أقلام فكرية

سامي عبد العال: سلطة الحقيقة

سلطةُ الحقيقةِ.. ملتبسٌ هو هذا المصطلح إلى درجةِ الغموض، لأنَّ الحقيقة قد تُجرد المتلقي مما يعْلق بذهنه تجاهها، طالما عرف أنَّها (حقيقةٌ وكفى). وربما لا يرى المتلقي أيَّ شيء آخر خلفها، فالسعي إلى الحقيقة هو نوعٌ من بلوغ (غايةٍ معينةٍ) يعتبرها الناس جديرةً بالاهتمام، وهو أيضاً (نقطة وضوح) تنخلع عندها كافة التوجهات الأخرى. ولكن الأكثر التباساً أنّ تغدو الحقيقة ذات سلطةٍ تحديداً، إذْ كيف تكون للحقيقة سلطةٌ مع احتمال أنْ تسبقها حقائق مغايرةٌ؟ وبأي معنى تكون للحقيقةِ سلطةٌ؟ مع أنَّ الأخيرةَ (أي السلطة) لهي المعنيّة بإبراز الحقائق ضمن مجالها التأثيري. فهل السلطة حقاً تحدد ماهيةَ الحقائق أم أنَّ الحقائق تنتج سلطةً؟ ولماذا ترتبط السلطة بالحقيقة أصلاً؟!

لنطرح في البداية القول بأننا عادةً ما نتلقى (جميع واقعنا)على أنه حقيقة، ولو تفحصنا الأمر جيداً لرأينا أنَّ ما نتلقاه ناتج عن عمليات ضّخ معلوماتي ومعرفي (مباشر أو غير مباشر) حول شئون الحياة وأحداثها على مدار الساعة. والضّخ مرتبط بالعلاقات والأخبار والأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمناسبات والطقوس ... إلى أخر ذلك. لكن ما لا نعرفة: أنَّ ذلك الضّخ المعلوماتي informative pumping مرتبط – إضافةً إلى ذلك - بقوى فاعلة لها تأثيراتها داخل الواقع نفسه. أي أنَّ الواقع صور خارجة لتوها (بشكل طازج) مشبعةً بغايات وممارسات سلطوية شتى، وأنها ممارسات تحقق ذاتها في شكل معلومات وأخيلة وسرديات عن طريق مختلف أنواع التواصل مع العقول. والعقول بدورها تشتبك مع الحالة لتكملة المشاهد ووضعها في السياق الملائم.

ربما بقانون (الدفع الذاتي) سنُعرّف السلطة كفعلٍ وحركةٍ تجاه موضوعاتٍ معينةٍ أو عبر وسطٍ ما تستطيع السيطرة عليه. مع التأكيد أنَّ الفعل والحركة ليسا ماديين على طول المدى، لكهنما رمزيان وتأويليان بالضرورة. والصفتان المذكورتان (الرمزية والتأويل) مهمتان كما سنحتاجهما لاحقاً عند منعطف الحقيقة. إنَّ السلطة مبدئياً هي (بؤرة تجميع) لعناصر التأثير داخل ذاتها حيث تعيد عكسها تجاه الموضوعات والبشر. وتظل بمثابة إمكانية مؤولّة interpreted ability قابلة للإنطلاق ومتاحة لشعور المتأثرين والمعنيين بها طوال الوقت. السلطة تُؤشر تأويلياً إلى واقعٍ موضوعٍ تحت المعرفة، واقع مُقنن تبعاً لمواصفاتٍ محددةٍ ولكن تظل صوره محل تفسير.

بمعنى أنه بحسب تكوينها، تذهب السلطةُ إلى رسم صورة الواقع وتعطيه مساحة الإنكشاف، ويكون بالنسبة إليها وسيطاً نشطاً قيد الرؤى والتفكير. ولذلك لا تكفُ أية سلطة عن كسب أرض جديدةٍ لممارساتها، وتلفت الأنظار إلى أنها مازالت سارية المفعول كما لو كانت هكذا. كلُّ سلطة تشترط على ذاتها لفت الأنظار التأويلية من قبل، فهي تأثير سابق لآوانه، ولكنه وصل متأخراً وبقوة المتابعة والتلقي. دائماً تعجل كل سلطة بالإعلان عن وجودها في أي نطاق تشغله أو تستهدف العمل من خلاله.

