أقلام فكرية

سامي عبد العال: فلسفة النِعال (4)

شيءٌ من المُفارقة أنَّ بعض (الأحداث الجسام) تليقُ بالنعال لا العكس، فالأخيرة عناصر أساسية لوجودنا لا مجرد أشياء هامشيةٍ. يقع النعل في المركز مما عساه أن يجري عبر الزمان والمكان. ومع حياتنا المشتركة بين البشر، يُوجد في الواقع صورة ونمط لحذاءٍ ما. إنه الدليل الذي يقودنا إلى الإنسان باختلاف هوياته. لكن أمراً كهذا يدفعنا إلى التعرُف فلسفياً على النعل، على الحذاء بصورةٍ مختلفة. السؤال المنطقي عندئذ: أهو وسيط بين جسمنا وجسم الأرض؟ هل يعد النعل تكملة لوجودنا؟ هل يأخذ معانيه من استعمالات خاصة بنا؟ هل يمثل النعل أثراً آخر فيما هو جمعي عام؟

لن تجدى الإجابات الخاطفة على تلك الأسئلة. لكونها استفهامات تمس وجودنا الإنساني في الصميم. وكذلك لن تكون ثمة إجابات مُريحة للوهلة الأولى. فالحذاء كموضوع لا يتم تخليصة من أنياب متغيرات كثيرة ... مثل الاقتصاد والسياسة والأخلاق والمعرفة والتقاليد وصور الناس عن بعضهم البعض. كما أنه يفرض علينا (قراءة فلسفيةً مغايرةً) ليست أقل. وهو ما يطرح فكرة طريفة أن الحذاء يضع وجودنا إزاء تاريخه الطويل. ويفتح مجالاً لقول الأشياء التي نتعامل معها بالأقدام بصورة واعيةٍ. لأنَّ تعاملاً بالأقدام يستدعى مفردةَ الحذاء ضمناً أو صراحة. فليس ممكناً المشي أو الركل أو الاحتكاك أو التعثر دون غطاء الأرجل. إن فهم عالم الإنسان يقتضي فهم الأشياء الدقيقة التي تنتمي إليه. ولا يوجد لدينا نحن البشر ما هو تافه على الإطلاق. التافه أكثر أهمية أحياناً من سواه!!

انفصال واتصال

من غير ارتداء الأحذية، سيشعر الإنسان بالعُري. احتكاك لحم الكائن الحي مع الأرض مباشرة. أي غرس أقدامنا عاريةً بالتراب، بالطين، بالحصى، بالرمال. وذلك التتابع بين مستويات الأرض توصله جلودُنا للعقول من خلال باطن الأقدام. فالاقدام ليست بعيدةً عن كيان الإنسان، لأنَّها حاملة للقوام والحركة وتمثل أداة التوازن للهامة. ويصعب أنْ تنفصل الأقدام عن جهازنا البيولوجي العام، لكونها جزءاً من جسمنا، وتجسد  كافة السمات التي تميز الإنسان.

تعبر كلمات النعال عن البدائل لشيءٍ ما في وجودنا: فالحذاء هو الخُف، هو المركوب، هو السوقاء، هو البُلغة، هو المُوق، هو القبقاب، هو الجزمة، هو المداس، هو الهنكارة، هو الصندل، هو البُوت، هو الشبشب، هو السباط، هو السندرة، هو الصندل، هو الكندرة، هو الصرماية لدى المشارقة، هو الريحية، هو الشربيل الفاسي المشغول بخيوط الحرير المذهبة للنساء لدى المغاربة. والكلمة الفارسية (سرموزة) كلمة تحدد دلالة الحذاء في الجماعات الناطقة بالفارسية. ويبدو أنه قد أخذت منها لفظة شرموطة لتكرار وطء الحذاء، وكانت الكلمة بمثابة (وصمة اجتماعية ) لنوع من أفعال النساء. وتلك الكلمات معبرة عن الاستعارات التي تأخذها النعال ثقافياً. فالمعاني تتبادل المواقع بين وصفٍ وآخر لتقدم لنا ما يعجز التعبير عنه لأسباب خاصةٍ.

الحذاء - على سبيل المعنى- كلمة آتية من حذو الشيء للشيء، أي رداء يجعل أقدام الإنسان حذو الأشياء أو أنها ستسير بحذو الأرض دون تعثر. وكأن الإنسان سيكون لصيقاً بعالمه وأنه كائن من ضمن الكائنات المتواجدة معه. والمركوب إشارة إلى ما يلبس كأنَّه يقل الإنسان إلى حيث يريد. وينطبق المركوب على الأشياء الكبيرة كالسيارات والطائرات والحيوانات التي تقل البشر. فهي تقلُنا ركوباً داخلها وقد استطاع الشخص التنقل والترحال.

