أقلام فكرية

فلسفة الجنس ووحدة الوجود الإنساني (1)

عصمت نصارعلى الرغم من ظهور عشرات الكتابات التي تتحدث عن تاريخ الفلسفة ومباحثها الرئيسة والفرعية، وذلك منذ أخريات القرن التاسع عشر في الثقافة الغربية، ثم في نهاية العقد الثالث من القرن العشرين في الثقافة العربية، إلا إن جميعها قد خلا تماماً من الإشارة إلى مبحث فلسفة الجنس، ويبرر المؤرخون المعاصرون ذلك بعدة أسباب: أولها أن ما كتب عن هذا المبحث في تاريخ الفلسفة لا يتعدّى أن يكون شذرات متناثرة وأقوال في سياقات متعددة لا تشكل نظرية أو نسقاً فلسفياً، وقد أدرج بعضها في مبحث الأخلاق ولا سيما عند الحديث عن فلسفة اللذة ومشكلة الحب، وأدرج البعض الآخر في الكتابات النقدية المعاصرة التي تناولت موقف الفلاسفة من المرأة ذلك فضلاً عن بعض الإشارات الخاطفة خلال كتابات المؤرخين عن الأساطير ذات الصلة بوجود الإنسان (ذكراً وأنثى) والجنس وتقديس الثقافات الشرقية واليونانية للأعضاء التناسلية.

وثانيها : أن بنية المصطلح (فلسفة الجنس) كانت تحوي بين طياتها سياقات مضطربة ومتناقضة في ذهن العقل الجمعي، فالذائع عن الفلسفة أنها رؤى عقلية وتصورات نقدية مثالية كانت أو وضعية، ومن ثمّ لا دخل لمباحثها (الوجود، المعرفة، القيم) بموضوع الجنس، فالفلاسفة المثاليون والعقليون والحدسيون يعلون من شأن العقل وملكاته وينظرون إلى الجسد نظرة دونية باعتباره مكمن الشهوات وأصل الرذائل متأثرين في ذلك بالأساطير الغنوصية والهرمسية. أما الفلاسفة الماديون فقد أدرجوا موضوع الجنس ضمن الغرائز الفطرية واللذات الحسية التي يشترك فيها الإنسان مع الحيوان بدرجات متفاوتة، وعليه لا دخل للفلسفة فيها إلا في سياق التبرير، في حين عكف علماء النفس والاجتماع والبيولوجي والطب والفسيولوجي على دراسة الجنس بوصفه سلوك وممارسة وقدرة، وما يلحق بكل ذلك من اضطرابات وشذوذ وأمراض وظواهر مؤثرة في الثقافة الإنسانية بوجه عام.

وعلى مقربة من ذلك تناول اللاهوتيون والفقهاء موضوع الجنس باعتباره علاقة جسدية بين الذكر والأنثى، ومن ثم وضعوا الضوابط التي تجعل منها سلوكاً قويماً من الناحية الأخلاقية والاجتماعية من جهة، ومطبقاً للآداب والسنن التي اشترطها الشرع لتنظيم العلاقات الجنسية بين الجنسين (شروط النكاح والحدود والعقوبات التي تخالفها) من جهة أخرى.

وثالثها: إهمال الكتاب للجانب الفلسفي من موضوع الجنس واهتم الجانب الأعظم من المصنفات الجنسية بالحديث عن الأوضاع الجنسية والعقاقير المنشطة والأعضاء وأحجامها والصحة الجنسية والعلاقات الشاذة، وعكف القليل من هذه المصنفات على توضيح آداب الجماع وتاريخ العلاقات الجنسية والسلوك الأمثل في ليلة الزفاف والثقافة الجنسية العامة، ولم يطرح موضوع الجنس إلا على استحياء في الكتب الدراسية وذلك ضمن المقررات العلمية التي تتناول الجهاز التناسلي، ثم ظهرت في منتصف القرن العشرين عشرات الدراسات الأكاديمية التي تتحدث عن الأبعاد النفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفنية والأدبية للجنس، ولا يفوتنا في هذا السياق ذكر مقولة شارلي شابلن (إننا نخاف رؤية الدماء مع أنه يجري في عروقنا، كما نخجل من الحديث عن الجنس مع أنه يجري وينام ويولد ويعيش فينا).

