أقلام فكرية

محمود محمد علي: تجاوز الأديان والعلمانية.. ظاهرة فلسفية في زمن العولمة

إن الخوف من الموت والمجهول دفع الناس نحو البحث عن حياة ما بعد الموت، فحنطوا أجساد موتاهم، ووضعوا معهم أموالَهم وأغراضَهم الشخصيةَ لاستخدامها بعد قيامتهم، بمساعدة قوىً فوق بشرية ترعاهم. وكان الكهنةُ وسطاءَ هذه القوى غيرِ المرئية ورسلها المطوَّبين، حيث تمكنوا بذكائهم وبراعة حكاياتهم وقوة خطابهم اللغوي من إقناع البشر الفانين للتوسط لهم عندها، حيث كان الكهنة يتقبلون نذورَهم وأضحياتِهم وتبرعاتِهم، ويتغذون على خوف الناس الذين يجدون أمانهم في قصص الرسل ووعود الآلهة لعبادها المطيعين بالجنان؛ فكانت الكهانةُ أولَ وظيفة يعتاش منها أصحابُها دون عملٍ شاقٍّ في الأرض أو الصيد أو الحرب، فكانوا يستغلون التجار والفلاحين والمحاربين باسم الدين، ويطوعونهم للأب الملك والقائد مقابل حظوته وعطائه...

ثم... وبسبب تنافس الكهنة على الناس ومنافعهم، اخترعوا الكثير من الآلهة، وبنوا لها بيوتاً لا تسكنها. وقد كثرت الآلهة وتنوعت اختصاصاتها بين الزراعة والحرب والحب والحكمة والشمس والقمر والرعد والمطر، واختلفت الآلهة مع بعضها باختلاف مصالح كهنتها وتنوع أحقادهم؛ فغالباً ما تسببت الآلهة بالفوضى وتقسيم المجتمع الغافل، حتى بات الكهنة يشكلون قوة روحية موازية للقوة السياسية، فقام الفرعون أخناتون بتوحيد الآلهة وصهرها في جوهر آتون إله الشمس الواحد الذي لا شريك له، وقال إنه ابنه، ثم ضرب على يد الكهنة المعارضين للتوحيد بيدٍ من حديد باعتبارهم مشركين. ولعل اليهود تعرفوا إلى تعاليم أخناتون عندما كانوا في مصر، فلم يعذبوا النبي موسى بتصديق رسالته التوحيدية، حيث ظهرت معهم أولُ نسخة إبراهيمية من التوحيد، ثم تأثرت بها باقي الأديان التي جاءت بعدها وانتشرت بين الوثنيين الخائفين من الموت، حيث وعدتهم بحياة خالدة فيها كلُّ ما يشتهون.

ترى ما هي الطريقة المثلي ليقنعك أحد بتناول كوب من السم ؟ وهل يمكن أن تفلح المغريات في اقناعك : مال ، سلطة ، شهرة؟ ، هل يمكن أن يغريك شيء لتفعل هذا من الأصل؟

ربما لا ، ولكن ماذا لو أقنعك هذا الشخص بأن كوب من السم هو كوب من اللبن أو الماء .. هنا قد يتبدل الأمر .. شيء من التجميل والخداع ، كفيل بإنهاء حياتك إن لم تنتبه له .. وعلى النسق نفسه ، فيمكن لهذا التجميل وذاك الخداع أن يغيروا أفكار المرء عن أمور خطيرة أيضا إن لم ينتبه لها .

وفي خضم هذا يأتينا خطاب فكري فيه من الخطر على قدر ما فيه من الجمالية والجذب ، إنه خطاب العلمانية المتخفي في ثياب غير ثيابه ، فتارة بالعقلانية ، وتارة بالديمقراطية ، وتارة أخرى بالإنسانوية واحترام الحريات ، ونحن بين هذا وذاك نتشرب العلمانية بمفاهيمها دون أن ندري ونملئ عقولنا بالسم الذي نحسبه الماء ، فكيف تتجمل العلمانية ؟ وما هي حقيقة هذا التجميل ؟ وهل هي محض أفكار دنيوية لا ضرر من اعتناقها أم أن أمرها أشد تركيبا وأكبر خطرا من مجرد أفكارا وآراء؟

في الأول من أكتوبر عام 2018 نشر مركز بيو The Pew بالولايات المتحدة الأمريكية دراسة عجيبة تحت عنوان " معتقدات حركة العصر الجديد" New Age beliefs أصبحت شائعة بين الأمريكيين المتدينين وغير المتدينين لكتشف النتائج أن 62 % من الأمريكيين المسيحيين أصبحوا يؤمنون بواحد على الأقل من معتقدات هذه الحركة .

