أقلام فكرية

الكسندر كوجيف ونهاية التاريخ (2-3)

ترجمة: علي حمدان

الكسندر كوجيف (Alexander Kojeve) (1902-1968)، كان مسؤولا عن التقديم الجاد لهيجل في الفلسفة الفرنسية في القرن العشرين، مؤثرا في عدد كبير من المفكرين الفرنسيين وبالذات أولئك الذين كانوا يحضرون دروسه حول ظواهرية العقل في باريس في الثلاثينات من القرن الماضي. كان تركيزه على فلسفة التاريخ لدى هيجل وقد اشتهر بنظريته حول نهاية التاريخ ومبادرته حول ما يسمى بالوجودية الماركسية. كوجيف يصل الى تفسير اصيل من خلال قراءة هيجل من خلال نظريتين  مزدوجتين المادية التاريخية لماركس وانطولوجيا هايدجر الزمنية.

تأثير ماركس

فلسفة هيجل للتاريخ العالمي توفر الاطار الأساسي لموقف كوجيف الفلسفي. التاريخ هو حركة عملية تتعرض فيها التناقضات للمصالحة، حتى تتوج في "نهاية التاريخ". وإكتمالها في مجتمع عالمي يتم فيه الاستحقاق المتبادل.

ومع ذلك، يقوم كوجيف بإعادة صياغة هيجل بعدد من الطرق الحاسمة (بين دارسي هيجل، هذه الطرق مثيرة للجدل)*.  يمكن تحديد اول هذ الطرق باعتبارها من  تأثير ماركس. وخاصة كتابات ما يسمى ب" مخطوطات 1848 ". كوجيف يتبع " "الهيجيلية المقلوبة " لماركس عن طريق فهم عمل التطور التاريخي بمصطلحات مادية على نطاق واسع. صنع التاريخ لم يعد مجرد حالة عمل العقل في العالم، بل يعود الى نشاط الانسان ككائن ينتج كيانه بشكل جماعي. يحدث ذلك من خلال العمل علي الاستيلاء على عالمه المادي وتحويله من اجل تلبية احتياجاته الخاصة. في حين تعطي العقلانية المثالية لهيجل الأولوية لإشكال الوعي التي تنتج العالم كما هو مجرب، يتبع كوجيف ماركس في ربط الوعي بالعمل في الإنتاج المادي وإشباع رغبات الانسان. بينما يستعيد هيجل  الوعي البشري الى كلية لاهوتية  (جايست او "الروح المطلقة"). يقوم كوجيف بعلمنة التاريخ البشري. يراه فقط نتاج تصنيع الانسان لذاته. في نهاية المطاف مصالحة الانسان مع الله (الكلي او المطلق)، يرى كوجيف ان الانسان يمكنه تجاوز اغترابه بعوامل إنسانية. يرى هيجل نهاية التاريخ كلحظة المصالحة النهائية مع الله او الروح، فان كوجيف (مثل فيورباخ وماركس) على انها سمو الوهم، حيث يستعيد الانسان الله  (جوهر الانسان المغترب) بواسطة الانسان. بينما توفر الكلية الهيجيلية مجموعة سابقة من العلاقات الانطولوجية بين الانسان والعالم في اطار استيعابها من خلال وعي متنامي. يرى كوجيف ان العمل الإنساني هو العملية التحويلية التي تنتج العلاقات الانطولوجية. بينما يمكن القول ان هيجل يقدم علاقة "شمولية" بين الانسان والطبيعة، موحدا الاثنين في المطلق، يرى كوجيف تنافرا أساسيا بين المجالين، مما يوفر الشروط لإنتاج الانسان لذاته من خلال نشاطاته النافية والتحويلية.

