أقلام فكرية
اسعد الامارة: النفس مرآة لدواخلنا!!

عندما تُرسل فكرة أو معنى تصل بشكل مختلف عما كانت عليه في الأصل "جاك لاكان"
في هذه السطور محاورة نفسية بين ما هو موجود في البيئة الخارجية وما تدركه النفس وتفسره، وهي محاولة علمية إجتهادية على ضوء فكر التحليل النفسي من فرويد إلى جاك لاكان المحلل النفسي الفرنسي. التحليل النفسي هو معرفة النفس بما يجري في داخلها، وما يعكسه من الخارج ليستقر ربما فيها، في عالم اللاشعور – اللاوعي، يستدعي الإنسان أحيانًا بعض ما تم خزنه لاشعوريًا ليشرح أو يفسر للنفس عما أدركه، فيفسر ذلك المدرك من الخارج، فيعود مختلف ومَحور تمامًا ليس كما تم خزنه أو كبته، أو خُزن، فاللاشعور هو اللغة التي تصل إلينا من اعماق النفس وقول "جاك لاكان" المحلل النفسي الفرنسي مجدد التحليل النفسي أن اللغة هي ما يحدد الإنسان. ونقول أن لغة اللاشعور – اللاوعي هي التي تفسر ذلك المُدرك، فيصدق قول لاكان أن اللغة هي ما يحدد الإنسان.
إن الخارج أقصد " البيئة الخارجية" لأي منا هو ما يدركه من صور، أو حديث، أو حوار مع الآخر من زملاءه، أو المحيطين به، لا بل ما يشاهده في معظم الأوقات من علامات تُعبر عن دلالة يعرفها الجميع في المجتمع، هي لغة تنبع من لاشعور – لاوعي الفرد فبعض الصور مثل علامة ممنوع الدخول، أو هذا المكان مخصص للعوائل، أو لا يسمح لبيع هذه المواد من هم أقل من ثمانية عشر عام مثل الادوية، أو المشروبات، أو علب السيكاير، أو يمنع دخول السافرات في هذا الحرم الديني مثل المسجد، فتضطر المرأة حتى الأجنبية منهن أن تضع على رأسها شال " حجاب" لكي يسمح لها بالدخول وغيرها من الرموز التي تواجهنا ونحن في حياتنا اليومية.
نتساءل ما هي دلالاتها فيجيب " جاك لاكان " قوله: النقاط أو الرموز تعكس فكرة " غياب المعنى "، الغياب " أو النقص" في النصوص الرمزية ليس نقصًا عرضيًا بل أساسيًا. ويورد لنا " لاكان" بأن الهيمنة الرمزية هي السائدة في اللاشعور – اللاوعي، فما ندركه من العالم الخارجي ويثير فينا لحظة تأمل، أو وقفة، وربما لم تكن غير التفاتة عابرة لكنها تركت فينا الأثر، هي رسالة ذهبت إلى العالم الخفي وهو اللاوعي، ويضيف " لاكان " الرسالة ليست مجرد نص مكتوب، بل هي رمز في بنية اجتماعية، انتقالها عبر المحطات في المخطط يرمز إلى الدور الذي تلعبه الرموز، أو العلامات ضمن نظام رمزي ومنها اللغة، العلاقات الاجتماعية، السلطة، الدين، التقاليد والاعراف الاجتماعية وغيرها ممن تشكل سلوكنا الذي نتعامل به مع الآخر، أو ممن يعلمنا برضانا ونرضخ لتعاليمه، أو مرغمين على قبوله وهو الأخ الكبير " الأب، الأم، أو بديلهما ".
