أقلام فكرية

سامي عبد العال: الرحمة كمفهوم بلا عنف (6)

لا تُعطي الرحمة أهميةً للتوجُه نحو الآخر فقط، ولكنها ترسم آفاق الاعتقاد كذلك. ثمة طريقان متزامنان لكل رحمةٍ: طريق إلى الخارج، أي إلى الوسْع، حيث الإنسان والأكوان بامتداد المعنى، وطريق إلى الداخل لتحرير المفاهيم والمعتقدات. كل رحمة تشُق الطريقين إلى نقطةِ تقاطع في وقتٍ واحد. والأكثر دلالة: أنها تعيد تصحيح وتعيد صياغة المفاهيم الكبرى في الإسلام.

المفارقة أنَّ المسلمين لم يدركوا دلالةَ الرحمة على معانٍ مختلفةٍ للإله الخالق، وأنها لا تعطي الإنسان أسبقيةً ولا ترسخ لوناً من المركزية إزاء غيره. وكأنَّها تتنصل من تصورات البشر حول الإله والحياة والموت والزمن. فهي ضرب من التحرر، ضرب من التطهر، ضرب من اللا تملُّك وعدم الاستحواذ. يُرجّح القول إن الرحمة تجري في جوهرها بخلاف الطبيعة البشرية، إذ تأتي من الجانب غير المُتوقّع، وكأنها نوع من الإستحالة التي تحقق كلَّ شيءٍ ممكن. فلئن كانت المفاهيم الدينية (مفاهيم تجميع وربط بين الأشياء)، فمفهوم الرحمة مفهوم تفريق وتشتيت وفك إرتباط. أي تنزع كل ما تجمّع وإلتصق بالمعاني الدينية من أفكارٍ.

وبالتالي، تخفف الرحمة ثقل الاعتقاد دافعةً الإنسان إلى إكتشاف ذاته أنطولوجياً. لأننا كبشر عندما نعطي من أنفسنا، سيُعاد إلينا العطاء في صور منتظرةٍ، غير أنَّ الرحمة لا تعيد شيئاً بخلاف فكرتي الثواب والعقاب. فهما (الثواب والعقاب) من الأمور التي تخصُ الإله وحده، وقد لا يجد الإنسان لهما سبيلاً مؤكداً على غرار الأمور الاعتيادية. وهما مرهونان باليوم الأخر في الأديان، ولذلك ليس لأحدٍ أنْ يطلع عليهما من قريبٍ أو بعيدٍ.

والسؤال الأكثر عمقاً: هل الرحمة تُحرر معنى الإله نفسه؟ هل حين يرحم الإله (دون حدود) يحرر وجوده (بلا قيود) من تصورات البشر؟ وبخاصة أنه عندما يمارس البشر أفعال الرحمة، يلتقون بحرية الاعتقاد عوضاً عن فرض المعتقدات. يبدو أن نفسْ الرحمة موجودٌ، ولذلك لا نستغرب أنها واقعة على تلك المساحة الشاسعة من الفعل الإلهي.

تحرُر الإله

تعكس المفاهيم في الأديان (دلالة الإله)، وكيف تحرك آثاره بين البشر. لأنَّ معاني الإله بمثابة المرجع الذي يغذي الأفكار الدينية في حيوات الناس. وإذا كانت أفكارٌ كهذه تطرح مضمُوناً عنيفاً من زاويةٍ، فلابد أنْ تُلحق جوانبَ العنف بالدلالة المركزية للألوهية من زاوية أخرى. وسيتصور الناسُ الإله على غرار ما يعتقدون ويفكرون. وهذا لون من القيد الذي يفرضه البشر على ما يؤمنون.

بالفعل ترسم الرحمة ماهية الإله في ذهنية البشر الآدميين. إذ كيفما يؤمن الناسُ وكيفما تتكون صورُ الإيمان، يكون إلههم وتكون معتقداتهم سمحةً وحرة أم لا. وبقدر ما يتمثلون معانيه المختلفة، تأتي المعاني مرتهنة بجوانبها المقصودة. إنَّ الإله وتصورات الناس حوله أشياء لا تنفصل عن تراث الرحمة والقسوة في المجتمعات. لأنَّ اصحاب العنف الديني ولاهوته السياسي لديهم تصورات إقصاء وتكفير عن الإله، هي " الميتافيزيقا الدموية blood metaphysics " التي تُرسّخ فكرة الإله الآمر بالعذاب وانزال العقاب والبأس على الإنسان.