ربما يكون المفتاح المفاهيمي لمفهوم كوجيف للتاريخ العالمي هو الرغبة. تعمل الرغبة كمحرك للتاريخ- انها سعي الانسان في تحقيق رغباته التي تدفع الصراعات بين الناس. الرغبة هي سمة دائمة وعالمية لوجود الانسان، وعند تحويلها الى عمل فأنها تشكل أساسا لكل "وكالة" تاريخية. الرغبة في "الاعتراف"، وتأكيد قيمة الانسان وتلبية الاحتياجات، تدفع نحو النضال والصراع الذي يحقق التقدم التاريخي. يتحرك التاريخ من خلال سلسلة من التكوينات المحددة، تتوج بنهاية التاريخ، وهي حالة تتحقق فيها الإنسانية المشتركة والعالمية وبشكل نهائي. ويتضمن ذلك تشكيل مجتمع .. يتعرف فيه على القيمة الفردية الخاصة والشخصية لكل فرد، وبالتالي، ستتقاطع القيم والاحتياجات الفردية في تسوية مشتركة (تشمل الرغبات والميول التي تحددها الانسانية بذاتها).

كيف ولماذا يتحقق هذا الادراك للتبادلية والمساواة؟ يتبع كوجيف عرض هيجل الشهير لجدلية "السيد والعبد" من اجل استنتاج التغلب الضروري على عدم المساواة والانقسام والتبعية. العلاقة بين "السيد" و"العبد" هي علاقة يتم فيها تلبية احتياجات المجموعة او الطبقة المهيمنة "الاسياد" من خلال اخضاع الاخرين "العبيد" او" المستعبدين". "العبد" موجود فقط لتأكيد تفوق وإنسانية "السيد"، ولتوفير احتياجات "السيد" من خلال تسليم عمله. ومع ذلك فان هذه العلاقة محكوم عليها بالفشل، لسببين أساسيين:  أولا، يرغب "السيد" في الاعتراف بإنسانيته وقيمته الكاملة وتأكيدها، ويستخدم "العبد" التابع لهذه الغاية. هذا يعني ان "السيد" على العكس من ذلك يعتمد على " العبد"، وبالتالي يقلب علاقة الهيمنة. علاوة على ذلك، تظل علاقة الاعتراف القسرية هذه غير مكتملة تماما، لأن "العبد" ليس في وضع يسمح له بمنح التأكيد بحرية، ولكنه مجبر على القيام بذلك بسبب تبعيته. التأكيد او الاعتراف الذي لا يعطى بحرية لا يهم شيئا. او كما يقول كوجيف:

العلاقة بين السيد والعبد ليس اعترافا بشكل صحيح...السيد. ليس الوحيد الذي يعتبر نفسه سيدا،....العبد، أيضا يعتبر نفسه على هذا النحو. ومن ثم، فهو معترف به في واقعه الإنساني وكرامته. ولكن هذا الاعتراف احادي الجانب، لأنه لا يعترف بدوره بالواقع الإنساني للعبد وكرامته. ومن ثم يتم الاعتراف به من قبل شخص هو لا يعترف به. وهذا ما هو غير كاف- ما هو مأساوي في وضعه ... لأنه  "السيد" لا يمكن ان يرضى الا بالاعتراف من شخص هو يعترف به.

هذا يؤسس الحاجة الأساسية للتعرف المتبادل والمساواة الرسمية. اذا التعرف على القيمة يجب ان يتأسس. انه فقط عندما يكون تبادل واعتراف بالجميع، يصبح الاعتراف باي شخص ممكنا بشكل كامل.

ثانيا: بالنسية لكوجيف (كما هو الحال، بالنسبة لماركس) فإن "العبد" الكادح هو مفتاح التقدم التاريخي. ان "العبد" هو الذي يعمل، وبالتالي  فهو وليس "السيد" الذي يمارس "سلبيته" في تحويل العالم بما يتماشى مع رغبات الانسان ورغباته. لذلك على المستوى المادي، يمتلك العبد مفتاح تحريره، أي اتقانه النشط للطبيعة. علاوة على ذلك، ليس لدى "السيد" رغبة في تغيير العالم، في حيين ان " العبد"، غير راض عن حالته، يتخيل ويحاول تحقيق عالم من الحرية يتم فيه الاعتراف بقيمته في النهاية، وتلبية رغباته الخاصة. الصراع الأيديولوجي للعبد هو التغلب على خوفه من الموت والنضال ضد "السيد"، مطالبا بالاعتراف بقيمته وحريته. كانت مصادفة الظروف المادية والأيديولوجية للتحرر واضحة بالفعل، بالنسبة لكوجيف من خلال ثورات القرن 18و 19و20. هذه النضالات وضعت الشروط لاستكمال التاريخ في شكل مجتمع عالمي.

