أقلام فكرية

محمد يونس محمد: الترجيح الوصفي للنقد الثقافي

في البداية نشير بأن النقد ليس مظهر عرض ومكاشفة بلا ردود أفعال في القراءة أو المستوى البصري، والنقد قيمة إبداعية يؤطرها منهج ملائم للوعي النقدي، فالمنهج البنيوي للنقد اعتمد على مفهوم متأصل وفاعل، وكذلك المنهج التفكيكي للنقد استخدم ذات الصيغ، وإذا كانت صيرورة النقد قد تلاشى أثرها، فهذا لا يعني عدم رجاحة السيرورة وانعدام تماسكها، فالنقد الكلاسيكي الذي كان يوجه منظوره إلى الذات الكاتبة، والتي يعتبر بها أن المؤلف هو الجهة المسؤولة عن عملية الكتابة بمجملها، لذا يقع عليه عاتق ويتحمل ردود الأفعال على ما كتب، وفي التفسير الموضوعي لا بد من أن توازي مسؤولية النقد ذات المسؤولية التي يتصف بها المؤلف، والذي إذا كان جهة الخطاب، وهي جهة توثيق التعاقد مع جهة التلقي، لكن تمنح التلقي الحرية الكاملة، ولا تمنع عنها أي صيغة من صيغ التأويل، وقد منح النقد الكلاسيكي نفسه مسؤولية تجاوزت الحدود والأعراف، فقد أزاح عن زاوية المنظور رأس المؤلف وحل محله، وتلك أحد الوجوه الإشكالية في النقد الكلاسيكي، والتي في مواقف عدة شخص المؤلف في حرج كبير.

مسار النقد المؤطر بالمنهج استمرت سيرورته بشكل مستقيم، وذلك يعني من جهة عضوية بأن ذلك المنهج يهدف إلى الاقتران بمنهج الرياضيات، حيث توجد صيغ البراهين ملموسة وبلوغ النتائج أيضا مرتبط بها، والنقد داخل هذا المعنى لا يكون بذلك الامتياز المرجو له من جهة الكتابة الأدبية والفنية، والنقد قيمة وليس كشف حساب، وقد لعبت المعرفة النقدية الدور الأهم في النشاط الفكر والفلسفي للنقد، وهذا التطور يفسر ليس كسياق عابر، بل هو سياق السياقات كما يرى هانز غادمير، فالمنعرج بتلك الديناميكية يمنح طاقة النقد طاقة مضافة، ويؤهل النقد إلى كشف ما لم يكشف في المادة المكتوبة، والنزوع إلى معالجة النص من الظاهر وبنفس المستوى تكون المعالجة النقدية من الجوهر النصي، والنص سيكون في التلقي النقدي أمام معرفة مؤهلة لكشف المضامين ومعالجة جميع المستويات الدلالية، وهنا يرجح الوعي النقدي خارج أي تفسير أيديولوجي، ولا يكون كرد فعل للنص فقط، فتلك آلية تمرر دون قصد أو غاية، والنقد يكون هو الذئب الذي اتهم بقتل يوسف إذا جاز التوصيف، فهو لا بد من أن  يكون ببراءة تامة.

من أهم الأسس التي يقف المنهج النقدي ويرتكز على ثوابتها التاريخية، في أن يكون جهة تلقى ليست كرد فعل، كي لا يحدد في التفسير الفيزيائي كفعل ورد فعل، والنقد لا يدخل في صيغة العرض والطلب، بل النقد في حقيقته اختيار، وقد ينجم ذلك الاختيار من تأثير متعة جمالية وليست بنفسية، وإذا كان للحداثة من دور في تحديد المنهج النقدي، فقد أتاحت ما بعد الحداثة للنقد مساحة أوسع بكثير، وقد لعبت الفلسفة الدور المشترك، فالفلسفة التي أعادت للميتافيزيقا هيبتها، دعمت آليا ما بعد الحداثة لتستغل تلك الميتافيزيقا في أطر موضوعية، وهذا أتاح للنقد من استثمار حتى الخيال النقدي، ولا نقول قد تحول النقد في ظروف ما بعد الحداثة إلى أركان اصطلاحية عديدة، ليواكب ما طرأ على الكتابة من تحولات نوعية، ولعب مفهوم تداخل الأجناس دوره في تأهيل النص إلى حد كبير، وعلى وجه الخصوص في الكتابة المرئية، أو نص ألفيس بوك، والذي نجده إشكاليا، إذ هناك نصوص لا تضع إطار الجنس كمبدأ كتابة أول وتنطلق منه.