والفكرة توضحُها جيداً الوثنيات الغابرة، من حيث تصوير الإله في هيئة غاضبة على الدوام، وذلك لإيقاع الرعب والخوف داخل قلوب الأعداء، ولإشعارهم أن اتباع الاله سيمارسون الأثر نفسه تجاه من يناصبهم الصراع والعداء. وكانت تلك الملامح القاسية مرسومةً على الأقنعة التي يرتدونها مع الطقوس والشعائر بعد المعارك وأثناء الإحتفالات الحربية. ولا يخفى على القارئ أن ذلك يرجع إلى الرغبة المحمومة لدى البشر للهيمنة على الآلهة لا العكس، بجانب محاولة الهيمنة على مخاوفهم تجاه المجهول!!

وبعض المسلمين عندما يمارس القسوة في شكل جماعات ارهابية، فهم يحيون تراثاً وثنياً قديماً يلقي بظلاله على الإله، وبعضهم الآخر حين يحرص على فرز المخالفين دينياً بوصفهم رجساً من عمل الشيطان إنما يقعون في ممارسات وثنية، قائمة على احياء الوهم بأن الإله يقف معهم بخلاف سواهم. والموقفان يعتبران طرحاً لقضية الألوهية كما يتصورها البشر كذلك، مما يجعل الوجود الإلهي مرهوناً بما يطرحونه ويمارسونه.

تحرُر الخالق والمخلوق:

يعتقد البعضُ أنَّ الرحمة في الاسلام أمرٌ عرضيٌّ يحل بعد القسوةٍ. وهذا ليس صحيحاً، لأنَّ فعل الرحمة في الاسلام يرتبط بكون الإله خالقاً لعباده وأكوانه ومحباً لموجوداته دون شروطٍ. وأنه يرحمهم لهذا السبب الأنطولوجي بالتحديد. إن تذكير القرآن بالرحمة يتضمن علاقة حب كونية حُرة بين الخالق ومخلوقاته من البشر: " قُلْ يا عِبادِيَ الَّذين أسْرفُوا على أنفُسهم لا تقنطُوا من رحمةِ اللهِ" (الزمر/ 53).

والقنوط قيدٌ يظن الناس كونهم خاضعين له، ومن حيث أنه يأس قاهر، فلا مبرر له. لأنَّ النداء نداء خلق لا قول خطاب. في هذه اللحظة يتم تحرير الخالق والمخلوق من قبضة المفاهيم. تحرير للخالق من تصورات البشر القانطة، فكان القرآن قاصداً للمعنى. وهو بالمثل تحرير للمخلوق من ذاته، فالأخير يظن أنه فرض جزاء القنوط على الخالق دون غفران.

تشير كلمة "عبادي" إلى الحنو والرأفة والرعاية الأنطولوجية التي تمتد من لحظة الخلق إلى أية (واقعة قنوط) بإفراد الناس أو جمعهم. وهؤلاء الذين وجدوا في فضاء الرحمة لا تبتعد معاني الخالق عنهم، والقول القرآني ضرب من التذكير بأن الذي خلق هو نفسه صاحب الرحمة. والخلق عمليةٌ تحررها الرحمة رجوعاً إلى الإله ذاته لا سواه. وأنه بمطلق الإرادة لا يغضب ولا يستاء ولا ينصرف عن الموجودات، ولكنه يهبهم الرحمةَ والرأفة, فالاستياء resentment على خلفية الرحمة من صفات البشر[1] والله لا يكف عن الأخذ بأيدي الناس إلى إحسانه، أي أنَّ الرحمة الالهية فعل واهب دون استياء. ولا ينتظر استرضاء ولا استعطافاً كنوع من التذلل للإرادة الإلهية.

