أقلام فكرية
عبد الحليم لوكيلي: توماس هوبز ومنشأ اللغة / الكلام

بما أن هناك اختلاف في تحديد مصدر نشأة اللغة بين الديني والفلسفي، فإن هوبز ينطلق من تأكيد مفاده أن «أول مؤلف للنطق كان الإله نفسه، الذي علم آدم كيف يسمي المخلوقات التي جعلها ماثلة أمام بصره.».[2]وهي أطروحة يستند فيها إلى جملة من النصوص الدينية التي تؤكد أن الإله أول خالق لنشوء الأسماء والكلمات التي تطلق على الأشياء والموجودات في العالم. وأول هذه النصوص ما جاء في العهد القديم من الكتاب المقدس، حيث يقول الإله: «وجبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء، فأحضرها لآدم ليرى ماذا يدعوها، وكل ما دعا به آدم ذات نفس حية فهو اسمها.»[3]، أو كما جاء في نص ثان يقول فيه الإله «فدعا آدم بأسماء جميع البهائم وطيور السماء وجميع حيوانات البرية.»[4].
تفيد هذه النصوص الدينية السالف ذكرها، أن الإله لما خلق آدم علمه الأسماء كلها التي تطلق على الأشياء في العالم، وبذلك، فهو أول مؤلف وخالق للغة عند البشر. وإذا نظرنا إلى مسألة تعليم آدم أسماء الأشياء والمخلوقات من زاوية منطقية، سنجد أن هذه القصة مقبولة ذهنيا، من حيث إن آدم باعتباره كائنا بشريا يتصف بالنقص والمحدودية، فإنه لا يقدر على تخيل شيء، أو التفكير فيه، دون أن يكون له به اطلاع مسبق. يعني ذلك، أن آدم لو ترك بدون أن يعلمه الإله اللغة، ما كان في إمكانه أن يعرف مسميات الأشياء، بل ما كان في مقدرته أن يفكر في الأصل. ذلك، أن اللغة هي وسيلة الإنسان في التفكير، وأداته في إبداع المفاهيم والتصورات والنظريات. بمعنى آخر، إذا كان العمل كما يقال هو الوسيط بين الإنسان والطبيعة، فإن اللغة هي الوسيط بين الفكر والوجود. فالفكر «ليس شيئا داخليا، ولا يوجد خارج دائرة العالم والكلمات.»[5].
وإذا كان «الكلام هو حركة ودلالة العالم»[6]، فإن تعليم آدم أسماء الكائنات التي خلقها الإله، كانت له غاية هي تزويده بما يقدر به على التفكير في العالم الذي سيوجد فيه، نتيجة ارتكابه للخطيئة بحسب النصوص الدينية. غير أن القول بكون الإله هو المؤلف والخالق الأول للكلام، من باب أنه علم آدم جملة من الأسماء التي تطلق على الكائنات والمخلوقات، يضعنا أمام مشكلة تتجلى في التساؤل حول ما إذا كان الإله قد علم آدم الأسماء كلها، أم بعضها فقط[7]. بمعنى آخر، هل وهب الإله لآدم كل الكلمات والأسماء التي تطلق على الأشياء والكائنات منذ بداية البشرية إلى اليوم، أم أنه لم يزوده إلا ببعض ما يقدر به على إبداع أخرى؟
لم يعلم الإله آدم إلا ما هو ظاهر أو ماثل أمام بصره، أما ما لم يكن ماثلا أو ظاهرا له، فقد ترك للإنسان حرية إبداعه بما يتماشى وقدراته وإمكاناته. لكن مهما يكن مقدار ما تعلمه آدم من أسماء الكائنات التي كانت متجلية أمام بصره، فإن تعلمه ذاك «كان كافيا لتوجيهه نحو إضافة تسميات أخرى، بمناسبة اختباره للمخلوقات ولاستخدامها، وربط هذه التسميات تدريجيا لكي يجعل نفسه مفهوما. وهكذا، اكتسب مع الوقت مقدارا من النطق كان كافيا لاستخدامه، وإن لم يكن بالقدر الذي يحتاج إليه خطيب أو فيلسوف.»[8]. فتعلم آدم لبضع كلمات وأسماء من الإله، لم يكن وسيلة لجعله في مستوى انعدام الحاجة إلى اختراع وإبداع أسماء أخرى، وإنما كان أداة مساعدة لجعله قادرا على التفكير والإبداع لمجموعة من الأسماء التي لم يتعلمها مسبقا من الإله.