لأجل هذا رأت الموسوعة البريطانية أن تلك الحركة أصبحت إحدى الظواهر الدينية في الغرب بالقرن العشرين ، فما طبيعة هذه الحركة  ؟ ، وما جذورها ؟ ، وما معتقداتها؟  ، وكيف وصلت إلى عمق المجتمع الغربي وتسللت إلى قلب مجتمعنا العربي –الإسلامي دون أن ندري عن اسمها شيئا .

في سبعينات القرن الماضي كان الإنسان الغربي على موعد متجدد مع القلق الوجودي ، فبعد انهيار منظومة الدين الصلبة مع عصر الحداثة ، ثم فقدان الثقة في العلمانية فيما بعد الحداثة ، وجد هذا الإنسان الحائر نفسه وحيدا أمام الحياة بلا دين يثق به ، ولا علمانية تحميه من الشتات ، وتقدم له الاكتفاء الروحي الذي يتوق إليه .

ونتيجة ارتباط المسيحية بحقبة ما قبل الحداثة ، وذكرياتها المريرة المظلمة ،وكون العلمانية رداءا لا يستر الروح بعدما نزعت عن العالم جانبه الإلهي ، فإن الوقت قد حان لاكتشاف نهج جديد .

وهنا دارت البوصلة نحو الشرق ، فيعد قرابة قرن من دخول الهندوسية إلى الولايات المتحدة الأمريكية على يد جمعية فيداتنا Vedanta عرفت الديانات الشرقية الوثنية طريقها إلى بلاد العم سام من جديد على يد حركات أخرى ناشئة كالجمعية الثيوصوفية والحركة الروحانية وحركة الفلسفة المتعالية وحركة الفكر الجديد وغيرها من الحركات والتوجهات الباطنية التي شكلت نظاما فكريا للعالم الغربي المسيحية ، وأصبحت النواة لبزوغ حركة العصر الجديد والتي لا تقدم مذهبا مبتكرا كما قد يُظن من اسمها ، وإنما هي حصيلة مجموعة من المذاهب والمعتقدات المتنوعة والملفقة في قالب روحاني وعملي جديد ، فهي لا تعتمد عقيدة مركزية موحدة ، وإنما تقدم خليطا من المبادئ الروحية والباطنية كوحدة الوجود وتناسخ الأرواح وإنعدام الفرق بين الأديان .. إلى آخر تلك الخزعبلات التي تسد فراغ إنسان العلمانية الضال .

مما سبق يتبين أن حركة العصر الجديد ما هي إلا إعادة صياغة للعديدة من الآراء الدينية  ووجهات النظر المختلفة ، ولأنها لا ترى أى فارق يذكر بين الأديان ، فإنها لا تهتم على الإطلاق على ما يعتقده أتباعه، وإنما تهتم فقط بما تضيفه إلى حياتهم اليومية ممن ممارسات يمكنها إعادة تشكيل فكرهم مع الزمن ؛ ولأجل هذا صيغت برامج الحركة وأدبياتها بطريقة  تخفي حقيقة أصولها الفلسفية وتقدمها لعامة الناس أساليب حياة معاصرة تساعد من يمارسها في التمتع بالصحة والسعادة الدائمين .

بهذا السياق تركز الباحثة " فوز كردي" Fawz Kurdi أن " أهم ما يميز الحركة زعمها أن عصر التلقي من مصدر خارجي كالإله أو الدين قد انتهى وأن العصر الجديد يستطيع فيه الإنسان تشكيل حياته ومستقبله كيفما شاء باستخدام الطبيعة والعقل والقدرات غير المحدودة ".