والفكرة هاهنا عكس جميع تراث العبودية وكل تراث المقدس في الأرض، لأنَّ الكهنة ورجال الدين أقنعوا البشر أنهم بمقدار خضوعهم للغيب الناطقين بلسانه ستكون هناك مكانة لهم. بينما الرحمة تكسر عنهم الأغلال وتدعوهم (قُل يا عبادي) مباشرةً إلى فك القيود الذاتية أو الوسيطة نحو الإنطلاق. والنداء ينفي ذلك تماماً، ليجعل اللقاءَ مع الله على نحو مباشرٍ. مع التأكيد أنه حتى العلاقة هي رابطة من نوع مخالف لما عرفه البشر.

إنَّ كل مراحل وجود (خلق) الإنسان كانت ومازالت مشمولةً بالرحمةِ، فلقد أطلقَ القرآن لفظ الأرحام على موضع الحمل عند تكوين الجنين. "هو الذي يُصوركم في الأرحام كيف يَشاء" (آل عمران/6) وكأنَّ الإنسان قد خُلق تحديداً بالرحمة، أي أنه قد تكوّن كائناً حياً عن طريقها، فالرحمة والرحم شيء واحد[2]، وأنَّ الإنسان سيظل مُحاطاً بها من مرحلةٍ إلى غيرها في جميع أطوار حياته، حتى يعود إلى رحمة الله في الآخرة. والإنطلاق والعودة درجتان على امتداد الوجود بلا قيد، ولا يجب على الإنسان أن يشعر بكونه مدفوعاً في اتجاه أو آخر. إنه يعيش بكامل الإمتلاء الوجودي، وفوق ذلك سيظل هو نتاج الرحمة.

ولذلك تعني الرحمة نوعاً من الخَلْق بدلالة التكوين في إطلاقه غيباً وشهادةً، والرحيم عندئذ هو المتحرر من القيود والذي يخلق ويعاود الخلق من جديد لا من يقول بالرحمة فقط. هو من يفتح كلَّ أبواب رحمته لمخلوقاته لا من يوصدها بعد طردهم إلى الأرض وانزالهم من الجنة، هو من يذكرهم مع كامل الحرية لعبادته كطريق للعودة إليه لا من يرميهم في شتات الأرض فارضاً عليهم تيه الترحال من صحراء إلى صحراء.

والخالق من ثمَّ في الإسلام هو" الرحمن/ الرحيم" على الأصالة لا غير. صفتان ملاصقتان لعين وجوده المطلق، لأنَّ عملية الخلق ذاتها لون من تجليات الرحمة. وليس الله هو الكائن الأسطوري المخيف الذي يؤلم ويعذب مخلوقاته في نيران جهنم. إن الكائن المقدس المُرعب ليس له مكان في مرجعية الاسلام، ولذلك يُعوّل الارهابُ على التشوّه الميتافيزيقي للعقول نتيجة الشحن الأيديولوجي للأتباع والأعضاء الحركيين. أي أنهم يرسخون لديهم أولاً فكرة دموية عن الإله قبل تنفيذها في الواقع. وهي فكرة تنال من حريتهم وتشترط على الله أن يفعل وفقاً لما يعتقدون. وهنا يبدو التماهي مع الخالق لا بما يجب أن يكون، بل بحسب إملاء تصورات البشر، كأن الإله هو المشروط بوجودهم ومعتقداتهم لا العكس. وتلك أقسى فكرة يطرحها أصحاب الإيديولوجيات عندما يعتبرون الإله جزءاً منها ويتصرف في أكوانه بالمنطق نفسه.

تحرُر الواحد:

التوحيد هو المرادف للرحمة إنْ لم يكونا شيئاً واحدًا. والمرادفة تقف على أساس الحرية والإطلاق لا على أساس التحديد والقسر. " وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ" (البقرة/ 163). لم يقُل القرآن بعد ذكر التوحيد أنّ الله هو المنتقم الجبار على ما يظن بعض الناس، لكنه ربك الإله الواحد (أي الفكرة والمبدأ) بالرحمن، لأنه بالأساس كثير الرحمة وقادر على تكرارها دون نهاية ولا توقف، فكان رحيماً. وجوهر الإله الواحد هو تلك الرحمة التي لا تتوقف ولا تتعين بمحرمات ولا بأسوار. إنها كذلك لون من تحرير المعاني من أيدي البشر. ولا ننسى أنَّ لفظ التحرير يدل على الحرية بمضمونها العام وعلى الكتابة والخط وإطلاق العنان للفظ.