وبهذا المعنى، فالإنسان يعد مؤلفا ثانيا للغة، من حيث إنه استطاع أن يصنع لنفسه جملة من الكلمات والأسماء الجديدة التي لم يكن آدم نفسه على علم بها. إن الإنسان (آدم) في تعلمه لبضع كلمات وأسماء، كانت كافية لكي تجعله مبدعا لمجموعة من الكلمات والأسماء الأخرى، بل إن صنعه ذاك سيتجاوز صنع الكلمات والأسماء إلى صنع لغات متعددة ومختلفة من حيث النطق، يرمز بها إلى الأشياء والكائنات والعلاقات الرابطة بين الأفراد في المجتمعات البشرية. غير أن هوبز في سياق إبراز مدى قدرة الإنسان على صنعه وإبداعه للغة، يستند إلى حدث ديني كان سببا في أن يأخذ الإنسان على عاتقه ابتكار كلمات وأسماء جديدة، يتعلق الأمر بما حدث في برج بابل من نقمة أنزلها الإله على عباده هناك، أتلف بها لسانهم، وضيع عنهم ما كانوا يملكونه من كلمات وأسماء نتيجة تمردهم. وهو حدث مذكور في العهد القديم من الكتاب المقدس، حيث نجد في الإصحاح الحادي عشر ما يلي:
«وكانت الأرض كلها لسانا واحدا ولغة واحدة (1). وحدث في ارتحالهم شرقا أنهم وجدوا بقعة في أرض شنعار وسكنوا هناك (2). وقالوا هلم نبن لأنفسنا مدينة وبرج رأسه بالسماء، ونصنع لأنفسنا اسما لئلا نتبدد على وجه كل الأرض (4). فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما (5). وقال الرب؛ هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم بالعمل. والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه (6). هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض (7).»[9].
فانطلاقا من هذه الآيات الدينية يتبين أن ما تعلمه آدم ونسله ضاع ونسي في برج بابل الذي سمي كذلك، نتيجة البلبلة التي أحدثت هناك بسبب تمرد نسل آدم على تعاليم الإله. ومن نتائج ضرب «يد الإله كل إنسان لتمرده»[10]أن ذلك أدى إلى تفرقهم في أنحاء كثيرة في الأرض، الشيء الذي يلزم عنه «أن تنوع اللغات القائم الآن قد صدر عنهم تدريجيا، وفق ما اقتضت حاجتهم، التي هي أم الاختراع، وأصبح مع الوقت أكثر غنى في كل مكان.»[11]كما يقول هوبز.
وبناء على ما سبق، إن ما يسعى إليه هوبز في عملية استحضاره لهذه الأحداث الدينية التي تبين النشأة الأولى والثانية للغة، هو التأكيد من جهة؛ أن النشأة الأولى للغة كانت دينية، بحيث إن الإله هو المؤلف الأول للغة[12]، لكن من جهة أخرى؛ وبما أن ما تعلمه آدم قد ضاع في برج بابل، فإن حاجة الإنسان إلى اللغة أدت به إلى اختراعها، وبذلك، فاللغة كصنعة ثانية بعد الإله هي صنعة بشرية خالصة[13]. بمعنى آخر، فحتى وإن كان آدم قد تعلم من الإله مجموعة من الأسماء والكلمات التي أضيفت لها أخرى، وتم ضياعها نتيجة تمرد نسله في برج بابل، فإنه لا وجود في الكتاب المقدس لشيء «يمكن أن نستخلص منه، مباشرة أو باستنتاج أن آدم قد تعلم تسميات كل الأشكال، والأعداد، والمقاييس، والألوان، والأصوات، والتخيلات والعلاقات، أو تسميات تتعلق بالكلمات وصيغ الكلام، مثل "عام"، و"خاص"، و"إثباتي"، و"إنكاري"، و"استفهامي"، و"دال على التمني"، و"مصدري"، وكلها ألفاظ مفيدة، وأقل من هذا كله "كيان"، و"قصدية"، و"جوهر"، وباقي الكلمات المدرسية التافهة.»[14].