البُلغة هي ما تبلغ الإنسان نقطةً معينةً تجاه ما يذهب إليه. وهي مرتبطة بالابلاغ من.. إلى. فبلغ الشخص مكاناً معيناً، يعني أنّه قد ذهب إليه قصداً. والواقي الذي يغطي أقدامه يُسمى بُلغةً. ومازالت البُلغة ذات شكلٍّ خاص في بعض الأرياف المصرية. فهي حذاء بسيط وغير معقد ويشعر الشخص معه بالإرتياح، عندما يلبسه وعندما يسير بهدوء وسكينة. والبلغة سهلة الخلع واللبس مباشرة. وقد  يشعر الإنسان بالأرض شعوراً هيناً حينما يضعها في قدميه. كما أنها في الثقافة رمز للضرب وأداة للتأديب والتقليل من شأن الآخرين عند استخدامها.

ورغم تنوع المفردات الدالة على الحذاء إلاَّ أن المعنى واحد: غطاء يختص بوقاية الأقدام. الحذاء بعض من وجودنا الحائل دون التلامس بما هو صلب أو هش. الحُفاة هم من لا يرون هناك وسيطاً بينهم والأرض. لدرجة أنَّ المُباشرة المادية بين جسمين لون من الإلتصاق بالأصل، بالعمق. جسم الأرض وجسم الإنسان، وليس هناك إحساس يعادل شعور الإنسان بالتراب. وكأن أقدام الإنسان ترسمُ آثاراً باقية في عقله بصورة فورية. لأن الأقدام مركز التوازن البيولوجي وتشكل علاقة حيوية مع المكان الذي نتواجد فيه.

عن طريق الحذاء، أراد الإنسان القول إنّ هناك (اتصالاً وانفصالاً) بينه والعالم في الوقت نفسه. أي علاقة منطقية قائمة على بناء الثقافة. لأنَّ الأحذبة صناعة ثقافية بالدرجة الأولى. لو أردنا أنْ نلخص تاريخ الحذاء، فلابد من اختصاره في تاريخ الثقافة. تراث الانفصال الإنساني عن عناصر العالم. الشكل والوظيفة والماهية والتغيرات والترقيع والاصلاح .. جميعها تخضع لأساليب الثقافة. ومنذ بدأ الإنسان انفصالاً عن جسم الطبيعية، استطاع أن يصنع شيئاً رمزياً آخر. وهذا هو سبب أنَّ الأحذية تكتسب أهميتها الحياتية والقيمية في كافة المجتمعات. الأقدام مواد متاحة ضمن خريطة الجسم الإنساني. فهي مصممة بيولوجياً كأنها واقفة أو ملتصقة بالأرض. لكن البشر أرادوا تاريخياً انتزاع انفسهم من الإلتصاق بالأشياء. حيث سادت فكرة أن الابتعاد عن مادة الطبيعة قدرة بشرية على الاستقلال وبناء هويةٍ خاصة بنا.

ما الذي يعنيه الإنفصال الذي تسببه النعال؟ يعنى أنَّ هناك وعياً بحركة الإنسان أيا كانت. الوعي يقول إن الأرض أرض والإنسان إنسان، وإنه ليوجد مسافة يترقب فيها البشر قدرتهم على الاختلاف. في المسافة الجلدية (الحذاء) بين الأقدام والتراب، تكمن تصورات التوازن والتعالي والأسبقية وصناعة الأدوات. وربما هذا الذي جعل المجتمعات تتفنن في تشكيل الأحذية بأشكال وأنماط غريبة وعجائبية. وكانت محطَّ عناية البشر بتباين الأماكن والأزمنة.

تكملةٌ وعُري

يكمل الحذاء جسم الإنسان. على الرغم من أنَّ الأصل في الإنسان شعوره بالإكتفاء والاستقلال. عدم وجود الحذاء يسبب نقصاً بطريقة أو أخرى. وليس ذلك أمراً جوهرياً في ذاته، لأنَّ الجوهر هو سير الإنسان حُراً من أية تكملة. وكانت بدايات البشر كونهم (حفاةً عراةً) إلاَّ من بعض ما يغطي عوراتهم. إنَّ الحفاء كان تعبيراً عن الاكتمال بالطبيعة أو أنَّ الانسان البدائي كان يجد اتصالاً مع مواد وأشياء العالم مباشرةً. أي التلامس الحسي الذي يجعل الإنسان كائنا حيّاً على الأصالة. ويدمج وجوده الآدمي مع الكائنات الأخرى دون مباعدةٍ. فالانطلاق هو الخلفية التي تعطي الإنسان وجوده، والحذاء في عصور غابرة كان عائقاً عن ذلك. وبلاريب فقد مر البشر بأزمنة طويلة حتى يعتادوا على لبس الأحذية.