إذا قلنا لقد تجاوز النقد محنة هيمنة نظام الحداثة وتطلعت المناهج النقدية إلى آفاق ما بعد الحداثة الرحبة لتستمد منها بلوغ المناطق التي تطلع إليها الأدب وقد بلغها، وبما أن النقد عليه بلوغ تلك المناطق ليواكب التطورات الأدبية، وعدم مواكبتها لا تعني فقط وجود حالة قصور في البنية النقدية، بل يدل على انقطاع المسار النقدي وتلك ظاهرة ليست مقبولة وتضع النقد في موضع لا يليق به، وصراحة ما بعد الحداثة حررت المعرفة النقدية وفتحت لها السبل في جميع الاتجاهات، فنشطت المعرفة كجهة نقد في طبيعتها المرنة وازدادت تطلعا إلى الاهتمام بالأفكار الجديدة الأدبية التي تجاوزت المنطق العام، واتجهت إلى منطق خاص يلائمها أكثر من سابقه، وصراحة المعرفة النقدية أنقذت النقد من الترهل أو الجمود، فالنقد أصبح أكثر قيمة ولقي اهتماما به بعدما لم يضع أمام الأدب أية شروط صارمة عدا التفريق بين جنس أدبي وآخر، بل تصاعد نسق المعرفة النقدية إلى حدود قصوى، فمسألة القيمة الجمالية لم يعد الأدب يفكر ببلوغ أقصى المراحل لبلوغ القمة الجمالية لها، بل اتخذ مسارا آخر لتجاوز ذلك، وقدم لنا تصور حساس، لكن وجدنا له آثارا بائنة، حيث فكر الأدب بفكرة حرجة طرحها فيكتور هوغو في رواية – أحدب نوتر دام – إذ أصبح القبح بمضمون جمالي، أي لا بد ألا نفكر بالشكل، بل بالمضمون، وكما قدم جماعة كل تل تفسران جديدا للرواية، يتجاوز كثيرا التفسير السالف، فلم تعد الرواية ذلك البحث الاجتماعي الشيق، بل تلك اللعبة الجديرة فنيا، واليس يوسا في رواية – مديح زوجة الأب قد وضع النقد المحدد السمات في محنة، بعدما اقترح شكلا جديدا إلى أقصى الحدود، وكسر به كل منطق قديم للرواية والمجتمع على حد سواء، وإذا بلغ النص تلك الحدود وبقي النقد يفكر بقداسة المقاسات وربوبية الأدوات فلا جدوى منه، لكن صراحة صيغ النقد التقليدية هناك من لم شملها وحدثها بوصفها منهجا ما بعد حداثيا تكامليا في صيغة ثقافية هي توازي التطلعات المعرفية للنقد، وتتواصل مع السيرورة الأدبية النشطة بشكل غير اعتيادي ومواكبة ذلك النشاط الحثيث.

لقد نشط بشكل واسع مفهوم النقد الثقافي، وترجيح مثال مركب من وعي سياسي ووعي ثقافي كما مؤشر في خطاب الناقد الأمريكي فريدريك جيمسون، وفي تفسيرنا الموضوعي والفلسفي نجد ذلك النقد نتاج تلك الظاهرة وليس بمنهج متفق عليه، فالثقافة ظاهرة واسعة ومترامية ومتحركة، وهي حقيقة إن لم تكن واقعية فهي جوهرية، وهنا تكون أوسع في مجال الصدق، وأما ركن السياسة فيضع النقد الموجه إليه في زاوية الخيانة، والثقافة عالم أفكار أدبية وفنية، ولا مرجعيات شخصية يحال لها الأمر، فالثقافة في التفسير الفلسفي نجدها بنية من نوع مختلف، حيث تشكل تلك البنية بنى متفقة بنيويا، فيشكل كل من الآداب والفنون ركني تلك البنية أو الظاهرة التاريخية، والثقافة بحد ذاتها ليست مستوى دلاليا، إلا في الخطابات الشخصية، وإزاء بنية النقد الثقافي (يطرح فنسنت ليت مصطلح النقد الثقافي مسم مشروعه النقدي بهذا الاسم تحديدا، ويجعله رديفا لمصطلحي ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية) 1، وتحتاج تلك المسألة تفصيلات واسعة، لكن إشارة مصطلح مناسبة تماما، وهنا تكون في باب الماهية وليست في باب الكينونة.

