخاطب يزيدًا:

قم فاسمع اسمك وهو يغدو سبة

وانظر لمجدك وهو محض هباء

*

وانظر إلى الأجيال يأخذ مقبل

عن ذاهب ذكرى أبي الشهداء

*

كالمشعل الوهاج إلا أنها

نور الإله يجل عن إطفاء

وفي العامية المصرية  كرّست قصائد عن الحسين، بالذات بعد ارتداد ثورة يوليو، ففي "إني رأيت اليوم"، من ديوان "المانيفيستو" للشاعر المصري مصطفى إبراهيم، بعد أحداث شارع "محمد محمود"، يقول إبراهيم:

إني رأيت اليوم.. الصورة من برّة

وقلت الحسين لسة.. حيموت كمان مرة

*

إني رأيت اليوم.. فيما يرى الثائر

إن الحسين ملموم.. فوق جثته عساكر1

وصدرت أربعة أعمال مهمة عن الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب أصبحت من كلاسيكيات الأدب الحديث والمعاصر، مثل: "أبو الشهداء الحسين بن علي" 1945 لعباس محمود العقاد (توفي 1964)، و(ثأر الله): (الحسين ثائرًا) و(الحسين شهيدًا)، 1969 –1970 لعبدالرحمن الشرقاوي (توفي 1987)، و"أبناء الرسول في كربلاء" لخالد محمد خالد (توفي 1996) أما كتاب الفتنة الكبرى لطه حسين فيختلف عن الأعمال المذكورة.

انتشرت هذه الكتب في فترة صعود التيارين اليساري والقومي في البلدان العربية، ولم يفكر أحد من جيل الشباب المتنور من غير الأوساط الدينية آنذاك بالولاءات المذهبية والطائفية على عكس الواقع الحالي حيث ظهرت حركات دينية طائفية متشدّدة ومتطرفة وتكفيرية. قد تكون هي السبب في إصدار هذا الكتاب للمؤلف فائز الزبيدي، الذي نحن بصدده في هذا المقال.

عناوين هذه النتاجات تفصح عن موضوعاتها وطريقة تناولها، حيث تعبّر عن قدسية سبط النبي محمد والإقرار بثورته والتعاطف معه ومحبته، لكن دون تكفير الآخر وشتمه. الشرقاوي مثلاً تحدثَ عن حبه الكبير للحسين في إهدائه لكتابه، وذكر الكاتب اللبناني اليساري حسين مروه هذه الميزة. أما خالد محمد خالد فوصفَ واقعة الطف بقدسية يؤمن بها ملايين الناس من كل العالم: اليوم الفريد والمجيد والرهيب عالمياً كما أشار الدكتور زكي الميلاد.

وميّز محمود عباس العقاد بين الحسين الهاشمي المثالي "المبدأي" ويزيد سليل الأمويين الأصلاء العبدشمسيين (من عبد شمس). وعندما أشيرُ إلى هذه النتاجات عن الحسين فأتذكر أن بعض أفراد جيل الشباب من مختلف الانتماءات الفكرية والمذهبية في السبعينات أقبل على قرائتها، وتأثر بها وترسخت صورة الحسين "الثورية" والميثولوجية الشعبية  في القلوب قبل العقول.

ويشير الباحث السعودي زكي الميلاد (ولد عام 1965) الحائز على جائزة الثقافة والإعلام للكِتابْ السعودية عام 2017 إلى انبهاره بمسرحيتي: "الحسين ثائراً" و"الحسين شهيداً" لمؤلفهما عبدالرحمن الشرقاوي صاحب رواية "الأرض" الواقعية المشهورة حيث يقول: "هذا هو الشرقاوي الذي حفر في وجدانه حبًّا عميقًا للحسين، فحفر في وجدان الآخرين حبًّا له"2.

ويكرر الأستاذ زكي الميلاد نفس الإعجاب  في مقاله الآخر: العقّاد وأبو الشهداء3.

أضحى الحسين شخصيةً "ثوريةً شعبيةً" يجسد استمرارَ التقاليد الشعبية الاسطورية والميثولوجيه كما يتضح في إحياء ذكرى مقتله بطريقة "التشابيه" الحية في الشوارع والساحات العراقية منذ الستينات، التي لا تختلف عن مسرح الطقوس.