أمَّا الحقيقة، فهي التجلي- الظاهر والخفي- لتلك السلطة، تجل من الداخل interior إلى الخارج exterior، فنحن نقول عن أمرٍ معين أنه حقيقي إذا كان معبراً عن (قوة ظهور ما power of appearance)، وإذا كان أيضاً له من السمات التي تؤهله لأنْ يتجلى ويُعلن عن نفسه بين الناس. وأحياناً عندما يفتقد الأمرُ لهذه القوة، فقد تأتي ظروف وتحمله على الظهور كاشفةً إياه أمام هؤلاء الناس. وهذه هي علة انكشاف بعض الحقائق متأخرةً تباعاً من عصرٍ إلى آخر، رغم أنها في عصورها المختلفة قد لا تجد مُناخاً مواتياً لذلك الوضع. نظراً لأن تفاعلات السلطة غير متناغمة مع ظهور الحقيقة. ولذلك هناك قوانين تُسن في دول العالم بأنه لا يتم الإفصاح عن الوثائق والروايات الفعلية التي توثق بعض الأحداث والحروب والمنعطفات السياسية الخطيرة إلاَّ بعد مرور عقود من السنوات. والمغزى أنَّ ظهور الحقائق قد يكون قوي التأثير على متابعي الأحداث بما يمس السلطة القائمة، وأن الأسرار عندما تعلن سيكون لها وقع تأويلي خطير جداً.

ولا يعني ذلك أنَّ هناك انفصالاً بين السلطة والحقيقة، بل هما (شيء واحد)، أي صورة واحدة قيد التأويل. والتأويل يعني أنَّ هناك صوراً أولية مجازية مرسومة لمقولتي السلطة والحقيقة بفضل تفاعل الخيال والرؤى الإنسانية. وليس كل ما يكون حقيقياً هو مادي بالضرورة، لكنه نوع من المجازات التي تحقق مضمونها في العقول بجانب الواقع أو قبله أحياناً. المعادلة بين الطرفين تطرح نفسها على النحو التالي: (السلطة = الحقيقة × الظهور والحضور)، وبصيغةٍ أخرى: (الحقيقة = السلطة × الظهور والتجلي). ولذلك فإنَّ الأحداث التي لا تبدو ظاهرةً ولا منكشفة تفتقد إلى قوة ظهور وراءها. وليست دلالة الحقيقة هنا شفافةً بالنسبة إلى منْ يعرفها، بل ستكون مضروبةً (حسابياً وتأويلياً) في الوسط الذي توجد فيه. بحيث تعتمد على قدراته وجوانبه المتنوعة، وكيفية انتاجها ضمن هذه الآفاق على صعيدٍ عام.

غير أنَّ السلطة- من جهة أخرى- ليست مركزاً خالصاً، وليست مصدراً متعالياً لشيءٍ، إنما تعدُّ نسيجاً مثلها مثل الخلايا الحية القابلة للنمو في أي وقت متى توفرت لها أسباب الحياة. وهي خلايا مركبة تنتشر بجميع صفاتها ضمن أي مكون معرفي وفكري وثقافي. إذا ردنا توضيح الأمر بجلاء، فهناك بعض النباتات التي يمثل الجزءُ منها - ولو كان صغيراً- جميعَ الصفات التكوينية للنبات ككل. وعند تناول هذا الجزء وغرسه في التربة أو في لُحاء ونسيج أي نبات آخر (بطريقة التطعيم) مرة ثانية، فإنه ينمو مؤكداً كافة الصفات الوراثية والتكوينية للنبات. وهكذا بالمثل لو نتخيل قطع عضو من حيوان وإلقائه بعيداً، فإنه سينمو مُستعيداً البنية والشكل والكيان الخاص بالحيوان. إذن أمر السلطة أنّها في حالة فيض وتراكم، ليس بمعنى الزيادة فقط، بل التوالد والاستعادة.