ونحن نعرف في حياتنا البشرية أنَّ (الحرية والكتابة) لا ينفصلان عن بعضهما البعض. ومشكلة من يمارس الكتابة أنَّه قد لا يجد مساحة كبيرةً من الحرية لما يدبج ويقول، في حين أن هذا يكون عند الإله بمنطق الكل والشمول، لكون الكتابة الإلهية لوناً من الخلق الذي هو مصدره في الأصل. وهذا ما يجعل الكتابة الإلهية كتابة تحرير وجود، وتحرير زمن، وتحرير كائنات بالوقت عينه. وعلى غرارها يمكن للإنسان أن يُصرّف ما يؤمن به ويتجه نحوه.

وهذا التعريف للوحدانية المطلقة تعريف لطيف، فهناك اعتقاد مؤدّاه أنَّ الوحدانية نوع من العنف. والسبب هو القول بأن الاعتقاد في إله واحد يتبعه بالضرورة عنف المشاعر والتصورات وأن المجتمعات لم تشهد في عصر الوثنيات ألوان العنف المنتشره في أديان التوحيد. ولكن هذه الآية تؤكد عكس ذلك تماماً، لأن من يستطع العفو والمغفرة، لا ينازعه إله سواه. إذ تقتضي الوحدانية إطلاق الفعل إلى نهايته القصوى مهما تكن. يؤكد القرآن:" يغفرُ لم يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم" (آل عمران/129). فليس الأمر متوقفاً على إرادة البشر المقيدين لسواهم، إنما الأمر مرفُوعاً إلى الوسْع.

فكل مستويات الفعل مرهونة بالمشيئة الصادرة عن الواحد، ورغم ذكر (الغفران والعذاب)، لكن الآية جعلت (الغفور الرحيم) تساوي وتزيد عن الفعلين السابقين (الغفران والعذاب)، لأن الغفران مرتبط بالرحمة القابلة للتكرار والزيادة باستمرار. يؤكد أبو حامد الغزالي.. أنَّ الغفور بمعنى الغفّار، ولكنه شئ ينبئ عن نوع مبالغة لا ينبئ عنه الغفار، فإن الغفار مبالغة في المغفرة بالإضافة إلى مغفرة متكررة، مرةً بعد أخرى، فالفعال يُنبئ عن كثرة الفعل، والفعول ينبئ عن جودته وكماله وشموله، فهو غفور بمعنى أنه تام المغفرة والغفران كاملها حتى يبلغ أقصى درجات المغفرة[3].

والوحدانية مرتبطة بالتفرد التام إزاء الناس جميعاً، حتى لا يظن ظانٌ أن الله في حاجة إلى أحدٍ. وفي هذا وثقها القرآن بمعاني الحرية التي تدل على الغنى والكفاية والوحدانية عن البشر والكائنات وعن الأشياء الأخرى. " وربك الغني ذو الرحمة" (الأنعام/ 133 (أي لا تظن أنه حين يرحم كافة المخلوقات، فإنه في حاجة إليهم، ولذلك سيكون معنى الرحمة الكوني مرتبطاً بكمال التنزيه في الإسلام.

تحرُر المُطلق:

آفاق الرحمة الواسعة دالة على إله مطلق، فالمطلق بهذه المعاني المفتوحة يعود إلى قدرة إليهة من جنسها. وأن الذين يقْصرون رحمة الله أو يمارسونها على نحو خاص هم يجعلون إرادةَ الله نسبيةً. وهذا ما تراه المسيحية في فكرة التجسد بشخصية الرب- الإله، ولذلك قد تتجسد الرحمة في اشخاص على الغرار نفسه في البابوات أو رجال الدين القائمين بالرعاية الروحية[4]. ولذلك تشترك الأرثوذكسية والبروتستانتية والكاثوليكية في أهمية القيام باعمال الرحمة في الإطار الخيري العام وهي فكرة مأخوذة من الثقافة الرومانية المسيحية[5].