ولهذا ليس من الغريب أن يكرس الفنان التشكيلي الكبير كاظم حيدر1932-1985 عدة لوحات لتمثلات الطف مثل "ملحمة الحسين" و"مصرع إنسان" التي غيّر اسمها إلى:"ثورة الحسين" وهي موجودة في قاعة الفن الحديث والتي حلّلها د. فائز الزبيدي في مقدمته لكتابه الحالي الذي نحن بصدده، ولوحته الثانية: "ملحمة الحسين. وكرّس أغلب الفنانين التشكيليين العراقيين الكبار لوحاتِهم لواقعة الطف.

ومن المفيد القول هنا إن عدداً من كتّاب القصة العراقيين تناولوا في قصصهم هذه الموضوعة في بداية التسعينات، وقد أشار أيضاً بعضهم إليها في حوارات لي معهم عن أعمالهم والمسرح كطقس.

فكريًّا انحاز العقّاد إلى موقفَ الحسين واعتبره شجاعاً، بينما يزيد مناقض له ولايقارنهما بينما لم يقحم فائز الزبيدي نفسه بهذه المهمة ظاهريا مفضلاً تناولها في العمق ومابين السطور.

والاختلاف الجوهري بين تلك الأعمال أنها تناولت شخصية الحسين بقدسية لكن ليس بعيداً عن الأدبية والتاريخانية ايضاً على عكس كتاب فائز الزبيدي، إذ إنه يحمل وجهة نظر أخرى مختلفة بعيدة عن التقديس.

وهو ليس بغريب على كاتب مثل فائز الزبيدي، حيث يمكن بحسب رأيي الشخصي أن يُقال عنه، إنه لا يريد أن يكرر الآخرين، وإنما يمحّص كل ظاهرة قبل أن يكتب عنها، وبالذات إذا ما انتشرت وأثّرت على الحياة العامة.

بالنسبة لكتابه "حادثة إعدام الموتى"، فإن فائز الزبيدي لا يريد أن يكتب عنها بالأسود والأبيض ولا يصنف أبطالها بهذه الطريقة، ولا يأبلس الملائكة ولا يجعل من الشياطين ملائكة، بل أراد الغوص في أعماق شخصيتَي "الأمير" الشاعر الإنسان ثم الخليفة يزيد بن معاوية، ويسبر عالمه الداخلي ويقدّم سرديتَه من عدة جوانب.

ولا يعني ذلك أن فائز الزبيدي يبرر جريمة القتل، لكنه يريد أن يقف عند حيثياتها وأسبابها ويميز بين مغزاها التاريخي واللاتاريخي الميثيولوجي والديني والشعبي، وهذا طرح جديد جريء في تناول موضوعة الحسين، له دور كبير في الفكر العربي المعاصر.

وفائز الزبيدي لا يحب المسلمات، أو لا يقبل الأمورَ على عواهنها، ولهذا اخذ هذه الموضوعات بجدية ودراستها عن كثب، لا سيما وأنها سُيّستْ واستهلَكتْ المجتمع العربي في الوقت الحاضر، وهو كاتب اجتماعي يؤمن بدور  المسرح التوعوي فاختار نصاً مسرحياً لهذه الموضوعة، لكن ليس بدون عناصر الأنواع الأدبية الأخرى.

وأنا شخصيا أعتبرها مساهمةً كبيرةً ليتبين بأن المسلمين عموماً في الوقت الحاضر ليسوا معادين لأهل البيت كما يحاول بعضهم تصوير ذلك "للتجييش" السياسي.

‏الأمر الآخر الذي أودُّ أن اتوقف عنده وبالذات بسبب معرفتي بأسلوب الكاتب الراحل فائز الزبيدي هو اللغة فإنه أولى أهمية خاصة لفنيّتها. وأنا أتذكر أحاديثَنا الشخصية حولها منذ التقينا أول مرة في السبعينات حيث كنت في مقتبل العمر حيث ميّزنا اللغة المباشرة والتقليدية والأدبية، وكان يؤكد اهتمامَه بمستواها. لكني طبعاً لا أقصد هنا ضرورة أن تصل اللغة إلى مستويات تدخلها في متاهات قد تؤدي أحياناً إلى التعقيد والغموض كما هو الحال عند فوكنر وجويس.