وهذا ما يجعل السلطة تنتج الحقائق من جهةٍ، ومن جهة أخرى تواصل الحقائق تغذيتها الراجعة إليها ومنها feedback في الوقت نفسه. هما جهتان في جهة واحدة (سلطة الحقيقة أو حقيقة السلطة)، بحيث إذا ركز الإنسان على السلطة، فلن يرى الحقائق إنما سيهتم بتأثير السلطة وقدرتها على الحضور، وإذا ركز على الحقائق سيغفل السلطة التي تسكنها طوال الوقت. وهذه هي أرجوحة الأنظمة السياسية التي تمارس تلك اللعبة مع الشعوب بواسطة أدواتها الجماهيرية ووسائطها الإعلامية والإعلانية المؤثرة. لأن ما تؤكده السلطة والحقيقة هو نمط الوعي الغالب والصورة الذهنية واللغة والعلامات التي تشكل آفاق الناس.

لذلك تعد الحقيقة بمثابة تأويل للسلطة، وفي النهاية تلخص سلطة التأويل الذي يأخذ شكل الوعي إزاء العالم والأشياء والوقائع.

إذن في هذا السياق هناك حركتان لأية سلطة:

أولاً: حركة بنائية خاصة بالتكوين (الامتداد والانتشار): فكل سلطة تجمعُ زمامَ أمرها إزاء أي تهديد تستشعره عن كثب. إذ نراها كأنها كتلة غامضة مرنة جداً، ومتلونة بحسب البيئة الموجودة فيها كما نوهت. وحالاً تستحوذ على قدرات هذا الوسط آخذة المبادرة للتعبير عن نفسها بما تتمع به من سماتٍ. لأن جوهر السلطة هو جوهر برجماتي حتى النخاع، تعيش على القوى المتاحة ولو كانت جزئية وممزقة. وأحياناً تشكل فن تجميع المُمزق للإيهام بكونه صلداً وغير قابل للاختراق.

ثانياً: حركة تزيُد (فيض- تراكم)، وهي الحركة التي تخرج بعيداً عن ذاتها: إنها المعنى الاستراتيجي الاستشرافي للسلطة. فلا تكتفي عادةً بالنقطة البنائية وفقاً لطرائق مختلفة، لكنها تسرب إلى متلقيها أنها موجودة بالفعل والقوة معاً حتى ولو كانت هذه في حالة غيابها العيني.

وبعيداً عن التجريد الفلسفي، قد نرى في الشارع العربي رجال السياسة المؤثرين وهم يقفون كما لو كانوا يمثلوا شيئاً سرياً وفي حالة تضخم مستمر. شيءٌ هم يعرفون أهميته وخطورته داخل وعيهم، سوى أنهم لا يقدِّرون تلك الأهمية المعطاة لهم إلا بمقدار رد الفعل الظاهر لدى الآخرين. كأنَّ رجل السياسة يقول سأكون لدى خيالكم وإحساسكم بسريان السلطة حتى داخل هواجسكم. بينما هو نفسه يكتسب حركته من خلايا السلطة التي ليست له تحديداً. حيث تتجمع رمزيتها واضعة إياه وسط دائرةٍ ثقافية أوسع من محيطه البائس. لكن الواضح أنَّ تلك الخلايا السلطوية هي عمل استراتيجي في المقام الأول، لأنَّها تستقر مع طبائع المجتمع، وتعقد الصلة مع أدوار الفاعلية التي يخلعها على أفراده. ومن ثمَّ نشير إلى رجل السياسة بوصفته الرسمية، نقول عنه ضمناً هذا "رجل النظام والسلطة"، لقد حلت فيه روحُ القوة، كما يحل الروح القدُس في الكائنات الضعيفة. فإذا به منتفخ الخيال والأوداج والعبارات!! اختصاراً هذا نموذج لإنتاج الحقيقة وهي بتلك الطريقة تترك أفعالها مع اللغة وخطاب التداول.

