أقلام فكرية

جان فرانسوا دورتييه: هل حدثت ثورة علمية؟

بقلم: جان فرانسوا دورتييه

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

لقد اعتبرت فكرة " ثورة علميّة"، وهي الفكرة التي صاغها الكسندر كويري وأشاعها طوماس كوهن، بمثابة بداهة. إلى حدّ وصول جيل جديد من مؤرخي العلوم وضعوا الفكرة موضع السؤال من ناحية زمانها ووحدتها في آن واحد.

تقول الأسطورة إنه في ماي 1543، تمكّن نيكولا كوبرنيك، وقبل أن يسلم الروح، من أن يمسك كتابه بين يديه، وقد خرج للتوّ من المطبعة. أكّد الفلكي البولوني في كتابه :" ثورات الأفلاك السماوية"، بأنّ الأرض ليست في مركز الكون! في 1633 جاء الدور على قاليلي ليثبت صلوحية أطروحة كوبرنيك. وإذا ما كانت الكنيسة قد أدانت الرؤية الجديدة التي اقترحها هذان الرجللآن، فذاك أمر لا يهمّ : فالثورة العلمية تخطّ طريقها. أكد قاليلي في " حوار حول النظامين الكبيرين للعالم" (1632)، بأنّ " الطبيعة مكتوبة بلغة رياضية". وأن هذه القوانين يمكن أن تكتشف بفضل الحساب، والملاحظة والتجريب.

واصل علماء ذاع صيتهم أمثال ديكارت وليبنتز وجاسندي وهوينغنز وغيرهم كثير، وفي بعض العشرات من السنين، السير في هذا الطريق المفتوح. ليستكمل مسار الثورة العلمية مع نيوتن. عرض نيوتن في كتابه " المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية" (1687)، قانون الجاذبية الكونية: قمّة العلم الكلاسيكيّ. لقد حدث بين كوبرنيك ونيوتن تحوّل علميّ : فقد اعتبرت الطبيعة من هنا فصاعدا محكومة بقوانين كونية يمكن كشفها بفضل الرياضيات والتجريب. نشأ العلم الكلاسيكي إذن...

هذه هي قصّة الثورة العلميّة مثلما تدرّس لزمن طويل، مبسّطة وفي عرض مختصر. تلك هي الحكاية التي لابدّ لنا مع ذلك من مراجعتها...

زمن الثــــــــــورات

لنعد أولا إلى مقولة " ثورة علمية". تدين هذه المقولة بنجاحها إلى عمل مؤرخين وفيلسوفيْ علوم: الكسندر كويري (1892-1964) وطوماس كوهن 1922-2009)، وإلى بعض الباحثين الأقلّ شهرة أمثال ريبار هال (1920- 2009) وهيبار بوتارفيلد (1900-1979). (1)

تنطلق فكرة هؤلاء من منطلق بسيط: لا يتقدّم العلم بطريقة خطية ومسترسلة على مدار الاكتشافات، مثلما يقرّ بذلك فلاسفة العلم للجيل السابق أمثال بيار دوهايم (1861-1916) أو ليون برانشفيك (1869-1944). يقدر هؤلاء المؤرخين، على العكس، بأن العلم يعرف في مساره، مثل المجتمعات، طفرات وثورات. توجد أوقات تضمحلّ فيها أنماط الفكر القديمة التي هيمنت طيلة قرون لتحلّ محلّها رؤية جديدة للعالم .