تأثير هايدجر

اذا كان ماركس يوفر مصدرا مركزيا لإعادة قراءة كوجيف لهيجل، فان هايدجر يوفر المصدر الاخر. من هايدجر، يأخذ كوجيف الادراك بان الانسان يتميز عن الطبيعة من خلال علاقته الانطولوجية المميزة. حيث ان كيان الانسان مشروط  بطابعه الزمني الجذري، وفهمه لكيانه في الزمان، وباعتبار الموت افقه النهائي. تصدر انطولوجية كوجيف حسب   تحليل هايدجر ل"داساين  Dassein" في "الوجود والزمان "، والتي هي ذات طابع تجريبي ووجودي قبل كل شيء. من خلال جمع هيجل مع هايدجر، يحاول كوجيف تأريخ الوجودية بشكل جذري، مع منح تاريخية هيجل جانبا وجوديا جذريا، حيث تحدد الحرية الوجودية للإنسان كيانه، يتم فهم الحرية على انها العلاقة الانطولوجية للسلبية، عدم كمال الانسان، ان عدم اكتمال الكائن البشري " النقص التكويني " هو على وجه التحديد بسبب هذا النقص في الوجود الكامل الذي يختبره الانسان، (آو بالأحرى ليس شيئا سوى) الرغبة، سلبية الوجود، التي تتجلى كرغبة تجعل من الممكن صنع الانسان لذاته، يمكن اعتبار هذا الموقف مستلهما من نقد هايدجر للمغامرات الميتافيزيقية للفكر الغربي، التي يدعي انها وضعت رموزا ميتافيزيقية مؤكدة اسبقية الوجود على الصيرورة. (حيث يتم الكشف عن "كينونة الكائنات" بشكل مختلف في افق الزمان).

ان التنصل من مثل هذا التكوين الراسخ ميتافيزيقيا والازلي، في نهاية المطاف يحرر الانسان من "الحتمية"، "ويلقي به" في حريته الوجودية. في تفكير كوجيف، يكمن صراع الانسان في ممارسة هذه الحرية من اجل انتاج عالم يشبع رغباته، وفي هذه العملية يقبل حريته الخاصة ويتخلص من أوهام الدين والخرافات، ويطالب بشجاعة بوجوديته المحدودة او موته.

يمكننا رؤية كيف يحاول كوجيف توليف هيجل ماركس وهايدجر، من هيجل، يستلهم مفهوم عملية تاريخية عالمية تنكشف  فيها المصالحة التاريخية من خلال جدلية ذاتية، تؤدي الى الوحدة. من ماركس، يستلهم انثروبولوجية فلسفية علمانية غير لاهوتية، والتي تضع النشاط التحويلي المتمثل في الرغبة في مركز الصدارة في العملية التاريخية. ومن هايدجر، يستلهم تفسيرا وجوديا للإنسان ككيان حر وسلبي وزمني بشكل جذري. ومن خلال دمج هذه العناصر الثلاثة ، يقدم رؤية لتاريخ الانسان، حيث يدرك الانسان حريته في انتاج نفسه وعالمه في سعيه وراء رغباته، وبذلك يدفع نحو نهايته( المفهومة على حد سواء على انه تتويج او استنفاد، هدف او اكتمال).

***

....................

* راجع كتاب خفايا ما بعد الحداثة، د. شادية دروري ترجمة: د. موسى الحالول، دار الحوار، اللاذقية، سوريا.

موسوعة الفلسفة على الانترنت (ماجد يار).

في المثقف اليوم