ولهذا تظهر السلطةُ -عبر كل أشكالها المختلفة- بآثارها لا بكيانها، بتجلياتها لا بماهيتها الخاصة. من هنا تسكن السلطة جميع الحقائق وتحركها على مساحة كبيرة من التأويلات، وتراها بديلاً عن مصادرها غياباً وحضوراً في صور المعارف والمواقف والأفعال المختلفة. وهذا الموضوع أساس "الاعتقاد والضمان" اللذين يوفرهما الإحساس بوجود السلطة في الحياة العامة. وقد يتقاربان في مستوياتهما حتى أنّنا نظن ضمن مجالات السياسة –على سبيل المثال- وجود السلطة داخل كل شيء تقريباً.

حصيلة ذلك أنَّ الحقائق هي تأويلات لسلطةٍ ما، والتأويلات رغم كونها هشةً لأنها مجرد صور مستعادة لنوايا وأصول السلطة إلاَّ أنها قد تصارع من أجل البقاء. ذلك أنها معتمدة في المقام الأول على قدرات المتلقي بشأن التقاط الإشارات التي ترسلها. وفك شفرة الرسالة التي تقول إن هناك مرجعية قابعة في الخلف. ولذلك تجري التأويلات في إطار جماعات (مجتمعات) تواصلية معينة بمعناها الثقافي. فقد يكون هناك مواطنون يحملون درجة كبيرة من التقديس لسلطة دينيةٍ (مؤسسة أو هيئة معينة)، فهي مؤولة لديهم باعتبارها ممثلةً للدين ومرجعيةً للاعتقاد. ولكن إذا انتقلنا إلى جماعة تواصلية أخرى، فلن تكون هناك هذه الدرجة من التقديس تجاه تلك السلطة الدينية.

ما الجديد الذي حدث عندئذ؟ إن التأويل لم يعد يجدِ لتمرير الحقيقة، لكونه غير قابل للتأثير لدى الناس، وأن هناك تأويلات أخرى ستأخذ مكانه بحسب طبيعة الثقافة واختلافها. ومن ثمَّ، فإن خلخلة سلطة الحقائق لا يتم إلاَّ بواسطة إيجاد دروب جديدة للفهم والتأويل. كلُّ سلطة تخشي على نفسها من التأويل المختلف، فهي إذا كانت تتدثر بتأويل ما وتدَّعي براءتها مما تقول الحقائق، فهي تتحسس من ترك التأويلات في العراء الثقافي. العراء الذي هو مصدر رعب لكل أنظمة المعرفة والسياسىة والمجتمعات، وهذا يفسر كمية السيول الجارفة من المعلومات والأخبار في كافة المجتمعات ومع كافة جوانب الحياة، لأن مفتاح الحقائق مهدد بالضياع في التأويلات التي يمارسها البشر. فكلُّ عقل هو ملكة تأويلية بالضرورة ولا مفر له من ذلك. ولئن لم تؤول عقولنا جوانب ما نفكر فيه، فلن نفعل شيئاً إلا بالتأويل أيضاً، وفي التأويل تكمن الحقائق وتنتشر وتتلاشى بالمثل.

إنَّ أكثر ما يهدد سلطة الحقيقة هو كون تأويلها نسبياً، وليس من وجودٍ لأية سلطة مطلقة طالما تدور مع دوران الأرض حول الشمس. لعلَّ مجرد وجود قصة معينة حول واقعة تاريخية تناقض روايتها المعروفة مسألة بالغة الخطورة. والخطورة بشأن تحرير العقول من سطوة الحقائق التي سُوقت لسنوات وسنوات وبُنيت فوقها مفاهيم وصور أخرى منها. وهذا يستدعي أهمية طرح فكرة الشفافية وفتح روايات التاريخ وأضابير الوثائق، لأن سلطة الحقائق لن تُحصّن ذاتها إزاء أي تأويل. والتأويل مدخل إنساني لمعرفة الأصول وإخراج جديد لسناريوهات أخرى. ومن حيث تنتشر السلطة وتتحرك، تأتيها فيروسات مضادة عبر التأويلات التي تفتح العقول والرؤى على صور من الحقائق الأخرى.

***

د. سامي عبد العال

في المثقف اليوم