ولكن يؤكد الاسلامُ أنَّ رحمة الله مؤشر كلي على إطلاق معنى الخالق الرحيم في حياة الناس بصورة عمومية، وأنَّ الرحمة هي مناط الفهم الصحيح لتصوراتنا حول الاله دون أن يكون محدوداً ولا مشخصَّاً. ولأول وهلة ستكون صفة الرحمة وجوداً وماهية وفعلاً بالوقت نفسه. فالإله لا تنفصل عنه الرحمة لأنَّه مصدرها وهو الوهاب لها. ومن حيث أن الرحمة بلا محددات، فإنها ترسم لنا كيف أن الله لا يتصوره عقل بشري بالمعاني التي يصورها المؤدلجون، لأنَّ الإنسان (وأضرابه) لا يستطيع أن يمارس رحمة خالصة، بينما الإله فقط هو من يفعل ذلك.

"نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (الحجر/49)، والقول يشير إلى وجود إلهي كامل دون هيمنة، لأن الكراهيات تترك مردوداً سلبياً في ذاتها وتجاه الإله، وقد تكون هي عوامل النقص بإمتياز. والتأكيد في الآية على اثبات الرحمة في ذاته، أي صفة روح مطلق. وفي المسيحية كانت ثمة فكرة جديرة أنَّ الرحمة تتعمق في الأرواح، في أعماق الحياة الروحية، قبل الأجساد المادية وقبل الأشكال الظاهرية التي قد تخدع[6].

الرحمة تعبر كذلك عن شفافية وخلوص الوجود الإلهي لذاته، ومنها صدرت الموجودات، " وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ" (القصص/ 73). فبسبب رحمته الحرة، وُجد هناك الليل والنهار من باب الرعاية والرأفة بالبشر. وكما أنَّ المطلق يسع كل شيء، فكذلك الرحمة مشتقة من هذا الاطلاق وكأننا نعود من نقطة البداية إلى النهاية بشكل دائري في المطلق الإلهي، نحن موجودين فيه مع معاني الرحمة: " قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ" (الأنعام/12).

فالإحتواء الواسع الرحيم في مطلق المعنى لا يدل على الاستحواذ، لكنه نوع من الرحمة الواسعة المعبرة عن مضونها الإلهي لكل شيء، وليس أبرز برهنةً على ذلك من قول القرآن " وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ" (الأعراف/ 156)، لأنَّ الله:" هُو أَرحَم الرَّاحمين" (يوسف/64) بصيغة الاستثناء الشامل، وبصيغة الانفتاح الداعي للفعل ذاته عبر حيوات البشر المختلفة.

اختصاراً، فإن دلالة تكرار الرحمة في الإسلام هي دلالة عميقة من جنس التحرر مما يدعي البشر. والمعنى مزدوج، أي فليقل البشر ما يقولون وليمارسوا الحياة كيفما شاءوا، ولكن تثبت الرحمة تبرؤ الإله مما يفعلون. ومن ذلك أن انحراف أفعال البشر دلليل على مصداقية الرحمة، وتشكل (مرجعية تحرر) لأقطاب العلاقة في الاسلام: الله والعالم والإنسان.

***

د. سامي عبد العال

........................

المراجع

- ابن سيدة، على بن اسماعيل المرسي، المحكم والمحيط الأعظم، تحقيق عبد الحميد هنداوي، (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2000).

- ابن فارس، أحمد بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام هارون، (بيروت: دار الفكر، الطبعة الأولى 1979)

- أبو الفرج الدمشقي الحنبلي، تفسير الفاتحة، تحقيق سامي بن جاد الله، (الرياض: دار المحدث للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1427).

- أبو حامد الغزالي، المقصد الأسـنى في شرح أسـماء االله الحسنى، (القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، د. ت).

- أبو عبد الله العثماني الشافعي، رحمة الأمة في إختلاف الأئمة (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1987).

- الراغب الأصفهاني، مقدمة جامع التفاسير، تحقيق: أحمد حسن فرحات، (الكويت: دار الدعوة، الطبعة الأولى 1984) .

- الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، تحقيق وضبط محمد سيد كيلاني، (بيروت: دار المعرفة للطبعة والنشر والتوزيع د. ت).