وهو ما عبر عنه "ديباك شبرا "  Chopra  Deepak بوصفه أحد رموز الحركة فقال :" أنا كنت ملحدا حتى أدركت أني إله" ، لكن وبقيل من التأمل سنجد ان تلك المفاهيم الكفرية لم تكن تنتشر تحت غلاف حركة روحانية ، إلا بسبب الظمأ الروحي الشديد بالغرب ، الذي ملأته معتقدات الشرق الوثنية من جهة ، ثم حافظت من جهة أخرى على لذته الدنيوية التي يقننها له الدين ، فهي تقدم له الماء الذي يروي ظمائه العلماني – أحادي البعد ، ثم تضع في هذا الماء خمرا يسكره ويرضي شهوته هذا العلماني من جديد مقدمة له الجانب الثاني الذي يبحث عنه ، لكنه جانب زائف يمنحه الحرية المطلقة وكأنه إله نفسه .

ولهذا ساهمت تلك الحرية المطلقة في قبول الحركة مجتمعيا ورواجها ، خاصة بعد ان حاول أتباعها إضفائها الصبغة العلمية على ممارستها من الكهانة والتنجيم والسحر ، فخرجت إلينا في ثياب منمقة تزعم أنها منهج علمي أساسه البرمجة اللغوية العصبية والتأمل الإرتقائي والتحكم بطاقة الكون ، واستغلال قانون الجذب إلى آخر تلك التسميات الرائجة .

إلا أن هذه المحاولة قوبلت بالرفض الشديد من الأوساط العلمية ، لعدم موافقة دراسات الحركة وأبحاثها لمنهج علمي صحيح ، وما هي حتى ينكشف زيف هذا البعد الروحاني واهترائه العملي أمام أتباعه ، حتى يرتد عن سبيله ، ولعل أشهر من رجعوا عن هذه الحركة ، واعلنوا ندمهم "دورين حنان Doreen Hannan المعروفة باسم " Doreen Virtue و"ستيفن بانكرز Stephen Bancarz واللذان كانا من أشهر أعلام حركة الجديد ومنظريها قبل أن يعلنا تخليهما عن أفكارها والعودة للدعوة إلى المسيحية من جديد .

كغيرها من الحركات والمعتقدات الفاسدة ، وجدت حركة العصر الجديد طريقها إلى العالم الإسلامي من خلال الكتب المترجمة والرامج الإعلامية والمسلسلات والأفلام السينمائية ، وبرز عدد كبير ممن يروجون لأفكارها عبر خطاب ديني تحفيزي مثير للمشاعر ، وأخذت تلك الأفكار تنتشر تحت مسميات براقة كعلوم الطاقة واليوجا والبرمجة اللغوية والعصبية وقوانين العقل الباطن وجذب شريك الحياة ومحاضرات الأبراج والفلك والطاقة الحيوية والشفاء الذاتي وذلك على يد مجموعة من المشاهير الذين ارتبطت أسمائهم بهذه العلوم الزائفة .

في هذا الصدد يرى بعض الباحثين  بأن مدرب تنمية البشرية من العرب قد حاولوا كثيرا التوفيق بين جوهر الدين وجوهر التنمية البشرية وذلك لمعرفتهم أن الدين أهم مكونات المعرفة الذهنية العربية على الإطلاق ، ولهذا فإن أي تنمية بشرية لا تستند إلى الدين بشكل قشري أو جوهري لا يمكنها أن تنفع المجتمع العربي على الإطلاق ، إلا أنهم لم ينجحوا في محاولتهم تلك لتعارض المنطلق الديني مع منطلقات التنمية البشرية الوضعية.

فالمكون العلماني في التنمية البشرية المعاصرة أمر لا يمكن تجاوزه ، فهي لا ترى أن تحقيق الأهداف الفردية والاجتماعية قد يتوقف على الدين في شيء بل لو كان الإنسان ملحدا متسقا مع نفسه ومحيطه الاجتماعي فهو إنسانا  ناجح وفق مفاهيم الطاقة تلك .

هذا كله بخلاف التعارضات الصريحة بين المفاهيم المستمدة من الطاقة وبين الإسلام فمفاهيم مثل الطاقة الكونية واستمدادها من الأحجار والأشجار والأشخاص لا يراها المتأسلمين إلا وثنية مقنعة ، بينما هي محور الخطاب التنموي المذكور والذي يؤكد رواده أن برامجهم هجينة من مختلف الحضارات ، والتي تخدم الإنسان بصفته إنسانا دون فلسفة أو دين أو معتقدات ثابتة ، وإنما هي روحانيات عامة تنمي الشخصية وتطور نوعية الأداء وتحسن صحة البدن والعقل والروح وتنشر الحب والسلام في الأرض وتدعو إلى التناغم مع الكون ويكسون هذه الخرافات والخيالات صبغة علمية لتنال القبول عند الناس ، فإن ذلك من الإسلام حتى ينطلى لك على بعضنا ، وقد صدق الله سبحانه فقال :"كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاءً وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ".

