أقلام فكرية

محمد كريم الساعدي: إشكالية الأفق الثقافي العراقي

إنَّ في وعينا المعرفي الكثير من الأفكار المتفقة تارة، والمختلفة حتى التناقض تارة أخرى، وهي من تفرض علينا طبيعة التواصل مع الحياة في مختلف مستوياتها من حيث تكوين المعرفة وإنتاجها وبلورتها في إطر ثقافية وفنية وأدبية على المستوى الإبداعي، أو على شكل أفكار تكون لدينا طبيعة الرؤية الاجتماعية والنفسية والصحية والسياسية وغيرها في الحياة. ومن ثم فإن المعطى المعرفي المتشكل لدينا قائم على طبيعة التجارب الحسية والإدراكات الحسية والعقلية في تشكيل التجربة الثقافية وما لها من انعكاسات بالغة الأهمية في الأجيال الذين سيقودون الحياة الثقافية من الجيل الحالي، كما كان من قبل الأجداد والآباء الذين ساهموا في تشكيل وعينا وجعلوا حضورهم يكون على حسب ما قدموه لنا.

ومن هذه المقدمة المختصرة في الرؤية التثاقفية الزمانية الحاكية عن التشكيل المعرفي - بين الأجداد والآباء والأبناء - المكونة للوعي المعرفي في أي بلد وهي ليست كما هو في المصطلح الدارج ما يسير إيقاع المعرفة وتتشكل الحضارة في مختلف صورها وتنهض العلوم والفنون والآداب لتصبح الأمم واعية في توجهاتها من خلال منظومة متكاملة شاملة لكل نواحي الحياة حتى تصل المجتمعات إلى التطور والنهوض بواقعها على وفق ماضيها، والحاضر الذي يرسم أفق المستقبل.

لكن في الرؤية التاريخية للمجتمعات المتنوعة إنَّ هذا الإيقاع الذي يرسم التثافقية الزمانية الحاكية عن طبيعة هذه المجتمعات يكشف لنا مدى التطبيق الحقيق للنهوض الثقافي والحضاري،وإشكاليته الاشتغالية في تكوين الوعي بهذا التواصل المعرفي بين الأجيال على مستوى نقل التجربة والاستفادة من المعطى السليم والمرتكز الواعي الذي يقدمه في رسم المستقبل. إذ نجد أن هنالك بعض التصنيفات التي نفترضها في قراءة بعض التجارب الأممية في ماضيها وحاضرها وما سيكون عليه مستقبل هذه الأمم من تباين بسبب عدم الاستفادة الحقيقة مما حفلت به هذه التجارب لديها. فإذا أردنا أن نوضح هذا التصنيف سيكون لدينا عدد من النقاط في هذه الرؤية، وهي:

1. التوافق الثقافي بين الماضي والحاضر / من الإيجابي إلى إيجابي مكمل له: إنَّ تجارب الأمم الواعية التي كونتها وعملت على دراسة التاريخ وما حفل به من إنجازات كبيرة لديها واستبعاد كل ما هو سلبي مؤثر في حاضرها من حيث التماسك والانسجام من أجل إكمال التجارب الماضية التي نهضت عليها في ماضيها القريب، وليس في كل تاريخها، على اعتبار أن التاريخ على مرّ أوقاته لا يمكن أن يحصى كونه تاريخ ناجح فقط، بل فيه إيقاع متذبذب بين النجاح والفشل، وما يعنينا في هذا الكلام هو الماضي القريب الذي يمتد إلى مئة سنة أو أكثر بقليل،  ومن هذه التجارب الناجحة المتوافقة بين الماضي والحاضر ثقافياً ما حصل في التجربة الأوربية وخاصة في الدول التي تفوقت في تجاربها وكان لديها سياقات عمل، كما في التجارب في الدول الإسكندنافية، وأخرى في شرق آسيا مثل اليابان وغيرها.

2. عدم التوافق الثقافي بين الماضي والحاضر / من الإيجابي إلى السلبي: وتوجد أمم قد تناقض ماضيها مع حاضرها ولم تعطي تجاربها السابقة فائدة مرجوة في تكوين وعي معرفي ثقافي في استلهام التجارب السابقة في بناء أفق ثقافي قابل للتمدد والتوسع بالطريقة التي يمكن أن يسهم في بناء قاعدة معرفية في الحاضر وتطويرها للأجيال القادمة في المستقبل، ومن بين هذه الامم ما حصل في العديد من البلدان التي يقع قسماً منها بما يسمى ببلدان العالم الثالث والتي بقيت على الرغم من أن لديها ماضٍ كان له لأثر الجيد في البدايات منذ تشكيلها كدول لكنها فقدت أُطر التواصل الحقيقي في هذا الجانب المعرفي والثقافي.