يعرفنا " لاكان " بأن هناك علاقة بين اللغة والرموز وهي علاقة رمزية فمثلا مواقف الحياة وأسلوب التعامل يحمل العديد من الجوانب التي شكلت هذا السلوك الذي يصدر منا في مواقف مختلفة، أو ما تعنيه الإجابة عن حدث، أو استرجاع معلومات تم خزنها واستعادتها في إمتحان لطالب، أو طالبة، استدعيت للإجابة على هذا السؤال المحدد، فيذهب الطالب لاستخراج تلك المعلومات بشكل ربما أقرب الى المطلوب وليس مثله تمامًا إلا إذا كان خزنه كقصيدة، أو معلومة وقول " لاكان " عندما تمر الرسالة من الذات إلى الآخر، أو العكس، فهي دائمًا تخضع لتحولات، لأنها تعبر عبر بنية رمزية لا يمكن للذات أن تسيطر عليها بالكامل، وهذا ما سماه علماء نفس الجشطلت التشوه الإدراكي، ويتفق تمامًا مع رؤية لاكان الفرويدية، وتختلف عنهم في الآن نفسه " رؤية التحليل النفسي بوجود لاشعور – لاوعي وهو الذي يضم الكثير من المخزونات غير المخزونة آليًا وقول " لاكان " اللاوعي ليس مجرد مستودع للرغبات المكبوتة، بل هو " منظم رمزي " يعمل عبر اللغة، كل معنى يمر عبر اللاوعي يتم إعادة تشكيله على وفق القواعد الرمزية واللغة مما يسبب تحريفًا في الرسالة، أو لنقل المدرك، هذا التحريف أو الانعكاس يحدث لأن اللاوعي لا يعمل على وفق المنطق المباشر، بل عبر الانزلاق بين العلامات والمعاني كما عبر عنه لاكان.
عندما تُرسل فكرة أو معنى تصل بشكل مختلف عما كانت عليه في الأصل " جاك لاكان " ويرى أيضًا لاكان التحريف بأنه يحدث لأن الفرد يقرأ الرسالة بناءً على ما يريد هو قراءتها وكذلك على موقعه في النظام الرمزي " وهو القيم الاجتماعية السائدة، القانون، السلطة، التربية والتنشئة الاجتماعية، الضبط الاجتماعي" مما يعيد تشكيل الرسالة لتناسب غاياته أو تصوراته، ويحق لنا القول بإن دواخلنا تحدد سلوكنا بالقبول أو بالرفض، باللف أو بالدوران فيما نقبله، أو نشك في قبوله، أو تحدد النفس الريبة فيه أو اليقين !! وتؤكد لنا المقولة النفسية التالية نحن نرى ما نراه، لأننا نريد أن نراه، وليس الذي يجب أن نراه، وهو مبدأ نفسي يسمى مبدأ الحساسية الإنتقائية في الإدراك.
لذا عندما نستلم رسالة من الأخر الذي هو نظيرنا في الوجود، أو محدثنا في الكلام، أنا الذي أحدد ماهية هذه الكلمات، أو الذي اسمعه منه، وما هي نوع النبرة الصوتية، كيف أدركها تمامًا، هل هي محببة، أم تحمل شيء من التحدي أو الازدراء فارفضها أما علنًا، أو مع نفسي، والأمر سيان إذا كانت علامة في الشارع وهي تعبر عن خطوط العبور للمارة، أو علامة تحذير لوجود روضة أطفال، وربما يَعبر بعض الأطفال من هذا المكان. ربما يعترض البعض على ماهية العلامة ويصفها بإنها تقليل من قيمة الإنسان، أو احترامه، لأنها تبرمج سلوكه، والبعض الآخر يدركها بأنها تحمل سمات التحضر، فهي رسالة لنا ندركها نحن، بأن فيها معاني متنوعة عند من يسكن المدينة، أو القادم من الارياف، أو الذي يعيش في بيئة خارج هذا المجتمع، كما هو الزائر لبلدان في افريقيا تعيش قيم وعادات واعراف مختلفة عن إطار الفرد المرجعي وما كَونه من بنية اجتماعية. ونقول أن دواخلنا تحدد ما نريد تفسيره، أو معرفته، أو قبوله وهو الأمر الذي تتشابك في اصدار أنفسنا أحكامًا له، بمعنى أدق.. النفس هي التي تحدد ما نريد الاعتراف به، بنقائه، أو تلوثه، ويبقى التساؤل مفتوح بلا إجابات.. ما أصعب النفس في أحسن أحوالها، فكيف هو الحال في أسوأ أوضاعها؟
***
د. اسعد الامارة