قدم الشاعر الدكتور صلاح نيازي لمسرحية "حادثة إعدام الموتى" بمقدمة رائعة جداً، وهو الذي عرف فائز الزبيدي في عنفوان شبابة حيث كان يدرس معه في دار المعلمين، وحددَ نوع هذه المسرحية.

لكني أريد أن أشير أيضا إلى مقدمة يمام فائز الزبيدي الرائعة جداً المختصرة المكثفة ذات الدلالات العديدة كونها  حقّاً تصوّرُ حالةَ المؤلف الحساس والده في فترة التسعينات حتى يوم رحيله، وكان يمارس لعبة التعليق بالصمت.

وأنا أعرف فائز الزبيدي معرفة جيدة، وأدركُ ماذا يعني الصمت بالنسبة له فكان يلوذ ويجيب به على الأسئلة، إنها معاناة المثقف الملتزم الثائر الحائر.

يشرح يمام الزبيدي خلفية هذه النصوص، فهي تعود إلى أعوام 92 93 97 98 حتى 2000، وفهمتُ ان فائز الزبيدي أيضا كان مشغولاً أو يفكر في البحث عن القالب الأدبي المناسب لعمله: "حادثة إعدام الموتى"، هو يقول: ما بين النثر والشعر والمسرح والفصحى والعامية4.

هذا العمل  بالنسبة لي، خلطة هجينه جميلة من التخيّل التاريخي والسرد المسرحي والقصصي والتخيل التاريخي، تتميز بحوار بالمحكية أحيانا والفصحى، فضلاً عن الشعر الحر والعامي الشعبي والزهيريات، التي أعرف شخصيا شغفه بها، فهي تعبر عن حالة الكاتب وسارده وأبطاله وموضوعته.

وأشير إلى أنه نفسه قدم كتابه بمقدمة قد تكون في بعض المقاطع عصيّة الفهم على القارىء، لكنها أيضا قد تعبر عن حالة الكاتب في عدم وضوح بعض المواقف أو وجهات النظر ومنطلقاته لتفسير الحادثة.

‏ومن الأمور المهمة التي أشار إليها يمام الزبيدي انه يشرح او يصور حالة والده الكاتب أو عزلته عن العالم فيقول: "رحل أبي بعد مرضه روحياً وجسدياً" ...  إن ما في الملفات هذه النصوص قد يكون يحصل بها اختلافات"، وقال إن والده "كان ما بعد الحرب الثانية كأنه يستعد لها بالتمارين المستمرة على لعبة التعليق بالصمت، ابتعدَ عن الناس وامتنع عن الرد على الهاتف عن البشر".

‏أود أن أشير إلى تخطيطات (وجوه) فائز الزبيدي، إنه يعشقها، وأنا اتذكر جيداً من لقاءاتنا الأولى كان مولعاً بها يمارسها حتى اثناء جلساتنا، وأتذكر أني أعجبتُ جداً بها، وتألمَ في ذلك الوقت لأني لم أكن أعرف اسمَه كفنان.

طبعاً هو فنان تشكيلي أقامَ معرضه الشخصي في الخمسينات، لكنه مع ذلك لم يستمر في هذا المجال لظروفه الخاصة. فأصبح الفن التشكيلي بالنسبة له هوايةً وانشغَلَ في الدراسة والحياة وانكساراتها ومطبّاتها والبحث والنقاش الفكريين والكتابة، وانصرف عن عرض تخطيطاته، أو احتفظَ بها لنفسه بعيداً عن المعارِض.