فما زال الحديث في الثقافتين الغربية والشرقية عن الجنس من الموضوعات التي تطرح مصاحبة للخجل تارة، والضحك والسخرية تارة ثانية، والهمس في الحجرات المغلقة تارة ثالثة، الأمر الذي انعكس بالسلب على الكثير من القضايا الثقافية المعاصرة بوجه عام، والعديد من المفاهيم الأساسية حول ماهية الإنسان ومكانة المرأة وأثر الجنس في السياسة والاجتماع والتاريخ والأخلاق والنحل والمذاهب الدينية بوجه خاص، ناهيك عن أثر غيبة الثقافة الجنسية الذي يقود الذكور في المجتمعات المتخلفة والمحافظة إلى العنف والإسراف في تعاطي المخدرات واستخدام المنشطات الجنسية، وما يتبع ذلك من صور جانحة أخرى بداية من الشذوذ إلى زنى المحارم إلى الخيانات الزوجية أو الطلاق بين الشباب، والمتفاوتين في العمر، وعودة الدعارة المستترة أو المواقعة عن طريق المجتمع الافتراضي (الإنترنت) وجنون المراهقين بالعري والأفلام الجنسية ذات التقنية العالية المزيفة للوقائع.

لذلك كله سوف نحاول في السطور التالية إلقاء بعض الضوء على نشأة المصطلح وتاريخه ومفهوم فلسفة الجنس وموضوع دراستها، وأشهر أقوال الفلاسفة ونظرياتهم ذات الصلة، وكذا فلسفة الجنس التطبيقية التي تسعى إلى التوعية، ووضع البرامج التربوية للسلوك الجنسي، ذلك فضلاً عن إثبات أن الجنس هو البرهان الأول على الوحدة الإنسانية التي تجمع بين الذكر والأنثى.

الإرهاصات الأولى لظهور مصطلح فلسفة الجنس:

يعد عالم الاجتماع الألماني (جوهان باخوفن (1815-1887م) وعالم الاجتماع الإنجليزي (برونسلاف مالينوفسكي (1884-1942م) من أوائل الأنثروبولوجيين الذين حاولوا الكشف عن تاريخ العلاقات الجنسية البشرية والتعرف على بواعثها ومقاصدها (شهوة فطرية، غريزة حيوانية، لذة ومتعة، وسيلة للإنجاب، طاقة للتفكير والإبداع، سبيل لإطالة العمر والصحة البدنية والذهنية) وانتهيا إلى أنه على الرغم من غيبة الوثائق التاريخية والمعارف العلمية التي تمكنهما من التعرف على البنية الثقافية للجماعات البدائية وطبيعة العلاقات الجنسية فيها، إلا أنهما أكدا أن الجماع الجنسي والعلاقات الحميمة التي نشأت بين الذكر والأنثى كانت ترد إلى الرغبة واكتمال القدرة والإرادة، وذلك على العكس من الحيوان الذي كان يمارس الجنس مدفوعاً بالشهوة والغريزة الفطرية والمؤثرات الفسيولوجية والبيولوجية غير الإرادية.

ولم يظهر مصطلح سيطرة النساء (Matriarchy) إلا في منتصف الستينات من القرن التاسع عشر في الثقافتين الألمانية والإنجليزية حيث كتابات الألماني (باخوفن) والبريطاني (ماك ليلان) عن تلك المجتمعات البدائية التي تسيّدت فيها النساء على الرجال في الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وقد بينا عجز الوثائق التاريخية عن تبرير هذه الظاهرة من جهة، وربط الكتابات الحديثة بين المجتمعات الأممية في حقبة ما قبل التاريخ، والقرون الأولى في الحضارات المصرية والسومرية والبابلية والهندية، ومظاهر الضعف أو الانحطاط الثقافي من جهة أخرى، غير أنهما أكدا أن المرأة لم تعجز عن قيادة العقل الجمعي الذكوري، وأن الكثير من النساء أثبتن أن لديهم من القدرات الذهنية والخبرات العملية والمواهب الفطرية والملكات الإبداعية ما لا يقل عن تلك القدرات التي ادعى الرجال أنهم تميزوا بها عن النساء، كما أكد (لويس هنري مورجان (1818-1881م) و(فريدريك إنجلز (1820-1895م) أن المجتمعات البدائية كانت تسوسها النساء على نحو طبيعي، وذلك نظراً لأن الرجال كانوا مشغولين بالصيد والقنص وجمع الثمار من الغابات في حين كانت الأنثى تسوس الجماعة، بداية من تربية الصغار ونهاية بوضع القوانين والضوابط الحاكمة لسلوك الأفراد.