وبخاصة أن الأساس لدينا نحن البشر هذا الإندماج، حتى ولو جاء متأخراً. فنحن على الشواطئ وعلى الصخور ووسط الغابات وفي عمق الحقول، نريد من حين لآخر خلع نعالنا كي نحس بوجود الأرض، وهو الإساس الأم الذي يستغرقنا طوال الحياة في ممارسات كثيرة. ولم يملك الفرد إلاَّ التشوف إليه. يا لهذا الاحساس المتفرد لنا نحن البشر وسط الطبيعة!! فهو ليس لمساً عادياً ولا مجاورةً ولا تسانداً خارجياً بين كائن حي اسمه الانسان والطبيعة الأم، لكنه الشعور الماهوي داخل حضنها الكبير بأنك كما أنت. إحساس يلتقي داخل أعماقنا وأعماق الحياة بالتوازي. هو احساس الحياة بنفسها من خلالنا. وهو التزامن الحي الحميم، على الرغم من كونّه يعود بنا إلى عصر ما قبل الحذاء.

الحذاء تنبيه دائم بهذه الطفرة التي حدثت للأقدام. هل يؤدي ذلك إلى إخفاء الجانب اللمسي للأقدام؟ بالطبع لا..  فالأقدام لا تقل أهمية عن الرأس مهما لاقت من دونية، كما أنها ترنو إلى التجوال عارية. وما التنوع المذهل في موديلات الأحذية إلاَّ اخفاء لهذا الحنين البيولوجي القابع في جوانج البشر. لأن الثقافة– مع امتدادها التاريخي- تمثل استجابة لحنين الإنسان وبدائل له بالوقت نفسه. وكلما كانت مشاعر الحنين غائرةً، كانت البدائل وافرة التجدد والتعقيد. فلو شعر الإنسان بأي حنين، ستقفز الثقافة لإحتوائه صانعة له ما يشغله طوال الوقت. من ثمَّ استطاع البشر بهذا المنطق بناء وجودهم الاجتماعي.

ومن يفهم لعبة المجتمعات البشرية إزاء بناء حياتها الخاصة، سيكتشف قدرتنا على الموازاة السحيقة بين الحذاء والمجتمع. الاثنان ممكنان في التاريخ من حيث أنهما من جنس المهارة الثقافية للبشرية. فالمجتمع يغطي الأفراد بكمٍ من الأغطية الإجتماعية والوجودية، ولا يترك لهم فرصة للتعري إزاء غوائل الآخرين أو غوائل الطبيعة. والحذاء يغطي الأقدام بشكل رمزي ويحُول دون العُري الذي يُدمي الأقدام. وبخاصة مع انهماك الأفراد في الأعمال الشاقة والرحلات الطويلة والذهاب والإياب بين الأماكن.

فلم يعد إنساننا المعاصر كائناً يذهبُ إلى الغابة لجلب الثمار وتسلق الأشجار وقنص الحيوانات للطعام. لكنه- من جانبٍ آخر- لم يكف عن الذهاب داخل أخيلة الآخرين، سواء أكان بواسطة عمل بارز أم إنجاز لافت. فجاءت الأحذية الراهنة بمثابة الغلالة التي تُغطي الأقدام، وكذلك تعطيه إشارة مرور وسط الغابات الثقافية والرمزية المتشابكة.

تلعب الثقافة الإنسانية لعبتها الإستعارية في تغذية المجتمع والحذاء برغباتٍ يتعلق بها الإنسان كتعلق الغريق بقشةٍ للنجاة. فيقال إن الحذاء هو المفتاح لشخصية الإنسان، بحكم كونه محطّاً للذوق الجمالي واتساق الشكل والألوان وطريقة المشي والحركة. تماماً مثلما يُقال إن المجتمع مُتقدم ويعطي مساحة لحرية الأفراد. الاستعارات واحدة ويتسلق الأفراد عليها بلوغاً إلى اهدافهم. ففي المناسباب المهمة- اجتماعياً بالأساس- يحرص الأفرادُ على ارتداء أفخم الأحذية واعطائها مساحة من الظهور الجذّاب.

***

د. سامي عبد العال - أستاذ فلسفة

في المثقف اليوم