لقد كان ألكسندر كويري أوّل المساندين لهذه الرؤية. ولد هذا الأخير في روسيا، وساهم منذ سنّ 15 في الثورة الروسية. وقع إيقافه وسجن بعض أشهر، اكتشف فيها الفلسفة. وبعد سنوات، لما هاجر إلى ألمانيا ثم إلى فرنسا، بدأ مشواره كفيلسوف بدراسة تاريخ التصوّف، قبل أن ينكبّ على دراسة تاريخ العلوم. تتعلّق بحوثه بالكوسمولوجيا منذ القرن 16 و 17 م وخاصة بأعمال كوبرنيك، وجوهانس كبلر وقاليلي. وقد اتسمت هذه الفترة حسب كويري، بـ"بتحوّل في أطر التفكير ". فمن الكون المغلق، حيث الأرض هي المركز، نمرّ إلى "العالم المفتوح"« Univers infini »,، لتكون الأرض مجرد كوكب من بين كواكب أخرى (2). وقد كان " ترييض الفضاء" « mathématisation de l’espace », أي تطبيق الرياضيات على دراسة القوة والحركة، هو التجديد المفهومي الآخر لهذه المرحلة. ففي 1961، اختزل كويري مقاربته في عنوان صريح : الثورة الفلكية La Révolution astronomique.

الثورة العلمية حسب كوهن

لقد أدخل كويري فكرة الثورة العلمية. غير أن طوماس كوهن هو الذي فرضها. ولد كوهن في " أوهايو"(الولايات المتحدة)، تابع دراسته للفيزياء قبل أن يحول وجهته نحو تاريخ العلوم. وفي أوربا اكتُشف كوهن مُؤَلَفَ أ. كويري أو جاستون باشلار اللذان أثرا فيه تأثيرا بالغا. نشر كوهن، بمناسبة عودته إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كتاب " الثورة الكوبرنيكية" La Révolution copernicienne (1957) ثم كتابه الرئيسي بعد خمس سنوات " بنية الثورات العلمية " la structure des révolutions scientifiques (1962) .

اعتمد كويري على غرار كوهن مِثَاَل كوبرنيك لإدخال مقولة " الثورة " في العلوم. يرى كوهن أنه طيلة فترات طويلة من التاريخ تفكر العلوم في الطبيعة انطلاقا من نموذج مهيمن . يطلق طوماس كوهن عبارة " باراديغم" (نموذج إرشادي) على هذا الإطار الذهني المكوّن من نظام فرضيات متصلة ببعضها بعضا تُنْجِزُ "الجماعة" العلمية داخلها بحوثها. يحصر رجل العلم داخل الفضاء النظري المحدد بهذا الباراديغم، بحوثه في حلّ الألغاز الصغيرة (" بيزل (« puzzles ») التي لا تخرج عن المعايير القائمة. ويشتغل " العلم العادي" « science normale » على هذا النحو إلى أن يعرف هذا النموذج أزمة . فتكون الأرضية سانحة ليستقرّ باراديغم أو نموذج إرشادي جديد . نمرّ هكذا من فيزياء أرسطو إلى فيزياء كوبرنيك، ثمّ إلى فيزياء نيوتن. وتكون الفيزياء الكلاسية قد وقع تجاوزها "بـثورات"، حصلت في بداية القرن20م، هي نظرية النسبية ونظرية الكوانطوم quanta..

لقد كان لكتاب " بنية الثورات العلمية " تأثيره الكبير إبان ظهوره 1962. ليوجد في مجال تاريخ العلوم، ما هو قبل كوهن وما هو بعده. وتفرض فكرة الثورة العلمية نفسها مثل بداهة ... إلى حدّ أنْ تظنّن البعض عليها ...

لا توجد ثورة علمية ...

" لم توجد الثورة العلمية أبدا ومع ذلك خُصّص لها هذا الكتاب ." (3). هذا هو الإعلان المثير الذي يفتتح كتاب ستيفن شابان Steven Shapin " الثورة العلمية " La Révolution scientifique (1996). يبدو أن هذا العنوان مع ذلك، يُدرج الكتاب ضمن استمراريةٍ لرؤية كويري وكوهن. يحتلّ ستيفن شابان كرسيّ تاريخ العلوم في هافارد، ويمثل جزءا من الرقابة الشابة للسوسيولوجيين ومؤرخي العلوم الذين واجهوا أفكار شيوخهم.

ومنذ ذلك الحين حذا حذوهم باحثون آخرون. " لقد وضع المؤرخون منذ ثلاثين سنة جذريا مقولة " الثورة العلمية" على المحكّ "، كما كتب ستيفان فان دام في افتتاحية الجزء الأول من كتابه الحديث تاريخ العلوم والمعارف" (4).

