أقلام فكرية

سامي عبد العال: هل هناك عقل ديني؟

ما الذي يُضير في أنْ يكون العقلُ عقلاً والدينُ ديناً؟! حيث يُوجد خلطٌ واضح بين حدود (العقل) وحدود (الدين)، تلك المشكلة التي دعت بعضَ أقطاب الفكر الإسلامي والمسيحي لإيجاد التبرير والتوفيق بينهما. فأحدُهم قد يحاول ايجاد سببٍ لهذا الوضع أو ذاك، وآخر يقاربُ المسافةَ المشتركة، وغيرهما يقفز من داخل الدين إلى فضاءِ العقل والعكس. مؤكداً على أنَّ الحدود بينهما مرنةٌ، وليس هناك ما يُعكر صفو العقل بسبب الأديان، وليس هناك ما يدعُو لحذر الأديان تجاه العقل!!

مع أنَّ الموضوع برمته يندرج في دائرة "خلق المشكلات" الوهمية. فإذا كان هناك اختلاف- كما يقول لسان الحال- بين طرفين، فينبغي وجود اتفاق من باب الإمساك برأسي الحقيقة. لكن دوماً هناك رؤوساً متعددة للحقيقة رغم أننا نصر في غالب الأحيان على وجود رأس واحد أو رأسين على أكثر تقدير. إنَّ افتعال مشكلة العقل والدين هو المقدمة التي قد تفرز نتائج مقبولة سلفاً. نتائج متعلقة بإثبات ما نعتقد وما نتصور صحته بصرف النظر عن التفكير النقدي في المسألة. هذا الأسلوب المعروف عندما تكون الأفكار غيرَ قابلةٍ للتحقُق وتميلُ إلى الأوهام. وكأننا نحاول جمع طرفين نراهما ضروريين للحياة والمجتمع. ويصبح القولُ العام كالتالي: إنَّه لئن جرت العادةُ على افتراض الجمع بين العقل والدين، فيجب أنْ يجري الفكرُ بالتبعية في الإتجاه نفسه!!

ثمَّ فجأةً ندرك أنَّ صناعة المشكلة (حدود العقل والدين) سحبت خلفها محاولات من الكر والفر، ورسمت ميداناً كلامياً (كما في الفكر الإسلامي) وحقلاً فلسفياً (فلسفات أوروبا الوسطى) لمعالجة قضايا غير دقيقة أصلاً. ولعلنا نلاحظ من حيث المبدأ أنَّ خلطاً كهذا لا يظهر إلاَّ في أجواءٍ ثقافيةٍ شائكة. أجواء تعلو فيها أصوات الجدل والنقاش حول قضايا مُثارة من لا مصدر بعينه، وتسودُ فيها الإتهامات وصراع العقائد، سواء أكانت خلال فترة إزدهار الفكر الإسلامي أم خلال انتعاش الفكر المسيحي وتماسهما مع الثقافات الأخرى. وضمن الجانبين، ظهر حاملوا لواء التوفيق والتلفيق بين العقل والدين، إذ لم تخلُو معالجة القضايا من مماحكات فلسفيةٍ دون واقع فعلي.

وكذلك يفترض خلطُ العقل والدين وجود (مرجعيةٍ ما) هي المسئولة عن ذلك التداخل وتحاول توظيف الخلط عبر خطابٍ سيُقال إنه خطاب عقلاني أو معتدل لرؤية الواقع وممارساته. ولذلك، فإنَّ المفكرين والفلاسفة الذين يأخذون بالتوفيق بين الدين والفلسفة يعتبرونه توفيقاً بالنسبة لكذا. وكذا المقصودة هنا هي الشريعة أو هي ما ستقوله مرجعيةٌ لاهوتيةٌ أو أيديولوجيا ما أو مرجعية عقلية بعينها. والملاحظ أنَّ معادلة التداخل تتم وفقاً لثقل إحدى طرفيها (الدين مثلاً) على حساب الآخر (العقل). ولكن ليس ذلك مهما بالنسبة للمتابعين، إنما الأهم أنَّ خلطاً كالخلط السابق يقلص رقعة الحرية الإنسانية ورقعة العقل ورقعة الشريعة معاً. لأنَّ التوفيق بين الفلسفة والدين يحدث على حاشية أنَّ الدين يفسحُ المجال لإعمال العقول والتفكير، ويطلقُ قدرات البشر... فهل ذلك صحيح؟!