وتبيِّن المُعطيات الحديثة كما يرى محمود حيدر أنّ المَراجِع التأسيسيّة لمُصطلح «ما بعد العلمانيّة» تنحصر في أعمالٍ بحثيّة صدرت بعد العام 2010. وهذه الأعمال هي حصيلة مؤتمراتٍ خُصِّصت لتظهير هذه القضيّة. في مقدِّم الأفكار والنظريّات التي استندت إليها تلك الأعمال، هي ما اشتغلَ عليه عددٌ وازِنٌ من المفكّرين وعُلماء الاجتماع في مقدّمتهم: الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، والكندي تشارلز تايلور، وعالِم الاجتماع الأمريكي بيتر بيرغر، وعالِم الأنثروبولوجيا من أصل إسباني خوسيه كازانوفا.. إلى هؤلاء جمعٌ آخر من الباحثين في الفلسفة وعِلم الاجتماع السياسي ممَّن أَسهموا بصورةٍ مباشرةٍ وغير مباشرةٍ في تسييل الكلام على فكرة «ما بعد العَلمانيّة». كان للألماني هابرماس ورفيقه الكندي تايلور على وجه الخصوص مجهودٌ مميّزٌ في التأسيس لنقاشٍ جدّيّ بصددها. ومن الأفكار التي شكَّلت أحد أبرز خطوط الجاذبيّة في هذا النقاش، حديثهما عن عالَم ما بعد عَلماني أَخذت مَعالِمه تظهر في المجتمعات الحديثة. وهو الأمر الذي ولَّد احتداماً فكريّاً غير مألوفٍ مؤدَّاه: أنّ العصر العَلماني قد بلغ منتهاه، وأنّ العالَم الأوروبي المُعاصِر دخلَ في واقعٍ جديدٍ لم يعُد فيه الكلام على العَلمانيّة بمعناها الكلاسيكي أمراً جائزاً.

أمّا السؤال الأكثر مُدعاة للنقاش المُقبل، فهو التالي: ماذا بعد مفهومٍ غامض ومُلتبس الدلالة كمفهوم «ما بعد العلمانيّة»؟.. وهل ثمّة سياقٌ تاريخي حضاري آخر تستثيره مثل هذه الأطروحة، ويستوي فيه شأنُ العالَم مع الإيمان الديني على نصاب التكافؤ الخلاّق؟

هو سؤال يستأهل الخَوض في رحابه على الرّغم من طابعه الاستباقي. ذلك أنّه يَستدرج إلى مُنفسحٍ تنظيري لا يقتصر على الغرب الأوروبي فحسب، وإنّما أيضاً على بقيّة العالَم. ولا مناصّ من الإشارة هنا بوجهٍ خاصّ إلى ما يتوقَّع من تنظيرات في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة. فعلى الرّغم من أنّ الدخول إلى فكرة ما بعد العَلمانيّة والسفر في عوالِمها، لا يزال ينطوي على حذرٍ لافتٍ بين مفكّري الغرب وفلاسفته، فلا ينفكّ التعامل مع هذه الفكرة في البلاد العربيّة والإسلاميّة بمَنهج نظر يشوبه التبسيط والاختزال، مثلما يَحكمه الاندهاش والاستغراب كما يرى محمود حيدر.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة – جامعة أسيوط

........................

المراجع:

1- حركة العصر الجديد.. وثنية مقنعة وعلوم زائفة.. مركز رواسخ.. يوتيوب.

2- تجميل العلمانية.. القناع الزائف والوجه القبيح.. مركز رواسخ.. يوتيوب.

3- التحليل الأيديولوجي للإلحاد | الدكتور نذير خان | ترجمات

4- زهير الخويلدي: الحاجة إلى الإيمان في عصر ما بعد الدين.

5- محمود حيدر: «ما بعد العلمانيّة» كمفهوم مُثير للالتباس.

في المثقف اليوم