لقد وُجّه لمفهوم " الثورة العلمية " أربع أنواع من النقد:

* يتعلّق المأخذ الأول بفكرة " القطيعة" ذاتها

تفترض ثورة جديرة بهذا الاسم تحوّلا مفاجأ بين نظام قديم ونظام جديد. تنطلق فرضية " الثورية" من مبدأ فَرْضِ فيزياء جديدة نفسها في القرن 17م بإسقاط التمثّل القديم للعالم . إلاّ أن المؤرخين قد بينوا أنّ تحوّلاتٍ تحدث في الأثناء منذ العصر الوسيط. صلب الكنيسة ذاتها، أين يشتغل رجال دين بعدُ، أمثال غيوم دي كونش (1080-1150)، وجان دي ساليسبري(1115- 1180) أو ألبار لوغران (1200-1280)، لصالح علمٍ جديد يتميّز عن اللاهوت المسيحيّ الرسمي. لقد اتسم القرن 12م بنشاط كثيف للمعارف العربية في علم الفلك والطبّ والرياضيات. ثمّ، مع الثورة العمرانية للقرن 12م وميلاد الجامعات، متبوعة بالنهضة الإيطالية، انبثقت أفكار جديدة. إنّ التقدّم العلمي للقرن 17 ليس إذن طفرة فكرية مفاجأة، بل تحوّلا بدأ منذ ثلاثة قرون من قبل.

* نقد ثان يتعلّق بأسباب الثورة العلمية

تكون الثورة العلمية في منظور كويري وباشلار أو كوهن ثورة فكرية أو ذهنية، تحوّل مفاجئ للإطار الذهني. يحدث ذلك كله في مملكة الأفكار. إلاّ أن علماء الاجتماع والمؤرخين يؤكّدون بأن العلم اليوم لا يعيش في وعاء مغلق، في عالم أثيري للمفاهيم والتفكير. فلن توجد الثورة الذهنية دون أساس اجتماعي، واقتصادي وتقني حدث في عصر النهضة وفي العصر الحديث. مثال على ذلك؟ إذا ما استطاع قليلي (1610) صناعة تيليسكوبه أو منظاره وَوجّهه نحو السماء، فذلك لأنّ النظارات ذات المدى البعيد تشكّل جزءا من الأدوات الجديدة للملاحة الضرورية، للملاحة في أعالي البحار التي لا تنفصل عن تقدّم التجارة البحرية. وليس من قبيل الصدفة إذا ما صُنعت أولى نظارات المدى البعيد في هولاندا التي هي إذن على وشك أن تصبح أول قوّة بحرية للعالم الغربيّ. يمكننا أن نعدّد الأمثلة التي تشهد بارتباط العلوم بتقدّم الاقتصاد والتحوّلات الاجتماعية و تطوّر التقنيات .

* خط آخر لنقد الفكرة يتعلق حتى بطبيعة " العلم الكلاسيكي"

تحمل " الثورة العلمية " حسب كويري تجديدان رئيسيان: ترييض الطبيعة (حساب السرعة، ومسارات الأجسام) واعتماد المنهج التجريبيّ. إلاّ أنّ التّمشي الذي يدعو له ديكارت مُّؤسّس على البرهنة والاستنتاج لا على التجريب. وفي نفس العصر الذي يدعو فيه الأنجليزي فرانسيس بيكون في " نوفوم أرغانون "الأرغانون الجديد" Novum organum (1620)، على العكس، إلى استخدام المنهج التجريبي. إنّ الاستنتاج المحض أو التجربة هما طريقتان مختلفتان في تصوّر التمشي العلمي.