كما أوضحا أن هاتيك المجتمعات كانت قانعة بهذه القيادة الأنثوية استناداً على الأساطير التي جعلت من الأنثى هي الأصل وعلة وجود الذكر الذي لم يكن له وظيفة سوى إفراز وغرس (ماء اللقاح) ويضيف كل من الأمريكي (روبرت لووي) و(مالينوفسكي) أن الانقلاب الذكوري لم يظهر إلا مصاحباً للمجتمعات الزراعية التي مكنت الرجال من الاستقرار ودفعتهم إلى الهيمنة والسيطرة وفرض قوتهم العضلية على النساء في الحقول بداية من التحرش والاغتصاب، ونهاية بالاستيلاء على الغلال ومقاليد الحكم.

وفي عام 1971م قدّم الأمريكي (إدوارد جولد ديفيز) بحثاً أنثروبولوجياً أكد فيه نضج العقلية الأنثوية التي حكمت المجتمعات البدائية وكشف عن زيف الادعاءات والأسانيد التي اعتمد عليها الذكور في العصر الوسيط والقرون الأولى من عصر النهضة، تلك التي حصرت دور الأنثى في المتعة الجنسية وتجاهلت تماماً قدراتها الذهنية وملكاتها الإبداعية التي لا تقل كفاءة عن الذكور، ونزع إلى أن احتجاب المرأة وتخلفها وغيبتها عن اللعب على مسرح السياسة والفلسفة والأدب في الثقافة اليونانية والرومانية ثم الصينية والفارسية في القرون الخمسة السابقة على ميلاد المسيح، ترد إلى استبداد الرجال الذين توهموا أن فحولة بنيتهم الجسدية وجلدهم في القتال والدفاع عن أسوار المدن وعجز النساء عن ذلك، يشرع لهم الحق في الترأس عليهن والتحكم في أمورهن المعيشية، ويبرر ادعاءاتهم واتهاماتهم للنساء بما يبرأن منه مثل : الدنس والتحريض على الشر بإيعاز من الشيطان الذي تلبسهن، ذلك فضلاً عن قصورهن الذهني وحمقهن وشغفهن بالجنس والكيد للرجال بفتنتهن وتفننهن في إشباع شهوة الذكور بمختلف الأوضاع حتى لا ينصرفوا إلى مواقعة الغلمان عوضاً عنهن.

وعلى مقربة من ذلك ذهب الأمريكي (ريتشارد رينز) في كتابه "نحو أنثروبولجيا نسائية" إلى أن ثورة النساء على واقعهن ليست من الأمور المستبعدة، كما أن مطالبتهن بحقوقهن في الريادة والقيادة والولاية والرئاسة يجب علينا تقبلها تأسيساً على التاريخ الأنثوي التليد التي استبدت فيه النساء ليس بجمالهن ودلالهن وإغرائهن، بل بعقولهن وقدرتهن على تسييس الواقع.

أما الكتابات المعجمية الفلسفية فقد تناولت فلسفة الجنس في سياقات عامة مثل الثقافة الجنسية، وهى تلك المعارف التي تتحدث عن الجنس من حيث طبيعته الفسيولوجية والبيولوجية، والشهوة الجنسية، وسبل ضبطها والتحكم فيها عن طريق التربية والتوعية والنصح والوعظ الديني والتقويم الأخلاقي، وتوضيح الآثار السلبية للانحرافات الجنسية والتأكيد على أن الممارسة الطبيعية للجنس هي التي تحدث بين الذكر والأنثى، وأن المشروع منها هو المعلن بالزواج، وذلك حفاظاً على المعتقدات والعادات والتقاليد والشرائع السماوية، ذلك فضلاً عن البناء الاجتماعي النفسي للفرد والجماعة والصحة الجنسية بوجه عام. وقد نحت الموسوعات الأنثروبولوجية والاجتماعية والنفسية والتربوية عين المنحى. أمّا مصطلح الجنسية (Sexism) فقد ذاع في كتابات الاجتماعيين في منتصف القرن العشرين، وذلك في سياق الحديث عن نقد النظريات التي تميز بين الذكر والأنثى، تلك التي وصفت بالرؤى الذكورية، وذلك لنظرتها المتدنية للمرأة، تلك التي اعتبرتها مجرد أداة لإشباع المتعة الجنسية والتسري وإنجاب الأطفال والخدمة المنزلية، الأمر الذي ربط بين المرأة والشهوة الجنسية.