لا يحب فائز الزبيدي التكرار أو الكتابة عن موضوعة بطرقٍ تقليدية:

اكد الكاتب الفاضل الصديق د. صلاح نيازي على أنه وطيلة الفترة الأولى التي تعرّف فيها إلى فائز الزبيدي لم يطلع على مذهبه، وأنا احترم جداً انطباعَه، أغلب العراقيين لم يكونوا مذهبيين (طائفيين) بالذات جيل الشباب الجامعي في الستينات والسبعينات، لكن مع ذلك أقول هنا إني عندما تعرفت إلى فائز الزبيدي، وهو كان بالنسبة لنا مثل المدرس ونحن في العشرينات من العمر بينما هو في الاربعينات كنا نستمع له، وكنا نتطرق إلى التاريخ بخاصة عن العلاقة بين الإمام علي والسيدة عائشة، وكان يقف إلى جانب الإمام علي بحماس، وينتقد السيدة عائشة وعمر بن العاص ومعاوية والخ، وكان "متحزباً" للإمام علي ، ليس بالمفهوم الديني طبعًا بل التاريخي و(الشعبي الميثولوجي بشيء من الرومانسية فيما يخص التشابيه الحسينية كطقوس).

ومقدمة الراحل فائز الزبيدي لكتابه "حادثة إعدام الموتى" مهمةٌ، للغاية، ينبغي على القارئ أن يقرأها إذا كان يهتم بفنيّة تناول الحدث ويحب أن يجد قالباً خاصاً لهذا النتاج، لكني فضلت قراءة النص قبل الاطلاع عليها، لأستمتع به وأرى طريقة تناوله لهذه الموضوعة.

"حادثة إعدام الموتى" نصٌ ممتع، ولا بدّ لي هنا من الإشارة إلى بعض أفكار مقدمة الكاتب مثل فكرة التماهى مع الحسين، كما يؤكد عليها الكاتب ليست لدى الشيعة فحسب، بل السنّة أيضاً. ص 26

وأنا أرى تعلق الناس بالحسين أكثر "طقوسية" وشعبية وتراثية بالذات في مصر مثلاً، لكنه أقلّ حدة وخالية من الكاثارسيس (جلد الذات) مما هو لدى بعض أوساط الشيعة، من الذين ورثوها كتقاليد وطقوس منذ طفولتهم.

الأمر الآخر هو الدعاء والبكاء كطقوس مثلاً، فهذه كلها بعد مقتل الحسين اختلطت بالتاريخي واللاتاريخي وأصبحت اليوم من الميثولوجيا وهو سماء التعليق الجماعي على الموقف بالبكاء الطقسي فالزبيدي يعود بجذور المقاطع الحسينية إلى الذاكرة الشعبية من سهوب سومر القديمة. وهذه طبعاً تحتاج إلى إيضاح وتوثيق ودراسةٍ خاصةٍ. ص 19

يُعد المقتل الحسيني جزءًا من طقوسٍ مسرحيةٍ وأشار إلى ذلك  د. سليمان قطايه، كما يذكر فائز الزبيدي.

كذلك طغيان الخيال يجعل الراوي أقرب للشاعر الملحمي الشفاهي الجوال. ص 20

يقارن فائز الزبيدي المقتل بالميثولوجيا الدينية  البطولية في أثينا القرن الخامس قبل الميلاد. ص 22

وأودُّ أن أذكر أن كاثارسيس تعنى التطهير والتنقية والتنفيس و"جلد الذات" هي كلمة يونانية، وكانت تُمارس كطقوس إلى وقت متأخر في بعض مناطق أوروبا. وهذا أمرٌ يحتاج إلى دراسة عن كثب وتدقيق ومقارنة.

ويحلل فائز الزبيدي عمل الفنان الكبير كاظم حيدر لوحته "مصرع إنسان" بطريقة ناقد تشكيلي، ويشيد دكتور صلاح نيازي به، ثم تحدث بالتفصيل عن عمله الثاني (لوحته): "ملحمة الحسين" الموجودة في قاعة متحف الفن الحديث. تتميز باللا تاريخية وخلودها. ص 23-25

لا يصور فائز الزبيدي في مسرحيتة الطقوسَ والميثولوجيا التاريخية بل يكرس النص الى اعادة فلسفة الحدث التاريخي بطريقةٍ أدبيةٍ، وهنا إذا قارنّا بين طرحه وما كُتب عن الإمام الحسين سابقاً، فإننا لا نقول إنه يقف على الضد، بل على الأقل يختلف من حيث تحليل الشخصيات الأدبية بمن فيهم الإمام الحسين المجاهد في حياته والثابت في إيمانه وموقفه كما يصوّره  من خلال حوارات المسرحية.