وفضلا عن ذلك، فإنّ كلّ علوم القرن 17م ليست مبنية على نفس النموذج الفيزيائي. وقد عرفت أيضا العلوم الطبيعية، علم النبات أو علم الحيوان، في هذا العصر تقدّما ملحوظا. وقد سمحت الرحلات بجلب ملايين الأنواع الجديدة من النباتات، والحيوانات التي يجب وصفها وتصنيفها. إنّ نموذج الثورة العلمية الذي يدافع عنه كويري أو كوهن كان مؤسّسا على الفيزياء الكلاسيكية، ولا يمكن أن يُطَبّق كما هو على العلوم الطبيعيّة أو على الطبّ. فقد عرفت هذه التخصّصات ديناميكيتها الخاصّة وزمانيتها التي لا تتلاءم مع النماذج الإرشادية أو الباراديغمات التي يقترحها كوهن.

* تقابل كاريكاتوري بين العلم والدين

وقع وصف الثورة العلمية أيضا بما هي تقابلا كليا بين معرفة قديمة كُتُبيّة livresque، ودغمائية ومندرجة ضمن إطار دينيّ وفكر علمي جديد مؤسّس على الوقائع، وعلى العقل وعلمنة المعرفة. وحتى نختصر القول، عالمان سيتناقضان: من جهة، رجال الدين، الذين يستمدّون مرجعيتهم من الكتابات المقدسة، ومن جهة أخرى، يوجد علماء يعنيهم فحسب " كتاب الطبيعة" (قاليلي). إلاّ أنّ هذا التقابل الكاركاتوري قد أُعيد النظر فيه بشكل واسع. فلم ينشأ العلم الحديث صلب الكنيسة فحسب، بل أكثر من ذلك، كون غالبيية عظمى من العلماء اللائكيين الذي صنعوا العلم الكلاسيكي، مثل كبلر وديكارت وباسكال وليبنتز وبويل أو نيوتن كانوا مسيحيين ورعين.

استمرارية، ثورة أو تحوّل

لقد وقعت إذن مناهضة الثورة العلمية في تحقيبها ومحتواها ووحدة منهجها. لتختلط الأوراق من هنا فصاعدا. مثلما يلاحظ ذلك بخبث المؤرخ لورانس برانسيب Lawrence Principe :" اسألوا عشرة مؤرخي علوم ما هي طبيعتها (الثورة العلمية)وديمومتها وأثرها وستكونون على يقين بتقبّل على الأقلّ، خمسة عشرة جوابا مختلفا ".(5)

ومع ذلك يستمرّ لورانس برانسيب وغيره في استعمال عبارة " الثورة العلميّة". غير أنّهم يفعلون ذلك في دلالة أكثر ثراء بالنظر إلى تصوّرات كويري أو طوماس كوهن. فإذا كانت الثورة العلمية قد حدثت، فإنه يجب، حسب هؤلاء، إعادة النظر في إطارها الزمني (بدأت في القرن 12 م وليس القرن 17م)، وإعادة التفكير في محتواها (لا تنحصر في الفيزياء، بل تمسّ تخصّصات أخرى)، وأخيرا لا يجب اختصارها في ثورة ذهنية يحملها بعض العباقرة، بل النظر إليها بما هي حصيلة تحوّل اجتماعي واقتصاديّ أكثر عمقا.

لا يمكن أن نفكّرإذن، من هنا فصاعدا في ثورة العلوم والمعارف التي أدّت إلى ميلاد العلوم الحديثة إلاّ في هذا الإطار من التحليل الموسّع."

***

.......................

* مجلّة " العلوم الانسانية " عدد 48 سبتمبر - أكتوبر - نوفمبر 2017

المصدر:

https://www.scienceshumaines.com/la-revolution-scientifique-a- t-elle-eu-lieu_fr_38560.html -Jean-François Dortier - Grands Dossiers N° 48 - Septembre-octobre-novembre 2017

- هوامش:

1- أنظر ستيفن شابان / الثورة العلمية، فلاماريون 1998

2- الكسندر كويري، من الكون المغلق إلى العالم المفتوح، 1957، طبعة جديدة قاليمار، سلسلة " تال " 1988.

3- ستيفن شابان، المرجع أعلاه

4- ستيفان فاندام، تاريخ العلوم والمعارف، الجزء 1 من النهضة إلى الأنوار، سوي 2015.

5- لورانس برانسيب، الثورة العلمية، مدخل موجز جامعة أكفورد براس 2011.

في المثقف اليوم