نخلص من خلال تحليلنا لمسألة نشأة اللغة عند هوبز، إلى التأكيد أن اللغة اتفاق وتوافق بين البشر؛ بما يفيد أنها صناعة بشرية غايتها تسمية ما يوجد في الوجود من أشياء وكائنات. «فاللغة عنده بناء صناعي، مثلها مثل المجتمع المدني، وهي ليست نحوا طبيعيا، وهي لهذا السبب لم تأت عن طريق ضرورة طبيعية مثل إشارات الحيوان.»[15]. وإذا كان الأمر كذلك، فإن هوبز لم يتوصل لهذه الأطروحة بناء على رؤية تاريخية، وإنما وفق تحليل منطقي عميق للمسألة[16]، استدعى منه ذلك، البدء من اللغة كما هي عليه كمظهر أو كأثر، ومن ثم، عمل على الكشف عن أسباب وأصول حدوثها، التي تبتدئ دينيا كتوليفة إلهية إلى أن تصير توليفة بشرية بعد ضياعها.
***
د. لوكيلي عبد الحليم
أستاذ مادة الفلسفة - المغرب
......................
المصادر والمراجع
[2] توماس هوبز. اللفياثان: الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة. ترجمة ديانا حرب وبشرى صعب؛ مراجعة وتقديم رضوان السيد. ط. 1. (أبوظبي: معهد أبو ظبي للثقافة والثرات، 2011)، ص. 40.
[3] الكتاب المقدس. العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح الثاني رقم 19. (نقلا عن: http/www.st-takla.org)
[4] الكتاب المقدس. العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح الثاني رقم 20. (نقلا عن: http/www.st-takla.org)
[5] موريس ميرلوبونتي. ظواهرية الإدراك. ترجمة فؤاد شاهين. ط.1. (الرياض: معهد الأنماء العربي، 1998)، ص. 156.
[6] المرجع عينه، ص. 157.
[7] في القرآن مثلا، لقد أجيب عن هذا السؤال، حيث جاء في الآية 31 من سورة البقرة الآتي: "وعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ."
[8] توماس هوبز، اللفياثان، مصدر سابق، ص. 40.
[9] الكتاب المقدس، العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح الثاني 1-7. (نقلا عن: http//www.st-takla.org)
[10] توماس هوبز، اللفياثان، مصدر سابق، ص. 40.
[11] توماس هوبز، اللفياثان، مصدر سابق، ص. 40.
[12] يشير الباحث «فيليب كرينون» (Philippe Crignon) إلى أن اعتبار الإله هو المؤلف الأول للغة يفيد أن اللغة ليست سمة طبيعية توجد في الإنسان، لأنها لو كانت كذلك، لما علم الإله آدم الأسماء كلها. أنظر:
- Philippe Crignon. "La Pluralité Humaine chez Hobbes et sa lecture par Strauss et Kojéve", Kless-revue philosophique. (2009), N°12, p.88.
[13] إمام عبد الفتاح إمام. توماس هوبز؛ فيلسوف العقلانية. ط.1. (عمان: دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1958)، ص. 206-207.
[14] توماس هوبز، اللفياثان، مصدر سابق، ص. 40.
[15] إمام عبد الفتاح إمام، توماس هوبز؛ فيلسوف العقلانية، مرجع سابق، ص. 207.
[16] Richard Peters. Hobbes. 1sted. (Londres: Penguin books, 1956), p. 175-176.