نجد في هذا النص المسرحي التحليلَ وإعادةَ فلسفةِ الأحداث والغوصَ في أعماق النفس البشرية، بالذات الخليفة والشاعر "الإبيقوري" يزيد، كما يصفه الكاتب لكن بدون إصدار الأحكام الجاهزة عليه، والحسين وعائلته، والحادث كله ليس جريمة اغتيال وإنما يصوره كما لو أنها نتيجة عمل فرقة عسكرية تابعة لسلطة الخليفة قامت به، للقضاء على تمرد أو لنقل: "ثورة أو انقلاب".

الملاحظ أن فائز الزبيدي يتدخل بنفسه اثناء السرد المسرحي وضمن المتن، يُسلّحُ القارىء بتفسيراتِ الأحداث، من ذلك مثلاً يقدم لشخصية يزيد: "دفعت حادثة قتل الحسين بيزيد إلى الطرف الآخر النقيض من منطوقه "السلبي والإيجابي"، ... فاسق ... وبحثَ ناس في جذور هذا الجانب من شخصية يزيد، كما فعل الاستاذ الشيخ عبد الله العلايلي في كتابه "الإمام الحسين"". ويقول أيضا: "لقد أصبح يزيد شخصية سلبية مغلقة،... لقد بدا لي يزيد في صورته شخصيةً بلا جذور، بلا ما ضٍ، أي كأنه وجد هكذا، جاهزاً: نذلاً بلا دوافع. وهذا ما استوقفني وأنا اكتب السطور الأولى من حادثة إعدام الموتى. فسعيت إلى إعادة النظر في هذه الشخصية. لاحظ هذا مهم جداً في السعي إلى إعادة النظر في هذه الشخصية: ترى من كان حقاً ذلك ال "يزيد" المنزوي في الطرف النقيض للإيجابي في منطوقة الخير والشر؟" ص 58

فإننا، إذن هنا أمام عمل فني مسرحي "أليغوري" عميق أو "منطوقة" كما يسمّيه الكاتب، يصوّر الصراع بين الخير والشر، رمزي  وليس سرديةً تاريخيةً وعظية عن مسلّماتٍ مقدّسةٍ.

ويبرر عاشق المسرح فائز الزبيدي هنا أسلوبَه وعمله وطريقته، فهو لا يأخذ الأمور على عواهنها كما قلت سابقًاً، يقول: "وجدت أنّ الدراما الجادة يجب أن تنظر في شخصية يزيد من حيث هو شأن جيله ...  شديد التعقيد. فتراث العرب كله، الذي ظل مستقراً منذ زمن لا تُعرف بداياته تعرض وجيل الحسين ويزيد في صباه، للزلزال الذي أحدثه الإسلام، فكل شيء هو ذاته وليس هو،... الحديث عن  يزيد: إرثه العبشمي. إنه وريث عبد شمس... الثرية، المتبطرة، التاجرة، حتى في تعاملها الذرائعي البارع مع الحركة الجديدة (الإسلام)، الحسية إذا ما قورنت بهاشم. وهو لم يتغذَّ بإرث عبد شمس المكية، بل في البيت الفريد من بيوت عبد شمس المقبل على سيادة العالم: بيت معاوية بن أبي سفيان. لقد رأى يزيد بعينيه الذرائعيةَ وهي تحقق الانتصار تلو الانتصار على "القيم" الجديدة باعتبارها صوراً ذهنية.

كان يزيد شاعراً أكثر منه خليفة، كان حسيّاً، أبيقورياً دونما فلسفة، لايعبأ بالصور الذهنية عن الوجود، ويستغرب أن يفتدي الناس بأرواحهم قيمة ما مجردة. باختصار كان له موقفه الخاص من العالم، وحين يلجأ الأدب إلى اختصاره الى مجرد رجل تافه، فإنه يختصر المشكلة ذاتها: قتل رجل بسبب فكرة، ... بهذا السعي إلى فهم الشخصيات التزمتُ معالجة موقف المشتركين الآخرين في حادثة القتل تلك مثل عبيد الله بن زياد والشمر بن الجوشن، أي أنهم هنا شخصيات أدبية وليست تاريخية". أنظر مقدمة المؤلف لكتابه.