- علي بن محمد الماوردي الأحكام السلطانية، (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2004).

- محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق محمد الطاهر الميساوي، (عمان: دار النفائس، الطبعة الثانية 2001).

- محمد بن جرير الطبري، تفسير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الجزء الحادي عشر، تحقيق وتخريج الأحاديث محمود محمد شاكر، راجع الأحاديث أحمد محمود شاكر (القاهرة: مكتبة ابن تيميه، الطبعة الثانية د. ت).

- محي الدين بن عربي، فصوص الحكم، شرح عبد الرازق الكاشاني، (القاهرة: دار آفاق للنشر والتوزيع، 2016).

Alessandro Rovati, Mercy Is a Person: Pope Francis and the Christological Turn in Moral Theology, In: Journal of Moral Theology, (Volume. 6, 2 ,2017).

Haya Eid, Muhammad: the Prophet of Mercy, New Vision for Translation and Culture , (Cairo, Egypt, 2012).

Jeffrie Murphy, Forgiveness and resentment, In: Jeffrie Murphy and Jean Hampton, Forgiveness and mercy, (New York: Cambridge University Press 1988).

John R. Searle, Expression and Meaning, Studies in the Theory of Speech Acts, (New York ; Cambridge University Press 1979).

Linda Ross Meyer, The Merciful State, In: Austin Sarat and Nasser Hussain (Editors), Forgiveness, Mercy, and Clemency (Stanford, California: Stanford University Press 2007).

Marcel Mauss, The Gift: The Form and Reason for Exchange in Archaic Societies, Translated by W.D.Halls, With a foreword by Mary Douglas, (London and New York: Routledge, Firest Edition, 1990).

Marina I. Nadeeva, The Phenomenon of Mercy in Orthodoxy: The Relationship of Theory and Practice, "Advances in Social Science, Education and Humanities Research", Proceedings of the International Scientific Conference on Philosophy of Education, Law and Science in the Era of Globalization (PELSEG 2020), volume 447, (Atlantis Press SARL, 2020).

Maria F. Kowalska, Diary of Saint Maria Faustina Kowalska: Divine Mercy in My Soul, (Marian Press ,2005).

Stephen P. Garvey, As the Gentle Rain from Heaven: Mercy in Capital Sentencing, In: Cornell Law Review- 989, Volume 81, Issue 5 , Jule 1996, P 995. See also: Bryan Stevenson, Just Mercy: A Story of Justice and Redemption, (New York: Random House, LLC, 2014).

Tariq Jaffer, Rāzī: Master of Qurʾānic Interpretation and Theological Reasoning, (New York and Oxford: Oxford University Press 2015).

Vladimir Jankélévitch, Forgiveness, Translated by Andrew Kelley, (Chicago and London: University of Chicago Press, 2005).

................

الهوامش

[1]- Jeffrie Murphy, Forgiveness and Resentment, In: Jeffrie Murphy and Jean Hampton, Forgiveness and mercy, (New York: Cambridge University Press 1988), PP14- 34.

[2]- الراغب الأصفهاني، مقدمة جامع التفاسير، تحقيق: أحمد حسن فرحات، (الكويت: دار الدعوة، الطبعة الأولى 1984)، ص 114 .

[3]- أبو حامد الغزالي، المقصد الأسـنى في شرح أسـماء االله الحسنى، (القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، د. ت)، ص 66.

[4]-Alessandro Rovati, Mercy Is a Person: Pope Francis and the Christological Turn in Moral Theology, In: Journal of Moral Theology, (Volume. 6, Number. 2 ,2017), PP 48-69.

[5]- Marina I. Nadeeva, The Phenomenon of Mercy in Orthodoxy: The Relationship of Theory and Practice, "Advances in Social Science, Education and Humanities Research", Proceedings of the International Scientific Conference on Philosophy of Education, Law and Science in the Era of Globalization (PELSEG 2020), volume 447, Atlantis Press SARL, 2020, P 241.

[6]- Maria F. Kowalska, Diary of Saint Maria Faustina Kowalska: Divine Mercy in My Soul, (Marian Press ,2005), P38.

في المثقف اليوم