الأمر غير صحيحٍ، لأنَّ القضية لا يجب أنْ تقال هكذا، فالدين ليس عقلاً ولن يكون. هو إيمان وطاقات مفتوحة للتعالي الحُر، وقد يرتبط بالاعتقاد المقيد (بمصادر ما) تبعاً للظرف الثقافي الغالب. وهناك فارق جوهري بين كون الدين عقلاً، وهذا ما لا يُحتمل بالنسبة للإنسان، وكون الدين يسمح بالتعقل. الدين عقل..عبارة متناقضة الحدود والجوهر والدين متعالٍ وفوق مستوى الوعي البشري، بينما حين يسمح الدين باستعمال العقل، فهو مسألة نسبية ومتوقفة على سلطة الدين.

إنَّ الدين بمثابة الدين هكذا فقط موصوفاً بذاته لا بغيره. وهو كإيمان سببٌ كافٍ بنفسه لأنْ يُسمي الدين بالدين دون إضافةٍ ودون علاقةٍ. فهناك أُناس أحرار يقبلون إيماناً على النحو الطلق، وهناك آخرون مقيدون حرفياً بتعاليم ورسوم فرضتها الأديان جمعياً. ولذلك قد يؤمن الناس تلقائياً، وليسوا مطالبين بتبرير ايمانهم، لأنه إيمان غير قابل للتبرير. وربما لو حدث تبريرٌ في هذا السياق، لفقد الدين معناه بالنسبة لصاحبه. بينما العقل هو قدرة الانسان على التفكير، وتدعيم أساسه الممتد نحو الإدراك والمعرفة.

والأساس العقلي عادةً ما يُبرر نفسه بنفسه كذلك لا بشيءٍ سواه، فلا يُوجد عقلٌّ دون أنْ يرجع إلى منطلقاته بلا وصاية. ولو رجع العقلُّ إلى سواه، فهذا يلغي وجوده ويعتبر ذاته عالةً على شيءٍ آخر. إذن الاثنان (الدين والعقل) لا مجال للمقارنة بينهما، هما مستقلان بحكم الطبيعة الذاتية لكل منهما، هما كافيان لممارسة وجودهما المستقل. وبالتأكيد سيتنافران إذا كان أحدهما حاكماً للآخر، لا لكونهما غير قابلين لذلك الصراع، بل لأنهما مجالان مختلفان، حتى أنَّ التوقف إزاء أحدهما يستدعي بالضرورة التوقف إزاء الثاني.

إنَّ التوفيق بين العقل والدين يثير مشكلات أكثر مما يقدمُ من حلول. فلو كان أمرُ التوفيق سهلاً هكذا، فهل يمكن قياس الدين بالعقل؟، بل حتى: هل يمكن قياس بعض الدين ببعض العقل.. ولكن سيظل السؤال لحوحاً: ماذا عن الباقي؟! وهل يعد العقل حجةً على الدين؟ وكيف سيكون المحدود حجة على المطلق؟ وما الجوانب العقلية التي تتوافق مع الدين، وما الجوانب المغايرة التي تختلف؟ وما حدود التوافق بينهما وما حدود الاختلاف؟ وبناء على أي معايير يتم النظر إلى الجانبين؟ وإذا كانا متوافقين، فلماذا يختلفان إبتداء مثلما نفترض ضمناً؟!

غير حقيقي أنَّ العقل يوافق الدين، وليس ضرورياً أنْ يوافقه، بل وليس مطلوباً أنْ يوافقه بأي حالٍّ. قد يكون التلاقي بينهما من زاوية الاعتراف بمصدر كل منهما في الجانبين (إيماناً واعتقاداً). إذ يُقال إنَّ الدين مصدره الله والعقل ملكة الإنسان المخلوق للخالق البارئ، فلا تناقض إذن لكونهما معلولين لعلةٍ واحدةٍ. وهذا- لو نلاحظ- يتم بناء على الإيمان أيضاً.

ولكن على مستوى الممارسة يتضّح أنَّ هناك مسارين مختلفين لكلٍّ منهما، ولن يلتقيان بسهولةٍ ويُفضَّل ألَّا يلتقيان نظراً لاختلاف الوظيفتين. فالعقل يسعى إلى الوضوح والفهم والتدليل والتداول والقدرة على التنوع والتغيُّر والإتساق المنطقي، غير أنَّ الدين يسيرُ وفقاً للتسليم وينتشرُ تبعاً للإعتقاد ويدعو إلى السكينة واليقين ولا يتسق منطقياً. وأبرز ما فيه أن يضاد ما يفعله العقل، والتضاد شيء تلقائي وليس مفاجئاً. ولذلك نشأت ثنائية فلسفية (الإيمان والعقل)، كما يُقال تبادلياً: (أمنْ ثمَّ تعقل أو تعقل ثمَّ أمنْ). في محاولة لإضفاء الإنتظام على تصرفات البشر. ولكن مهما كان الاختيار بين الطريقين أولا أو أخيراً، فالهدف هو ما يقرن الاثنين رغم أنه لا يخفي التباين بينهما، بل قد يشير الاختيارْ إلى استقلالهما منذ البداية أكثر من أي شيءٍ آخر.