وقد استندت هذه النظرية إلى الموروث الثقافي الذي جمع في بنيته بين الأساطير والمعتقدات الشعبية والعقائد الدينية، وعلى الرغم من ظهور مئات الكتابات في العصر الحديث التي دعت للمساواة الكاملة بين الذكر والأنثى، واعتبار المرأة الشريك الإنساني والقرين الذي لا يمكن الاستغناء عنه للوجود البشري، إلا أن العقل الجمعي الأوروبي لم تتغير نظرته للمرأة ولا ربطه بين ماهيتها والعملية الجنسية؛ الأمر الذي أدى إلى ظهور العديد من المصطلحات ذات الصلة، أهمها : (الحركة الأنثوية، تسلط الرجال (Patriarchy)، سيطرة النساء) وذلك في كتاب الكاتبة الأمريكية (كيت موراي ميلليت (1934) سياسات الجنس الذي ظهر عام 1969م، وقد نقدت فيه الهيمنة الذكورية في شتى الميادين، بداية من الصيغ والدلالات اللغوية، ومروراً بالأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وانتهاء بالأعمال الفنية والأدبية والدعاية الإعلامية، مبينة أن المرأة هى إنسان وجدت مع الرجل ولا فضل له في وجودها، ومن ثم تنتفي كل الادعاءات التي تجعل منه وصي عليها، وتجعل منها تابعة له أو مجرد دمية أو وسيلة للمتعة، كما أن العملية الجنسية ما هى إلا علاقة حميمة ورغبة إرادية من الطرفين لا لتحقيق لذة أو متعة مشتركة أو إنجاب الأطفال فحسب، بل للتعبير عن وحدة الجنس البشري والوجود الإنساني الذي لا يتحقق إلا بتوافق ورضى بين المشاعر قبل الأعضاء الجنسية.

وعلى الجانب الآخر حاولت الكاتبة الفرنسية (كاثرين ميلليت (1948) بقلمها الصحفي الماجن الساخر في كتابها (حياتي الجنسية) توضيح أن الأطوار الجنسية الإنسانية لا تختلف بين الذكور والإناث، الأمر الذي يدحض اتهام المرأة بأنها شهوانية من جهة، أو وصفها بأنها ذلك الكائن الخانع المستسلم لرغبة الرجل والمسخر لإرضائه وإشباعه لاسترضائه من جهة ثانية، والعاجز عن اعتلاء عرش الفحولة التي يتوهمها الذكر، ففي مقدور أنثى واحدة مجامعة عشرة رجال في وقت واحد، الأمر الذي يعجز عنه الذكر من جهة ثالثة، وأن المثلية الجنسية ليست حكراً عليه؛ فيمكن للنساء إشباع شهوتهن عن طريق السحاق من جهة رابعة, أضف إلى ذلك كله أن قدرة المرأة على مواصلة العلاقات الحميمة تفوق الذكور بقدر كبير، كما أن صلاحية الرجل لممارسة الجنس مرهونة بلياقته البدنية التي لا تزيد عن ربع قرن، في حين أن فتنة المرأة ولياقتها الجنسية في المجتمعات الراقية يمكن أن تستمر لضعف تلك المدة، ناهيك عن النفقات التي تستنزف ثروات الرجال ولا سيما (المعاقين جنسياً، وكبار السن) على المخدرات والمنشطات للقيام بواجباتهم والتلذذ بمتعة الجماع. (وللحديث بقية في المقالة القادمة)

 

بقلم : د. عصمت نصار

 

 

في المثقف اليوم