3. التوافق السلبي الثقافي بين الماضي والحاضر / من السلبي إلى السلبي: وهذه الأمم التي كانت في ماضيها لا يبدو لديها تقدم في المجالات الثقافية والمعرفية على مستوى الأفق العام، بل بقيت في دائرة عدم التطور والتحضر، مما جعل منها أمم لا تغادر سلبيتها الثقافية وبقيت في نفس الدائرة الثقافية الخاصة بها والمنغلقة عليها، ومن هذه الأمم بعض البلدان الأفريقية التي لم تخرج من إطار القبلية ذات الدلالات الطقسية المغلقة على نفسها.

4. المتغير الإيجابي في التوافق الثقافي بين الماضي والحاضر / من السلبي إلى الإيجابي: إنَّ من أهم ما قامت به الأمم في هذه النقطة تحديداً أنها تحررت من سلبيتها الثقافية التي فرضتها عليها طبيعتها وبيئتها الثقافية، وعملت على التغير وتكوين مفهوم إيجابي في المجالات كافة ومنها الثقافي، بحيث أصبح الأفق منطلق إلى الأمام بصورة إيجابية عابر للماضي الضيق ثقافياً، ومن هذه الدول بعض دول شرق آسيا، البعض الآخر التي تقع في الخليج العربي، فقد كونت لها أفق ثقافي على وفق المعطيات الجديدة التي نهضت عليها في المجالات كافة.

إنَّ الإشكالية التي وقعت فيها الثقافة العراقية وخاصة في المئة عام الماضية تحسب على المنظور الثاني من التصنيفات التي وضعناها في هذا المجال (عدم التوافق الثقافي بين الماضي والحاضر / من الإيجابي إلى السلبي) كون أن الدولة العراقية الحديثة قد تطورت بشكل مقبول في بداياتها وصولاً إلى العقدين الستيني والسبعيني من القرن الماضي، وكان الأفق الثقافي يسير بطريقة إيجابية في تشكيل بنى الدولة وكياناتها الثقافية المستندة على الصحة والتعليم والفن والأدب وغيرها من المجالات التي شكلت أفقاً معرفياً سليماً، على الرغم من المعرقلات التي رافقها العديد من الانقلابات العسكرية التي تجاوزها الأفق الثقافي في العراق، لكن ما حصل بعد حرب الثمانينات وحرب الخليج والحصار الاقتصادي والسياسات غير المنضبطة التي دهورت القيم الإنسانية في مختلف مجالاتها جعلت من الأفق الثقافي يقع في إشكالية ظهور القطيعة الثقافية مع ما تم انجازه في الماضي، ما جعل القضية تشكل تحولاً سلبياً في هذا الأفق، ومما ساعد تضييق الأفق أكثر هو الهدم الثقافي الذي عاشه العراق بعد الاحتلال الأمريكي الذي أسهم بشكل مباشر في تهديم القيم الثقافية ومرتكزاتها ومنها ما حصل في تكوين الانقسام المجتمعي والطائفي والمذهبي، ومنها ما حصل في تخريب سجل العراق ووثائقه التاريخية، وما حصل في المتحف الوطني، وغيرها من الأعمال التي مازال العراق يعاني منها ثقافياً ومعرفياً، مما أوجد ذلك قطيعة ثقافية مع الماضي الذي كان يسير بطريقة إيجابية، لكن التحولات جعلته ينحدر بطريقة سقوط من الأعلى إلى الاسفل بشكل غير مسبوق، وعلى الرغم من المحاولات التي قد تكون خجولة في إعادة الوضع وإصلاح الأفق الثقافي وتنقيته، ولكن هذا يحتاج إلى زمن طويل قد لا يشمل الأجيال الحالية، بل يحتاج إلى عقود أخرى من الزمن لإنهاء هذه الإشكالية في الأفق الثقافي العراقي.

***

أ.د محمد كريم الساعدي

في المثقف اليوم