أقلام فكرية

الفلسفة السياسية.. هل التحديث والديمقراطية يقودان للسلام؟

حاتم حميد محسنقبل دخول الدبابات الروسية الى اوكرانيا كان الانطباع السائد هو ان العالم اصبح اكثر سلمية مما كان عليه في العصور السابقة، وهو ما قاد المفكرين الى تطوير بعض النظريات لتوضيح هذه الحالة من التفاؤل. لننظر الان في ثلاث من تلك النظريات.

النظرية الاولى لفرنسيس فوكاياما. في كتابه نهاية التاريخ والانسان الأخير(1992) يجادل فوكاياما ان رؤية هيجل للتاريخ الانساني كانت ملائمة لفهم الطبيعة السياسية لزماننا الحالي. متأثرا بمفسر هيجل الفرنسي/الروسي الكسندر كوجيف، يرى فوكاياما ان مسار التاريخ كان نحو مجتمعات تحتضن الحرية الفردية والإعتراف. في هذه القصة، كان صعود العلم الحديث والتكنلوجيا ليس كافيا لتوضيح الانتشار التاريخي للحكومات الديمقراطية والايمان بحقوق الانسان. العلوم يمكنها ان تنتج مجتمعا استهلاكيا نابضا بالحياة، لكن الرغبة الانسانية القوية للاعتراف بالقيمة الذاتية للفرد في عيون الآخرين هي وحدها توضح الحاجة للحرية السياسية والحقوق. مايكل دويل Michael Doyle في عمله "نظرية السلام الديمقراطي" يركز جزئيا على الأعمال الفلسفية لعمانوئيل كانط و توماس بين Thomas Paine. دويل، من بين آخرين لاحظ في السبعينات من القرن الماضي ان "السلام " بين الديمقراطيات بدا متحقق عمليا. هو اعتبر هذا دعماً لآراء كانط وبين في القرن الثامن عشر بانه لكي تضمن السلام  يجب على الدول ان تصبح جمهورية (ديمقراطية باللغة الحديثة)، والذي سيلغي الحرب الى حد كبير. طبقا لرؤية منظّري السلام الديمقراطي، ان عدم اندلاع اية حرب بين الديمقراطيات منذ 100 سنة (1815-1914)،أثبت صحة أفكار هؤلاء مفكري التنوير .

لكن، قبل الاحتفال بانتصار رغبة هيجل بالاعتراف او جمهورية كانط في المساهمة نحو السلام العالمي نحن يجب، حسب ازار جات Azar Gat ان نكون واعين بقوة التحديث الصانعة للسلام ذاتها. جات المؤرخ الاسرائيلي الشهير للحرب والسلام، يعتقد انه لا الرغبة الانسانية بالحرية والاعتراف ولا انتشار الحكومات الديمقراطية كان مسؤولا عن اشاعة السلام الطويل بين القوى الديمقراطية الكبرى. هو يستخدم دليلا عن الطبيعة الحربية المتبادلة للديمقراطيات القديمة – حالة اثينا الديمقراطية مقابل مدينة سيراكيوز الامريكية – بالاضافة الى حرب عام 1812 والحرب الأهلية الامريكية، كلها استلزمت ديمقراطيات. ايضا من الملائم التأكيد على حقيقة ان كل من الديمقراطيات وغير الديمقراطيات كانت لديها نزعة متزايدة للامتناع عن الحرب في الـ 200 سنة الماضية. يرى جات، ان العامل الرئيسي الذي يوضح حالة السلام الدائم الأخير هو تحول الفكر العالمي، والثورة الصناعية، التي قادت الى خلق مجتمع تكنلوجي استهلاكي وكذلك الثقافة. هذا السلام سبق إلقاء القنبلة الذرية  رغم ان ذلك الحدث ساهم ايضا في استقرار العالم، طبقا لما ذكره جات في (الحرب في الحضارة الانسانية،2006).

التحديث قُصد به عدة أشياء. نمو متسارع بالثروة والراحة لاولئك المستفيدين منه. انه رفع من إمكانية التمتع بالحياة من خلال التمدين والثورة الجنسية والاستهلاكية والتكامل السياسي للمرأة والتغيرات السكانية التي كانت تعني ان هناك القليل من الرجال الشباب نسبيا – الذين هم تاريخيا المشاركون الرئيسيون في الحرب . في العالم ما قبل الحديث، كانت الحرب محاولة رابحة  محتملة، ولا يهم كثيرا منْ تُشن عليهم الحرب طالما هناك فرصة جيدة للفوز. غير انه مع صعود المجتمع التكنلوجي الصناعي، تغيرت نتائج اللعبة. باستمرار،هي خلقت (ولاتزال) معنى اكثر لتجنب الصراع وان لا تعرّض للخطر الفوائد الكبيرة للسلام بما في ذلك الصحة، الراحة. سننظر في السؤال كم مقدار الثروة والراحة الضروريان لإقناع الامم بالسلام. مقدار من التحديث ودرجة من الزخارف الديمقراطية لم يقنعا بوتين بتجنّب الحرب . وبالتأكيد، كانت القوى الاوربية الكبرى عام 1914 اكثر ثراءً مما هم عليه في عام 1814. التجارة بينهم كانت مزدهرة وخاصة بين المانيا وبريطانيا. مع ذلك، لم تمنع زيادة ثروتهم والراحة اندلاع الحرب العالمية الاولى، التي من بين خسائر اخرى، كانت تعني خسارة الاحتياطيات الهائلة للثروة الوطنية. وهكذا، نرى ان انفجار حربين عالميتين بالاضافة الى الصراعات الحديثة، ليست تفسيرا كافيا وفق نظرية جات في التحديث. في الحقيقة، ان الدوافع الايديولوجية والمعتقدات الثقافية تلعب دورا هاما في الصراعات. فمثلا، نرى ان صعود الفاشية ، وافكار ما قبل الحداثة في الشرف والرجولة، وصعود الدارونية الاجتماعية المندغمة بالقومية المحاربة، وحتى فلسفات نيتشة وسوريل sorel لعبت دورا كبيرا في خلق ظروف الحرب العالمية الثانية. نرى ان التحديث، مع انه مهم لتوضيح السلام النسبي بين القوى الاوربية للفترة بين 1815 – 1914، لكنه ليس كافيا لتفسير مسؤولية  العنف في النصف الاول من القرن العشرين وما بعده.

في النهاية، اذا كان جات صائبا وبالرغم من بلوغ العالم عتبة الازدهار الصانع للسلام عندئذ قد يجادل المرء بانه ليس مهما جدا للدول ان تكون ديمقراطية مثلما هو مهم ان تكون ثرية. الثروة عادة تخفف من روح الحرب. هذا عرفه الفلاسفة منذ الاف السنين. لكن الطريق للثروة الحديثة هو من خلال التجارة والتكنلوجيا والتطور العلمي الشامل والتعليم. لذا نحن ربما نجد بعض العزاء والأمل الكبير  في الصعود الاقتصادي الحديث للصين، البلد الذي ركّز جيدا على زيادة ثروة الامة والرفاهية. قد يكون التطور المادي كافيا لتجنب صراع آخر للقوى الكبرى في المستقبل. حتى الان، يُعد هذا اختبارا اكثر من كونه مجرد نظريات أكاديمية للسلام.

***

حاتم حميد محسن

 

في المثقف اليوم