يتعارض تماما النقد الثقافي مع المنهج الأخلاقي للنقد، وذلك التعارض أكثر ما عمل في عبد الله الغذامي، وصراحة نتوجه إلى فلسفة تبناها رولان بارت ترى بأن النص السيئ هو من يولد رد فعل شيء، ونحن لسنا إزاء الإساءة بل إزاء موقف النقد الثقافي خصوصا عند عبد الله الغذامي، وذلك المصطلح المستحدث يعيد المفهوم النقدي إلى مرحلة سابقة من مراحل الحداثة، فتناول ذات المؤلف وأبعادها التاريخية هي جانب شخصي، والنقد من أساس مهمته دراسة بنية النص بكل تركيباتها وأبعادها، وفارق كبير ما بين سلوك النص وسلوك المؤلف، فالنص عضويا هو مادة أدبية أو فنية مكتوبة أو مرسومة، وربما يبلغ إلى حد فكرة بيكاسو حين سأله الجند عن من رسم لوحة الجرونيكا فقال لهم: أنتم من رسمها، ومن جهة أخرى دوستوفسكي يرى بأن الفنان يصنع شخوصه، ومن ثم يتعلم منهم كيف سيعيش، وإذا كان النقد الثقافي يبحث عن الحقيقة، فهو غير ملزم أبدا، والحقيقة التي امامه لا تهمه، وتشكل حقيقة النص الاهمية الكبرى التي عليه بالبحث عنها.

إذا كنا نعيش نظرية النص، فعلينا استبعاد كل ما لا يرتبط بالنص، وعلى وجه الخصوص بعد طرح نظرية تداخل الأجناس، وعلى النقد المعاصر أن يعي دوره وموقعه، وأن يستبعد ما تشبث به النقد الماركسي أو المنهج السياقية، وهناك (تأكيد للمعتقد المألوف للنقد الجديد عن استقلال العمل الأدبي أو اكتفائه بنفسه عن مهاده التاريخي وعن حياة صاحبه، فلقد آمن النقاد الجدد أن وحدة النص لا تكمن في مقصد المؤلف بل في بنية النص) 2، وتشكل الذات الشخصية في عملية الكتابة ليس هناك ذلك القالب، بل هناك أسلوب مرتبط بوعي وتجربة، وإذا كانت عملية الكتابة توصف في ظروف الحداثة بأنها انعكاسا للذات الشخصية للمؤلف وتقف عندها ولا تتعداها، ومن زمن طويل فصلت فريجينا وولف ما بين القارئ الاجتماعي والقارئ الضمني كما أسماه ولفاقتك ليزر، وقد تطورت الفكرة إلى وجود القارئ الجمعي المفترض، بعد ما تحول النص الورقي إلى نص ضوئي، وصار متاح للجميع، لكن يبقى التلقي الضمني هو الأقرب مساحة للنص، وهذا النوع من التلقي ليس فيما بعد المنهج اتجه إلى ذلك المصطلح المسمى بالنقد الثقافي، بل جرى العكس في تبني البعض لذلك المصطلح النقد الثقافي.

***

محمد يونس محمد

......................

1- مدخل الى نظرية النقد الثقافي المقارن، أ. د . حفناوي بعلي، منشورات الاختلاف، ص 43

2- النظرية الادبية المعاصرة، رامان سلدن، ترجمة جابر عصفور، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، ص 121

في المثقف اليوم