يرتبط الدين خارجياً بالوعظ والدعوة في إيصال رسالته للآخرين، معتمداً على ملكتي التصديق والتيقن لدى الإنسان. والوعظ هو قدرة المتكلم لأنْ يقول كلاماً متشبثاً بسلطةٍ أعلى أمام الآخرين، مُزوِداً كلامه بماء الاعتبار لهذه السلطة المتوارية خلفه. بحيث تمتزج هيمنتُها بالكلام، وبحيث تعدُّ جزءاً لا يتجزأ من معناه ومن القبول العام للآراء المطروحة. ويلجأ وعاظ الأديان إلى الخطاب الأخلاقي المتمسح بكم من النصائح والهدهدة العاطفية، والأخيرة لا تلوي على شيءٍ سوى الاستعاضة بجوانب نفسية عما فات الإنسان من تفكير إزاء المواقف والأحداث.

ومن ثمَّ، أخذت تنتشر عبارات خطابية زاعقة مثل: "عليك أنْ تتفهم كذا.. وكذا.." أو أنه.. "يجب الالتزام بهذا المعنى الواضح دون غيره " أو " أنني أكثر معرفةً منك .. وعليك أنْ تكون على مستوى توقعاتي "،... " خذْ هذه الأقوال والكلمات ولا تناقش بعد ذلك" .. " نحن نقف على اليقين الكامل دون شكٍ "... " الحقيقة ناصعة، ولا تحتاج إلى دليل".. " حبذا لو تلجأ إلى قلبك وتطمئن إلى مشاعرك".. " لماذا كل هذا العناء، الحقيقة قريبة منك كأنفاسك بين جنبيك"... وكل هذا هو نموذج " الوعظ والإرشاد " الذي لا يستأذن العقل.

الدين لا يُسمى ديناً إلاَّ إذا أدان كيانَ الإنسانِ من جهةٍ، ودان الإنسانُ به من جهةٍ أخرى. وهذان الجانبان لا ينفصلان ولا يفترقان عند المؤمنين حيث لا يشعرون بأية تناقض في هذا. أدان الدينُ الإنسانَ، لأنه يظل حجةً قائمة على الإيمان ورباطاً مقدساً وثيقَ الصلة بالمصدر الإلهي. ويَدين الإنسانُ به لكونه إلزاماً وواجباً نتيجة الشق الأول. ولكن لو قسنا هذا على العقل، فلا يقر ذلك، لأنه لا يمتلك اليقين نفسه، لكي يمنحه إلى الإنسان وملكاته. كلما قال الدين إنَّ هناك عالم الغيب الذي يجب التسليم به، يريد العقل التطفل والاطلاع عليه، وقد يُرسل حواسه لتعقب الفكرةَ، فيعود حسيراً وخائباً.

ولذلك لا يوجد المعنى الديني للعقل في الفلسفة، أي لا توجد آلية الوعظ وسلطتها، لكون التفلسف قائماً على الحوار والمناقشة والنقد لأفكار الناس والفلاسفة، والقدرة على تقليب المعاني مع وجوهها المتعددة. والعقل الفلسفي عقل تساؤلي بإمتياز. فلماذا لم يكتب كانط كتاباً في نقد العقل الديني، رغم كونّه بصدد اشكالية العقل؟ هل مصطلح (العقل الديني) منطقي إنْ ربطناه بالعقل؟، لقد حلل الفيلسوف الألماني العقل كمفهوم وآلية تفكير في كتابه"نقد العقل الخالص". وكتب في جوانب الأخلاق كواجب يتجاوز اختلاف الإنسان عن غيره" نقد العقل العملي"، وأخرج تفرقته الشهيرة بين الجليل (المقدس) والجميل "نقد ملكة الحكم". بيد أنه لم يطرح تصوراً حول ما يُسمى بالعقل الديني وأساليب تفكيره، لأنه عقل غير ممكن.

لقد وضعَ كانط الدين في حدود العقل كإمكانيةٍ بشريةٍ يجوزُ التفكيرُ فيها وممارسة طقوسها العقلانية إنْ صح التعبير. لكنه لم يبرر ماهيةَ الدين، ولم يتعقل معتقداته على غرار الأفكار والتجارب. وعليه لم يسْلم ما يُطلق عليهم " المفكرين" لدينا من هذا الوعظ والإرشاد، ونزع أخر أوراق (الحياء الفلسفي) أمام الجماهير التائهة التي تنازلت عن عقولها.

***

د. سامي عبد العال

في المثقف اليوم