لا بدّ من القول إنه من الصعب هنا التمييز بين التاريخي والأدبي في مثل هذه الواقعة التي هزت الإسلام وقسمته، وهنا تكمن الصعوبة بالذات عندما يدور الحديث عن شخصية مهمة ومقدسة لدى أغلب المسلمين.

الكاتب يتحدث هنا بنفسه عن الحدث، يحلل نصه كناقد وليس كشخص من شخصيات السرد، ليس كراوٍ هنا يمكن أن يتحدث عن نفسه ويعلق على الآخرين والأحداث، وممكن أن نجد آراءَ المؤلف في حديث الراوي.

صحيح أن المؤلف ليس شخصيةً هنا في هذا النص، ولاسارداً عليماً أو راوياً لكنه بالتأكيد يقف خلف شخصياته الأخرى. أنظر ص 59- 58

وبشكل عام، يمكن القول إن جوهرَ فكرةِ "حادثة إعدام الموتى" لا يختلف كثيراً عن محمود عباس العقاد وبعض الكتّاب الآخرين في محاولتهم لتصوير الواقعة تاريخياً وأدبياً، ليست مقدسةً دائمًا رغم ميلهم للحسين، بل كأنها "ثأرية" بين أبناء عمومه أو قبيله واحدة، بين الهاشميين "المبدأيين، المثاليين" والعبدشمسيين "الأريحيين"، لإنصاف يزيد فهو في النهاية بنظر المذاهب غير الشيعية ليس كافراً، ويظل خليفةً وشاعراً يختلف عن جنودِه الذين نفّذوا جريمةَ قتلِ الحسين، ويُشهد له بحسب رواياتٍ، غير مُتفق عليها، بأنه (يزيد العبدشمسي) "أحسن" معاملة "أبناء عمومته" أسرة الحسين وأكرمهم. تختلف الروايات هنا حول هذا الموضوع لكن المؤكد أنه سليل العبدشمسيين الذين وصلت حضارتهم الى بلاد الأندلس.

"حادثة إعدام الموتى" نصٌّ مسرحيٌ يتميز بلغةٍ غنيةٍ تحتاج إلى التأمل والتفكير، يهتم بتحليل الشخصيات نفسياً قبل تصنيفها حسب مواقفها، يتضمن إيحاءات تجسدُّ استمرارَ سمفونيةِ الكراهيةِ والقتلِ وإعدامِ الموتى حتى في الزمن المعاصر، لهذا يستحق القراءة والتمعن في أفكار شخصياته المثيرة للجدل والخلافات المستمره!

إنه نتاج أدبي مهم كتبه مؤلفه الراحل فائز الزبيدي "كيلا يجد الأنذال المعاصرون أداةً لتبرير القتل!" على حد تعبيره.

 ***

د. زهيرياسين شليبه

..................

المصادر:

1- أنظر بالتفصيل: محمد فايز جاد. الحسين في الأدب العربي.. رمز الثورة في وجه "يزيد"، جريدة الأهرام

10-10-2016

2- أنظر: زكي الميلاد. الحسين في الأدب المصري الحديث. شبكة النبأ 17 تشرين الأول 2019

3- زكي الميلاد. ملحق المدى. 15/09/20122

4- فائز الزبيدي. حادثة إعدام الموتى. 2022 لندن أنظر في الكتاب مقدمة يمام فائز الزبيدي، والشاعر الدكتور صلاح نيازي ومقال فائز الزبيدي عن أعمال الفنان كاظم حيدر، وشروحه ضمن متن النص المسرحي عن أحداثها.

وأشير هنا إلى أني اكتفيت بكتابة رقم الصفحة بعد كل اقتباس من كتاب "حادثة إعدام الموتى" موضوع مقالنا الحالي.2063 الفنان كاظم حيدر

ملحمة الشهيد للفنان العراقي الكبير كاظم حيدر 1932-19852064 كاظم حيدر

لوحات اخرى للفنان كاظم حيدر المكرسة لتمثلات واقعة الطف

2065 الفنان كاظم حيدر

في المثقف اليوم